الاثنين، 22 سبتمبر 2008

صالح بشير، مبدأ الأرض وراء العودة الغامضة للحرب الباردة

مبدأ "الأرض" وراء "العودة" (الغامضة) للحرب الباردة


صالح بشير



ينطوي القول بـ»عودة الحرب الباردة»، ذلك الذي استشرى على الألسن والأقلام بعد الواقعة الجورجية الأخيرة، وسواء جاء من باب التقرير أو الترجيح أو مجرد التساؤل، على نصيب من صحة يكاد يوازي نصيبا له نظيرا من الخطأ. أما عن الصحّة فهي تلك المتعلقة بفكرة «العودة»، إذ أن هناك بالفعل عودةً ما قد جدّت إلى سالفٍ معهود، مع استئناف التوتر بين روسيا والعالم الغربي إثر الصدام بشأن جورجيا وكيفية نشوب ذلك التوتر وخوضه، وأما عن الخطأ فهو ذلك المتمثل في افتراض استعادة حقبة ولت، وذلك ما ينافي التجربة التاريخية (بإطلاق دون تحديد) والمنطق، بل مجرد الحس السليم.أغلب الظن إذاً أن الناس استشعروا «عودةً» وحدسوا بها أمرا مهمّا فارقا، لكنهم أخفقوا في إدراك ماهيتها، فسارعوا «يتعرفون» عليها في ما يجود به القياس القريب، على الماضي القريب، أي «الحرب الباردة»، خصوصا وأن شخوص الدراما هم أنفسهم لم يتغيروا: روسيا، الناهضة بـ»استبداد شرقي» يستوي فيها جوهرا من ناحية والغرب «عالما حرا» تتزعمه الولايات المتحدة من ناحية أخرى، وما بينهما الشعوب الصغرى في التخوم الأوروبية الشرقية والقوقازية، وفي ما وراء تلك التخوم ربما.فما هي إذاً تلك «العودة» التي نسلم بها وندحضها في الآن نفسه قاصدين بذلك أنه إن كان من المتعذر استعادة حقبة ولت، لأن التاريخ، ببساطة، لا يعود أدراجه، فإنه من الممكن استعادة مبدأ من المبادئ تقوم عليه الحياة الدولية وقد يكون عُلِّق العمل به، وإعادة تفعليه نافذا ساريا، وذلك ما يبدو أنه قد حصل من خلال الأزمة الجورجية الأخيرة وبواسطتها؟أما المبدأ الذي نعنيه فهو ذلك الذي يمكننا أن نسميه «مبدأ الأرض»، ذلك الذي يقوم أساسا لكل وجود جماعي منتظم في هيئة سياسية وحتى ما دون سياسية، فالكيانات والدول، إنما تعرّفها الحدود تعيّن حيزا ترابيّا هو مجال عيشها المتميّز (مهما كانت عناصر تميزها) وهو الفضاء الذي تمارس عليه سيادتها، لذلك تمثل الأرض المادة الأولية والأساسية لكل جغرافيا سياسية (على ما تدل تسمية هذه الأخيرة)، يصار، من أجل صونها إلى إنشاء الجيوش، وإلى سبك التحالفات والتحالفات المضادة، وهي أيضا الرهان الأول لكل مطمح إمبراطوري، إذ ما الإمبراطورية إن لم تكن، أقله في بعض من وجوهها هو الأبرز، سعيا إلى التحلل، توسعا، من شرط ومن تحديد ترابيين «طبيعيين» وتجاوزا لهما؟ يصح ذلك على الإمبراطوريات التقليدية، تلك التي تمددت تمددا بريّا، تباعا وتدريجا انطلاقا من بؤرة «أصلية»، بحيث ربما صح وصفها بـ»الإمبراطوريات القارّية»، كما على تلك الاستعمارية الحديثة، التي كان مثالها الناجز دون ريب الإمبراطورية البريطانية، وهذه كانت إمبراطورية بحرية بامتياز، والتي تمكنت من أن تقيم مجال نفوذها وسيطرتها دون اكتراث بشرط التواصل الترابي، إذ فصلت بين المركز ومستعمراته آلاف الأميال في بعض الأحيان... ولكن وفي مثل هذه الحالة أيضا، ظل «مبدأ الأرض» فاعلا لم يُلغ، حتى جاءت نهاية الحقبة الاستعمارية لتؤكده، إذ عممت، بعد الاستقلالات، صيغة الدولة-الأمة الحديثة على أرجاء الكون وكافة شعوبه (تقريبا).غير أن أمرا بالغ الأهمية جدّ في ذلك الصدد مع نهاية الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بالسطوة على العالم، لم يجر التنبه له ولم يحظ بالتحليل، هو المتمثل تحديدا في تعليق «مبدأ الأرض» ذاك. فقد ترتب على ذلك التحول التاريخي، وعلى عوامل أخرى كثيرة تتعلق بما حققته التكنولوجيا من تطور إضافة إلى البيئة «الثقافية» الناجمة عن العولمة، ظهور إمبراطورية، هي تلك الأميركية، يمكن وصفها بـ»الفضائية». ليس المقصود بذلك فقط الموقع الريادي الذي تحتله الولايات المتحدة في الفضاء الخارجي، إن من باب عسكرة هذا الأخير أو من باب تحويله مجالا للاستثمار الاقتصادي (صناعة الاتصالات لا سيما). لكن لأنها بدت قوة متحررة تماما من كل شرط ترابي، قادرة على التدخل أنّى شاءت، على تجييش الجيوش وعلى إرسالها إلى أي مكان في آجال قياسية، في حِلّ من الاعتماد على الحلفاء تستبدلهم حسب ما تقتضيه هذه المهمة العينيّة أو تلك، وفي حدود ما لا يتعدى التغطية السياسية. بدت القوة الأميركية وكأنها متحررة تماما من جاذبية الأرض، بالمعنى الفيزيائي للكلمة.خصوصا وأن العدوّ الذي اصطفته ووجدت ضالتها فيه منذ عدوان الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وجردت في مواجهته حملة كونية، وضعت العالم أمامها أمرا مقضيا وأجندة وحيدةً ووحيدةََ البند، أي «الإرهاب»، يضاهيها أو يماثلها تحللا من «مبدأ الأرض»، يمارس عنفا يكاد يكون من طبيعة «ميتافيزيقية». أرض أفغانستان لم تكن، أيام حكم طالبان، أكثر من «قاعدة» في نظر التنظيم الحامل لنفس ذلك الاسم، في حين أن أرض بلاد الرافدين، وكل أرض سواها تتيح نفس الفرصة، ليست أكثر من «ساحة» لمحاربة «الصليبيين واليهود»، عدوا يُنظر إليه على أنه جوهر تماما كما تنظر الولايات المتحدة إلى الإرهاب ومقترفيه، حقيقة أو افتراضا، على أنهم جوهر. فالإرهاب يدافع عن «أمة» لا تتنزل في زمان تاريخي، ولا تتنزل خصوصا في مكان.وذلك هو الوضع الذي جاءت الأزمة الجورجية الأخيرة لتضع له حدا ولتعلن تجاوزه أو النكوص عنه (يتوقف الأمر على زاوية النظر). صحيح أن المواجهة بين الخصمين العدوين غير الأرضييْن ما انفكت تراوح مكانها، مراوحةً هي مرادف للإخفاق، إذ لم تظفر الولايات المتحدة بغير سائق بن لادن، هذا عدا عن الخيبة في العراق وفي أفغانستان، في حين فشل تنظيم القاعدة في استعادة «إنجاز» كذلك الذي تمثل في عدوان الحادي عشر من أيلول، ولكن ما هو صحيح أيضا أو ما قد يكون أصح، أن روسيا، إذ استجابت الاستفزاز الجورجي على نحو ما فعلت، أي بتوخيها ردا إمبراطوريا تقليديا أو كلاسيكيا، استعادت «مبدأ الأرض»، وفق ما سبق توصيفه، وأعادت إليه الاعتبار وأعادت إدراجه في الحياة الدولية وفي صراعاتها، فافتتحت بذلك طورا جديدا.قد تكون الفكرة هذه، في شكلها هذا، جنينيّة تتطلب تطويرا، ولكنها تصلح، على الأرجح، تفسيرا لما يشهده العالم من تحولات.

عن الحياة


ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .