الخميس، 31 يوليو 2008

عبادة الفنان




عصر القراء
شيطنات الرأي العام

بلال خبيز

حين نشر ادولف هتلر كتابه "كفاحي" لم ير فيه المثقفون الالمان اي خطر داهم. الكتاب برمته كان انشاء لفظياً منتصراً، ولم يكن يرقى إلى مرتبة الكتب. بل ولم يكلف اي منهم نفسه الرد على مزاعمه او افكاره الناقصة، لأنهم جميعاً ارادوا الانصراف إلى ما يرون فيه فائدة لهم وللعموم. لكن ادولف هتلر، بعد سنوات قليلة اثبت انه قادر ليس على تدمير الثقافة الألمانية فحسب، بل على لوي التاريخ برمته. وهتلر بهذا المعنى يكاد يكون ابرز الشخصيات التاريخية التي هزت فكرة الحتميات التاريخية وجعلتها تقع في موقع الدفاع عن نفسها.

كتّاب ناقصون

الكتاب والمفكرون رأوا في هتلر كاتباً ناقصاً. لم يكن يستطيع ان يجاري الكتاب الألمان في متانة الانشاء ولا في استيلاد الأفكار. كان هتلر بهذا المعنى واحداً من الجمهور. اي ان اختياره الكتابة وسيلة للتعبير عما يريد التعبير عنه، يؤكد على نحو لا مراء فيه، انه واحد من الذين يستهلكون هذا الضرب من الانتاج الثقافي. ولم يقتصر امر هتلر على الكتابة وحدها، بل تعداها إلى الكثير من انواع الفنون. فكان يفضل فلاسفة على آخرين ويحابي معماريين على معماريين، ويرى نفسه متآلفة مع موسيقيين معينين اكثر مما يراها متآلفة مع غيرهم. وككل مواطن يجيد القراءة والكتابة ويملك الوقت لمتابعة بعض الاعمال المسرحية والسينمائية وحفظ بعض الشعر، كان ادولف هتلر بهذا المعنى متلقياً وناقداً. ومعنى ان يكون متلقياً، انه كان يرى في فاغنر ما لا يستطيع ان يكونه هو نفسه، وانه كان يرى في ما كتبه فريدريك نيتشه ما لا يستطيع هو نفسه ان يكتبه. لكن هتلر مثله مثل غيره من السياسيين الذين طبعوا التاريخ ببصمتهم الشخصية، لم يكن يجرؤ في قرارة نفسه ولا حتى في اكثر احلامه جموحاً ان ينافس نيتشه او فاغنر او غوته. لهذا كان تمجيد بعض هؤلاء رغم رقة حاشية الصلة احياناً بين السياسي والزعيم والمبدعين عموماً، يؤدي لا محالة إلى ردهم إلى روح الجماعة، ومحاولة تنسيبهم إلى جو عام، كأن يكون احد اسباب عظمة غوته تنبع من كونه المانياً. هذا ودرجت في اوروبا ما قبل الحرب العالمية الأولى وفي حمأة التحضير لها، حملات تسفيه للشعوب التي تتكون منها اوروبا، فكان الفرنسيون يذمون الألمان، والالمان يبادلونهم الذم والتحقير، وكذا فعل كل شعب من الشعوب التي تكونت منها اوروبا في ذلك الحين. ووصل الامر بالصحافة الالمانية انذاك، وامام استعصاء دانتي صاحب الكوميديا الإلهية في نسبته إلى التفاهة والاسفاف، ان شككت بنسبه الإيطالي. إذ لم تكن الصحافة الألمانية يومذاك مستعدة لتقبل ان يولد بين ابناء الشعب الإيطالي عبقري بمثل عبقرية دانتي، فأخذوا يبحثون في الجذور توصلاً إلى تنسيبه إلى اصل الماني، هو السبب في ابداعه العظيم وعبقريته التي لا جدال فيها.
غني عن البيان ان مثل هذا التأصيل الأعمى يفتح المجال واسعاً لولادة انواع التطرف الشوفيني كافة. والأرجح ان الحرب العالمية الثانية بالنسبة لأدولف هتلر والحزب النازي، كانت في معنى من المعاني استكمالاً لهذه الحمى التي اصابت اوروبا قبيل الحرب العالمية الأولى وفي اثنائها. لكن الحرب الأولى، وان كانت تطفح بعفن الشوفينية المحاربة، إلا انها كانت تفتقد لمن كان مثل ادولف هتلر وموسوليني والجنرال فرانكو لتتحول حرباً شاملة لا هوادة فيها. ذلك ان المانيا قبل الحرب العالمية الثانية، لم تكن قد فقدت بعد كل منافع الفصل الذي كان قائماً في عصور الامبراطوريات الكبرى بين الفنون عموماً والشؤون العامة. يوم كانت الفنون مرعية وتحتاج لمن يحنو عليها ويسندها ويؤمن الحاجة إليها. فكان اعتراف البلاط بالموسيقي او الشاعر او المفكر هو المآل الاخير لأي فنان او كاتب او شاعر.
لم تكن الفنون والكتابة عموماً تستطيع ان تتخلص من تبعيتها للبلاط الامبراطوري والارستوقراطيات الكبرى من دون ان تحصل قبل ذلك قدرة ذاتية على الانتشار بين عموم الناس. وقد ساهم التطور التكنولوجي طبعاً، في تلك العصور كانت المطبعة هي المحرك الأول، والازدهار الاقتصادي والانفتاح الثقافي الذي ضرب اوروبا في تلك الفترة، فضلاً عن انتشار المدراس والجامعات وتمكن فئات واسعة من الشعوب من التعلم والتثقف وتزجية اوقات الفراغ التي تزايدت بفعل الازدهار الاقتصادي في متابعة اعمال المسرح وبدايات السينما وقراءة الروايات ودواوين الشعر ومشاهدة المعارض الفنية اسباباً حاسمة في تغير وظائف الفنون والكتابة عموماً. ومع انتشار التعليم وكثرة اوقات الفراغ، اصبح في امكان كارل ماركس ان يكتب رأس المال من دون ان يهديه إلى ولي الأمر او الامير او الامبراطور، ويذيله بعبارة: "انا العبد الحقير الفقير" قبل ان يوقع اسمه، على ما كان رائجاً في تلك الآونة. ذلك ان من يتوجه له كارل ماركس لينصبه علماً على العصر الذي تلاه، لم يكن الامراء والنبلاء، بل عموم الشعب وصفوف العامة التي باتت تستطيع ان تنصب ملوكاً وتنزع تيجانأ وتصنع نجوماً. بل ان مأساة كارل ماركس نفسه، ان كتابه رأس المال الذي طبع في فرنسا منه ما يقارب الالف نسخة فقط، لم ينفد من المكتبات طوال خمسة وعشرين عاماً. وكان ناشره قد ارسل نسخاً مجانية منه بواسطة البريد إلى بعض من ظن انهم قد يهتمون لقراءته، فعادت إليه جميعاً لأن احداً لم يقبل ان يتحمل كلفة الخدمة البريدية.

صولجان الورثة

مجد كارل ماركس لم يعط لكارل ماركس. وكذا كانت حال كثيرين غيره من الكتاب والفنانين الذين لم يملكوا امجادهم بأنفسهم، وورثها عنهم ورثة مختلفون. لقد حاز قراء كارل ماركس مجده كله. رغم ان المسافة التي كانت تفصل بين كارل ماركس والقارئ العادي لم تكن بيسيرة في اي حال من الأحوال. بل ان ستيفان زفايج يصف الفارق بين برودون وماركس على النحو التالي: لو ان حلقة تلفزيونية جمعت الرجلين لفاز فيها برودون من دون اي جدال، لكن مناظرة كتابية بين الرجلين ستؤدي لا محالة إلى تحطيم برودون وعقل لسانه. مما يعني ان برودون في وجه من الوجوه كان يدرك ان الصلة المباشرة مع العامة هي التي تستطيع تنصيبه ملكاً على اقرانه وسلطاناً طويل الباع وحاد الأنياب. هذا رغم ان برودون نفسه لا يتورع عن القول: "انا مدين لليأس بكل ما انا عليه". الأمر الذي يعني، بداهة، ان برودون ايضاً كان ناسكاً متعبداً لأبحاثه، وان الكتب كانت تملك روحه وجسده في آن معاً. وهذه اكثر صفات الفنانين والعباقرة تبجيلاً ومدعاة للتقدير العميق.
كان برودون نجم زمانه، اما كارل ماركس فكان نبي زمانه الشريد. ذلك ان قراء برودون كانوا يقيمون صلة مباشرة معه. لم يكن برودون يكتب بالدقة والتعقيد الذي طبع كتابات كارل ماركس او ايمانويل كانط، وكان في وسع قارئه ان يباشره من دون وسيط. وفي وقت كان كانط يكتب لقارئ واحد، هو الأمير، فإن كارل ماركس كان يكتب لقراء مجهولين ومتعددين ولا حصر لهم. مما جعل حياة الأخير وموته من دون مجد على الإطلاق. حيث لم يمش في جنازته سوى ثمانية اشخاص بمن فيهم افراد العائلة. ذلك ان كارل ماركس، ككاتب اخطأ التوجه. فلم يكتب للأمير ولم يبسط ما كتبه ليدخل في افهام العامة من دون وسيط. وتكاد تكون قصة اسحق دويتشر تامة البيان عن محنة ماركس نفسه. ذلك ان المؤرخ الشيوعي في حزب لينين، وكاتب سير ابرز قادة البلاشفة، قرأ رأس المال، فلم يفهم منه شيئاً، فذهب إلى مسؤول المالية في الحزب يسأله المساعدة، فنصحه هذا الأخير بصرف النظر عن قراءة رأس المال، والاكتفاء ببضع وريقات مكتوبة تلخص اهم ما جاء فيه. وحين قرأ دويتشر الاوراق التي قدمها له مسؤول المالية في الحزب، وجدها مفيدة للغاية وواضحة تماماً، فسأله هل قرأت رأس المال؟ فما كان منه إلا ان اجابه: لم اقرأه لكن منظر الحزب اعطاني ملخصاً للكتاب. فسأله دويتشر ثانية: وهل قرأ منظر الحزب رأس المال؟ فأجابه مرة اخرى: لا لكنه قرأ ملخص كارل كاوتسكي.
كتّاب مثل كارل ماركس، نجحوا في صنع مراتب للقراء، فتروتسكي ولينين كانا من قراء كارل ماركس. هذا لا يمنع انهما كانا كاتبين مبرزين، لكنهما كانا من قرائه. وعلى هذه الصفة الأساسية انبنت علاقتهما بالشأن العام. كان لينين وتروتسكي خطيبان مفوهان ويستطيعان التأثير بالجماهير المحتشدة، وهذه كانت حال هتلر ايضاً، لكنهما من ناحية اخرى كانا كاتبين مبرزين ايضاً. وان يكون قارئ كارل ماركس كاتباً فهذا يعني ان ثمة آخرين سيكونون من قراء تروتسكي ولينين، لكن الرجلين لم يتنكرا يوماً لصفتهما كقارئين. وعلى اساس من كونهما قارئين قادا الثورة التي تحكمت بنصف البشرية تقريباً ردحاً طويلاً. ذلك ان الكتاب لا يقودون ثورات ولا يتحولون زعماء وقادة. إذا استثنينا فاكلاف هافل ومادلين اولبرايت ربما. ونجوم السينما لا يقودون العالم، فرونالد ريغان اقلع عن كونه ممثلاً سينمائياً قبل ان يصبح رئيساً بزمن طويل، وارنولد شوارزينغر لم يعد نجماً سينمائياً كذلك.
ربما يجدر بنا ان ننظر إلى مثال اكثر معاصرة لنستوضح الصورة على نحو اكثر جلاء. حكم جورج دبليو بوش الولايات المتحدة. وكان الفريق الذي عاونه يضم بين افراده من يمكن اعتبارهم كتاباً، من امثال بول وولفويتز وريتشارد بيرل، وهؤلاء، الذين يمكن اعتبارهم كتاباً هم بدورهم قراء امينون لكتاب اعلى كعباً منهم، برنار لويس وجون اركيا وصموئيل هنتنغتون ودايفد رانفيلد، على سبيل المثال لا الحصر. وما ان بدأت المصاعب تطاول إدارة جورج بوش في الميادين كافة حتى بدأ نجم الكتاب او اشباه الكتاب يخبو، استقال وولفويتز مرتين من منصبين مختلفين، وريتشارد بيرل ذهب إلى بيته، وحتى جون بولتون استقال من منصبه سفيراً للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة قبل ان يتمم ما جاء من اجله. قد يحكم التاريخ على ادراة بوش الابن لها او عليها. وقد يثبت انه كان محقاً في بعض ما ذهب إليه وكان مخطئاً في جوانب اخرى، لكن الكتاب والمفكرين لم ينتظروا حكم التاريخ، لقد سقطوا في الحاضر، وغيروا وبرروا وحاولوا جاهدين فصل ما كتبوه عن مجريات السياسة وما آلت إليه، مثلما فعل فوكوياما في اكثر من مناسبة. لقد تم رجم الكتاب والمفكرين قبل ان يرجم السياسيين، مثلما تم رجم كارل ماركس قبل ان يرجم تروتسكي، ذلك ان المنطق يقول ان ستالين مولود من رحم تروتسكي ولينين اللذين بدروهما ولدا من رحم كارل ماركس وفريدريك انجلز. وعلينا ان نحاكم الأصل ونرجمه ليتسنى لنا ان نهز ايمان الفرع. علينا ان نقتل الكاتب ليتسنى للقارئ ان يستسلم.

مؤمنو الكتب

القراء يريدون وضع الكتب في موقع من اثنين: اما ان تكون الكتابة جرماً يستحق القتل والتحريق على ما كان يجري في القرون الوسطى وما سبقها، وإما ان تتحول الكتابة ضرباً من التنبؤ الرسولي. ورغم ان جاك اتالي ينشئ سرداً طويلاً في روايته "اخوّة اليقظانيين" ليثبت ان حيازة الكتاب جريمة، وليس كتابته، إلا ان ذلك لا يغير في واقع ان الذي يحاكم حراس كتاب المعلم ارسطو هم ايضاً من القراء. فالمؤمنون قراء، لأن الأديان تتمظهر في كتب ومدونات. والحال ثمة دائماً كتب عوملت كما لو انها سبب للإدانة بالقتل لدى فئة معينة تقابلها فئة اخرى تعتبر هذه الكتب منزهة عن كل خطأ وعيب. ولا شك ان ايقاع الكتّاب في واحد من هذين الموقعين يجعلهم يحملون اعباء تفوق طاقة البشر على الاحتمال. هكذا تم وسم هايدغر بميسم النازية، واستمر بلانشو طوال حياته متنسكاً تكفيراً عن ارائه السابقة اما ريجيس دوبريه فما زال يدفع ثمن كتاباته المبكرة عن حرب الغوار في ادغال اميركا اللاتينية، رغم انه حوكم وسجن بسبب هذا الكتاب. كتاب ريجيس دوبريه كان في لحظة من لحظات الثورات في ستينات القرن الماضي مثابة انجيل الثوريين في العالم. لكن الهزائم التي منيت بها الحركات الثورية التي اعتمدت على حرب الغوار في اسيا وافريقيا واميركا جعلت من النبي السابق مداناً بتهمة الخداع المؤدي إلى الهزيمة والموت. طبعاً لم يكن دوبريه يعرف احداً من الذين اعتنقوا افكاره في تركيا او غواتيمالا او الجزائر، لكن هؤلاء لم يتورعوا عن تحميله مسؤولية هزائمهم على نحو مباشر.

ثبتت الديموقراطيات الحديثة معطيين اساسيين يمكن ملاحظة اثرهما الواضح في كل مكان من العالم. الأول تعلق تعلقاً مباشراً بشيوع عادات القراءة والكتابة، والثاني يتعلق تعلقاً غير مباشر، لكنه واضح المعالم وحاد الأثر، بسلطة الشعب وسيادته. تعليقاً على المعطى الأول يمكننا التأكيد بكل بساطة ان ليس ثمة ثورات في العالم من دون قراء، ومتذوقي فنون تالياً. وان التقسيمات الاجتماعية التي يجدر بنا ان نفكر فيها من الآن وصاعداً بعد ذوبان التقسيمات الطبقية، هي تقسيمات من هذا القبيل: قراء ومتلقين من جهة وكتاب وفنانين من جهة ثانية، مواطنون يملكون آرء من جهة اولى، وجماهير مؤمنة تحركها حماستها من جهة ثانية. والحق ان التفريق بين الشعب المؤمن والهائج، الذي يحسب انه يملك رأياً والمواطنين المتمهلين والمتمعنين يردنا إلى مناقشات ما بعد الثورة الفرنسية بوصفها تمتلك حظاً من الوجاهة القاطعة. يكتب ميشال فوكو في هذا الصدد: تظهر الثورة الفرنسية في تحليلات مونلوزييه، بوصفها الحلقة الأخيرة من عملية التحويل التي قامت بها الملكية المطلقة. وكانت الثورة هي الإنجاز الأخير لهذه السلطة. هل قامت الثورة بعملية انقلاب على الملك؟ أبداً. الثورة انجزت وأكملت عمل الملك. يجب ان تُقرأ الثورة بوصفها انجاز الملكية، إنجاز تراجيدي، ممكن، ولكنه انجاز واكتمال سياسي حقيقي. وبذلك نكون قد قطعنا فعلاً رأس الملك في مشهد ا2 كانون الثاني 1793، ولكننا توجنا عمل الملكية. وهكذا تم الكشف عن تلك الاتفاقية، عن حقيقة الملكية عارية والسيادة المنزوعة من النبالة بواسطة الملك وتحويلها من ثم إلى الشعب، الذي وجد نفسه، كما يقول مونلوزييه، الوريث الشرعي للملك. يكتب: "الشعب السيد: لا داعي لأن نوبخه بمرارة كبيرة. إذ لم يقم إلا بإنجاز عمل أسياده السابقين". هجاء الشعب في هذا المقال لا يقع في موقع الاعتراض على الديموقراطية التي تنادي بالشعب مصدراً للسلطات. بل ان النظم الديموقراطية كما يوضح بول فيريليو تعنى عناية شديدة في تقنين الرأي وحصره في قنوات محددة واختصاصات بعينها. انما هذا كله لا يخفي واقع ان النظم الديموقراطية تتيح، بل وتشجع السعي العام (من العامة) إلى امتلاك الرأي - تعتقد حنة ارنت ان المواطن لا يستقيم مواطناً من دون حيازة الرأي - وفي خضم هذا السعي الذي تحض عليه الديموقراطيات تولد الجماهير.

صناعة الجماهير

تتيح النظم الديموقراطية للجماهير ان تتلبس بلبوس المواطنة. وحين تقع هذه النظم في شرك مماثل تغامر في ان تتحول عن جوهرها وروحها. وهذا ما تذكره معظم المناقشات الأولية التي تناولت وصول ادولف هتلر إلى منصب المستشار من خلال الاقتراع المباشر والحر. اي ان الفارق بين الجماهير المؤمنة والمواطنين اصحاب الآراء يكمن بالضبط في السبل التي يتم من خلالها ايقاظ شيطان الرأي العام. هذا الشيطان الذي يصبح بالغ الخطورة حين يعتمد على انفعالاته المباشرة: عشق انجلينا جولي، التحزب لفنية بيكاسو العالية، تنزيه نعوم تشومسكي عن الزلل، عبادة طوني نغري، وسيادة موضة والتر بنجامين من دون رادع. كما لو اننا امام اي مشكلة من المشكلات التي تعترضنا في الفن او السياسة او الاقتصاد نلجأ إلى القراءة في كتاب بنجامين الذي يملك جواباً شافياً لكل اسئلتنا.
استناداً إلى ما سبق، يسهل علينا ان نلاحظ ان الفنون عموماً تنشد صنع الجماهير على نحو لا فرار منه. فالفنانون على ما يوضح ميشال هرميس هم صانعو اصول. بل ويستطيع الفنان ان يلغي الاصل الذي نسخ عنه ويؤصل النسخة التي صنعها. الرجل الذي اختاره مايكل انجلو لينحت موسى لم يستطع ان يرقى إلى مرتبة الأصل، لكن التمثال اصبح اصلاً ويتم النسخ عنه. وان يصنع الفنان من عمله الفني اصلاً من خلال ابادة الاصل الذي نسخ عنه، يعني ان نحب دور آل باتشينو في العراب، لا ان نحب آل باتشينو نفسه. مما يعني اننا نحب من لا نملك اي سلطة على محاسبته، وان نقبل بمزاجه وتقلباته وعنفه وساديته وتعطشه للدماء من دون ان يكون سبيلنا إلى الاعتراض متاحاً. ذلك ان افعال مايكل كورليوني في فيلم فرنسيس فورد كوبولا لا تترك اثارها المباشرة على حياتنا اليومية. لذلك تبدو كما لو انها من افعال الآلهة. وحيث اننا نؤله نجومنا في الفن والكتابة من دون تردد او شعور بالذنب، فإننا نغامر دوماً في ان نجعل روح الفن تناقض روح الديموقراطية كفكرة وجوهر.

ألزهايمر

ماذا نفعل عندما لا تعود أخبار لبنان صالحة للتداول في وسائل الإعلام الغربية. ماذا نفعل عندما تمل وسائل الإعلام اللبنانية من أدوارها كافة.
ماذا نفعل؟ ربما كان علينا أن نلتقط صورا أكثر مما فعلنا.
كان علينا أن نوثق أكثر، حالنا السابق.
فالذاكرة قد لا تسعفنا. من قال إننا بمنأى عن الإصابة بمرض الألزهايمر.
لم، هذا الشعور، بأن خيانة تعرضنا لها. أو ربما نحن من خان.
لم، هذا الشعور، بأن شجرة الياسمين عند عتبة منزلنا، جرفت مرة أخرى.
ماذا نفعل؟
بإمكاننا، الركض باتجاه حجرة في وسط البيدر، نبكي عندها، آملين في أن يسعفنا أحد بخلاص ما.
أو بإمكاننا، القول بأن علاقة كانت تجمعنا، انتهت بيننا وبينها. علاقة ربما لم تكن برغبة منها، إنما بالإكراه منا. وها هي انتفضت في وجهنا. أو ربما نحن بتنا راشدين ما يكفي ،كي لا نطلب الحب عنوة.
في الأحوال كافة، ماذا نفعل...

فالانسان الشريد يغدو حراً بمعنى جديد، اذ أن من يفقد صلاته كلها هو الوحيد الذي لا يلزمه أي تحفظ فكري .
كارل وعلي ونجلاء بيحبوا بريطانيا، فادي بيحب فرنسا، لازم حدا يحب اميركا

الأربعاء، 30 يوليو 2008

عن اوهام الفردية العربية

عن أوهام الفردية العربية
دلال البزري
الحياة - 20/07/08//
بلال خبيز كاتب ومحلل صحافي وسكرتير تحرير الملحق الثقافي لجريدة «النهار». لبناني خاص جدا. وكاتب خاص جدا. تخاله شيعياً عتيقاً: لشغفه وحزنه وجموحه. ولكنه ابن العرقوب، احدى القرى الجنوبية السنية السبع، والمنسية. قرى لا تقدم ولا تؤخر في الزعامة السياسية، أياً كان مذهبها؛ ولا بالتالي في تقاسم الحصص والنفوذ والجاه بين الافرقاء المتخاصمين والمتحالفين في آن. طَرَفيّ، من الاطراف. ولا يتقن فوق ذلك لغة العلاقات العامة. ولا حتى يحاول التشاطر عليها. صعلوك غير متوّج؛ غير محمول على أكتاف «حرية التعبير...» الصاخبة. وهو مع ذلك يتناول قضايا «مركزية». النقد الصريح لـ»حزب الله». ولممارساته على «ساحته» اللبنانية. وذلك من دون ان يكون منتميا لفريق 14 آذار انتماء الملتزم شبه الحزبي. كان حزبيا، يساريا، ايام شبابه الاول. قاوم اسرائيل بالسلاح هو ايضا. سُجِن في معتقل عتليت الاسرائيلي مدة عام واحد. وبعد خروجه منه، كانت «أمل» تلاحقه؛ تبعا لسياسة ملاحقة المقاومين اليساريين التي اتبعتها آنذاك، في ظل الوصاية السورية المتجددة. وكان بلال يناهضها بكتاباته.فردٌ هو اذاً. كما يفترض بالافراد ان يكونوا في مجتمع حداثي. و»المفترض» هنا يقتضي وجود قانون وقضاة الخ. والحال ان قصة بلال هذه تصطدم بجبل من الفوضى الامنية والقيمية والمعلوماتية... لم تعد الحداثة إلا كومة بين حطامه.كيف؟ هنا القصة. وخلفها مدونة اسمها «فيلكا اسرائيل». المدونة هذه تعامَل معاملة الموقع الاسرائيلي. وتشيع على الدوام انها كذلك؛ ولذلك يختلط الامر على الجمهور غير المتابع. الذي روّج لهذه المدونة وحوّلها الى «مصدر معلومات»، هو الاعلام «الممانع» وايضا السوريون، فضلا عن الايرانيين، ووكالة الانباء الايرانية «فارس». وقناة تلفزيونية ايرانية presstv.ir (من تحقيق منال نحاس. «مدونة «فيلكا اسرائيل» السورية الايرانية» موقع (nowlebanon.والمدونة ليست اسرائيلية، كما تثبت الصحافية منال نحاس. تحقّق حولها، وتكتب عما حصدته: «لا تحمل هذه المدونة رمز المواقع الصادرة على الشبكة الالكترونية الاسرائيلية، أي «il» . ولا تذكر المواقع الاجنبية والاسرائيلية هذا الموقع، ولا تنقل اخباره واخبار باحثيه المزعومين. فمحرّك «الغوغل» يعرض اسماء نحو 1500 موقع يتداولون اخبار «فيلكا اسرائيل». وليس من بين هذه المواقع موقع اميركي او اسرائيلي الخ».لغة هذه المدونة عبارة عن جرعة اضافية من التخوين والبذاءة والفضائحية. لغة تسود اليوم. وتتفوق على إنحطاط اللغة المتداول الآن.آلة تلفيقات اذاً هي تلك المدوّنة. ترعى رواجها ومصداقيتها آلات الاعلام «الممانعة» وأدواتها من وكاللات انباء وصحف وفضائيات. ومن بين التلفيقات رواية جميس بوندية عن بلال خبيز. عن علاقة وثيقة بينه وبين صحافية اسرائيلية مشهورة. وصِلة الوصْل بينها وبين «مسؤولين من 14 آذار». عن كونه المراسل «الرسمي» لصحيفة «هآرتس» الاسرائيلية، عبر خليوي تدفع الصحافة ثمن مخابراته. عن تقديمها لبلال على انه «من كبار الصحافيين اللبنانيين العاملين مع القوى الحليفة للغرب». أي اميركا واسرائيل... ولا حاجة الى لبيب!بعد انتشار هذه التلفيقة جاء لبلال التهديد بالقتل. وكان محتاراً. لا يستطيع التأكد «من صحة هذا الامرمن عدمه». (من رسائل بلال الالكترونية الى اصدقائه). فيندفع نحو الاختفاء. ينتقل مرتين من شقة الى ثانية الى ثالثة، بعدما يبيع سيارته واثاث منزله. لا يجد يداً تمدّ له. يكذب الشائعة، ويفصّلها. ثم يكتب عن مآلها: «ان شائعة تطاولني وتسير في البلاد طولا وعرضاً. وليس ثمة من هو مستعد للدفاع عني». وحساسية الموقف تنبع من تفرّده السخصي: «انني بين الذين طاولتهم الشائعات الوحيد الذي لا يمكن ان يكون محسوبا على 14 آذار». ويضيف: «حتى العمالة حين تكون عمومية كحال اتهام «حزب الله» لقوى 14 آذار يصبح غفرانه ممكنا بل وواجبا عند اية تسوية سياسية. أين موقعي انا من كل هذا؟». فردٌ يدافع عن رأيه؟ «كيف يمكنني ان ادافع عن نفسي امام رأي عام مسيطر اليوم، وهو رأي عام «حزب الله»؟ يسلك كما لو انه على قناعة تامة بان ما ورد في مدوّنه «فيلكا اسرائيل» هو تحصيل حاصل؟». ويدافع عن نفسه من تهمة الهروب والتسرّع: «أنا لا اقدم نفسي بصفتي قائد الجبهة الوسطى. انا صحافي ومن حقي ان اخاف على حياتي». ويعاتب: «ألا يرى قادة 14 آذار الميامين ان هذه القضية يجب ان تثار؟». يتحرى بلال بنفسه ويسأل. ويحاول ان يلتقط خيطا. فيتوصّل الى ذلك. يخاف بلال. يعرض «حزب الله» عليه «الحماية». لكنه يرفضها: «بقائي في البلد مرهون بالتعاون معه»... كما حصل لعدد من الصخافيين. ويعود فيتصل به الحزب من اجل «التحقيق». لكنه يرفض ايضا: «إجراء التحقيق قد يعرّضني للقتل قبل انتهاء التحقيق». ويحمّل الحزب المسؤولية المباشرة عن تردّي امن الافراد، ترديا مزرياً.مشهَّر به ومهدّد. كما هم مهددون كتاب وصحافيو 14 آذار؛ وكما هو مشهَّر بهم من قبل مدونة «فيلكا اسرائيل». وبترويج من آلة «الممانعة» الاعلامية. الموت في هذه الحالة العامة مسألة احتمالات. لكن احتمالات بلال تضاعفت بعد الشائعة والتهديد. وكان جديرا بقصة كهذه ان تستنفر كل المفاهيم المنبثقة من «الفرد»... مثل القانون والقضاء والمؤسسات، العزيزة على قلب 14 آذار. لكننا مشغولون. مشغولون مأخوذون بوتيرة البلاد الجهنمية. وتيرة تقطع النَفسَ وتمنع التذكّر.بلال الآن في اميركا. هرب ومن حقه ان يهرب. قصته هذه تنتمي الى قضايا حرية التعبير في وجه وحش الفوضى السياسية والامنية العاصفة بنا. قضية جوهرية وخطيرة. وجديرة خصوصاً بإزالة أوهام سابقة حول «الفردية» العربية.
... فالانسان الشريد يغدو حراً بمعنى جديد , اذ أن من يفقد صلاته كلها هو الوحيد الذي لا يلزمه أي تحفظ فكري .

الأحد، 27 يوليو 2008

بلال خبيز عن ملحق النهار البيروتية 27 تموز2008 يبكونها مغادرين ويرجمونها عائدين-بيروت أندلسُ أجيالها

يحدّثونك في القاهرة عن الزمن الجميل. ذاك الذي مضى ولن يعود. هذا ما يؤمن به اهل القاهرة، لكنهم يعملون ويكتبون! ويقرأون كأنما يفعلون ذلك بلا أمل. الكتابة والفنون وحتى السياسة في العالم كله، باتت اليوم تعاني من ندرة المجد. ثمة متاحف تغصّ بساكنيها. بل ان بعضها يخزّن في الطبقات السفلية اعمالاً فنية تزيد حجماً واهمية على تلك المعروضة في اروقته وافنيته. المجد صار شائعاً، ومع شيوعه على هذا النحو الواسع، بات المرء لا يحسن ان يتنبأ. وإذا ما ارتضينا اكتشاف بول اوستر لوظيفة الكتابة، في انها ليست اقل من تنبؤ، اصبح مفهوماً ما الذي نعنيه اليوم بالكتابة والفنون التي لا تنشد المجد، بمقدار ما تنشد الأرشفة. هذا ايضاً معرّض للزوال والتهديد، حيث باتت تقنيات الأنترنت في البحث تهدد بأرشفة كل شيء. التخرصات والشتائم إلى جانب الفلسفة والعلوم، ترصف جنباً إلى جنب، من دون تمييز او تقدير من اي نوع.
في القاهرة ثمة حديث عن الزمن الجميل. لكن زمن القاهرة الجميل لا يزال ماثلاً وحاضراً في شوارعها وحاراتها وميادينها. قد يكون مهملاً ولا يجد من يعتني به، لكنه على الأقل باق في مواجهة عاديات الزمان. وله ان يصمد بمقدار ما يستطيع، من دون ان يخشى اذية المتعصبين.
مدينة ترث نفسها
في بيروت ايضاً حديث عن الزمن الجميل. بيروت اصلاً هي حانوتيّ ازمان. لأن ازمانها كلها جميلة بلا استثناء. لهذا تحسن بيروت ان ترث نفسها. كل جيل يطرد سابقه من الميدان ويحل محله، وكل مرة نودع جيلاً كاملاً بالحسرة نفسها التي تجعلنا نقدّم بطاقة انتمائنا إليه. كما لو ان الذين يريدون ان يحفظوا بعض ماضي بيروت، يتحولون بقوة قاهرة إلى منفيين من متنها وحاضرها.
يوم غادر محمود درويش بيروت، غادرها بلا رجعة. كانت بيروت التي يغادرها جميلة. في الاقل هذا ما يقوله الشاعر نفسه. جميلة وصانعة زمن جميل. صانعة احلام كبيرة، بلغت في لحظات انتشاء سياسي وثقافي حدود الكون كله. بيروت هذه، كانت قد قامت على انقاض بيروت اخرى، هي ايضاً كانت جميلة: بيروت الخمسينات، المسرح في تجاربه العربية الأولى، الشعر المترجم، السجالات الفكرية، مجلات الأدب والشعر. هذا كله انزاح عن الواجهة ليصبح في متحف الذاكرة، ثم حلت محلّه افكار وفنون وسجالات من طينة اخرى، او ربما، تلطيفاً، من زمن آخر. في السبعينات كانت بيروت، في ظل الحرب الأهلية، متألقة وبارعة وجاذبة. لم تكن حربها تعيبها، ولم تجعلها غير مألوفة ومطروقة ومرغوبة. مع ان سنوات السبعينات من القرن الماضي في بيروت عرفت تعسفاً في جعل الأفكار التي انتشرت في ستيناتها مقرِّرة في نمط الحياة. في تلك البيروت انتشرت عادات وتقاليد جديدة، وألقيت اخرى في سلة المهملات. قارئ علوية صبح، في "مريم الحكايا"، لا بد ان يعجب من هذا الانتقال السريع في تقبل انماط الحياة بين الاخت وشقيقتها الأكبر سناً، حيث في وسع الأولى ان تعشق وتخرج وتسكر فيما لا تجرؤ مَن تكبرها ببضعة اعوام على خلع المنديل عن رأسها. بعض الذين قرأوا الرواية، ردّوا هذه المفارقة إلى سطوة المدينة، وإلى الصدمة التي تحدثها في حياة العائلات النازحة إليها من الريف. مع ذلك يجدر بنا ان نفكر في الأسباب التي دعت هؤلاء إلى النزوح إليها عائلات بكاملها. ذلك ان المدن تجتذب عادة إليها شباباً طامحاً ويشعر ان الريف لم يعد يتسع لمؤهلاته، فما بال بيروت تستقبل هجرات عائلات تامة الأعداد، اولاداً واحفاداً وآباء واجداداً؟ هذا على الأقل ما تقوله بعض اعمال حسن داوود ومحمد ابي سمرا.
الآباء المنفيون
قد تكون هذه ميزة بيروت، لكنها ايضاً قد تكون احد اسباب ذمّها. والأرجح ان ادونيس الذي زار المدينة محاضراً قبل سنوات قليلة بدعوة من "اشكال الوان"، وقال فيها ما اعتبره الكثيرون من اهل المدينة ومثقفيها تهجماً وتجنياً، انما كان يحاول القول ان مدينة بيروت التي كانت جميلة، وتصنع الزمن الجميل في خمسينات القرن الماضي، وربما ستيناته وسبعيناته، لم تعد هي نفسها، ذلك ان ادونيس تماهى إلى حد ما مع ذلك الزمن الذي اعقب الخمسينات. نجوم اليوم يختلفون منبتاً ومسلكاً ومصدراً وثقافة عن نجوم الامس. ومثقفو اليوم يختلفون اهتمامات واحلاماً ومراجع عن مثقفي الامس. والحياة تالياً في المدينة التي زارها ادونيس، تشبه إلى حد بعيد حياة اهل غرناطة لو زارها ابو عبدالله الصغير سراً بعدما سقطت في يد فردينان وايزابيل.
الذين ردّوا على ادونيس يومذاك، كانوا على حق في ما ذهبوا إليه. ادونيس نفسه لم يكن يشن هجوماً مجانياً. انه في معنى من المعاني زار المدينة التي كانت تعرفه ولم يجدها. بل انه على الأرجح قرأ في الصحف اللبنانية، التي تصدر من بيروت حصراً، تحقيقات لا تحصى عن تردي اوضاع بيروت الثقافية والفنية والسياسية: اين كمال جنبلاط من سياسيي اليوم، واين فيروز من مطربي اليوم واين "الندوة اللبنانية" من لقاء الثلثاء الثقافي؟ هذا كله كان يرد في تحقيقات ومقالات ويتحضر ليتحول افكاراً في زمن بيروت التي هاجمها ادونيس. مع ذلك لم ينصف ادونيس المدينة. المدينة التي رآها بشعة وغير منظمة على سمت معين ومفهوم، هي المدينة التي تصدح فيها حملات الدفاع ضد هجوم المباني الحديثة على المباني التراثية، وضد غزو المطاعم لدار الحرف اللبنانية، وفي ضرورة الدفاع عن شجرة شارع بلس التاريخية في وجه الأسمنت الذي لا قلب له ولا روح. لكن هذه المدينة التي تصدح فيها هذه الأصوات كلها دفعة واحدة، هي ايضاً المدينة التي كان يعمل فيها جاد تابت وبرنار خوري ونديم كرم، بصرف النظر عن طبيعة توجه كل من هؤلاء، المعماري والهندسي.
أمناء متاحف ومناضلون
المعنى من هذا كله، ان بيروت التي تندب زمنها الجميل، كانت تندبه كميت، اي كنصب لا يحقّ له ان يدخل في صلب السجال. وان النصب المجمَع عليه في هذا المعنى، لا يصح فيه القول سوى انه جميل وحسب، وهو جميل لأنه يصبح على وجه من الوجوه غير قابل للاستعمال. فتحويل ما كان مبنى سكنياً إلى نصب جميل، يجعله غير قابل لأيّ استعمال، ويجعل شاغليه على الأرجح امناء متاحف، مما يجعل الفنان والمبدع والسياسي ايضاً في زمن بيروت الذي قال فيه ادونيس ما قاله، محاصَراً بمتاحف من كل نوع، ومدعواً للخضوع إلى سلطتها. وحيث انها لم تعد غير شواهد على الماضي الجميل، فإن تكرارها يبدو مستحيلاً، لذلك يبدأ الخلاّق عمله معترفاً بتفوقها عليه. لا يستطيع المرء في اي حال من الأحوال ان يقارع نصباً وينتصر عليه، فالانصاب تنتصر دائماً على الأفراد. لذلك كان لزاماً على المرء في بيروت هذه ان يبدأ ادعاءه من تحت تلك الانصاب. هكذا في وسع راغب علامة ان يعترف بأهمية صباح وفيروز، وباستحالة تجاوز وديع الصافي ونصري شمس الدين، لكن اليوم يوم عمل، وعلى الحياة ان تستمر، وإن تكن من دون مجد.
قال ادونيس ما قاله في زمن بيروت ما بعد انتهاء الاعمال الحربية في التسعينات. وهو الزمن الذي راجت فيه المعاني المتناقضة التي كمنت وراء الخطاب السياسي والاجتماعي والثقافي في ذلك الحين، ذلك ان الخطاب اليومي الذي كانت تواجه به بيروت سائليها كان بالتحديد: لا عودة إلى الحرب الأهلية. كما لو ان الحرب ذهبت لكي تهدد بالعودة. وعلى اساس من اصرار اللبنانيين على هذا الشعار، تم التعايش في ظل مشروعين متباينين، إن لم نقل متناقضين: مشروع مقاومة ضد اسرائيل، في جنوب لبنان وبعض بقاعه، ومشروع اعمار وانماء في العاصمة وما حولها. وكلما نجح مشروع من المشروعين في ان يستأثر بصورة بيروت، بهتت الوان صورة المشروع الآخر. هكذا تناوب اللبنانيون على حروب وهُدن، كانوا في كل مرة يتعاملون معها كما لو انها من عاديات الطبيعة كالزلازل والهزات الأرضية والفيضانات. اي ان تلك الحروب المتعاقبة طوال التسعينات في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، كانت تبدو لبعض اللبنانيين كما لو انها اعراض الطبيعة الغاشمة، إذ سرعان ما ينسون ما جرى ويعودون إلى ما كانوا عليه، ما ان يعلن وقف لإطلاق النار، في الوقت الذي يشعر بعضهم الآخر ان هذا الاحتفال الصاخب الذي يميز بيروت في زمن الهدن لم يكن إلا رد فعل طبيعياً على قسوة العيش في الحرب وتحت شروطها. اي ان الحرب بالنسبة الى هؤلاء كانت مقيمة دائماً، لكن الهدوء كان عارضاً. كنا امام صورتين للبنان بليغتي التعبير تتناقضان وتتناحران تحت سقف واحد. صورة الانتحاري الذي يفجر جسده في مواجهة المحتل، وصورة البلد الذي يعيش رخيّ البال، بعدما انجز حروبه كافة ولم يعد ثمة ما يخشاه على هذا المستوى. وعلى نحو ما كانت تصدر من وسط بيروت وبعض غربها وشرقها صور لحياة الليل الصاخبة والسهرات الفنية ونجوم العالم الساهرين في علب بيروت الليلية، والجماهير التي تحتشد لسماع نانسي عجرم، كانت تصدر ايضاً من بيروت نفسها صور الانضباط العسكري الحاشد والدقيق التي كان "حزب الله" يظهرها في كل مناسبة. الغريب في هذا كله، ان متلقي الصور في العالم اجمع، لم يفطنوا ان هاتين الصورتين خارجتان من صلب مدينة واحدة، مما يعني ان الانفجار سيقع لا محالة في لحظة من اللحظات.
لم يقف التناقض عند هذا الحد، بل ان المسؤولين السياسيين دافعوا يومذاك عن الوجود السوري في لبنان، كما لو انهم يريدون العيش في يوم الخمر ويتركون للنظام السوري يوم الامر. ذلك الوجود الذي كان يستند في شرعيته إلى حجة من اثنتين، واحياناً إلى الحجتين معاً وجميعاً. الأولى تفيد ان الوجود السوري في لبنان مستمر إلى ان ينتهي الاحتلال الإسرائيلي وتستقر المنطقة على تسوية شاملة وعادلة، والثانية ان هذا الوجود مستمر إلى ان يبلغ اللبنانيون رشدهم السياسي والاجتماعي ويقلعون عن التقاتل والتذابح في ما بينهم. في هذا السياق كان يقع على اللبنانيين تنفيذ مهمتين متناقضتين تحت ضغط معطى واحد ومهيمن: الاستقالة من مترتبات التسوية العادلة والشاملة وايكال امرها إلى الديبلوماسية السورية، لينصرف كلٌّ إلى وظيفته: المقاوم للموت في مواجهة المحتل، ومعيد الإعمار إلى العمل بهمة من يملك يقيناً راسخاً بأن اي حرب لن تتجدد في لبنان. والحق ان الطرفين كانا يحاربان بما اوتيا من قوة وجهد، كل على جبهته، لكن القاسم المشترك بين الطرفين لم يكن يتحدد في غاية الانتصار في وصفه هدفاً نهائياً لهذه الجهود والتضحيات الكبيرة. كان الطرفان يقاتلان ليربحا الوقت، إذ يستحيل على اي منهما ان يربح الحرب. الوقت الذي يسمح للبنانيين بغبّ المتع والمباهج قبل ان تواصل الحرب اعمالها، والوقت الذي يسمح للبنانيين بتهيئة عدّة الحرب وتجهيز النفس قبل ان يستعاد مهرجان النار. ذلك ان التحرير في حد ذاته لم يكن سبباً لإبداء "حزب الله" بعض الفتور في الاستعداد والتجهيز للمعركة المقبلة. كان وقت الرقص هو وقت الاستعداد في الهدن التي تقع بين جولتين، وكان وقت الهدن هو الوقت الذي يسمح للبنانيين بعبّ المباهج وتخزينها في صدورهم وذكرياتهم واستعادتها لحظة مرور سحابة الصيف التي هي الحرب.
غلب على بيروت التسعينات صورة المدينة الناجية من كل الحروب. وفي تلك البيروت ولد نجوم ونجمات، واستعدّوا جميعاً لوراثة المدينة التي كانت، اي بيروت السبعينات. في تلك اللحظات كان كل تحذير من خطورة هذا التناقض يواجَه بسيل من الاعتراضات الشديدة والحادة. بيروت تلك ورثت سابقتها، وانشأت على مرأى من انصاب الحقبة السابقة وتماثيلها، مباني تستعد لتصبح بدورها في القريب العاجل انصاباً للذكريات. لكن الانفجار كان محتماً ولم يكن ثمة سبيل الى منعه. اقلّه عبر هذه السياسة السالفة الذكر. والأرجح ان ما منع الحذر عن بيروت واهلها كان متعلقاً بتاريخها، حيث انها مدينة تستعجل دفن نجومها. وغالباً ما تتجاهلهم وهم بعد قادرون على العطاء. لهذه الأسباب يستطيع المرء ان يتفهم معنى بيروت بالنسبة الى أدونيس، او غيره، فهي المدينة التي لا يعرفها، والتي تتنكر لاعلامها ونجومها كل جيل، وهو لا يرى من بيروت هذه غير اندلس تحتلها قصور القشتاليين البشعة والمترامية الاطراف، في محاولة لحجب قصر الحمراء الرشيق الأنيق او تحديه. كما لو ان بيروت اندلس ابنائها، الذين يبكونها مغادرين ويرجمونها عائدين.
بيروت المولودة بيروت الموؤودة
بعدما وقّع اللبنانيون "اتفاق الدوحة"، في قطر، رفع معتصمو المعارضة اللبنانية خيامهم من وسط بيروت. ساعتذاك زحف اللبنانيون للاحتفال بعودة وسط بيروت إلى ما كان عليه. لكنهم بعد ساعات قليلة على استعادة نجوم حقبة التسعينات لألقهم، في وسط بيروت، عادوا إلى الحقيقة المرة التي تقول ان تلك البيروت ماتت، وان بيروت جديدة تولد مكانها. اما الذين كانوا يغنّون في وسط بيروت من نجومها، فليسوا اكثر من انصاب استعادت اصواتها للحظات قليلة لتعود بعدها تماثيل من ملح. بيروت البهجة بانتهاء الحروب ماتت، ربما هي ماتت منذ حرب تموز 2006، وبيروت المقاومة ولدت. بيروت المولودة اليوم، والغضة الإهاب، ستكون من دون شك لامعة ومتألقة وصانعة نجوم. لكن ما لا نعرفه حتى الآن، كم ستبلغ من العمر قبل ان تموت!

الاثنين، 14 يوليو 2008

عن ملحق النهار البيروتية

اتقان النوم

بلال خبيز

اجلس خلف طاولة مقهى. المقاهي تبدد العزلات. الندل في كل مكان يشبهون بعضهم في مكان ما. يحيونك ويرحبون بك. وحين تكون الدنيا ضيقة والسماء قريبة وتكاد تلامس دماغك، لن تجد افضل من كرسي في مقهى كي يخرجك من العزلة. العزلة، الصوم عن الكلام، النساء اللواتي يبدين بعض اللطف حيالك، لكنك تعرف ان وقتك ليس ملكك، وانك مسافر بعد حين. وان قلبك ليس مستعداً لأي انكسارات اضافية. ثم انك تملك الوقت كله ولا تملك وقتاًً. لا شيء تفعله منذ الصباح، ولا الليل يحمل معه بعض السلوى. وقت يستطيل إلى ما لانهاية، لكنه لا يتسع لصديق جديد. الصداقات تحتاج منا معاهدات على ما تبقى من اعمارنا. وانت لا تملك ان تعاهد على ما تبقى من نهارك. غداً او بعد غد، ستترك هذا المكان. هذه المدينة، لا سبب يدعوك لزيارة اثارها الكبيرة. لأنك لن تعرف لمن سوف تقص مشاهداتك فيها. ولأنك لا تملك الحق في ان تكوّن انطباعات حاسمة. ولا ان تجري مقارنات ذات معنى. القاهرة اعرق من بيروت. هذا ما كنت تعرفه من قبل، لكن السؤال المضني والمؤرق ليس اقل من: من هي بيروت؟ هل ما زالت بيروت مدينة ترى العالم من زجاج نافذتها؟ هل ما زالت مدن العالم كلها مجرد فنادق تمضي فيها ليلة وتعود إلى المدينة الأم؟ ما الذي تبقى من بيروت؟ اصدقاء يستشعرون غيابك؟ ربما، وربما انت لهذا السبب تتجنب الاتصال بهم مرة اخرى. كلما كان القاطن في بيروت قريباً منك، كلما اصررت على قطع كل صلة به. بيروت، حيث كنت انام. بيروت التي نمت فيها نصف ايامي وربما اكثر، لم تعد بيتاً وانا لا انام. نحن ننام لأن ثمة في النوم ما يقربنا دون عناء من اليوم الذي نعود للنوم فيه في المدن التي ننتمي إليها. المدن التي لسبب او لآخر تشعر انها المكان الذي تحسن ان تنام فيه. النوم الآن صعب ومتعسر، ذلك ان الوقت يتطاول قبل النوم وبعد النوم. ها انا الآن افكر انني نمت كثيراً لكنني لا اعرف ما الذي يمكن ان تصنعه يداي في يقظتي. هنا لا اجد ابرة وخيطاً، ولا اجد مطرقة او مقدحاً. هنا كل شيء يشبه النقود الورقية. عارض ومرموز ولا قيمة له في حد ذاته. حتى الترحيب الذي تلقاه من عامل المصعد في الفندق لا يحمل على محمل الترحيب. انه مجرد شكليات لا قيمة لها. الترحيب الذي تريده، والذي يريده اي كان، هو الترحيب الذي يجعلك تشعر بوجودك، لأن المرحب بك يعني ما يقوله حقاً. لكنك مجبر على تطلب مثل هذا الترحيب. المرأة التي تنظر إليك معجبة في هذا المكان، هي المرأة التي تريد ان تثبت شيئاً لنفسها. انت عابر وطالب شربة ماء، لكنها باقية هنا ولن تذهب معك. لن تتخلى عن النوم العميق لتهرب إلى حجيم الوقت الذي انت فيه. انت وحدك في هذا الجحيم، وليس لهذا النفق من آخر بعد.

اقول انني سأعود إلى بيروت. سأعود قريباً. لكنها بيروت التي طردتني. طردتني مثلما تفعل المدن عادة، تطرد ابناءها بالغلظة نفسها التي تستقبلهم فيها. وعليك منذ ان تطأ قدماك مطارها ان تعيد تعريف نفسك الف مرة في اليوم. انت هارب ومنفي في الوقت نفسه. هارب لأنها طردتك ومنفي لأنك تريد العودة إليها ولا تجد السبيل. بيروت تطردك. وانت تحبها. وان تحب مدينة ليس امراً يشفع لك عندها. المدن قاسية وجافة حين تريدها مرحبة ومضيافة. ومضيافة وكريمة حين تريد مغادرتها. المدن لا تفصح عن مشاعرها حيالك إلا لحظة الوداع. وانت خرجت من بيروت كما لو انك لص يبحث عن مخرج سري. خرجت لأنك لم تعد تريد مواجهة احد ولم تعد تريد مناقشة احد. اصلاً لم يكن ثمة من يريد مواجهتك. كانت الامك قد كبرت وفاضت عن قدرة اي كان ان يستمع إليها. كانت الامك فائضة إلى الحد الذي لم يعد ثمة من يستطيع مساعدتك. غادرت كلص، وستبقى في بيروت لصاً مهما حاولت ان تدافع عن نفسك. الناس لا تستطيع ان تهزم المدن. تستطيع ان تكرهها، ان تفكر انها لم تعد هي نفسها، لكنها لا تستطيع هزيمتها. لك ان تكبر في المنفى، ان يشيب شعرك وتكل يداك، لكنك حين تعود لن تستطيع ان تشعرها بالندم على ما فعلته بك. المدن قاسية، وانت اخترت ان تكون عاشق مدن. فلتتحمل ما جنته يداك.

في هذه الغرفة، ثلاثة كراس، كرسي للعزلة واثنان للصداقات. لم اعد اجالس كرسي العزلة، وليس ثمة اصدقاء هنا. هذه الغرفة معدة فقط لنومي. وانا سوف اتقن النوم.

السبت، 12 يوليو 2008

بيروت الثالثة

بيروت الكلمة الأم

تنشأ في الغفلة و العسكر ينزع روحها

بلال خبيز

الكلمة. بيروت ككل مدينة، هي مدينة متكلمين. سكانها منشئو كلام. ويصعب وصف بيروت إلا بوصفها مدينة كلمة. ليس بالمعنى الذي يجعل كل من يعيش فيها صاحب رأي وحسب، بل بالمعنى الذي يجعل المدينة نفسها مبنية على الكلام. والكلام، منذ زمن بعيد لم يعد يصنع امجاداًً ولا يرفع هياكل. الكلام لم يعد يقتنع بخطورته غير صنفين من البشر: القادة المعصومون والاطفال الرضع. فالرضيع، بالتجربة، يكتشف ان للصوت الذي يطلقه مفعولاً مباشراً، فما ان يطلقه حتى تهب امه لتلبية حاجاته والوقوف عند رغباته. والقادة الملهمون، ايضاً، يظنون ان في وسع الكلام ان يصنع ثورات، ذلك انهم تسيدوا بقوة الحجة، على ما يحسبون.

لا بد ان القادة يعجبون للسبب الذي يجعل من يخالفهم الرأي يخالفهم الرأي. لقد قال القائد الكلمة الفصل ولم يعد ثمة من حاجة لأي كلام. كل كلام بعد القول الفصل يصبح تآمراً او تجديفاً او تدليساً. فمنذ البدء لم يكن غير كلمة واحدة والباقي الفاظ وتنويعات على الكلمة الأم.

اغلب الظن ان مدينة مثل بيروت لا تستطيع ان تستكين لمقتضيات الكلمة الفصل. فالمدن عموماً تحب التدليس والتجديف والتآمر، وتستمتع باحاديث النميمة والغيرة. وكل صنوف الكلام هذه مخزونة بين جدران المدينة وهي تعرف ان متكلمين كثراً مروا في شوارعها، وظنوا يوماً انهم يملكون سر الكلمة ثم ما لبثوا ان اعتذروا شعراً وغناء. اعتذروا لانهم جرحوها، وخمشوها، و"قد يخمش الغرقى يداً تمتد لتحمي من الغرق". لكن هذا يفترض انهم غرقى وان كلمتهم هي كلمة الوداع، او النجدة. لكنها لن تكون ابداً الكلمة الأم.

لنفكر قليلاً. ماذا لو صدق ظن حزب الله وكان تيار المستقبل يمتلك ميليشيا مدربة بأعداد غفيرة. وكان ان قرر قادة هذا التيار مقاومة قوات حزب الله بالحديد والنار؟ هل كان حزب الله لينتصر؟ هل كان اي كان لينتصر اصلاً؟ كيف ننتصر على انقاض عاصمة؟ واي عاصمة، انها بيروت. ما الذي يجيده المقاتلون اصلاً، وما الذي يخشى عليه المواطنون اساساً؟ المقاتلون يجيدون تخريب البيوت والابنية، وقطع الطرقات بالقنص او السواتر الترابية، والمواطنون يخشون ان يستفيق الواحد منهم ويهم بالذهاب إلى عمله فيجد ان ما كان حتى الامس طريقاً بات اليوم خط جبهة ساخن. المقاتلون يحتلون ليل المدن، وينتشرون تحت ستاره. والمواطنون يريدون الليل غياباً عن كل شيء، ودخولاً في كهوف النوم. والمقاتلون يوقظون النيام لكنهم يمنعونهم من العمل بمقتضى كونهم يقظين. يريدون ان تصبح بيوتهم مخابئ لا مهاجع. وهم ينجحون في ذلك ما ان يشد واحدهم اصبعه على الزناد ويطلق طلقته التي تغير وجه الليل. المقاتلون يأتون إلى المدن، وينتصرون عليها، فالمدن دوماً ضعيفة وتعجز عن الصمود، إلا إذا قرر اهلها ان يتخلوا عن اعتبارها مدينة. ولهذا لم يكن المقاتل يوماً صديقاً للمدن. حتى وهو يريد حفظ امنها. بيروت، لن نقول انها استبيحت، ولن نقول انها هزمت، ولا ان ثمة من احتلها، لكن ذلك لن يغير في ما جرى شيئاً. اساساً لا يتصل الامر بالسياسة ولا يتصل ايضاً بمواقع النفوذ. الأمر متصل اتصالاً جوهرياً بمعنى ان تكون المدينة مدينة، وبشروط انوجادها. ذلك ان المدن كالكلمة في وسعك ان تسد اذنيك وتعزف عن سماعها، فتموت في حلق مطلقها. ويكفي اقفال شارع واحد من شوارع المدينة ليجعل الشك بوجودها قائماً ومشروعاً. المدينة لا تسلس قيادها للإرادات. تهجر دفعة واحدة، ولا تعود. وحين تود استعادتها، بعد ان تؤول الامور إليك تكتشف انها اختفت ولا تعود. والمدن لا تحب القوانين ولا حالات الطوارئ. وهي لهذه الأسباب تقيم اسواراً من حولها، ولهذه الأسباب تقع الحروب خارجها، على الحدود وفي الجبهات وقمم الجبال، وما ان تصل الحرب إليها حتى تكون الهزيمة قد حلت بأهلها، وبات عسكرها مكسوراً وممزقاً في الفيافي والجبال. المدن تستسلم، لأن القتال لا يحصل إلا عند اسوراها. وحين يتحول القتال إلى شوارعها الداخلية لا تعود المدينة مدينة، وتهاجر منها كل صفاتها. العاصمة المعرضة للقصف ليست عاصمة، والبلد الذي تتعرض عاصمته للقصف يجب ان يقر بالهزيمة. لكننا استطعنا ان ندعي النصر ونحن نحارب في شوارعها، وان ندعي حب بيروت ونحن ندفعها دفعاً كي تهاجر. لا اناصر طرفاً ضد طرف في هذا المجال، لكن احتلال المدينة، كائناً من كان المحتل، يكون آخر سطر في سيرتها. بعد الاحتلال، تتحلل المدن وتصبح مجرد احياء متضامنة ومرعوبة وغير مرحبة. وسرعان ما يتحول العيش الوادع في المدينة إلى ضرب من العنف الذي يهزم المحتل حكماً لكنه يخرج المدينة عن صورتها وينثرها اشلاء في الهواء.

منذ متى كان المقاتلون ييبنون مدناً او يحق لهم ان يعسكروا في احيائها. ومنذ متى تكون المدينة مدينة حين تكون مرتعاً للجيوش والعساكر؟ المدينة والجيوش نقيضان لا يلتقيان، ما ان يظهر الأول حتى تختفي الثانية، وعليك ان تخفي الأول ليتسنى لك ان تعيد بناء الثانية. وكثيراً ما تهجر المدن الجغرافيا في هذه الحالات، فتتحول جغرافيتها ميدان حروب، لكن عاداتها وعلاقاتها تنتقل إلى مكان آخر.

لم تهدم المقاومة بيروت، ولم تخرب ابنيتها وتحفر شوارعها، لكنها اخرجتها عن طورها. ولم تعد بيروت هي بيروت. ذلك ان الأبنية الفخمة لا تصنع مدناً وحدها، هذا ما كنا نعرفه منذ زمن في حالنا اللبنانية المقيمة على الحروب، وهذا ما اعاد مقاتلو حزب الله تثبيته مرة أخرى، ربما هي المرة الألف.

بعد انتهاء الحرب الاهلية كان سجال يدور حول سبل استعادة بيروت التي كانت قبل الحرب. وكان ثمة رأي يقول ان المدن لا تستعاد، وان جهداً مشتركاً قد يصنع مدينة لكنه لا يعيد احياء مدينة حلت بها الحروب. لذلك كان البعض منا يقول اتركوا انصاب الحرب شاهدة على ما جرى، فذكرى بيروت التي رحلت مع حلول الحرب الأولى في وسطها عام 1975 افضل من نسيانها وطمسها وبناء مدينة جديدة على ركامها.

بيروت تلك ماتت ولم تعد، لكننا ارتضينا، ولأسباب لا تحصى، ولأننا اصلاً لا نملك خيارات كثيرة، ان تبنى بيروت جديدة. وفي هذه البيروت صنعنا نجوماً ونصبنا قادة وخلقنا جماهير. وفيها ايضاً مرة اخرى، بحت حناجر فتية في تظاهرات غاضبة، وسارت اقدام غضة في مسيرات حاشدة، ونام شبان متحمسون في ساحاتها احتجاجاً، وكلهم كانوا يطلقون صرخة واحدة: اننا نصنع بيروت الثانية او الثالثة او الألف. هي مدينة اخرى غير تلك التي غبرت، لكننا نريد ان نسميها بيروت.

حتى هذه البيروت التي بنيت على عجل، والتي لم يسعفها الزمن لتمحو بعض ذكرى المدينة التي قامت على انقاضها، تعرضت مرة اخرى لاحتلال المقاتلين، وما ان وطأت اقدامهم عتباتها حتى كانت المدينة نفسها تهاجر، ونحن نعرف انها لن تعود.

يستطيع السياسيون الادعاء ان هذه الحرب التي خيضت من جانب واحد لم تدمر بيروت. فحين تمنع بعض السياسيين عن مواجهة بعضهم الآخر بالنار والحديد جعلوا احتلال المدينة سهلاً ومن دون خسائر جسيمة. لكن السياسيين لا يعرفون المدن لأنها تنمو وتنشأ في غفلة عنهم. اصلاً تنشأ المدن في غفلة عن القانون وعن اعين الرقباء والعسس واجهزة الأمن. تنشأ في اللحظات التي يكون فيها القانون نائماً واجهزة الامن مشغولة باعداد تقاريرها. وفي لحظة يكتشف هؤلاء جميعاً انها خرجت عن طوعهم وباتت عصية على التطويع، تحت حد القانون وعين الرقيب. تتحول المدينة التي تنشأ في الغفلة هذه محجة هؤلاء وحجتهم، ومصدر قلقهم ورعبهم. السياسيون يفضلون دائماً ان تكون الامور مفهومة مثل إشارات السير، لهذا يشتبهون بالكلمة الجديدة، والفن الجديد، ويدققون النظر في كل ما يجري في حنايا المدينة. لكنها تغلبهم بتنوعها ومصادفاتها إلى الحد الذي يصير القانون معه فلسفة وربما فناً، ولا يعود مجرد مواد جافة على النحو الذي كتب فيه. وإذا كان السياسيون يشتبهون بكل ما هو مديني، فإن وسيلتهم المضمونة لتهديم المدينة وهزيمتها وطرد مصادفاتها تختصر بالعسكر. العسكر الذي ما ان يحل في مدينة حتى يفقدها روحها. والامر لا يتعلق ابداً بعدد القذائف التي تسقط على رؤوس الأبنية، ولا بعدد الضحايا الذي تتلف ارواحهم على الطرقات العامة، بل يتعلق بمجرد الحضور. حضور العسكر ينفي روح المدينة عنها ويمنع هواؤها من التحرك.

لهذا لم يكن غريباً ان يلجأ المقاتلون الذين احتلوا هواء بيروت إلى اقفال صحف ومحطات تلفزيونية وإذاعية. لأن الكلمة اشبه ما يكون بمتاهة المدينة التي لا تنفع معها خرائط العسكر. العسكري يعرف ان شارع الحمراء يمتد على بضع مئات من الأمتار، وهو يستطيع ان يحسب بدقة وسهولة الكمية اللازمة من القذائف والرصاص لتدميره عن بكرة ابيه، وافناء كل روح فيه، لكن شارع الحمراء ليس بضع مئات من الأمتار، وصفوف قليلة من المباني. انه شارع يقال فيه كلام كثير ومتنوع، ويعيش وفق قوانينه المعقدة والتي تخصه، ولا تمت إلى القوانين العامة بصلات كثيرة. وبين زمن العسكري وزمن شارع الحمراء الذي يعرفه من يعيش زمن شارع الحمراء ثمة فارق كبير هو الفارق بين الحياة في المدن والموت. ذلك ان المدن من دون هذا التعقيد الذي يغلف قوانين عيشها، والذي يصنع مصادفاتها من امزجة واهواء لا تحصى ولا يمكن حصرها، تصبح قفراً ومن دون حياة. فالمباني التي تصطف على جانبي اي شارع مديني اشبه ما تكون بتوابيت حجرية ثابتة. لكن سرها وسحرها يكمنان في ان موتى هذه التوابيت يغادرونها كل وقت ويعودون إليها مطمئنين كما لو انها ليست توابيت من حجر. وبطول التجربة والمراس لا تعود التوابيت تصدق نفسها انها توابيت، وتتحول فجأة إلى بيوت لها ارواحها واشباحها. لكن حلول العسكر في المدينة يعيد المباني توابيت، ويصير كل من فيها موتى حتى لو كانوا لا يزالون يستهلكون هواء كثيراً وتلمع عيونهم امام مشاهد القصف وتسمع اذانهم ازيز الرصاص.

الخميس، 10 يوليو 2008

من يهدر دم بلال خبيز


من يهدر دم بلال خبيز؟
ناظم السيد / القدس العربي
ترك بلال خبيز لبنان. الأصح: هرب. هو الآن في بلد أوروبي ما. منفي خوفاً من القتل. أما لماذا هرب بلال خبيز فهذه قصته.نشر قبل فترة قصيرة موقع فيلكا الإسرائيلي خبراً يزعم فيه أن الشاعر وأمين تحرير ملحق النهار الأدبي بلال خبيز يعمل مراسلاً لصحيفة هآرتس الإسرائيلية. وزعم الموقع أن خبيز يراسل عبر البريد الإلكتروني صحيفة سعودية في لندن، ليقوم شخص آخر في هذه الصحيفة بتحويل تقارير خبيز إلي هآرتس عبر بريد إلكتروني آخر، من غير أن يعلم هذا الشخص بهوية خبيز الحقيقية.هذه التصريحات نسبها موقع فيلكا إلي لسان ليزا غولدمان الصحافية الإسرائيلية التي زارت بيروت بجواز سفر أجنبي في التاسع والعاشر من تموز (يوليو) 2007. وكانت ليزا قد عرضت تقريراً مصوّراً عن جولتها في بيروت علي القناة العاشرة الإسرائيلية. وفي هذا التقرير تغزلت الصحافية بجمال بيروت التي تشبه تل أبيب علي حد تعبيرها وبجمال جبل لبنان وخلجانه التي لا يستطيع المرء أن يقاوم التقاط صورة له وفي خلفيته هذه الجبال. ووصفت بيروت بأنها مدينة رائعة، بمحلاتها المتنوعة وشواطئها الجميلة وبعلمانية وثقافة مفكريها ، قائلة إن السكان أبدوا ترحاباً وانفتاحاً في معاملتهم معها كإسرائيلية، مضيفة أنها لم تذهب إلي الضاحية الجنوبية أو المناطق التي تعرضت للقصف في حرب تموز (يوليو).
وأضافت ليزا أنها تعرفت في بيروت إلي صحافي وسيم وخلوق يدعي بلال خبيز وأنها وقعت في غرامه، لكنها اليوم تشعر بالقلق بعدما أغلق مطار بيروت الدولي (أثناء الأحداث الأخيرة في 7 أيار/مايو)، ما منع خبيز السفر للقائها في باريس. وذكرت أيضاً أن بلال خبيز يعمل مع صديقه النائب مروان حمادة ورجل الأمن في الحزب التقدمي الاشتراكي رامي الريس، مؤكدة أنها زارت المختارة وأجرت لقاء غير مسجل مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
هذه قصة مزاعم ليزا أو مزاعم موقع فيلكا مع بلال خبيز الذي ـ بدوره ـ نفي هذه الأخبار جملة وتفصيلاً في تعليق نشر في الموقع نفسه. وقد اعتبر خبيز أن نشر هذا الخبر في فيلكا الذي يُعتقد ـ بحسب نفي خبيز ـ أن مخابرات حزب الله هي من تدير هذا الموقع، هو هدر لدمه ولا سيما أن موقعاً إلكترونياً آخر يُدعي جمّول يتنكب مهمة الدفاع عن المقاومة الوطنية أعاد نشر هذا الخبر.
لست رجل أمن لأعرف من وراء الخبر ومن يدير موقع فيلكا . ولست في وارد الدفاع أو الاتهام. ما أقدّره تقديراً أن حزب الله لم يهدر دم أحد. علي الأقل منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 لم يلجأ حزب الله المدعوم أصلاً من الوجود السوري في لبنان ومن الدولة اللبنانية والحكومات المتعاقبة إلي هدر الدماء وإن كان يغلب علي لغته بين وقت وآخر لغة التخوين . ما أعرفه أيضاً ان بلال خبيز ليس رجل أمن ولا تنطبق عليه مواصفات الشخص الأمني. تربطني بخبيز صداقة تجعلني قادراً علي التكلم عن ثقافته وشخصيته وحياته أيضاً. حين تجلس مع خبيز تدرك مباشرة أنك تجلس مع شخص مثقف. قد يكون واحداً من قلائل في جيله عمل علي تثقيف نفسه بطريقة متينة. بلال خبيز الشغوف بالكتابة عن الجسد والعولمة والمدن والسياسة كعلم، لا يمكن أن يكون رجل أمن. الأمنيون أقل ثقافة من هذه المعايير بكثير. كيف لرجل أمني أن ينهمك طوال الوقت بقراءة هايدغر وهابرماس وفوكو وحنة أرندت وبارت ولوكاش وغيرهم الكثيرون؟ هذه هي ثقافة بلال خبيز. أما كتاباته فهي الأخري أبعد ما تكون عن الأمن. كيف لرجل أمن أن يكتب طوال الوقت ضد الوجود السوري وضد حزب الله وضد رفيق الحريري أحياناً؟ كيف لرجل أمن أن يملك هذا الفضول في ممارسة دوره كمثقف ملتزم بالواقع والكتابة عنه؟ هذه هي كتابات بلال خبيز، كتابات مثقف وليس مدبّر تقارير. أما شخصية بلال خبيز فأبعد ما تكون عن الأمن. من يعرف الرجل ويسمع بهذا الاتهام سيغشي عليه من الضحك. يتكلم بلال خبيز بثقافة عالية وحدّة. ينفعل مع كل كلمة يقولها. ينتبه لنفسه فلا يلبث أن يُخفض صوته تاركاً لمحدّثه هامشاً من الصوابية. يناقش خبيز محاصراً خصمه في النقاش حتي إذا ما وصل إلي التأكد من هذه المحاصرة يتراجع خطوة إلي الوراء. أي رجل أمن هذا الذي يناقش في كل شيء كحال بلال خبيز؟ أي رجل أمن هذا الذي يفضح آراءه ومواقفه كتابة ونقاشاً؟ أي رجل أمن هذا الذي لا يستطيع الخبث أو السيطرة علي انفعالاته؟ شخصياً كنت أفاجأ من بلال خبيز في بعض النقاشات. يعرف عني الكثيرون أنني أتبني خطاباً يدافع عن الفلسطينيين والمقاومة من غير أن أفقد عقلانيتي. يعرف عني أصدقائي العقلانيون هذا الرأي. للمرة الأولي أقولها إن حزب الله يظن أنني معادٍ وأنني كارهٌ ولا أريد أن أتوسّع في هذا (في حرب تموز/يوليو) كتبت 33 مقالاً في صحيفة الشرق اللبنانية حيث كنت أكتب مقالاً يومياً، هي شهادة كافية عن آرائي التي لا أتقاضي عليها ثمناً لا من هنا ولا من هناك. وقتها رفضت العمل مراسلاً تلفزيونياً للحرب بمبلغ كبير، رغم أن بيتي كان يمتلئ بنحو 35 مهجّراً، في حين لا أملك من المال أكثر من 400 دولار مع عائلتي كلها). أذكر هذا الأمر لأحدثكم عن نقاش جري بيني وبين بلال خبيز في أحد مقاهي شارع الحمرا. في هذا النقاش تبنيت موقف أصدقائي العقلانيين ، فإذا بخبيز يتبني موقف المقاومة، معتبراً أن عملية السلام من مدريد إلي أوسلو كانت خديعة. ثم أليس بلال خبيز من تحدث عن الوكالات الحصرية في لبنان، وكالة السلاح للشيعة ممثلين بـ حزب الله ، ووكالة المال للسنة ممثلين برفيق الحريري؟ بعد اغتيال الحريري كان لا بد من إعادة النظر في هاتين الوكالتين. لكنَّ أحداً لا يبالي بجملة كهذه تدين الطرفين اللذين كانا متفقين طوال فترة الوجود السوري من 1990 حتي 2005.
بلال خبيز أيضاً لمن لا يعرفه هو ابن منظمة العمل الشيوعي. حمل سلاحاً مع المنظمة ضد إسرائيل، وقد اعتقل سنة كاملة في سجن عتليت.
وبلال خبيز أيضاً لا يملك مالاً يُفترض لمن يقوم بمهمة خطرة كالعمل في الأمن أو مراسلة هآرتس ، أن يملكه. لا يزال بلال خبيز يسكن ببيت مستأجر، ويعاني فواتير من هنا وهناك، ولديه أولاد سجلهم في المدرسة الحكومية بعدما عجز عن تأمين أقساط المدرسة الخاصة. ولطالما سمعت الرجل يشكو من عدم قدرته علي العيش بطريقة مرفهة بهذا الراتب المتواضع. وقد كان خبيز يكتب مقالات حرة خارج صحيفة النهار ليزيد مدخوله كما فعل حين كتب سلسلة رجال سورية في لبنان في موقع إيلاف الإلكتروني، مقابل 400 دولار في الشهر كما ذكر. ومؤخراً عرض صديق يرأس تحرير مجلة ثقافية ستصدر قريباً العمل علي بلال خبيز ككاتب. وقد رحّب خبيز بالعمل. أي رجل أمن يقبل بالعمل في ملحق أدبي ومجلة ثقافية ويكتب هنا وهناك ويبقي له وقت لمراسلة صحيفة إسرائيلية؟
أعتذر إذا كنت ذكرت تفاصيل حميمة عن صديق أحترمه. لكنها كانت طريقتي في الدفاع عن بلال خبيز الذي يقنّن حتي سهراته في الحانات بحسب مدخوله الشهري.
ما ورد في موقع فيلكا إهدار دم في بلد صعب، وأسهل ما فيه القتل.

شاعر من لبنان

عباس بيضون، نزع اوسمة

نشرت في السفير اللبنانية بتاريخ 5 -7-2008


اشكال
نزع أوسمة
عباس بيضون

يخجل المرء عن نفسه وعن الآخرين، فالحق أن أحداً لا يستطيع ان ينجو من هذه اللعنة السلالية التي قالت في ما مضى »دمه على رؤوسكم«، واليوم يمكن ان يقال على النحو نفسه ان الكذب على رؤوس الجميع وان الوحل على رؤوس الجميع. حين يتدنى الواقع الى هذه الدرجة، يمكن ان نشترك جميعاً في الجريمة. في رسالة من الزميل بلال خبيز يقول ما معناه انه خلى لمصيره وان آخرين دعوه للعودة كأن شيئا لم يكن، فيما لم يجد غيرهم قضية في كل هذا، واعتبر البعض انه ليس في المسألة إلا جنى بلال، جنى بلال كأننا لا نزل عن البطولات وكأن بلال بالمعيار الملحمي الذي لا يرضى بأقل من الشهادة مجرد فار. فار من عين من. من عين افتراء وأكذوبة. كأن هناك سيوفا لمقارعة الاكاذيب أو ان ثمة سلاحاً لمحق الافتراءات. هذه أشباح يا سادة والاشباح لا تحتاج الى دليل وجود، ان اختفاءها هو حجتها الاقوى، لكن ما لنا وما لهذا. من لا يخاف اذا قال شبح في موقع الكتروني بأنه... ماذا... خائن، حتى أنا لم أجرؤ على نقل صحيح للكلمة، تكفي كلمة خائن لهذه المقالة. هل يستطيع بلال خبيز ان يجد الشبح ليروي له كيف تعذب في سجنه الطويل في اسرائيل لأنه يومذاك، بلغة تلك الايام وبلغة اليوم، كان من ابطال المقاومة. أليس هذا هو الاسم الذي نطلقه على أسرانا وعلى صانعي ومنفذي العمليات ضد اسرائيل، بلال خبيز صنع ونفذ عمليات كهذه وسجن لمدة طويلة في اسرائيل، أليس هذا بحد ذاته أمرا لا يمكن نقضه ولا يحق لأحد نقضه مقابل أي شيء، انه وسام استحقه بعمله ومعاناته، لم يمن عليه به أحد ليخلعه عنه أحد. ثم ماذا اذا شعر الرجل بأنه ألقي في هاوية، حين يقرأ في مكان ما. أي مكان وبأي اسم، انه بسبب رأي أو موقف جرد من ماضيه وأوسمته ووصم وأعدم رمزياً. كل ذلك بسبب كلام مكتوب معلن واضح صريح مطبوع. كلام ليقرأه الجميع وليس تقريراً سرياً. الرأي يحتاج الى جسد واسم ليتم إعدامه. الرأي والموقف ليسا إلا كفراً، وبماذا نتمايز عند ذلك عن المكفرين. الغريب ان ثلاثة من الذين وصموا في الموقع ذاته كانوا من الذين قضوا مدداً في سجون اسرائيلية، إما لبطولة وإما لرأي وموقف. بالطبع لن يصادف هؤلاء الشبح الذي بث ذلك ليعرفوا من هو وليقابلوا ماضيهم بماضيه. لن يصادفوه وسيقعون جميعهم في الغم ذاته لان هناك من ألقى بهم في البئر، ولان هناك من لا يدافع عن وصم أبطال آخرين اذا لم يكونوا في صفه. ربما لن يهربوا جميعهم. لكنهم جميعا سيشعرون بالعار وسيخجلون من أنفسهم ومن المفترين عليهم، لان واقعاً بهذا المستوى لا يستحق بطولة أو ربما، بوعي أو بدون وعي، يعتدي عليها.

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .