الثلاثاء، 16 سبتمبر 2008

يوسف بزي، حياة هجرة وهرب من بلاد الله المتنازعة

حياة هجرة وهرب من بلاد الله المتنازعة


يوسف بزّي


في مطالع القرن العشرين، استيقظت القومية التركية المحاربة، فوقعت المذبحة بالأرمن. هكذا تهجرت جدة والدتي من أرمينيا تاركة جرار الذهب والغلال هناك في جبال طوروس، حسب رواية اسلافها. وعلى الطريق الى حلب ولدت جدتي في خيم المهجرين.استيقظت القومية العربية في سورية، ما بين العشرينات والثلاثينات، فاندلعت الثورات والاضطرابات ضد الفرنسيين، فهاجرت جدتي من الشام الى الأشرفية ببيروت.تأسست "دولة اسرائيل"، فأقفلت الحدود ما بين جنوب لبنان وفلسطين، وأفلس جدي، تاجر الزيت والحبوب، واندفعت جموع المهجرين الفلسطينيين الى البلدات والمدن الجنوبية. عمّ الفقر وخرب الحال، فتهجر أبي من بنت جبيل الى بيروت، مطلع الخمسينات.أبي المهجر يلتقي امي، سليلة المهجرين، في الاشرفية ويتزوجان في منتصف الستينات. ينكرها اهلها ويغضب اهله، فيهربان الى الدكوانة غير البعيدة، حيث أولد هناك، قبل ان يعودا الى الأشرفية.في أواخر الستينات تنطلق الثورة الفلسطينية، ثورة ابناء الخيم واللاجئين. ثم تتهجر هذه الثورة عام 1970 من الأردن الى لبنان، لينضم اليها والدي. يصطدم الجيش والكتائب بالفلسطينيين، فيدخل ابي، المنضوي في صفوف الفدائيين، في عراك بالسكاكين مع شبان الكتائب. فنتهجر من الاشرفية الى النبعة.عام 1975 تندلع الحرب الأهلية، ويُقتل ابي في سن الفيل، ما بين الأشرفية والنبعة. ثم يهاجم "الكتائب" و"الأحرار" و"حراس الأرز" احياء النبعة، فنتهجر امي وأخوتي وأنا الى احياء الأرمن في برج حمود.أيام قليلة، ويكتشف الأرمن ان امي ما عادت أرمنية وابناءها "أولاد عرب" (ومسلمين!)، فنتهجر من برج حمود الى بيروت الغربية. حيث سنحتل شقة تهجّر منها اصحابها الأصليون.يأتي الاجتياح الاسرائيلي عام 2198، ويدبّ التهجير في كل لبنان. ثم تدخل "القوات اللبنانية" والكتائب ومخابرات الجيش اللبناني الى بيروت الغربية، وتبدأ مطاردتي. هكذا أتهجر مجدداً، والى البقاع هذه المرة.أعود متخفيا الى بيروت منتصف عام 1983، وأشارك في "انتفاضة 6 شباط" 1984، فأهجّر من السكان ما لا أعرف، وأستقبل مهجرين ممن لا أعرف.تسوء الحرب الى حد لا يحتمل وتأتيني فرصة عمل عند عمي المهاجر الى افريقيا. فأهاجر لمدة تقل عن عام الى مونروفيا، ليبيريا. ثم اهرب من عمي الذي لا يطاق وأعود خائباً، خالي الوفاض الى بيروت.بعد ثلاث سنوات تنتهي الحرب، فأتهجّر من منزلي لأنني مهجّر سابق ولا يحق لي البقاء فيه بعد الان.يأتي السلم والاعمار. لكن ما ان اتزوج حتى اتهجّر، مثلي مثل كل ذوي الدخل المحدود، من بيروت الى الضاحية الجنوبية.تزدهر "المقاومة الاسلامية" ويقوى "حزب الله" وتتحول الضاحية معقلاً له، فتصير حياتي كابوساً لا يطاق، فأتهجر من الضاحية الى زواريب الزيدانية في بيروت.ينتعش الاقتصاد، وتتضخم الأسعار وتأتي الضرائب وترتفع قيمة ايجارات البيوت... وأتعطل عن العمل في الوقت نفسه. فأتهجر من لبنان الى الكويت، ثم "أهرب" كآبة وضجراً من الكويت الى ابو ظبي.بعد ثلاث سنوات اغتراب في الخليج تتحسن احوالي ويدبّ فيّ الحنين، وتأتي فرصة العودة مع اطلاق جريدة "المستقبل" في صيف 1999.وفي ذاك الوقت أظن ان سيرة التهجير انتهت وأنا في منتصف ثلاثيناتي. وانني سأتذوق الراحة وطعم الاستقرار.لكن بعد سنة، تطلقني زوجتي اذ انني كنت شخصاً لا يطاق لسرعة غضبي ونزقي، فأتهجر مجدداً الى بيت صغير. ثم بعد سنة نعود ونتزوج، فأترك منزلي الصغير عائداً الى منزل الأسرة المريح.ولأني لا اتملك الشقة، اضطر وعائلتي الى تركها الى منزل آخر ثم منزل آخر. ثلاثة بيوت في 7 سنوات. ولم يتسنَ لي الوقت لأعرف جيراني، أو لأن يصير عنواني عالقاً في اذهان اصحابي، أن تقوم صلة ما بين اقامتي وذاكرتي. لم يتسنَ لي الوقت لأن اضطر الى اعمال صيانة في أي من البيوت التي سكنتها. لم اعتد نافذة او ركناً حميماً.في 7 ايار 2008، أي بعد 18 عاماً على "السلم الأهلي"، هجم المسلحون من حزب الله وحركة امل والحزب القومي والبعث.. الخ، على احياء بيروت الغربية. أحرقوا الجريدة ومكتبي، فتهجرنا نحن اسرة "المستقبل" الى سن الفيل. وفي اليوم نفسه، ذهب المسلحون الى بيتي "طلباً لرأسي" أو ليشربوا معي فنجان قهوة أو لأسباب أجهلها.درءاً لأي سوء فهم او لموقف حرج او لبهدلة تعرّض لها كثيرون من ابناء وسكان بيروت في "غزوة ايار" هجّرت نفسي وعائلتي الى بيروت الشرقية مستأجراً منزلاً في الاشرفية. هناك حيث جاء ابي من هجرته الجنوبية، وأتت أمي من هجرات عائلتها.في الاشرفية، وطني الجديد، موطن اهلي، أعيش غريباً، مستأنساً الشوارع والمباني والحدائق، مطمئناً لليلها ولأهلها وسكانها... منتظراً بدعة ورضى هجرتي المقبلة.

ملحق نوافذ، جريدة المستقبل

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .