الثلاثاء، 2 سبتمبر 2008

عن ملحق النهار البيروتية

شيطان العبقرية ومفارقة الحياة الاعتيادية
حسين يعقوب

يقتضي الحديث عن الجنون وطرائق الخلق إلقاء الضوء على تجارب فكرية وفنية وأدبية مخصوصة دخلت تجربة الحمق وكُتبت خلال تلك التجربة، وبعدها، بوصف الجنون حالة بيولوجية تؤشر الى وضع نفسي يجعل صاحبه يخرج على الأنساق العقلية. تستدعي أعمال موباسان وفان غوغ وارتو والتوسير وآخرين ممن قدّموا أعمالاً خالدة، تأملاً عميقاً من أجل إدراك الخلق لدى هؤلاء وتأثير الحمق في أعمالهم الخلاّقة، ومن ثم إدراك التحولات الجمالية التي لحقت بأعمالهم. يسعفنا تاريخ الجنون في تلمس طرائق الإبداع لمن فضّل أن يعيش على نحو مغاير، اصطلح عليه بالجنون. لوي أراغون المفتون بعينيَّ إلسا، فان غوغ الذي فضّل قطع أذنه وتقديمها هدية الى امرأة عابرة، ومارتن هايدغر الذي جعلته أشعار هولدرلين يعيد التفكير في ماهية الشعر ووظائفه الوجودية.
فتح ميشال فوكو تاريخ الجنون الخلاّق في كتابه "تاريخ الجنون"، وهو تاريخ كان مغلقا في العالم الغربي ولن يغلق بعد ذلك الكتاب، حيث طالب فوكو في أن يخضع "العقل" الغربي للمحاكمة امام "الجنون" وليس العكس كما كان يحصل سابقا، محتفلاً بالجنون المثمر الذي أسّس الحداثة الغربية على رغم عذابات مجانينه.

سويداء العبقرية

"هناك شعرة رقيقة جداً تفصل بين العبقرية والجنون"، هذا ما قاله كيركيغارد وما أكّدته تجارب خلاّقي هذا العالم من أدباء وفنانين وعلماء عبر مراحل الزمن المختلفة. فحياة الخلاّقين المضطربة ونهايات بعضهم البائسة، راكمت في الذاكرة البشرية صوراً نمطية يختلط فيها الخلق بالأمراض النفسية والسلوكية وحتى العقلية، ووفرت الأرض اللازمة للاعتقاد بارتباط العبقرية بالجنون والاضطراب النفسي، وهو ما استحال نظريات يروّجها كثرة من الباحثين، منذ اليونانيين الذي نعتوا الفنان والشاعر بالجنون الى فرويد الذي رمى الخلاّقين بالإحباط والعجز عن بلوغ الإشباع لغرائزهم الرئيسية واتخاذهم الخلق فعلاً تعويضيا لهذا المتعسر تحقيقه على مستوى الواقع.
هذا الاقتناع الذي بدا سائدا منذ القدم، لن يتورط مروّجوه في جمع ما يدعم اعتقادهم. فالجنون الذي لحق بالفيلسوف نيتشه آخر عمره، ورصاصات الانتحار التي اختارها الروائي الشهير أرنست همنغواي بعد مسلسل الإدمان الطويل، واكتئابات الروائي كافكا والموسيقي تشايكوفسكي والتشكيلي فان غوغ، والتي انتهى بعضها بالانتحار أيضا، وغيرهم كثير، نماذج بارزة للعلاقة المدّعاة بين العبقرية والجنون.
غير ان السؤال هو الآتي: هل من علاقة سببية علمية بينهما، وهل يمكن تعميم هذه العلاقة بحيث تشمل كل الخلاّقين؟
في أنطولوجيا الشاعرات والشعراء المنتحرين التي أنجزتها الشاعرة جمانة حداد ("سيجيء الموت وستكون له عيناك"، مئة وخمسون شاعرا انتحروا في القرن العشرين، "دار النهار" و"الدار العربية للعلوم"، 2007، 656 صفحة من القطع الوسط)، نكتشف وجهاً فادحاً من وجوه هذه العلاقة الأزلية بين الخلق والتأزّم النفسي: وجهٌ "متطرّف" ومطلق كونه يتجسّد بفعل الانتحار أو يُتوَّج به. في مقدمة الموسوعة تطرح حداد سؤال الـ"لماذا؟" الوجودية العملاقة التي دفعت هؤلاء الخلاّقين الى هذه القفزة في العدم بمئة وخمسين طريقة مختلفة وبأكثر من عشرين لغة. وبعد انحنائها على حيوات هؤلاء المنتحرين اكتشفت الشاعرة أن ثمة ما يربط الواحد منهم بالآخر في المعنى الوجداني والقدري، هو حلقة الاكتئاب المفرغة.
وقد وجد ارسطو ان الاكتئاب يلجمه عقل الخلاّق ليصيّره حالة أدبية او فنية عندما قال إن السويداء تبتدئ بميل الإنسان الى الوحدة والعزلة والتأمل ثم تنتهي أحياناً بالصرع أو الجنون أو حتى الانتحار. لكنها لدى الخلاّقين الكبار تتوقف عموماً عند حد معيّن لأن الخلق يوقفها عند حدّها.
كان هناك تساؤلات حول ثنائية العبقرية والجنون وأثر الانحراف النفسي والأخلاقي، كما في حالة المركيز دو ساد، في تشكيل الخلاّق وعبقريته، وأثر الخلق وتجلياته في إيصال صاحبه إلى الجنون والعزلة النفسية.

الروح الإلهية

في التعريف القديم للعبقرية أنها حالة سكون للآلهة أو قوة الروح الإلهية في الإنسان لتحفظه من الشرور التي تحاصره. الإنسان الذي تحلّ فيه هذه القوة يكون متميزا في الضرورة عن غيره وله التأثير المعنوي في محيطه. في تعريف آخر هي حالة حلول أو اقتحام للروح الشريرة أو الشياطين لإفساد السلوك الطبيعي للفرد الذي يوجب علاجه بكل الوسائل وفي مقدمها الضرب. في ظل هذين التعريفين، تتجلى استقامة الاتصال الغيبي بالإنسان العبقري أو المجنون، وهو الاتصال الذي يصنع أدبياته عند الفنان الخلاّق بخلاف التنظير له.
يبدو أن أفلاطون كان أول من انتبه إلى هذه النقطة عندما قال إن العباقرة يغضبون بسهولة ويخرجون على أطوارهم. هم يعيشون كأنهم خارج الزمن والوجود، وذلك على عكس الناس العاديين. لكن أرسطو، تلميذ أفلاطون، هو الذي نظّر لهذه العلاقة بشكل فلسفي محكم. وقد طرح هذا السؤال: لماذا يبدو جميع الرجال الاستثنائيين من فلاسفة وعلماء وشعراء وفنانين أشخاصاً سوداويين؟ نلاحظ أن أرسطو يستخدم كلمة الرجل الاستثنائي بدل العبقري، والسوداوي بدل المجنون. الواقع انه أقرب بذلك إلى التصور الحديث. فنحن لم نعد نقبل بتعبير العبقري أو العبقرية بسهولة، وإنما نفضل عليه تعبيراً أقل ضخامة أو أسطورية. ولم نعد نستخدم كلمة الجنون المرعبة وإنما كلمات حديثة أخرى من اختراع الطب النفسي كالاضطراب الذي يصيب المزاج ويجعله حساساً جداً أو متحفزاً جداً. يقول أرسطو إن السويداء تبدأ بميل الإنسان إلى الوحدة والعزلة والتأمل ثم تنتهي أحيانا بالصرع أو الجنون أو حتى الانتحار.
ثم جاءت الثقافة الرومانية - اللاتينية بعد أرسطو واليونان وأخذت منه هذه الفكرة. لذلك شاع المثل الذي يقول: لا يوجد شخص عظيم بدون ذرّة جنون! وإذا انتقلنا إلى القرن الثامن عشر، أي إلى عصر التنوير، وجدنا أن ديديرو هو الذي بلور هذه الفكرة الشائعة التي تربط بين العبقرية والجنون. يقول هذا الفيلسوف الفرنسي: "آه: ما أكبر العلاقة بين العبقري والمجنون. فكلاهما يتميز بميزات خارقة للعادة إما في اتجاه الخير وإما في اتجاه الشر. فالمجنون يسجن في المصح العقلي، والعبقري نرفع له التماثيل!"
طرح أحدهم على الكاتب الفرنسي أندره موروا السؤال الآتي: هل جميع الروائيين مجانين أم عصابيون؟ أجاب: لا، الأصح أن نقول إنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين. فالعصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه. وكان جواباً مقنعاً ورائعاً. الواقع أنه لولا العصاب لما كرّس أشخاص من أمثال بلزاك أو دوستويفسكي أو فلوبير أنفسهم لفن الكتابة. ولو أنهم لم ينجحوا في هذا الفن ولم يقدّموا روايات خالدة لما نجوا هم بأنفسهم من مرض العصاب. هذه هي الدائرة المغلقة التي تجمع بين الخلق والمرض أو بين العبقرية والجنون. كما نجد عند جان جينيه الذي يستشف بحسب رأيه قوة الشر المكبوتة لديه منطلقاً بها ومنها لينتج تجليات نصه الخلاّق. إذاً يمكن القول إن العبقرية والجنون على حد سواء هما القوة الكامنة المحفزة لانطلاق شرر الخلق من كوامن الفنان، وأعماله هي تجليات للنفس المحتضنة لقوى الخير أو الشر.

شيطان سقراط وتعويذة باسكال

يسأل هاشم صالح في مستهل دراسته عن العبقرية والجنون: لماذا لم يحم الإبداع أو الإنتاج الإبداعي الخلاّقين من الجنون؟ الواقع أن الجواب صعب عن هذا السؤال، ولكن مهما يكن من أمر فسنظل متفقين مع أندره موروا في القول إن الفن يشفي من العصاب بشكل عام، ولولاه لجنّ معظم أولئك الكبار الذين سجِّلت أسماؤهم على صفحات التاريخ. فلا أحد يشكّ في أن نيتشه من كبار الفلاسفة، ومع ذلك فقد جنّ بشكل كامل في أواخر حياته وظل مجنوناً لمدة أحد عشر عاماً حتى مات عام 1900. ولا أحد يشكّ في أن هولدرلين واحد من أهم الشعراء في العالم، ومع ذلك أمضى نصف عمره تقريباً في بحر الجنون.
جاء القرن التاسع عشر وتأسس علم الطب النفسي للمرة الأولى على أسس حديثة، وأكد وجود علاقة وثيقة بين العبقرية والجنون. فالشخص العبقري لا يمكن أن يكون طبيعياً على طريقة الناس العاديين. يقول عالم الطب النفسي الكبير ايسكوريل إن الشخصيات الكبرى في التاريخ هي شخصيات "مرضية"، ويضرب أمثلةً على ذلك لوثي وباسكال وروسو، الخ. استعاد هذه الفكرة الطبيب النفسي لولوت الذي كتب السيرة الذاتية المرضية لشخصيتين كبيرتين هما سقراط وباسكال وكان عنوان الأولى "شيطان سقراط" والثانية "تعويذة باسكال". فالعبقري في رأيه شخص ممسوس أو مسكون من الداخل بشيطان العبقرية. وقد أراد هذا الطبيب النفساني أن يستخدم حالتي سقراط وباسكال من أجل كتابة تاريخ الهلوسات. فالشخصيات الاستثنائية مهووسة بشيء ما لا تدري حتى هي ماذا يكون. وهذا هو سر عبقريتها. وفي عام 1859 كتب مورو دوتور وهو طبيب نفساني، دراسة تحليلية لشخصية الشاعر جيرار دونرفال الذي كان قد انتحر قبل وقت قريب، أثبت فيها أنه كان مصاباً بتهيّج هوسي دوري، هو السبب في إبداعه. فحالة الخلق هي حالة هوسية يبلغ فيها التهيّج حدّه الأقصى. بل إن بعضهم يفتخر بها للدلالة على مدى عبقريته، ثم من أجل التمايز والخصوصية. الواقع أن مفكري أوروبا وشعراءها وفنانيها دفعوا ثمن تشكل الحداثة باهظاً. فمن نيتشه إلى بودلير إلى رامبو إلى هولدرلين إلى أرتو إلى فوكو إلى ألتوسير إلى إدغار ألان بو إلى وولف إلى كافكا إلى لوتريامون، نجد أن القائمة طويلة من أولئك الذين جنّوا أو عانوا أو انتحروا. من هنا نعرف أن هناك علاقة بين التوتر النفسي والخلق، ولكن ليس كل عبقري مجنوناً، وليس كل مجنون عبقرياً، فالعلاقة بينهما أكثر تعقيداً مما نظن.

العباقرة المجانين

أعتقد فوكو أن أمرا مهما حدث منذ جنون نيتشه وريمون روسيل، ومنذ جنون فان غوغ، وارتو على وجه الخصوص، حيث عادت نظرتنا إلى الجنون الى مثل تلك التي كانت عليه في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أي أن الجنون أصبح ظاهرة حضارية مهمة للغاية. فمثلما كان الجنون في نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر يحمل بعض الحقيقة، عادت هذه الفكرة في زمننا هذا، حيث أن الحقيقة تكاد تخرج من أفواه شخصيات تعيش على حافة الجنون، أو شخصيات رأت في الجنون تجربتها العميقة مثل ارتو وريمون روسيل.
عندما نتأمل في اعمال "العباقرة المجانين" الذين جمعهم الجنون أو الانتحار أو الاضطراب النفسي بحسب تعريف علم النفس الحديث، نجد أن هؤلاء جميعهم كان يحلّقون خارج الواقع الذي يعيشونه. أفكارهم تطلب المستحيل وتطاول المحرّمات وتنتقد الواقع الاجتماعي، ويعيشون في شبه عزلة عن العالم الاخر، أي حب الوحدة والعزلة والاستقلالية الشخصية. مثل ديكارت الذي غادر بلاده فرنسا هرباً من المتطفلين والثرثارين الذين كانوا يلاحقونه باستمرار. وبلزاك الذي كان يسهر في الليل وينام في النهار. وأيضا ديكارت الذي لم يتزوج، وكذلك الأمر بالنسبة الى كانط وسبينوزا ونيتشه وسارتر وفوكو، الخ. والحال أيضاً مثلما عاش مارسيل بروست ومات عام 1922 ضمن ظروف بائسة في غرفة حقيرة لا تحتوي إلا على سرير وكرسي وثلاث طاولات! أما كافكا فكان أكثر شذوذاً وغرابة أطوار، إذ كان يفرض على نفسه عادات صحية عجيبة خوفاً من المرض. وكان فولتير يشرب خمسين فنجان قهوة في اليوم! وقل الأمر ذاته عن فلوبير وبلزاك. كان شوبنهاور مصابا بجنون العظمة وعقدة الاضطهاد في آن واحد، وكان يعتقد أنه ملاحق باستمرار من دون أن يلاحقه أحد. ولم يكن أحد يستطيع أن ينزع من رأسه تلك الفكرة التي تقول بأن هناك مؤامرة كونية تحاك ضده من أجل خنق عبقريته أو القضاء على إبداعه الفلسفي. ألا يقترب ذلك من الجنون؟ ثم، أين تقع الحدود الفاصلة بين العقل والجنون؟ فمنذ عام 1814، أي عندما كان في السادسة والعشرين من عمره راح يقارن نفسه بالمسيح ويعتبر أنه مبعوث لهداية البشر على طريق الحقيقة. يقول: "يحصل لي ما حصل ليسوع الناصري عندما أيقظ حوارييه أو أتباعه النائمين. أنا رجل الحقيقة الوحيد في هذا العالم". لكن جنون العظمة هذا تحوّل في ما بعد إلى عكسه، أي إلى عقدة الاضطهاد، ثم أصبح مسكوناً بهاجس القلق الأقصى والمرعب إلى درجة أنه كان يرفض أن يسكن في الطبقة الثانية أو الثالثة من المبنى خشية أن يحصل حريق فلا يستطيع القفز أو الهرب قبل فوات الأوان! كان يحمل مسدساً معه باستمرار ويضع يده عليه مستنفراً ما إن يسمع ضجة خفيفة أو هبّة ريح في الخارج باعتبار أن هناك دائماً أشخاصاً قادمين لاغتياله. يضاف إلى ذلك أنه كان يكتب أفكاره للوهلة الأولى باللغات الإغريقية واللاتينية ويخبئها بين صفحات كتبه كي لا يقع عليها أحدهم فيسرقها منه! كان يعتقد أنهم سيسرقونها وينسبونها إلى أنفسهم. وكان يحقد على معاصره هيغل حقداً شديداً لأنه نجح ولمع، في حين أنه هو بقي مجهولاً طيلة حياته كلها تقريباً. هذا لم يمنع من أن يكون أحد كبار فلاسفة العصور الحديثة. هذا يعني ان التطرف في المزاج وفي الأفكار وفي السلوك بما في ذلك الحالات الذهنية، ارتبط بالخلق الفني منذ القدم ومنذ كتب الإنسان أو لاحظ هؤلاء الأشخاص الذين يكتبون أو يرسمون أو ينحتون أو يؤلفون الموسيقى. يشترك الخلاّقون في خاصية متميزة يمكن وصفها بالإبداع المتميز وبالاضطراب النفسي الشديد معاً. هذا ما يجمع بين فان غوغ وتشايكوفسكي وبيكاسو ورخمانينوف ونيتشه إضافة الى كونهم يشتركون في الشهرة التاريخية كفلاسفة وموسيقيين أو كفنانين تشكيليين.

عرب بين الخلق والجنون

منذ القدم ربطت العرب الإبداع بما هو غيبي ولطالما نعتت الشعراء بأن لهم جنونا يأخذون عنه. في الرجوع أيضا إلى بدايات الشعر العربي نجد التأريخ لأبياته الأولى على يد الجن! اعتقد أن الانكفاء أو اللجوء إلى المناهج الغيبية عند تناول العملية الإبداعية يكمن أصله في كون العملية الإبداعية ظلت غيبية غير منفتحة على ذهن مفسّريها من نقاد ونفسانيين. الجنون عموما في الحقل الخلاّق صار كأنه رديفٌ للإلهام وتحوّل من مفهوم سلبي للحياة إلى مفهوم رأى فيه بعض الخلاّقين محجّة لهم، حتى أن بعضهم هاجم الطب النفسي الذي له وجهة نظر علاجية وتصنيفية للجنون.
إن النقطة الغيبية الدقيقة التي تفصل العبقرية بوصفها الخلاّق، والجنون بوصفه رد فعل حيال الحياة المضطربة، بخروقاته الخارجة على المألوف، وبهستيرية، هي النقطة التي ظلت تفصل بين الثنائيات الكبرى في حياة الإنسان كالتصوف والوثنية...إلخ
أما في العصر الحديث فلو تحدث لنا الشعراء والفنانون والكتّاب العرب عن أحوالهم النفسية أثناء عملية الخلق لقدّموا إضاءات مهمة عن العلاقة بين التوتر والخلق. لكن بعضهم لا يتجرأ أو يفضّل ألاّ يتحدث عن هذه المسألة خشية اتهامه بالجنون. نقول ذلك على الرغم من أن بعضهم قد انتحر بسبب هذه المعاناة المتوترة جداً، ونضرب عليهم مثلاً الشاعر خليل حاوي. وهذا ما لم يعد يخشاه الشعراء والمفكرون الغربيون بعدما أزال التحليل النفسي تلك الهالة المرعبة التي كانت تحيط بالجنون والأمراض النفسية والعقد.

الخلق والجنون سؤالاً وجودياً

الجنون حالة تفارق الحياة الاعتيادية الطبيعية وتعتري الخلاّقين لتعود بهم إلى واقعهم كنوبة، كما هي العبقرية التي لا تخلو من تجليات خارج السلوك النمطي للإنسان العادي المجرد. حالة الغموض المسترسلة التي تكتنف الخلاّق العبقري أو الخلاّق المجنون هي حالة الإبداع الحقيقي والتي من تجلياتها انبعاث الأدب السوريالي.
لكن الخلاّقين قبل أن تكون أعمالهم خلاصاً، كانت سؤالاً وجودياً مرهقاً عن الحياة. الذين انتحروا من جراء إبداعهم لم يكونوا فقط هم من قرر ذلك، ولم تكن طلقة همنغواي الشهيرة بعدما نال حظوة النص الخالد والشهرة والمكانة وحدها هي طلقة الإنتحار، ولا موت كواباتا بعد عامين من نوبل وبعد روايته "الجميلات النائمات" التي هي من أجمل ما يمكن أن يقرأ في الأدب الإنساني بعد اعتراف ماركيز بذلك سوى اعتراف مماثل بأن الخلق قد لا يكون هو الخلاص كله، وأن الأسئلة التي يطرحها قد تكون أكثر أرقاً من الحياة، بحيث توصل الى الجنون.

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .