الثلاثاء، 9 سبتمبر 2008

شادي علاء الدين، المدينة التائهة بين ميكا وسمير القنطار

المدينة التائهة بين ميكا وسمير القنطار

شادي علاء الدين
هل كانت بيروت التي استقبلت المغني ميكا بكل تلك الحفاوة الإستثنائية هي نفسها بيروت سمير القنطار تلك التي انتظرها منذ أكثر من ثلاثين عاما؟ هل هذه المدينة هي نفسها التي تحتضن الألم والمهرجان جنبا إلى جنب وتفتح المجال لمشاهد متناقضة تتفاخر دوما بقدرتها على تذويبها في قالب واحد من ضباب؟ فعلى مقربة من المكان الذي أقام فيه ميكا حفلته تنتصب خيمة الآلام الذي ترابط فيها أمهات المعتقلين في السجون السورية منذ أكثر من ثلاثة أعوام.

بيروت المعلبة

يأتي ميكا إلى بيروت فيكون فجأة ليس مجرد لبناني ولكن اللبناني الذي تهبنا صورته فكرة عن ما يشتهي اللبناني أن يكونه. لذا كان ميكا هو اللبناني المستحيل الآن والممكن فقط في المعجزات القديمة وتلك المنتظرة. هكذا يكون نوعا من علامة وإشارة مزدوجة تشير تارة إلى ما كان عليه هذا اللبنان وما يشتهي ان يكونه ولكنه بالقياس إلى الحاضر لا يستطيع إلا أن يمثل مشهد حفلة صاخبة فقط لا غير.
يتركب تلقي ميكا في نفوس معجبيه في انه يمثل حدثا في بلاد قد أفلست حوادثها وجفت إلى حد كبير وصارت كلها واقعة في التوقع والإحتمال حتى أن حدثا فائقا وممكن التحقق في أي لحظة كالحرب الأهلية أو غزو إسرائيلي للبلاد لا يستطيع تجاوز شبكة التوقع المحكمة مما يحوله إلى حدث ميت لا يستدعي حراكا وإنما مجرد انتظار.
يأتي ميكا من خلف مسافة الإنتظار ليهب الناس بيروت محددة فقد أعلن بوضوح وببساطة "بيروت الليلة ملكي وملككم ".
بيروت التي يهبها ميكا لنفسه ولنفسه لا تقع في الجغرافيا التي ينتصب فوقها المسرح الذي يقيم حفلته عليه. إنها بيروت جاهزة موثقة ومؤرشفة ومعلبة وجاهزة للإستهلاك العام وهي ليست مأهولة إلا بالخوارق وانقطاع الصلة مع الجغرافيا الفعلية وعناوينها وتداعياتها وأفكارها. إنها بيروت مشعرنة إلى حدود القتل وتاليا لا مكان فيها إلا للمجاز وكائناته وطبعا هذه هي المدينة التي يغني فيها ميكا وهي المدينة التي تتنزه في شوارعها فينوس وأفردوديت وتعبق في اجوائها روائح الجنات والأساطير. أكيد أن ميكا لا يستطيع أن يمتلك مدينة المقاومة ولا يستطيع رغم تصريحاته التي أعلن فيها أنه كان مستاء جدا مما حصل في لبنان في عدوان 2006 أن يهب أيا كان مدينة السلاح.
الإحتفال التهريجي الضخم الذي أشتهر به والذي قدمه في احتفال وسط المدينة لا يستطيع احتمال العلم اللبناني إلا بتفريغه من المعنى وضمه إلى كل تلك البهرجة الضخمة ليكون جزءا منها يتحرك فيها وانطلاقا من حدودها دون أن يستطيع فرض معنى خاص عليها.
عادة ما تستعين البلاد بأعلامها في اللحظات القصوى التي تكون مقرونة عادة بالبطولات وتكريم الموتى فالصورة الاكثر لصوقا بالذهن للعلم هي حين يلف على أجساد الشهداء. هذه الصورة تكون عادة استثنائية في حياة الشعوب، ولكنها عندنا ليست كذلك ولا يراد لها أن تكون فبلادنا هي دوما في وضعية الإستثناء لذا يجب أن تكون الرموز حاضرة على الدوام بكل ثقلها الذي يعيق السيرورة العادية والمألوفة للحياة.
صدقوني لا أحد يستطيع إحتمال علم دائم الظهور حتى من رسمه وصممه لأن العلم حين يحضر فإنه يحضر معه جملة متطلبات قاسية وشاقة لا يستطيع المرء أن يفي بها على الدوام أو أن يتحمل العيش تحت ظلها.
العلم أيضا على الرغم من كل ذلك لا يستطيع منافسة أي من هذه الدمى المعولمة التي استعملها ميكا في استعراضه، وخصوصا العلم البناني، لأنها مجمع عليها ومتفق على معناها ليس في لبنان فقط ولكن في كل العالم فما أن تظهر حتى تفلش تأثيرها ومعناها الكوني العام في حين أن العلم اللبناني ليس كذلك حتى في لبنان. لذا يمكن أن نقول إن العلم الذي ظهر في حفلة ميكا كان محاولة يائسة للتخلص من ثقل العلم لأنه بالتأكيد هو ليس العلم نفسه الذي تلف به أجساد الشهداء وليس العلم الذي كان قد رمي في احتفال حاشد في المكان نفسه ورفع مكانه علم آخر لأحد الأحزاب اللبنانية الفائقة الجودة.
لم يكن ذلك الذي ارتداه ميكا علما لبنانيا فالعلم اللبناني لا زال قيد الدرس وربما نحتاج إلى حروب كثيرة حتى نخلق علما.
سكان الذاكرة

ميكا كان علامة ذاكرة توافقية طالما انها لا تمس الحاضر او تتدخل فيه.
سمير القنطار بدوره هو أسير زمنه الحربي الخاص وبيروته التي انتظرها طويلا لم يجدها في انتظاره سوى في الكناية أما بيروت الحقيقية فهي تتهرب مما يطلقه عليها من وصف وتراوغه بمشاهد يهبها له حزب الله ويقول له إن هذه المشاهد هي المدينة كل المدينة وإنه يستطيع أن يسكن فيها ليس فقط في ذاكرته ولكن في واقعه أيضا.
أعتقد أنه من الصعب على سمير القنطار النجاة من مثل هذا الفيض من الزمن الذي يغدقه عليه حزب الله باستمرار من اللحظة التي أطلق فيها حتى الآن لأنه يجعله باستمرار يعيش معنى معينا بالتاكيد أن السنوات الثلاثين التي قضاها في السجون الإسرائيلية قد جعلته ربما لا يشكك فيه ولكن يناقشه فإذا به يراه أمامه مصعدا إلى أقصى الحدود وهو فيه ليس المشارك وانما البطل. أعتقد أن مقاومة مثل هذا الإغراء توازي في صعوبتها مقاومة العدو الصهيوني.
لم نر سمير منتميا إلى زمن الخروج من الأسر ولا رأيناه كذلك لا زال يعيش في الأسر. إنه يعيش زمن القتال في كل اطلالاته الإعلاميه وفي جامع خطابه. هو لا ينظر إلى حاضره ولا إلى ماضيه ومستقبله إلا كبنى تائهة لا تتمركز إلا في قلب فعل القتال ولحظته.
البدلة العسكرية تلازمه دائما. لا يطل علينا من دونها. ربما يخشى ان يشبهنا ولو قليلا فلا يعود آيلا لصورة البطولة المطلقة كما يرسمها حزب الله الذي حرص على دفع هذه الصورة إلى حدودها القصوى. ألم يقل له السيد حسن نصر الله ممازحا "كل الحرب عشانك". إذا إنه حرب وويل وليس رجلا لذا لا يجب أن يظهر إلا في صورة آلة الحرب الكاملة الإستعداد فحتى وهو في بيته ومع أفراد عائلته يحتفل بعيد ميلاده لم تفارقه تلك البدلة العسكرية المرقطة الطويلة الأكمام في هذا الحر الخانق كأنها تعلن أن مجرد ارتدائها هو نضال لا يستطيعه أحد سوى سمير القنطار في حين أننا جميعا نهرول إلى مكيفاتنا ومراوحنا للهرب من سطوة الحر وفي هذا دليل على أننا عاديون وغير قابلين للبطولة بأي حال من الاحوال.
مدينة سمير القنطار هي ذاكرة محضة لذا فإنها على الدوام خالصة النقاء وتستدعي عناصرها المناسبة من الحاضر فتدمجها في نسيجها القديم مباشرة فسمير يقبِّل بندقية ويهدى إليه مسدس المناضل معروف سعد. كل هذه الإشارات تطرد العين وتُحّل مكانها الذاكرة، بقسوة لا تسمح بعبور صور الزمن الفعلي. هذه العين المقصية لا بد أن تنتقم ولعل كل يوم يمر على القنطار سيشهد انتقاما خاصا لهذه العين يتركب من الحقائق التي لا يمكن التعامي عنها إلى الأبد. ربما ساعتها سيسمح لنا أن نحبه في الشبه وليس في التعالي.
بيروت سمير القنطار لم تعد قائمة إلا في ظنونه.

سياحة الخراب

سياحة وسط بيروت مع ميكا هي سياحة الشماتة فرقص فتاة شبه عارية في المكان الذي كان يحضن إعتصام المعارضة هو موضوع له دلالاته الرمزية الضخمة التي تقول إن هذه اللحظة اختلاجة عارمة تسبق مشهد سياحة الخراب التي تدل كل المعطيات أن المنطقة بأسرها راكضة باتجاهها.
سياحتان ومدينتان ولكن بيروت ليست هنا ابدا. الأرجح انها مقيمة في السخرية فهي المعشوقة الأبدية التي لا يعني عشقها امتلاكها أبدا فهي تطرد عشاقها وتقتلهم بالخفة نفسها التي تستقبل فيها خونتها .
"ريلاكس، تايك إت إيزي" ربما تكون كلمات أغنية ميكا هذه هي ما تردده بيروت دوما ببراءة قاتلة.
عن ملحق النهار اللبنانية

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .