السبت، 30 أغسطس 2008

عن "ايلاف"

Persona non grata
بلال خبيز

تظاهر عشرات من "المواطنين" اللبنانيين في شمال لبنان احتجاجاً على انقطاع التيار الكهربائي، وحدة التقنين في ساعات التغذية. وعلى جاري عادة اللبنانيين في الاحتجاجات قطع هؤلاء الطرقات بإطارات السيارات المشتعلة وهزجوا امام الكاميرات. عجباً!
مصدر العجب ان العارفين بطبيعة لبنان الديموغرافية يعرفون ان المحتجين اليوم على نظام التغذية الكهربائية هم من السنة، وان الإطارات التي احرقوها لم تأت من مخازن حزب الله. لكنهم امام الكاميرات يشبهون جمهور "اشرف الناس"، ويسلكون بعض سلوكاتهم وطبعاً بعض مسالكهم. مع ذلك يجدر بالمراقبين ان بتفكروا قليلاً، ما دام الشغب بالشغب يذكر، لماذا اقلع "اشرف الناس" وجمهور المقاومة عن التظاهر اجتجاجاً على انقطاع التيار الكهربائي؟ هل استجابت حكومة فؤاد السنيورة التي كانت عميلة وفاقدة للشرعية، لمطالبهم فغذت مناطقهم بالتيار الكهربائي وقطعتها عن مناطق الشمال، وبات الشيعة في لبنان يعيشون نعيم الكهرباء التي لا تنقطع؟ ربما!
وربما ايضاً كان لإسناد حقيبة وزارة الموارد المائية والكهربائية للوزير محمد فنيش، وهو نائب حزب الله في البرلمان اللبناني، في حكومة فؤاد السنيورة العميلة والفاقدة للشرعية تمييزاً لها عن الحكومة التي يرأسها حالياً، قد اثمر تحسناً في انتاج الطاقة الكهربائية، ولم يعد ثمة غير القليل مما يتطلب انجازه لتشعشع الكهرباء في كل لبنان وفي مناطقه كافة، خصوصاً ونحن على ابواب شهر رمضان الفضيل. وهو لذلك لم يشأ ان يتحمل مسؤولية هذه الوزارة مرة اخرى، فلقد انجز ما يفترض به انجازه ويجدر به ان ينتقل إلى وزارة اخرى لينجز فيها ما تم انجازه في الوزارة السابقة. ايضاً، ربما.
وربما ان جمهور المقاومة، بعد تزايد التهديدات الإسرائيلية للبنان، فضل العيش في العتمة لئلا تكشفه طائرات الاستطلاع الإسرائيلية في حال الحرب. او ربما ان معظمهم عاد إلى الخنادق يرابط على الجبهات توخياً لصد الهجوم الإسرائيلي ان وقع، ولم يعد ثمة بينهم من يرى في اشعال الاطارات في الشوارع تلك المهمة الجليلة التي تتطلب منهم بذل الجهد لأجلها، فتركوها للشبان السنة الذين هم قاعدون عن القتال وليس ثمة تدريب واستعداد لمواجهة اسرائيل يشغل اوقاتهم ولا من يحزنون.
هذه كلها احتمالات لبنانية قائمة. لكن الاحتمالات في لبنان لا تحصى. والأرجح ان كثرتها تخفي الحقائق خلف غابة الترجيحات والاحتمالات.
خلاصة القول، انه وحتى امد غير معروف، لم يعد الشيعة في لبنان محرومين، على الأقل في ما يتعلق بحصتهم من الكهرباء الرسمية. وانهم اقلعوا عن تحدي الحكومة والاعتراض على سياساتها في هذا الميدان، وانتقلوا بعدما بات لبنان قوياً ومنيعاً، بمقاومته طبعاً، إلى الاستعداد للحرب المقبلة. اما السنة الذين استفاقوا فجأة على العتمة التي تلف مناطقهم في الشمال والبقاع، فلم يسعهم إلا ان يتبعوا طريق حزب الله التي سلكها من قبل. إذ يبدو ان اشعال الإطارات وقطع الطرقات هو الطريق الأسلم للوصول إلى الاعتراف بشرعية سلاحهم. ولا بأس بين الفينة والفينة إذا تعرض الجيش اللبناني لبعض الاعتداءات التي يراد منها ان تثبت له انه لا يعسكر بين اهله، وان دوره، كان ولا يزال محصوراً في خطوط التماس بين الطوائف الكبرى، ولا يحق له العسكرة في المناطق التي يفترض اهلها انها محسومة الولاء لهم.
هكذا تتواتر الحوادث التي تطاول الجيش: انفجار عبوة من هنا، ورمي قنبلة يدوية من هناك، واسقاط طوافة للجيش هنالك. بحيث يصبح الجيش عملياً هو الطرف غير المرغوب في وجوده في اي مكان.
وبالحديث عن موضوع طوافة الغازيل، يجدر بنا حقاً ان لا نستبق نتائج التحقيق. خصوصاً ان حزب الله سلم احد المسؤولين عن اطلاق النار عليها. لكن نتائج هذه الحادثة العملية والموضوعية اثبتت ان تواجد الجيش في هذه المنطقة، لا يمكن له ان يستمر او يترسخ من دون موافقة حزب الله. وان الأمر مرتبط اولاً واخيراً على ما صرح نائب الامين العام لحزب الله، بحجم الثقة التي يوليها حزب الله للجيش قيادة وضباطاً وافراداً. فما دامت الثقة موجودة يجدر بنا ان نرد الحوادث المماثلة إلى الخطأ او القضاء والقدر، ولو ان الثقة تزعزعت لبات الجيش اعجز من ان يحافظ على قواعده هناك.
الحال هي الحال. والقاهرة التي ترى وضعاً مقلقاً في طرابلس تقترح تدريب الجيش اللبناني والقوى الامنية. هل ما ينقص هذا الجيش فعلاً هو حسن التدريب؟

حيي على الصلاة

حيي على الصلاة

بلال خبيز

"هناك وضع في طرابلس يقلق مصر". بهذه الجملة الصريحة عبر وزير الخارجية المصرية احمد ابو الغيط عن قلق مصر حيال ما يجري في لبنان. والحق ان القلق المصري من تحصيل الحواصل. ذلك ان الوضع في طرابلس لا يقلق مصر وحسب، بل يقلق لبنان اولاً واساساًَ، ويقلق الممكلة العربية السعودية ايضاً، والأرجح ان بعض امارات وممالك الخليج العربي تتحسس جلدها وهي تشاهد بأم العين كيف يمكن ان تنهار الدول الصغيرة دفعة واحدة، او على دفعات.
هناك وضع في لبنان يقلق مصر. لم يعد لبنان رفيق منامات الرئيس جورج دبليو بوش، ولا التزام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ووزير خارجيته برنار كوشنير الأخلاقي والمبدأي. لم يبق لنا غير مصر، وبعض الأخوة العرب يقلقون علينا. فما جرى خلال السنوات الماضية على الساحة اللبنانية وحولها جعل من لبنان ساحة تفصيلية تحوط بها القضايا الكبيرة. ديموقراطية لبنان الناشئة، على ما يحلو لجورج بوش القول، ليست لها الاهمية نفسها التي تملكها مفاوضات السلام السورية – الإسرائيلية. الرئيس عنده حق: لا حرب ضد اسرائيل من دون مصر ولا سلم من دون سوريا. وحيث ان مصر عقدت سلماً، واقلعت عن الحروب، فينبغي، ليصبح السلم المصري سلماً وليس مجرد ورقة ان ترعاه سوريا مرة اخرى.
والعلاقات التاريخية بين لبنان وفرنسا ليست بالأهمية نفسها التي يملكها التهديد الإيراني لدول المنطقة ناهيك بالتهديد الروسي لأوروبا المتراخية، وهذا حديث كمثل حديث الأفاعي طويل ومشوق ومخيف. لبنان ليس اهم من ايران قطعاً، ذلك انه اولاً يبدي استعداده لفداء الجمهورية الإسلامية في ايران بروح البلد ودمه. وثانياً لأن لبنان محكوماً باليد الغليظة لحزب الله والمخابرات السورية لا يشكل خطراً على اوروبا والعالم والديموقراطية وحقوق الانسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، مثلما يفعل البرنامج النووي الإيراني مهدداً سلم العالم وامنه. الرئيس ساركوزي ايضاً معه حق. اللبنانيون انفسهم يعرفون ذلك جيداً، وفضلاً عن معرفة اللبنانيين هذه، لا بأس من التذكير ان لبنان يستطيع ان يحتمل ردحاً اضافياً من الزمن تحت هيمنة الفوضى. لا بأس بذلك هو لم يتعاف منها اصلاً.
اسرائيل ايضاً لا ترى عيباً في حكم سوري للبنان او ايراني، شريطة ان تكون حدودها محمية وليس ثمة من يعتدي على اراضيها. اسرائيل تحب اعداءها وتعمل من اجل مصلحتهم، وتكره حلفاءها. لطالما ردد حزب الله والنظام السوري ان حكومة فؤاد السنيورة وقوى 14 مارس مجتمعة هي قوى عميلة للأميركان والصهاينة. حسناً، لكن اسرائيل لا تحب العملاء، ولذلك هي تدافع ما اوتيت من قوة وحجة عن بقاء النظام السوري في موقعه حاكماً سعيداً في لبنان وسوريا. بل انها فتحت للنظام نافذة كسرت جدار العزلة التي كانت مفروضة عليه، وبات يتنسم من الجدار الإسرائيلي هواء العلاقات الدولية والإقليمية.
النظام السوري ايضاً لا يحب اللبنانيين الجاحدين، وهو ان قرر هذه المرة العودة إلى لبنان فسيشترط تذلل جميع الاطراف لا مجرد موافقتهم على دعوته. والحال ثمة رائحة عفنة في طرابلس ويجدر بها ان تمتد إلى كل مكان من لبنان.
يبقى ان مصر قلقة على لبنان. يجب على اللبنانيين ان يشكروا مصر. وهي كما قال الوزير المصري تمتلك قدرات على تدريب الجيش اللبناني والقوى الأمنية. حسناً لكن الوزير يعرف ونحن نعرف ان ما ينقص الجيش اللبناني ليس التدريب، وليس التسلح على شحة موارد الجيش اللبناني. ما ينقصه هو الاجتماع المتماسك الذي يحميه. الاجتماع الذي يسمح للجيش كمؤسسة ان يعين قائداً للجيش خلفاً للرئيس ميشيل سليمان من دون فيتوات طائفية ومناطقية. مع ذلك يجدر بنا ان نستفيد من خبرة مصر في مجال الأمن والقوات المسلحة. لا بأس بذلك في اي حال.
هناك وضع في طرابلس يقلق مصر. هناك وضع في لبنان يقلق مصر. والحق ان الوضع في طرابلس اكثر من مقلق، وان الوضع في لبنان على شفا كارثة. مع ذلك يحق للبنانيين القول ايضاً: هناك وضع في مصر يقلق لبنان. ذلك ان بعض ما وصل إليه الوضع اللبناني متعلق ومتصل على نحو مباشر بالوضع المصري خصوصاً والعربي عموماً. فلو ان العرب قرروا المواجهة وتحمل مخاطرها في الملفات الساخنة في المنطقة، من ايران إلى فلسطين فلبنان واليمن والعراق والسودان. ( القائمة طويلة ولا تتسع لها هذه الصفحة ). لما كانت اليوم مصر قلقة، بل كان يجدر بإيران ان تقلق، مثلما يجدر بإسرائيل ان تقلق من وضع لبنان. هناك وضع في مصر يقلق لبنان. لكن الوقت بات متأخراً قليلاً فلنصلّ فريضة العشاء ونخلد إلى النوم.

الخميس، 28 أغسطس 2008

حكاية كحكاية بلال

حكاية كحكاية بلال خبيز
ماهر شرف الدين

عندما يشتمون لبنان يقولون: صندوق بريد.وعندما يمدحونه يقولون: رسالة.***لم يُخيَّر لبنان بين أن يكون صندوق بريد، أو أن يكون رسالة. فهو كلاهما معاً: الأداة والغاية. العميل والرمز. ساعي البريد والرسول. العبد والنبي... وعبر لعبة البينغ بونغ هذه، اكتسب هذا الكيان خصوصيّته (القاتلة والبرّاقة) في محيطه العربي الأكثر بؤساً منه.بحذف كلمة "لبنان" ووضع كلمة "مثقّف"، نستطيع إيجاد العتبة لولوج الحكاية.بلال خبيز، الشاعر والمثقّف والصديق، نجح موقع الكتروني مشبوه اعتاد تلفيق الاتهامات السياسية ضدّ المثقفين، في تهجيره من لبنان عبر اتهامه بأنه "جاسوس إسرائيلي"، بل وبأنه المراسل السرّي لصحيفة "هآرتس"، مع تلميح صريح موقّع بأسماء مستعارة بإمكان تصفيته (الجسدية).بالطبع، مثقّف أعزل كبلال خبيز عليه مواجهة قَدَره بأحلى الأمرَّيْن: إما الهجرة إلى خارج لبنان (وهذا ما فعله)، وإما العيش فيه مع هاجس أنه مقتول في أي لحظة. مثقّف حرّ؟ إذاً فليتدبّر رأسه وحيداً مع حرّيته. الحرّية تبدو هنا - ويا لليأس - كبديل عن الحماية التي يمكن أن يتمتّع بها أي ميليشيوي أو متحزّب أو طائفي.أنت حرّ بقدر ما أنت وحيد. أنت حرّ بقدر ما أنت أعزل.المستفزّ في حكاية صديقي بلال أنه يُهجَّر، وهو الأسير السابق في السجون الإسرائيلية، في حين يُعَيَّش لبنان "عرساً" بعودة أسراه.ثمة أسير بطل وأسير عميل. ثمة أسير عريس وأسير مُطلَّق.بالطبع، المسألة أبعد، وأخطر، من حكاية "الصيف والشتاء تحت السقف الواحد" الممجوجة، فهذا يصحّ بين أحزاب وطوائف متصارعة، لا بين طوائف مسلّحة وفرد أعزل. فكأي مثقف متصالح مع نفسه، قطع بلال خبيز مع طائفته منذ بداية مشواره، كما عاد وقطع مع الحزب الذي كان انتمى إليه (الحزب الشيوعي) وقاتل في صفوفه بعد قيامه بعملية نقد ذاتي وجمعي. ناهيك بأنه ليس لديه ما يقطعه مع "زعماء" الثقافة لأنه لا يجيد التزلّف إلى أحد لحمايته والإغداق عليه. على هذا النحو يصبح المثقّف حرّاً وأعزلَ في آنٍ واحد. على هذا النحو يُترك المثقف لمصيره.حكاية كحكاية بلال هي دليل على الشبه المريب بين قَدَر المثقّف الحرّ في بلادنا وبين قَدَر كيان "فجّ" كلبنان في هذه المنطقة. إنه العيش في بقعة الاشتباه الدائم والريبة الدائمة: الثقافة رسالة، لكن هؤلاء المثقّفين صناديق بريد. الثقافة سموّ، لكن هؤلاء المثقفين عملاء... وهكذا دواليك.والحقّ أن طَرْق مثل هذا الموضوع لا يكتمل من دون الالتفات إلى الجامع الأهم: الأنثويّ. ونقصد بذلك المُعطى سلبياً - مجتمعياً - إلى الأنثى. "قوّة لبنان في ضعفه"، المقولة الشهيرة عن لبنان، والتي تصحّ في وجه من وجوهها على المثقف، هي في أصلها تحريف سياسي لبيت شعري شهير قيل في المرأة قديماً، يرى مكمن قوّتها في ضعفها: "يقتلنَ ذا اللبّ حتى لا حراك به/ وهنّ أضعف خلق الله أركانا" (جرير).وكما المرأة، في المجتمعات الذكورية المريضة، جُعلت رمزاً وشيطاناً في الوقت نفسه (دينياً، حكاية التفاحة والغواية تمثّل الشيطان (السلبي) الذي فيها من جهة، في حين تتكفّل حكاية البكارة والشرف والعِرض تمثيل جميع القيم الذكورية (الإيجابية) المزعومة التي يقع عليها عبء حملها)... أقول وكما المرأة جُعلت رمزاً وشيطاناً في آنٍ واحد، كذا جُعل لبنان، وجُعل المثقّف.هذا المثلّث (المرأة - المثقّف - الأقليّات) كان طوال تاريخنا ضحية الكذب المنظوميّ الذي قامت عليه جميع بُنانا المعرفية والاجتماعية والسياسية والأُسرية... وأمام هذا الركام الهائل من الكذب التاريخي، يحتار المرء مَن مِن كذّابَي الرواية الشهيرَيْن يُصدّق: "باودولينو" (إيكو) الذي يقول: "إذا أردت أن تكتب ذات يوم أخباراً، سيتوجّب عليك أن تكذب، وأن تختلق بعض الحكايا، وإلا كان تاريخك مضجراً"، أم "مونشهاوزن" (راسب) الذي أقسم بأغلظ الأيمان في ليلته الثامنة بأنه رأى سمكاً يعيش في مياه بدرجة الغليان؟!
"الغاوون"، العدد السادس، 1 آب 2008

الأربعاء، 27 أغسطس 2008

عن جريدة "الجريدة" الكويتية

زهو الشامتين

بلال خبيز

رفضت محكمة سورية طلب تخلية سبيل ميشال كيلو بعد انتهاء ثلاثة ارباع مدة محكوميته. ميشال كيلو حوكم لأنه اضعف الشعور القومي بكتاباته، ووقع بيان بيروت – دمشق، الذي سيق عدد من المعارضين السوريين إلى السجن بسببه. اليوم لم يعد الإعلان نفسه ذو حيثية وموضوع. ولم يعد العالم العربي يعيش في اللحظة الانتقالية نفسها التي كان يعيشها منذ ثلاث سنوات خلت. يومذاك كانت قرقعة جرفات الهجوم الدولي على سوريا وايران تجرف امامها كل شيء، وكان الهجوم على الدور السوري والنظام في حد ذاته بالغ الحدة والوضوح، مما جعل الكثيرين، في النظام وخارجه يستشعرون خطراً متزايداً على مصير سوريا نفسها. على اي حال ترك هذا الهجوم خلفه ضحايا كثيرين. بعضهم كان ضحية الظن بأن الهجوم الدولي لن يتوقف لأي سبب من الأسباب، وبعضهم ذهب ضحية الاعتقاد بأن الأوان قد أن في سوريا لإعادة بناء الاجتماع الذي دمره النظام من خلال هجومات ممنهجة ادت في ما ادت إليه إلى موت الاجتماع سريرياً. وبعضهم، ومنهم ميشال كيلو، ذهب ضحية تعثر المشروع الاميركي في المنطقة يومذاك. في ذلك الوقت كان العراق يمثل مستنقعاً، على ما درج في ادبيات الممانعة العربية، للسياسة الأميركية. وكان المصير العراقي ماثلاً للجميع في سوريا ولبنان وايران وحتى مصر والاردن والمملكة العربية السعودية. مما جعل اشخاصاً مثل ميشال كيلو يطالبون النظام السوري بجرأة والحاح ببعض التغييرات في السياسة الداخلية، لتمتين الاجتماع السوري وتصليبه من اجل تجنب المصير العراقي الاسود وانجاح المواجهة.
اليوم، بعد مضي ثلاث سنوات على الخروج السوري من لبنان تحت ضغط الهجوم التدويلي يبدو المشهد في العراق مختلفاً عما كان عليه من قبل، فضلاً عن ان الاختلاف الكبير بين نظام سوري معزول ومحاصر يومذاك، ونظام يشعر اليوم انه على درجة من الاهمية توازي اهمية روسيا، ولا يخجل من المطالبة بحقه في التدخل في شؤون جيرانه حفاظاً على مصالحه الحيوية.
لو خرج ميشال كيلو اليوم، هل سيجد كلاماً يقوله؟ لو خرج ميشال كيلو اليوم هل يستطيع ان يتقن غير الصمت والخيبة؟ الأرجح ان لا. مع ذلك ثمة اصرار على ابقائة سجيناً. ذلك ان النظام المنتصر اليوم يشعر بالحاجة أكثر إلى تأديب الذين تجرأوا على مساءلته عن سياساته المغامرة، او المقامرة كما يحلو للبعض التسمية.
اليوم يختلف المشهد كثيراً عنه بالأمس. العراق يغذ السير حثيثاً للخروج من محنته. العراق يبدو اليوم البلد الوحيد في المنطقة الذي يستطيع ان يعد نفسه بمستقبل مشرق. انجز حروبه كلها مسبقاً، وهو اليوم يستعد لمواجهة المستقبل من دون عقد او تشنجات. هذا البلد الذي لطالما استند النظام السوري إلى اوضاعه المتردية في تبرير ممانعته وجدواها، بحجة ان العراق مستنقع لأميركا وقواتها المسلحة، وان من يستطيع تغذية هذا المستنقع بالوحل والطين ليس سوى النظام السوري نفسه وبعض حلفائه في المنطقة. والحال، تبدو حجة النظام في الممانعة آيلة إلى السقوط النهائي، بل وتذهب سوريا إلى مفاوضات مع اسرائيل برعاية تركية، وليس في الأمر تفريط من اي نوع، وهي تستعد اليوم للعودة إلى لبنان من بوابته الشمالية.
كان حري بنظام يشعر بالزهو إلى هذا الحد ان يقبل بعض التسامح مع من شعروا ذات يوم بضرورة السعي إلى تمتين الصمود السوري بإشاعة بعض القيم والممارسات الديموقراطية في سوريا. لكن النظام لم ينتصر في ما يبدو رغم كل الغشاوة الزاهية التي تظلل تصريحات مسؤوليه. فقط ثمة نجاح في جعل الخصم يأخذ وقته في الاستعداد للحرب المقبلة. التي يعرف الخصم والصديق انها باتت حرباً جحيمية لا افق مرئياً لقاعها. لكنها حرب ستحصل من دون شك. اما الحديث عن امتناعها بسبب ارتفاع كلفتها فهو حديث يجبّه تاريخ العالم نفسه. ذلك ان الحربين العالميتين الاولى والثانية قامتا اساساً على وهم من هذا النوع، ادى إلى سباق تسلح لا مثيل له، ولم تمنع يومها كلفة الحرب الهائلة اي طرف من الأطراف من دخول غمارها المرعبة. يومذاك، حين فضلت فرنسا الحياة تحت الاحتلال على المقاومة والموت، خسرت روحها، ولم تلبث ان اجتهدت بكل قواها لتنتسب إلى الحرب مجدداً.
لم يربح النظام. لكن ميشال كيلو خسر بكل تأكيد. ذلك ان ما كان يطالب به ليس اقل من تجنب الحرب التي كانت ماثلة في الأفق يومذاك. اليوم ثمة حرب تمثل امامنا تبدو معها تلك الحرب التي خشي ميشال كيلو منها اشبه بلعب الاطفال.
منامات وكوابيس لبنانية
قد يكون حلماً وقد قلت إنه حلم
علي زراقط
عن ملحق النهار البيروتية

ندخل إلى صالات السينما أفراداً. وندخل العلاقات أفراداً. وندخل إلى حفلة فيروز أفراداً. منذ تحرير الجنوب إلى الانسحاب السوري، تراكمت الانجازات في هذا الوطن. لبنان الذي شارف الدمار مراراً، وأعاد إنتاج نفسه مراراً، لم يستطع أن يصنع صورته وحدوده على الرغم من تراكم الانجازات التي تحققت فيه. ذلك لأننا لم نستطع أن ندخل الوطن أفراداً. فعندما نريد أن ندخل في الوطن، لا نستطيع أن نقرب حدوده إلا من باب الطوائف، ومروراً على حدودها.
الفتاة الجالسة خلف الصندوق، وجهها ضاحك. ضحكتها عالية. تبيع. تبتسم. تضحك. وتتأرجح على الكرسي المتحرك يمنةً ويساراً. في السوق الحرة في مطار بيروت، تبدو الحياة أسهل. أقل عبئاً. هنا كلنا سواسية، ما دمنا نمتلك 325 دولاراً ثمنا لتذكرة طائرة. يمكنني أن أتغزل بالفتاة العاملة في كشك السجائر، ولا خوف من أن لا أكون من ملاّك السيارات الرياضية. فأنا أستقل طائرة. يمكنني أن أتساوى في قدرتي على الجذب مع أغنى الأغنياء. وقد تظن الفتاة نظراً الى ثقتي المفرطة في نفسي، أني بالفعل من أغنى الأغنياء. من يدري؟! فحياتي خلفي. وانا هنا محميّ بتذكرة طائرة، وبالهدوء الذي يفرضه المكان عليَّ وعلى الآخرين من حولي. في السوق الحرة، حيث تختفي السلطات الخفية للمجتمع، يصير المرء فرداً، أراد ذلك أم لم يرد. لا تاريخ يؤرقه انتماؤه إليه، ولا مال يحكمه بموقع طبقي، ولا عداءات. استسلامٌ للرغبة في ملاطفة فتاة تبتسم لك. لا لشيء، إلا لتجعلها تحس بأنها جميلة، ولتجعلك تحس بأنك لا تزال أهلاً لإعجاب الفتيات بك. أنت في السوق، ولكنك للمرة الأولى لست مضطراً لأن تشتري أو تبيع. يمكنك ذلك، وهناك الكثير مما يغري بالشراء. لكن لا أحد، ولا شيء، يفرض عليك أن تتسوق. لن يلومك الباعة إن لم تشترِ، ولن تأبه لنظرات المسافرين. أنت هنا في عري كامل من الأحكام المسبقة. تتمنى لو أنك تستطيع ان تأخذ معك هذا الاحساس إلى خارج بوابات "الأمن العام" (المطار).
على محمل التناقض

قد أكون أحد القلائل يحبون الانتظار في المطارات. إلا أن هذا الاحساس الذي وصفته، هو ما يجعل المطار مكاناً استثنائياً، وخصوصاً إذا خرجت من الباب، من باب المطار، وبدأت الغوص والبحث بين أمواج الأحكام المسبقة. من سائق التاكسي الذي يريدك أن تركب معه بالقوة، إلى الشيّال الذي يقرر عنك أنك تعب ولا تستطيع نقل شنطتك بنفسك. ثم إلى المدينة... اللافتات الصفر ترحّب بالآتين، بالأسرى العائدين، غامزةً من باب من شككوا في عودتهم. اللوحات البيض تزعم أن "هلّق رجع الحق لصحابو"، غامزة من باب من ادعى سابقاً أنه "رجّع الحق لصحابو". تتذكر الجسر الذي هدّمته إسرائيل في مرورك على جسر المطار، وترى جسور المشاة التي عمّرتها إيران (بلدية طهران). تلاحظ أن جسراً جديداً تم افتتاحه يصل ما بين طريق المطار والحدت (قفزاً عن الضاحية). تسمع أحد الأقرباء يشتم الحكومة، على الرغم من أنها لم تبدأ أعمالها بعد. على حين غرة، تأتيك كلمة "إنتو اللي خرّبتو البلد" من فتاةٍ كنتَ تستلطفها، قاصدة طائفتكَ بعبارة "إنتو". أنتَ لست طائفياً، وتقارب الكفر أكثر من الإيمان، إلا أنك إذ تطأ أرض البلد السعيد (في هذه المرحلة والتعيس في غيرها)، تعود إلى حجمك الطبيعي. تتذكر طائفتك. تتذكر الحزازات التي يجب أن تتبناها. تتذكر أنك لا تملك أن تكون شيئاً غير مَن ولدت عليه. تتذكر أيضاً، بكثير من الحنين، وجه تلك الفتاة الجميلة التي كانت تضحك لك في سوق المطار الحرة.على محمل التناقض هذا، ما بين المكانين، تخرج إلى السطح أسئلة تتعلق بالانتماء. بين وطن الغواية، ووطن الانتماءات الضيقة، ثمة الكثير من الأسئلة. أعتقد أننا لو استطعنا الإجابة عن هذه الأسئلة، نكون قد تحققنا من هويتنا وأنجزناها.

الاستيحاد المرتجى

عندما كانت المواسم مواسم للملايين المحشودة هنا وهناك، كنت أنا أنتظر وبلهفة حفلة فيروز الآتية على مهل، وبعد تأجيل. أستذكر أنهم يومذاك كانوا يحسبون الناس بالكيلو، فالمليون مليون، ولا يمكن أن يكون مليونا وواحدا. أستذكر أني كنت مشتاقاً إلى صوت يغنّي لجمهوره فرداً فرداً. قد تكون ميزة فيروز (عدا كونها أجمل صوت نسائي في التاريخ) شبيهة بميزة السوق الحرة، أنها تُعنى بنا فرداً فرداً طالما أننا نمتلك بطاقةً الى سماع الصوت. السيدة تغنّي لك، ولي، ولها، ومن الصعب، بل من المستحيل أن تجد من لا يحس أن فيروز خلال غنائها معنيةٌ به شخصياً. هذا الحلم بالفردية، أن تكون وحدك ضمن مجموعة من الأشخاص، وأن تبقى وحدك بتمايزك ضمن مجموعة من الأشخاص. أن تمارس نشاطك الانساني من غير الحاجة الى التعريف عن نفسك على الطريقة اللبنانية. وأن تكون لبنانياً من غير أن تضطر إلى رفع العلم اللبناني كلما حلّت عليك لعنة التظاهر. عندما تستمع إلى فيروز تغنّي الجبال، والحقول، والحب، والحياة اليومية، تستمع إلى لبنان ما، وتستسلم له، وتنصرف أنت إلى التفاعل، أو الانسجام. حلمٌ بأن تستسلم لصوت، لسلطة جميلة، لسلطة لا تحكم عليك مسبقاً، وتعيرك كل العناية كما تعير الآخرين كل العناية. هذا كله وأنت لا تزال فرداً، لا تُعلي قبضتك كي تتوحد مع الجماهير، ولا تهتف بشعار واحد موحد، كما أن أحداً لم يطلب منك ذلك. ولن. قد تدمع، قد تتمايل، قد ترقص، وقد تحاول إغواء جارتك الكثيرة العاطفة علّك تدعوها إلى كأس هذه الليلة. تبدو هذه الوصفة لذيذة، ونحن نسمّيها في أعراف المثقفين "فردية". تتشابه الأماكن التي تمتلك هذا التأثير الفردي. من شاطئ البحر حيث الجميع يغطسون، وحيث أجسادٌ تحاول الاسمرار. لا تستطيع الأجساد أن يلفحها الاسمرار جماعةً. فهي تحتاج أن تسمرّ جسداً جسداً، أي فرداً فرداً. كذلك نحن أفراد في صالات السينما، والمسرح. نحن أفراد في هذه الأماكن لأنها تفرض علينا سطوتها، من غير أن تفرض علينا أن نكون موحدين، ومن غير أن تفرض علينا أن ننتمي مسبقاً، أو أن نتشكل جماعات تختار لها لوناً. المثير في الموضوع وهو اللب إذا ما وطئناه، أن هذه الأماكن على الرغم من وجودها ضمن الوطن اللبناني، لم تستطع يوماً أن تكون ظاهرةً عامة، حيث يبدو لبناننا أقل قدرة من السينما في بسط سيطرته على مكوّنات مجتمعه. ربما لأن لبناننا يختلف عن لبنانهم، وعن لبنانكم. لكلٍّ صورته عن هذا الوطن، إلا أن تكاثر الصور هذا لم يستطع أن يصنع صورة للوطن. لم يستطع أن يصنع فكرة الوطن اللبناني.

كولاج

في حانة في شارع المكحول (منطقة الحمراء)، نجد على الحائط صورة معلقة للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. نقترب من الصورة لنرى أنها مصنوعة من كولاج، فحواه مئات الصور للشخص نفسه. أرى في مقاربة مبسطة (على قدّي) أننا أخذنا الكثير من الصور للبنان، إلا أننا لم نستطع حتى الآن أن نصنع منها كولاجاً يجمعها. عندما ننظر إلى الجماهير التي اكتسحت الأرض في آذار 2005، ونرى إلى الأعلام اللبنانية المرفوعة عامذاك، نلاحظ كل شخص حمل علما انه متطابق تماماً مع الآخر، حتى أنه متطابق تماماً مع علم أي شخص من "الساحة" الأخرى. وعندما رأينا "الساحتين" من أعلى، كانتا متطابقتين تماماً في تماوج الألوان. إلا أن ما كان يشكل الاختلاف بين "الساحتين"، ظل ضامراً ومكنوناً وغير خارج إلى العلن. هنا نستطيع أن نخلص إلى نقطتين: الاولى أن اللبنانيين لم يستطيعوا حتى الآن التخلي عن الرغبة في توحيد الجماهير في الشكل، والمنطق والمضمون. فالناظر إلى المساحة الشاسعة من الألوان الحمر والبيض والخضر، لا يرى تمايزاً بين اللبنانيين، وقد يكون هذا خطأنا الأكبر أننا لا نريد أن نعترف بتمايز مجتمعاتنا المتعددة. ثم بتمايزنا كأفرادٍ عن بعضنا. عندما نرى مليون شخص، مرتين، يهتفون بالحنجرة نفسها، والصوت نفسه، ويرفعون العلم نفسه محاولين الاعلان أنهم هم اللبنانيون، يضيع معنى أن نتمايز. يتهافت مفهوم التعدد، ونقع في المواجهة. فإما لبنانكم، وإما لبناننا. النقطة الثانية أن الطوائف وجدت نفسها مضطرة إلى حمل العلم اللبناني والخروج به إلى الشارع، عندما بدأت المواجهة ما بين الفريقين اللبنانيين. لقد حملت الطوائف جميعها العلم اللبناني، ولم تستطع أن تنكره ولو للحظة واحدة. هذه مفارقة قلّ حدوثها في تاريخ الصراع اللبناني.
وطن بالضرورة

اكتشفت الطوائف اللبنانية على حين غرة أنها محكومة بهذا الوطن، وأن هذا الوطن هو ضرورة ولا مكان لأن يخرج أحد على هذه الضرورة. لذلك سعت جاهدةً إلى رفع العلم اللبناني محاولةً أن تقول: بما أن لبنان هو ضرورة لا مفر منها، فلماذا لا يكون لبنان على شاكلتي، لماذا لا أكون أنا لبنان؟! فكان أن الطوائف كلها رأت أنها هي، هي وحدها، لبنان، من الموارنة مؤسسي فكرة لبنان، والسنة أبناء المدينة الأولى وأصحاب الفضل في العلاقات مع المحيط العربي، وصولاً إلى الشيعة واعتزازهم بحماية الحدود الجنوبية، وبالمقاومة... فضلاً عن الطوائف الأخرى. حملت الطوائف علم لبنان، وكانت خبّأت تحت ثيابها أعلامها الحزبية الملونة، لتقول كل منها إنها هي صاحبة الفضل في صناعة لبنان، مذكرةً بإنجازاتها على مر تاريخ هذا الوطن. إلا أن المعضلة الأساس تكمن في أنه عندما يقع الإنجاز للطائفة، لا يمكن غير أبناء الطائفة أن يعتزوا به أو يفتخروا، حتى ولو كان لمصلحة الوطن. فهو ملكيةٌ حصرية للطائفة التي أنجزته. كما لا يمكن أيّ امرئ غير معتدٍّ بطائفته (علماني) أن يفتخر بإنجاز وطني، لأن كل الانجازات الوطنية مسجلة (copyright) باسم إحدى الطوائف الصانعة أمجاد الأمة، وحروبها. لذا لا يمكن أي فرد أن يكون ذا شأن، أو ذا كلمة، أو ذا صورة، في هذا البلد السعيد إلا عند انتمائه إلى طائفته، وهتافه معها، وحمله رايتها، وانضمامه إلى المليون الذي لن يصير بانضمامه إليه مليوناً وواحداً. فإما مليون وإما مليون ونصف مليون وإما مليونان. يصير الشخص اللبناني محكوماً بطائفته أولاً، كي يكون لبنانياً، فتبدو الطوائف أسيرةً للوطن الذي يحميها، ويحمي وجودها. ويبدو اللبناني أسيراً لدى الطائفة التي ترى فيه كونه واحداً من مليون. يختفي الحلم بالاستيحاد المرتجى. يختفي صوت فيروز من الذاكرة، كي ندخل عالم الأناشيد الحزبية على خلفية موسيقى عسكرية، وكل الجماهير تهتاج بالطريقة نفسها، وتشعر الشعور نفسه "بالكرامة، والعزة، والغضب". على هامش الكلام، واستطراداً، أورد محاولة أمبرتو إيكو في كتابه "الفاشية الأبدية: أربع عشرة طريقة للنظر في القميص الأسود"، حيث حاول أن يحدد مواصفات الفاشية على أنها "ثقافة التقاليد، نبذ الحداثة، ثقافة الفعل السياسي لأجل الفعل السياسي، الحياة صراع، الخوف من الاختلاف، رفض التعارض، بغض الضعيف، ثقافة الرجولة والماشوية، الشعبوية القيمية، دعوة الى الأكثرية الصامتة، الهوس بوجود مؤامرة، وجود أعداء أقوياء غير معروفين، التنشئة في سبيل البطولة...". بكل براءة أدعو القارئ الى أن يقارن بين هذه المواصفات ومواصفات الاتجاهات السياسية الطائفية في لبنان.

وطن لحماية الأقليات

هذه المواصفات التي ينطبق القسم الأكبر منها على جميع الطوائف اللبنانية، قادت البلاد المحكومة من طوائفها إلى أخطاء فوّتت عليها فرصاً كثيرةً ضائعة لتحقيق السلم الأهلي الدائم.تقودنا هذه الأخطاء التي ترتكبها الطوائف باسمها وباسم لبنان، إلى أن نقرأ في تاريخ لبنان وأزماته. فهذا الوطن الذي أعاد إنتاج نفسه مراراً، بعدما أوشك على الدمار مراراً، يجرّنا ويثبت علينا حجة أن هذه الأرض هي ارض ذات كيان مستقل. قد تكون الأخطاء التاريخية أدّت إلى هذا الحجم الجغرافي، إلا أن كلنا يعلم أن هذه الأرض لطالما كانت مختلفةً عن محيطها في النسيج الاجتماعي، والديني. وعندما نتكلم عن هذه الأرض لا نتكلم عن الحدود الجغرافية، بل عن ثقافة هذه الأرض التي استطاعت أن تؤمن الحماية على مدار 6 آلاف سنة لأقليات المنطقة، علماً بأن الفينيقيين كانوا أقلية، والسريان كانوا كذلك، وصولاً إلى المسيحيين والشيعة. كما أن هذه الأرض لطالما حافظت على هامش من التلاقي والتعامل الودي مع الجوار، ولا حاجة الى سرد تاريخي. إلا أنها (هذه الأرض) لم تستطع أن تكون مستقلة وموحدة لفترات طويلة. فلطالما تعرضت للغزو، إلا أن الغزو اضطر في المقابل الى الاعتراف باستقلالية هذه الأرض الذاتية. فهل يكون هذا كله يا ترى من باب المصادفة أم أن هناك ما يميز هذه الأرض ويجعلها وطناً ذا كيانٍ مستقل؟!قد تكون ميزة هذه الأرض، او بالأحرى ميزة السكان المتعاقبين على هذه الأرض، أنهم تمكنوا على مر السنين من إعادة إنتاج حمايتهم لأنفسهم، ومن إعادة إنتاج بقائهم في هذه الأرض. قد لا تمتلك بلادنا الكثير من إنجازات الدول العظمى والحضارات العظمى على مر التاريخ، إلا أن إنجازها الحقيقي أنها تضمن لسكانها - بكونهم أقليات المنطقة - حمايتهم لأنفسهم، وحماية تمايزهم الاجتماعي عن المحيط. إلا أن أزمة المجموعات الساكنة هذه الأرض، أنها ليست ذات صبغة إجتماعية، أو إثنية واحدة. أي أنها لم تستطع يوماً أن تبلور إحساساً قومياً جامعاً. لطالما كانت الجماعات التي تشكل الخليط الساكن في هذه الأرض، على قدر كبير من الاختلاف في ما بينها، وفي الوقت عينه على قدر كبير من الاختلاف عن المحيط. وقد يكون ما يجمع هذه الجماعات أنها كلها أتت إلى هذه الأرض بحثاً عن الحماية، كالشيعة والدروز والمسيحيين. ولطالما كان سنّة لبنان خارجين على الحاجة الى الحماية بسبب اتصالهم الموضوعي مع المحيط العربي. إلا أن اللحظة التاريخية التي تأتت من جراء استقلال لبنان المفروض بأمر من القوى العظمى (1943) أدت إلى أن يكون السنّة هم الآخرون إحدى الأقليات ضمن الأرض اللبنانية، عوض أن يكونوا الغالبية بالنسبة إلى المنطقة. بهذا، صار واجباً على سنّة لبنان أن يتصرفوا وفق مفهوم حماية النفس ذاته الذي تتصرف على أساسه الطوائف اللبنانية الأخرى.

وطن الفرص الضائعة

تشكل لبنان الحديث على أن يكون وطناً لحماية الأقليات التي تؤلف نسيجه الاجتماعي. إلا أن المعضلة الأساس هي في كون النظام اللبناني الناشئ قد قرر الأقليات على أساس طائفي، أي على أساس السلطات الطائفية التي كانت موجودة قبل قيام الدولة اللبنانية، وان بقاء هذه السلطات الطائفية على ما كانت عليه قبل نشوء الدولة اللبنانية جعل الحدود بين الطوائف أكثر أهمية بالنسبة الى السلطات من حدود الوطن اللبناني. أعادت الطوائف إنتاج مخاوفها، وإنتاج نظمها الحمائية كي تعيد انتاج بقائها كما درجت عليه عادتها. هذه المعضلة التي نشأت عليها الدولة اللبنانية من حدود خارجية مكشوفة، وحدود داخلية محمية، كان لا بد أن تؤدي إلى إعادة إنتاج الأزمات الداخلية والحروب الداخلية. وعندما نقول "حدود"، لا نعني الحدود الجغرافية فقط بل حدود القوانين، والسلطات، وحقوق المواطنة، وحدود الفرد في التزامه المواطنة. إذ نجد أن من السهل على الفرد اللبناني أن يكسر القانون العام، في كل شيء، لكن من الصعب أن يكسر العرف داخل طائفته. مثال على ذلك، من السهل على أي لبناني أن يشيّد بناء بلا رخصة، وعلى أرض ملك للدولة، لكنه لا يستطيع، وسيحارَب، لو تعدى على أملاك الأوقاف. يسهل على أي لبناني أن يلعن لبنان على صفحات الجرائد في كل مقال، لكن من المرفوض أن يهاجم طائفة من الطوائف اللبنانية. فوّتت الطوائف على لبنان خلال الأعوام الأخيرة فرصاً تاريخية لإنجاز هويته. حيث أن كل وطن مستقل يبنى على حدوده. أي أنه يبنى على حماية حدوده من كل تعدٍّ أو تغيير يؤثر في استقرار المجتمع والشعب. كان عاما 2000 و2005، مفصليين في تاريخ لبنان، حيث أن البلد الذي عاش طوال قرون على حدود غير قادرة أن تكون منجزة بالكامل، وغير قادرة أن تكون تابعة لمحيطها بالكامل، استطاع أن ينجز حدوده الجغرافية. إلا أن الطوائف، باتباعها عادتها في تنازع الفخر، لم تقبل على نفسها أن يكون أيٌّ من الانجازين (تحرير الجنوب، والانسحاب السوري) إلا للطوائف وحدها، بحجج مستوحاة من الأوصاف التي ذكرها إيكو. أنجزت البلاد حدودها الجغرافية، إلا أنها لم تنجز حدود المواطنة. فلا يزال السؤال عن الاحتلال السوري للبنان مدة 29 عاماً سؤالاً ممنوعاً لدى شريحة من اللبنانيين، فيما شريحة أخرى لا تزال ترى أن التعامل مع إسرائيل لم يكن خارج إطار حقوقها المشروعة في حينه. لم ننجز حدود لبنان لأننا لم نلغ حدود الطوائف. لأننا لم نتمكن من أن نضع العلم اللبناني على ساريته، عالياً فوقنا جميعاً، وأن نتناقش ونختلف من فوق الطاولة، كل حول صورته الحقيقية، أي حول الكولاج الذي سيصنع صورة الوطن. صورة الوطن لا تبنى إلا على حدوده، وعلى تناسب إنجاز حدوده مع مخاوف مختلف مكوّناته. فلبنان لا يمكن أن تكتمل فكرته كوطن عربي ذي طابع مختلف عن محيطه الاسلامي البحت، إلا إذا أنجز المسيحيون فكرة عروبتهم، وتالياً فكرة عروبة لبنان، بما يضمن أن لا يذوب في محيطه. كما أن حاجة الجنوبيين (غالبيتهم من الشيعة) الذين كانوا المعنيين بالاحتلال الاسرائيلي إلى ان يحددوا شكل العلاقة (شكل الحدود) مع إسرائيل، تعطي الأهمية لكون الجنوب، والحدود الجنوبية قد تحددت على يد مقاومة شيعية في مرحلتها الأخيرة، وإن يكن القسم الأكبر من لبنان المحتل من إسرائيل قد تحرر على أيدي مقاومة وطنية ذات طابع علماني. كما أن انضمام الفريق السني إلى معركة دفع الجيش السوري إلى الانسحاب من لبنان، ينطوي على أهمية خاصة، باعتبار أن سنّة لبنان هم المعنيون الأول في العلاقة مع المحيط العربي (السني في الغالب). مع الإنتباه إلى أن معركة كبيرة خاضها أطياف من المجتمع اللبناني بدأها اليسار اللبناني في 1976، وصولاً إلى الجبهات المسيحية. إن تحقق هذه الانجازات الثلاثة، لا يستطيع أن يبقى في حدود الطوائف. فعندما يبقى تحرير الجنوب قيد الشيعة، والتمايز عن المحيط قيد المسيحيين، وتحديد الحدود الشرقية والشمالية قيد السنّة، يصير كل من هذا التحرير، وهذا التمايز، وهذه الحدود، عبئاً على بقية الطوائف، بما هي حجج استقواء من الطرف الذي يمتلك الانجاز. هذا الاستقواء أدى إلى تفويت الفرصة على لبنان بأن ينجز صورته، وأن ينجز حدوده. أعود إلى ما بدأت به. عندما أدخل إلى صالة السوق الحرة، وأشهد الهدوء وتحقق فرديتي، كما هي حالي عندما أدخل إلى حفل لفيروز، فإني أدخل إلى الحلم باستيحاد مرتجى. أن أخرج على خضم الطوائف. أن أمتلك في يدي إنجازي بأن أكون متمايزاً عن محيطي، وبأن أكون مستقلاً عن سوريا، ومتحرراً من إسرائيل، وخارجاً على حدود الطوائف. إن كان ثمة مكان لخطاب سياسي لبناني يستطيع أن يبني للبنانيين هويتهم وصورتهم، فهو في الضرورة خطابٌ يأتي على شاكلة غناء فيروز، أي أنه خطاب يحس كل فرد أنه موجه إليه. إليه وحده. خطاب يبني لحدود الدولة لا لحدود الطوائف. خطاب يستطيع أن يجمع الإنجازات اللبنانية في بوتقة واحدة، أن يجمع اختلافات اللبنانيين ليصنع منها كولاجاً، فيصير الكولاج هو صورة لبنان. وطنٌ حيث يختلف فيه الأفراد كثيراً، لكنهم ينعمون بمساواة في الحماية. إن كان لبنان وطناً لحماية الأقليات، فحماية الأقليات ليست في تسليط الطوائف على مقدرات البلاد، ولا في احتكار الانجازات والاستقواء بها من طائفة على أخرى، ولا في إنكار الانجاز لمجرد الرغبة بمهاجمة طائفة أخرى. وطنٌ حدوده واحدة، وأكرر عندما أقول "حدود" فإني لا أعني الحدود الجغرافية فقط. وطنٌ للغواية، حيث كل شيء موجود، لكن لا أحد يدفعك الى الشراء. وطنٌ تستطيع أن تنتقي فيه خيارك السياسي والحياتي، لا يحكمك به منذ الولادة وتبعاً لنسبة الحيوان المنوي الذي تسبب بولادتك. قد يكون حلماً، وقد قلت إنه حلم. لكن هناك أناسٌ قبلنا تجرأوا على الحلم، وحققوه ■

الثلاثاء، 26 أغسطس 2008

الجريدة الكويتية

الحنين إلى الحرب الباردة

صالح بشير

الحرب الباردة انتهى أمرها إذن، أقله وفق تلك الصيغة التاريخية المعلومة التي شهدها النصف الثاني من القرن المنصرم، وإن جدّ مستقبلا ما يشابهها، من حيث الاستناد إلى أسلحة الدمار الشامل.
هل هي عودة الحرب الباردة، تلوح نذرها أو بشائرها (يتوقف الأمر على الموقف منها تمنّيا أو توجسا) من منطقة القوقاز، ومن حربها التي استشرت أياما وجيزة في جورجيا، فما وضعت أوزارها (إلى حين؟) إلا كي تنتقل بالعالم من طور إلى طور؟
ليست الإجابة عن هذا السؤال بالأمر اليسير، يستسهله المراقبون، فيفتون بشأنه بالإيجاب الجازم أو بالنفي المبرم، في تعليقات يكتبونها في يومهم وينسونها في غدهم، بل إن الإجابة تلك تتطلب التبصر وتستدعي الأناة، فهي تتعلق بشأن بالغ الخطورة، إذ يترتب على الأخذ بأحد الاحتمالين سياسات تُصاغ واستراتيجيات تُتوخى من قبل دول أو فئات في مجالنا العربي هذا، قد تُلزم إلى أمد بعيد وقد تنجرّ عنها تبعات يعسر، إن حصلت، تداركها.
من دواعي الحذر في هذا الصدد أن «العقل الإعلامي»، إن جازت هذه العبارة، والدائرون في فلكه عندنا كتّابا ومحللين و«مفكّرين»، ميّال في الغالب إلى القياس السهل على ما حصل أو انقضى لتوّه. وهكذا فإن كل تصدع أهلي يشهده بلد بعد نظير له جدّ في لبنان هو «لبننة» أو منذر بـ«بلبننة»، أو هو «صوملة» إن جاء بعد تشظي الصومال أو هو «أفغنة» أو «عرقنة»، وهلمّ جرا، في مقاربة تُغفل أوجه الخصوصية في الحادثة أو النازلة موضوع التناول، ما دام يُصار إلى إحالتهما إلى «سابقة»، أُرسيت بدورها على النحو إياه، فتطمسهما عوض أن تضيئهما. وهكذا أيضا، وبما أن توترا قد طرأ وبلغ من الشدة ما بلغه بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن جورجيا وسائر القوقاز، فإن المثال الأقرب إلى الأذهان والذي يُستحضر استحضارا آليا هو، بطبيعة الحال، مثال «الحرب الباردة»، يُستنطق بها مستجدّ قد يكون مختلفا عن سياقها وعن منطقها كل الاختلاف.
غير أن الاستحضار، في هذه الحالة، يشوبه التمني أو تُلابسه رغبة جرى إسقاطها، عن وعي أو عن غير وعي، على الحدث الجورجي. إذ يشدّ قطاعاتٍ واسعة من نخبنا ومن المعنيين بالشأن العام، على سبيل الممارسة المباشرة أو على سبيل إنتاج المعنى، حنينٌ إلى حقبة الحرب الباردة، يُسرف ويوغل في الإسراف حتى يبلغ مبلغ اللاعقلانية. يدرج الحنين ذاك فترة الحرب الباردة في «زمن جميل» مُفترض، ضرب من عصر ذهبي أو ما يقوم مقامه، في حين أن الأمر، أقله على ذلك الصعيد السياسي والاستراتيجي، لم يكن البتة كذلك. كانت دول العرب منقسمة، إبان تلك الفترة، قدر انقسامها الآن أو أكثر، تتوزع بين المعسكرين السابقين، وكان بينها توتر مستدام مُحتدّ، يستفحل شجارا إعلاميا ومواجهات مسلحة أحيانا. أما عن الدعم السوفييتي، فلم يعصم، على وجوده الذي لا يُنكر، لا من هزيمة حرب 1967 ولا من هزائم لاحقة.
صحيح أن فترة الحرب الباردة كانت تقيم توازنا مع القوة الإسرائيلية، ولكن التوازن ذاك ظل نظريا، أو أنه كان محدود الفاعلية إن لم يكن عديمها على مجريات الصراع مع الدولة العبرية، ما دفع بالرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى الانتقال ببلده إلى المعسكر المقابل، عله ينال منه، وقد نال، ما تعذر عليه نيله من موقع العداء.
قصارى القول أنه ربما تعيّن طي صفحة الحنين إلى الحرب الباردة أسوة بما يبدو أن روسيا نفسها، بالرغم مما يوحي به ظاهر الأمور، فاعلة. فما حققه رجل الكرملين القوي، فلاديمير بوتين، في جورجيا، إنما هو في حقيقته إعلان كفّ بلاده عن بذل تكاليف الهزيمة في تلك الحرب، وطي صفحة هذه الأخيرة تبعا لذلك، على ما سبقت الإشارة في غير هذا الموضع. لبوتين حنين لا يخفى للاتحاد السوفييتي، لا يتردد في الجهر به تعبيرا عن الإعجاب بستالين مثلا، ولكنه حنين مُعقلن أو عقلاني، فهو يعلم أن التاريخ لا يعود أدراجه، وأن القارة الأوروبية التي كانت الساحة المركزية للمواجهة آلت إلى النفوذ الأميركي على نحو لا رجعة فيه، أقله في المستقبل المنظور، وأن بلاده ينتظرها مسار انبعاث طويل مديد حتى تستعيد مكانتها، إن قُيض لها استعادتها، منافسا أوحد للقوة الأميركية.
الحرب الباردة انتهى أمرها إذن، أقله وفق تلك الصيغة التاريخية المعلومة التي شهدها النصف الثاني من القرن المنصرم، وإن جدّ مستقبلا ما يشابهها، من حيث الاستناد إلى أسلحة الدمار الشامل رادعا يقوم على الابتزاز وبالإفناء وبالفناء، فسيكون ذلك ضمن لعبة متعددة الأطراف، ثلاثية على الأقل، يلتحق بها الطرف الصيني، الذي لم يكن في الفترة السابقة قد بلغ من القوة ما يحوز عليه الآن.
كف العالم إذن، عن أن يكون قائما على استقطاب ثنائي منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزاها، ثم إنه كف عن أن يكون خاضعا لأحادية قطبية مع ما يلوح راهنا على النفوذ الأميركي من انحسار... ألا يعد ذلك أمرا مهما، يفتح آفاق المستقبل، لمن كان قادرا على الإقدام عليه بشيء من خيال ومن إبداع، ولا يتوقف عند اجترار «أزمنة جميلة» وهمية؟
* كاتب تونسي

الأحد، 24 أغسطس 2008

الرقيب المتعدد

صحافتا لبنان ومصر حيال مقصّ الرقيب المتعدد...

دلال البزري
الحياة - 24/08/08
مضى زمنٌ على الصحافة اللبنانية كانت الرقابة فيه صريحة. كان إذا مرّ مقص الرقيب على خبر احدى الصحف او رأيها، تلجأ هذه الاخيرة الى ما كان تقليداً آنذاك: تُبقي مكان الخبر أو الرأي أبيض وتضع له الاطار. فيفهم القارىء ان مقص الرقيب مرّ من هنا... كنا وقتها نثور على تعتيم الدولة ونواياها القمعية غير المبيّتة، اذ كانت الدولة هي الرقيب شبه الاوحد. كانت رقيبا شفافاً يعلن عن نفسه بصراحة ووضوح. كانت رقابة ضعيفة، ضعف الدولة نفسها امام الطوائف. ولو لم تكن ضعيفة، لما اندلعت الحرب الاهلية التي قضَت على الدولة ونقلت الرقابة الى الشارع، حيث موازين القوى الامنية والعسكرية بيد المليشيات المتصارعة. رقابة لا يَعرف ما يكفي عن طرقها ومسالكها إلا المقربون من الضالعين فيها، من كل الاتجاهات.
ثم انتهت الحرب الاهلية عام 1990 وانتقلت الرقابة الى الوصاية السورية. رقابة غير قانونية، شبه صريحة ومعروفة؛ وبالقدر الذي يسمح به النسيج اللبناني، وهوامشه العديدة... حتى انسحاب الجيش السوري من لبنان في نيسان (ابريل) 2005. منذ ذاك العام والى الآن، ما هي اوضاع الرقابة؟ من يراقب المعلومة او الرأي المنشورين في الصحافة الورقية اللبنانية؟ ما من احد رسمي او مكشوف. لا احد واحد. ولا العرف الماضي عاد.
الصحف مملوكة لأفراد او متمولين او احزاب او جماعات اهلية. صاحب المقص فيها المال و/او الايديولوجيا والامن والسلاح.
وكان من اهوال هذا النوع الجديد من الرقابة ان صحافيَين معاديين للوضع الذي كان فائماً اغتيلا: سمير قصير وجبران تويني. فكان هذان الاغتيالان بمثابة اولى جرعات الامساك بمقصّ الرقيب. تتويج هذه السياسة حصل لاحقاً مع غزوة 7 ايار (مايو) الماضي على بيروت، وتخصيص أدوات الاعلام المرئية والمكتوبة التابعة للخصم الاساسي، تيار المستقبل، بحيّز مهم من هذه الغزوة: أحرقت مكاتبه وهدد العاملون بها، وتفوّق الفاعلون على الانقلابيين العاديين... حاجبين بذلك انواع الرقابات الاخرى، خصوصا المالي منها. وهذا نذير باحتكار حزب لمقصّ الرقابة، من دون الصفة الرسمية والشرعية... وهو لئن حصل على هذه الصفة، فبقوة امنه وسلاحه: وهي ادوات الرجحان الاساسية؛ ولكن غير الوحيدة. فلـلحزب ادوات إضافية مثل الترهيب والتخوين والتكفير والتشهير ووضع السقوف والخطوط الحمر والمحرمات التي تعِد خارقها بمصير غامض.
وبذلك، تكون حكمة ناقل المعلومة او صائغ الرأي الاكتفاء بهذا القدر المتَآكل من الحرية في كتابة المعلومة او الرأي... وهي حرية وفيرة، مقارنة بأحوال باقي العرب. وذلك قبل تعريض الاستقرار الشخصي للصحافي وحياته نفسها للخطر: نوع من الرقابة الذاتية من الدرجة الثانية، رقابة مسبقة.
«حزب الله» الآن في طريقه نحو احتكار الرقابة على المعلومة والرأي. شتائم نوابه ولازمتهم المتكررة اثناء مناقشة البيان الوزاري الاخير: «ممنوع الكلام في المقاومة» ضد النواب الخصوم... تشي بتوجهه الوحداني. إنها مؤشرات مطمئنة على حرية الرأي والمعلومة.
في المقلب الآخر: الدولة المصرية ورقابتها شبه المبطّنة بألف بطانة وبطانة. المصريون عرفوا ايضا في الماضي عصر الرقابة الشفافة. عرفوا الصفحة البيضاء والاشارة الواضحة الى مقص الرقيب، الذي هو ايضا الدولة: وكانت خلاصتها آنذاك توازنات القصر الملكي والاحزاب القوية. هذا كان ايام الملكية. ثورة الضباط الاحرار الغت هذا العرف، كما الغت التاريخ الملكي بأسره من ذاكرة المصريين وذاكرتها. فتكرست رقابة الضباط الاحرار، وادواتهم الصريحة والملتوية مع مقص الرقيب؛ وبما تنطوي عليه هذه الادوات من قوانين سارية، ومن مخالفة لهذه القوانين في الآن عينه. او بقوانين إضافية تغليظية، مثل قوانين السير الجديدة، التي اضافت قوانين جديدة لن تطبق، الى قوانين قديمة لم تطبّق!
لكن هناك من ينافس الدولة المصرية على رقابتها وعلى قوانينها: الحالة الدينية التي تراقب كل ما يتعلق بالدين. وبما ان الدين اجتاح كل المجالات والمستويات، وصار محورياً في كل فعالية... فقد اصبح يتعلق بكل شيء تقريباً. فكانت منافسة منظومة الحلال/الحرام لمنظومة القانوني/غير القانوني. وذلك على ارض دينية لا تتوقف عن طلب المزيد من الدين. وهي تنافس الدولة في الرقابة على الصحافة. ورجالاتها الكبار الآن، شيوخ ذوو طموح ودعاة تلفزيونيون وهيئات ازهرية. وجميعهم القبْلة الضمنية لأي رقيب.
قبل 2004 كانت هناك صحافة حكومية ومعارضة رسمية متعايشة مع النظام واحيانا مدافعة عنه. بعد هذا التاريخ، اعطيت الرخص للصحافة الخاصة التي خرقت محرمة النظام الاولى: الرئيس وعائلته. لكنها ابقت على الرقابة الثانية، الاقوى، الدينية. بل بعضها اخذ يزايد عليها. فاضاف الى اللهجة الوعظية في تغطية الخبر الاجتماعي، مساحات من التسليط على الرأي؛ وهذا البعض باتَ مقصا رقابيا عشوائيا على رجالات الدولة ومديريها الكبار.
الرقابة في الصحافتين الحكومية والمعارضة، تستطيع ان تعرف منْبت رقابتها الاخرى: الحزب او الحكومة. اما الصحافة الخاصة، ففوق الرقابة الذاتية، فانها لا تفصح عن القوانين غير المُصاغة وغير المعلنة التي تحكم توجهاتها في الكتابة. مراكز وتوازانات قوى وأموال وصداقات وشلَل... كلها مقصّات أكثر غموضا من تلك التي تحملها الدولة او الحالة الدينية. الرقابة الذاتية بحد ذاتها فعل اوتوماتيكي، حالة مستفحلة ومستبْطنة؛ نتاج الحرمان السياسي وغياب المجالات العامة التي يمكن لها ان تحتضن الحرية الداخلية، حرية التفكير السابقة لحرية التعبير... فتكون بذلك معارك «الحرية» الوحيدة التي تُخاض هي تلك التي يقودها رؤساء التحرير ضد رقابة الدولة، الرقيب الأقل خبثا من بين الرقباء الآخرين.
لهجة الصحافة الخاصة عالية. تصل احيانا الى مستوى الرجم اليومي للرئيس وعائلته. الهم التسويقي لديها طاغ. والتسويق الآن يعتمد الاثارة والمزايدة الدينية والمعيشية، ما افشل النهوض الديمقراطي الذي وعدت به هذه الصحافة بعيد انطلاقتها منذ اربع سنوات.
* هذه الافكار من ورقة قُدمت في ندوة عن الصحافتين اللبنانية والمصرية ضمن فعاليات معرض الاسكندرية العربي الثالث للكتاب، (آب 13 وحتى 22) الذي نظمته الهيئة المصرية العامة للكتاب، وكان لبنان ضيف الشرف فيه.

كلمة على الأقل

البحث عن كلمة
الياس خوري

مشكلة الكتابة الأسبوعية انها لا ترحم. عليك ان تكتب سواء أحببت أم لم تحب. انها التزام شخصي وأخلاقي مع الورقة البيضاء. في كثير من الأحيان تأتي الى الكتابة مبعثرا، فتجمع الكلمات اجزاءك، وتعيد تنظيمك، وتُدخلك في المعنى. كأن الكتابة وسيلتك من اجل المصالحة مع العالم، وتجديد عقدك الدائم مع الدنيا.لكن ماذا تفعل حين تكون عاتباً على الدنيا ولا تريد مصالحتها؟ كيف تكتب عن انحلال معنى الكلمات مستخدماً الكلمات التي خانتك او التي قررت ان تخونها؟!في العامية نقول عن الشخص البَرِم بالدنيا انه "قلب وجهه". ينقلب الوجه، وبدل ان يكون باباً مفتوحاً، وأفقاً مصنوعاً من عينين وابتسامة، يصير حائطاً. ينقلب الوجه فيصير صمتاً لا تستطيع الكلمات اختراقه. الصمت يملك كلماته المكررة، التي لا تقول شيئا. لكن انقلاب الوجه قد يصل في بعض الأحيان الى حد رفض استخدام الكلمات الجاهزة، فيصير كل شيء مقفلا بصمت ثقيل. حين تثقل الدنيا عليك، وتشعر ان صدرك صار بلاطة ثقيلة خرساء، ولا تجد امامك سوى النوم، النوم لا بحثاً عن الأحلام، بل بحثاً عن ظلام شامل لا تخترقه بقع المنامات، النوم كسبات بلا افق، عندذاك يصل عتبك على الدنيا الى ذروته، وتشعر بأن كلماتك تتفكك، وبأنك فقدت طعم المعاني ورائحتها ومذاقها.شرود كالهاوية، وعجز عن ايصال مشاعرك الى الآخرين، وحفرة لا تتسع الا لجسدك. حفرة مسوّرة بالعتمة، وعتمة تتكاثف وتجمد. كل شيء يجمد، حتى الدموع لا تسيل. عالم بلا ماء. فحين لا تعود قادرا على رؤية السراب، ينقطع الماء، ويتكسّر الجفاف على وجهك.ليس غضباً. الغضب فعل او احتمالات فعل. حتى الغضب يختفي، ويحل مكانه شيء من الشرود يرفض الاستسلام. لا الغضب ولا التحدي. المتنبي تحدّى الزمان وشتمه، وقرر ان الموت "ضرب من القتل"، لكنك تعلم ان الشاعر كان يكابر، فحين يتّحد الزمان بأقدارنا، لا يعود التحدي سوى موقف غير مجدٍ، ولا إعراب له.الحزن شيء آخر. انه غلالة تغطّي التواصل مع الآخرين. اما حين لا يكون الآخرون، حين يأخذك العتب على الدنيا الى كعب روحك، حيث لا تريد لأحد ان يأتي اليك، عندذاك تصاب بشيء لا اسم له لأنه عصيّ على التسمية.كانت العرب تطلق اسم الحرد، على هذا الشيء. وكنا في طفولتنا نحرد كثيرا، فنصاب بذلك العيّ عن الكلام، ونجد لأنفسنا زاوية نختبئ فيها. لكننا مع العمر والتأقلم مع الخسارات، تخلّينا عن هذه العادة، معتقدين انها كانت شيئا من ضبابية الطفولة، ومن عجزنا عن استخدام الكلمات الملائمة. لكننا نكتشف ان المسألة لم تكن بهذه البساطة، اذ سيصاحبنا هذا الشعور طوال حياتنا، وسوف يظهر ونخفيه، الى ان تحل فينا مصيبة لا قدرة لنا على ابتلاعها. عندذاك نكتشف ان كلمة الحرد ليست مطابقة، لأنها ابتذلت وأُعطيت طابعاً طفولياً ساذجاً. نعود الى "لسان العرب": "حرد يحرد حرودا اي تنحّى وتحوّل عن قومه". تقول العرب: "حاردت الابل، اي انقطع لبنها، وحاردت السنة، اي قلّ مطرها".الحالة التي احاول وصفها مرتبطة بالمطر والماء، لكن العرب لم تكن تحبّ المجاز، كي تقول عن شخص انه انقطع مطره، او جفّ ماؤه. ما احاول الوصول اليه ليس مجازا او استعارة، بل هو تشخصن المجاز وتحوّله الى حقيقة. حين نحاول التعبير عن المعيش الواقعي، ونخاف من الكلمات المبتذلة، نلجأ الى المجاز او الاستعارة. لكن كيف نعبّر عن حقيقة تقدّم نفسها في اللغة في وصفها مجازاً؟ هل نستطيع اللجوء الى مجاز للمجاز، وعندها هل يصل المعنى؟ ام عليه ان يبقى هائما في تجاويف احتمالات اللغة، التي تشبه بئرا عميقة لا يستطيع الأحياء الوصول الى قعرها؟الحرد ليست الكلمة التي ابحث عنها، على رغم انها الأقرب الى المعنى، لأن الطفل الذي يحرد لا يملك مطلبا او رغبة في شيء، بل يشعر بأن الدنيا ليست ملائمة، فينزوي. لكننا نعلم ان الطفل ينتظر امه كي تبدّد هذا الشعور. اما نحن، الذين ننتمي الى عالم الكبار، فقد توقفنا عن انتظار امهاتنا، وصرنا ايتاماً، واليتم مثل الموت مثل الشاعر "لا يحب الانتظار".لا ادري اذا كنت ابحث عن كلمة ما. حتى هذا البحث لا يعنيني اليوم. اريد ان اترك لروحي ان تفعل بنفسها ما تشاء، وان تعيش على ضفاف حزن لا يشبه الحزن، وغضب ليس غاضباً، وعتب لا يجد من يعتب منه، وحرد لا يعتزل الناس فقط بل يعتزل المعاني ايضاً.ما معنى عجز اللغة، هل الموت هو موت اللغة فينا ام موتنا نحن في اللغة؟ لا تستطيع اللغة ان تكون عاجزة، لكني عاجز امامها، ولا ارى سوى سواد الحبر الذي لا يرشح منه ايّ ضوء.كيف تكتب عجزك عن تسمية شيء لا اسم له؟ آدم لم يكن يعرف كل الأسماء، بل ترك بعض المشاعر بلا اوصاف وبلا كلمات، كي يتمجد الصمت، لحظة عجز الكلام.

محمود درويش في نفق التخوين


شادي علاء الدين

لم يكد خبر وفاة الشاعر محمود درويش يظهر إلى العلن حتى أطلقت المواقع الإلكترونية التابعة للتيارات الأصولية الفلسطينية حملة تخوين وشماتة لم يسبق لها مثيل. فالموقع الرسمي للحركة الأصولية، والذي يطلق عليه إسم "شبكة فلسطين للحوار"، فتح النار على الشاعر المسجّى في أبده وأعلن بحماسة في سابقة غير مألوفة: "عن تقبل التهاني"، ونشر مجموعة مقالات تراوح بين الشتم والاعتراف للشاعر بأهمية شعره، مع التركيز على الهجوم على علمانيته ويساريته. العالم كله استقبل خبر رحيل الشاعر بوصفه حدثاً يصيب الضمير العالمي وبأنه خسارة إنسانية لا تعوَّض ولا تخصّ فحسب الشعب الفلسطيني. وحدها المواقع الأصولية أبت إلا أن تذكرنا بأننا لا نستحق الشعر ولا الشعراء وبأننا في مكان الإلتباس ليس فقط في ما يخص الخرائط والجغرافيا ولكن في ما يتعلق بذلك الوطن البديل القائم في اللغة.تريد "حماس" أن تغتال اللغة وأن تضاعف المنفى وتقضي على ذلك الوطن الذي صار مقدسا، على ما يقول درويش، ليس لأنه نسخة من الفردوس ولكن لأن نبيا مرّ من هنا. النبي الذي مر من هنا جعل الأرض مقدسة بما هي عليه، وحين فُقدت الأرض كان الشعراء وخصوصاً محمود درويش، هم الذين يحافظون على قداستها بنسبتها الدائمة إلى نفسها وإلى تاريخها وإلى حاضرها المصنوع من حياة يرتفع فيها العيش البسيط اليومي دوما إلى مرتبة المعجزة. بلاد اللغة التي يحضنها الأنبياء كانت بلادا واضحة في وعي درويش ولم تدخل يوما في غموض الولاءات التي تسعى "حماس" إلى جعلها خارج نسق القداسة الذي تعرفه وترعاه، بحيث تلبسها لباس "قداسة" غريبة ذات لسان غريب.المشكلة إذاً في اللغة العربية التي وجدت في محمود درويش منشدها فصارت جغرافيا صلبة متماسكة تتأسس على وعي سياسي نادرا ما امتلكه شاعر كبير. فالشعراء الكبار غالبا ما يكونون سذّجا في السياسة. السياب كان شاعرا كبيرا ولكنه كان ساذجا في السياسة، أما محمود درويش فكان يملك إضافة إلى شاعريته المختلفة وعيا سياسيا حادا يستطيع أن يقرأ الحوادث والتحولات التي تصيب فلسطين والعالم قراءة عميقة وصائبة. لذا كانت مواقفه مضاعفة الأثر، فمن ناحية تلك القوة الآسرة لقصائده التي تستعمل السياسة كمقدمة لإنشاء وجود يتسامى على السياسة من دون أن يتحول إلى يوتوبيا، ومن ناحية ثانية كانت مواقفه السياسية المباشرة التي تنطلق من ممارسة سياسية خاصة نجحت في تطوير النظرة إلى القضية الفلسطينية في العالم وتفعيلها بوصفها مسألة تضع الإنسانية بأسرها أمام سؤال الضمير.كانت الممارسة المسلحة قد نمّطت العمل المقاوم وثبّتته عند حدود معينة لم يستطع تجاوزها قط، وكانت سمة الإرهابي هي السمة التي تطلق على الفدائيين لأن لا شيء يرسم صورة البلاد سوى السلاح. السلاح حين يكون بلا بيان، يكون يتيما. ثم جاء شعر محمود درويش وشعرن المقاومة وجعل الدفاع عن التفاصيل الصغيرة وعن الشعر والورد والحق في الحب والفرح مقاومة تمشي جنبا إلى جنب مع المقاومة المسلحة التي رفض دائما أن تكون عمياء ووحشية، إذ رفض استهداف الأطفال بشدة لانه كان يريد مقاومة تتفوق أخلاقياً على الإسرائيلي. هذا التفوق الأخلاقي هو الصيغة الفنية التي تمثلت بقوة في شعر درويش، وبشكل خاص في قصائده الاخيرة. فالصراع لم يعد صراعا عسكريا بل صار صراعا على القيم وعلى شكل الوجود ونوعه.اسرائيل التي تمتلك أعتى جيش في المنطقة، تسمّي جيشها "جيش الدفاع"، ما يعني ان الفلسطينيين هم دوما في وضعية الهجوم وأن تلك القوة الهائلة هي فقط للدفاع عن النفس. السؤال الذي شغل محمود درويش شعريا وإنسانيا، هو كيف تتحول كل هذه القوة الغاشمة من ميزة إلى عبء؟ الحل كان بالحرص على التفوق الأخلاقي للمقاومة، وهذا ما لا تتبناه "حماس" التي تجعل من ممارستها للمقاومة ذريعة لتفكيك اركان المجتمع الفلسطيني.الامر الآخر الذي حرص عليه درويش، تحويل الصراع على المكان إلى صراع جمالي. فهو يعترف ان الكثير من الشعراء الإسرائيليين كتبوا قصائد جميلة في عشق المكان، وهذه القصائد توازي في بعض محطاتها، الشعرية الفلسطينية الخاصة بالدفاع عن المكان. للصراع إذاً وجوه كثيرة لا يمثل السلاح إلا جزءا ضئيلا منها.لم يصدّق محمود درويش أن فلسطينيا يمكن أن يدوس العلم الفلسطيني، وعندما تأكد من ذلك راح يعلم بحدسه الذي لا يصدّق سواه ان كتبه هي الضحية التالية. فهم الحصار كما لم يفهمه احد من قبل. علم أن الحصار لن ينتهي حتى يتعلم الأعداء نماذج من شعرنا الجاهلي. هذا في صدد الحصار الأول أما الحصار الثاني، اي حصار الإخوة، فلن ينتهي حتى يتعلم الإخوة نماذج من شعر درويش ويستطيعوا أن يروا في مراياه وجوههم التي لا تستطيع المرايا الغريبة ان تعكسها أبدا.

الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

سقطت سهوا

سقطت سهواً مرتين

بلال خبيز


في اربعين رئيس اركان جيش حزب الله، عماد مغنية، كنت اترقب، على جاري عادتي منذ اغتيال الرئيس الحريري، ما سيقوله السيد حسن نصرالله، امين عام حزب الله. ذلك انني منذ اغتيال الحريري، شعرت، ربما بغريزة الصحافي، ان الحجم الكبير الذي كان يحتله الراحل في متن السياسة اللبنانية، سيؤول لا محالة إلى السيد حسن نصرالله، مضيفاً إلى حجمه وزناً زائداً. لذلك، لم افوت فرصة في الكتابة معلقاً على ما يأتي به السيد نصرالله، كما كان شأني مع الرئيس الحريري يوم كان حياً.
كنت قبل ايام من خطاب السيد نصرالله قد كتبت له كتاباً مفتوحاً، على جاري عادة الصحافيين اللبنانيين. ولأسباب لها علاقة بالصدف المزعجة، كنت قد نشرت مقالة في ملحق "النهار"، مناقشاً وثيقة "البيال" التي اطلقتها قوى 14 آذار ومعترضاً على منطقها.
بدأ السيد نصرالله خطابه بداياته المعتادة، في ذكر الأئمة والصحابة والرسول، ثم دخل إلى الموضوع رأساً. كان الجزء الأول من الخطاب، في ما بدا لي، مناقشة مع تلك الرسالة التي كنت قد نشرتها موجهة إليه. اما الجزء الثاني من الخطاب فكان رداً على وثيقة 14 آذار، ولا اقول انه استخدم الحجج نفسها التي اوردتها، لكنه اتخذ الموقف نفسه. لحظة ذاك، وبحدس المقاتل، ادركت انني بالغت في ملاحقة كل ما كان يقوله السيد نصرالله.
بعد بضعة ايام، دعيت كغيري من الصحافيين، إلى مناقشة وثيقة "البيال" والردود عليها. في الحفل الذي اقيم في فندق "البريستول" تم توزيع برنامج العمل مرفقاً بالمحاضرات والكلمات، والردود على الوثيقة التي ظهرت في الصحافة. وبداعي الفضول الذي يخفيه كل كاتب في نفسه، احببت ان ارى كيف تم التعامل مع مقالتي السالفة الذكر، لكنني لم اجدها بين المقالات. وحين سألت عن اسباب حذفها، ابلغت انها سقطت سهواً، ودعاني محدثي لإرسالها إليه مرة اخرى ليضمها في المقبل من الأيام. طبعاً لم ارسلها. فأنا كان يكفيني ان اعرف انني سقطت سهواً هنا، ونهضت سهواً هناك.
الخلاصة كانت على الوجه التالي، اقله هذا ما أظنه، وما زلت مقتنعاً به: كنت في نظر قوى 8 آذار صحافياً معروفاً ومقروئاً، لكنني اميل دائماً إلى الخصومة معها. وفي نظر قوى 14 آذار، كنت صحافياً ناشئاً وقليل الحماسة للمشروع الإستقلالي، وكان امر تجاهلي منطقياً. وعلى هذه المعادلة، كان لا بد لي من استشعار الخطر. والحق انني منذ تلك اللحظة، اقلعت عن الكتابة في السياسة اليومية وانصرفت إلى شؤون كتابية اخرى. بعضها يتضمن ردوداً مواربة على يوميات السياسة اللبنانية.
كان الأمر برمته ينذر بالخطر، ان اكون مقروئاً بوصفي خصم لا يمل، في وقت لا يشعر من يفترض انني ادافع عنهم وانطق بلسانهم بوجودي اصلاً، رغم ثقل ما كتبت، حجماً على الأقل، لهو امر خطير من الجهتين.
لم يلبث ان تصاعدت حدة النزاع وبلغت ذروتها في احداث ايار المنصرم. وكان مفهوماً بحسب منطق الأحداث، ان يشعر كل طرف بأذى استمرار خصمه مشرعاً حملات إعلامية عليه. هكذا سرعان ما ظهرت على موقع "فيلكا اسرائيل" قصة تتهمني بأنني مراسل هآرتس الرسمي، وعشيق ليزا غولدمان، تلك التي زارت لبنان سراً وبثت من بيروت واحداً من تقاريرها المتلفزة. وكان مفهوماً ايضاً ان تطاول مثل هذه الشائعات آخرين لا حصر لهم من صحافيين وكتاب وسياسيين. وبصرف النظر عن الأحداث التي واكبت تلك التوليفة الخرافية، إلا انه يجدر بي الإشارة إلى ان التهديد الذي تعرضت له في تلك الفترة، واسرار احدهم لي ان قراراً قد اتخذ بقتلك، وثمة من يكمن لك في الاماكن التي تتواجد فيها عادة، قوبل من الجهة الأخرى بالتجاهل والاستخفاف. كان الجميع مهددين على وجه من الوجوه، وليس ثمة سبب للاهتمام بموضوع تفصيلي كموضوعي. والحق انني اعتقد ان ما حمل هذه القوى على الاستخفاف بالتهديد الذي تعرضت له يتصل جوهرياً باعتقاد عام، في صفوفها، يفيد انني لست من الأهمية التي توجب علي او عليهم اتخاذ اجراءات احتياطية. وهذا ما يفسر، قطعاً، الصمت الذي مارسته الصحيفة التي اعمل فيها حيال ما حصل.
في خطاب السيد حسن نصرالله المذكور آنفاً، قال انه يجب وضع اكثر من خط على كلمة مقاوم، وهو يشير إلى بعض الكتبة الذين كانوا مقاومين. والحق انني رغم الفترة الطويلة التي قضيتها في مقاومة اسرائيل، ومدة الاعتقال الطويلة ايضاً، إلا انني يوم قررت ان اصبح كاتباً وصحافياً لم اشأ ان استغل تاريخي الشخصي مثلما فعل غيري. والنص المنشور في هذا الدفتر، كتب بناء لطلب مباشر. اي انني لم احمل نصي وادور به على الناشرين يومذاك. فما فعلته مقاومة وتعرضاً للاعتقال، لم يجبرني عليه احد، وكان، في ظني، ولا يزال، جزءاً من حق لبنان علي، اي ان اقاتل المحتل طمعاً بتحرير الأرض. وعلى النحو نفسه، كتبت في سنوات التسعينات، في مقارعة الهيمنة السورية على البلد. لأنني كنت، ولا ازال، احسب ان البلد يستقل ويتحرر من الجهتين، السورية والإسرائيلية. يومها، كما هو معروف، كان الذين يكتبون في مقارعة الهيمنة السورية اقل من ان نمعن التفكير في تعدادهم. والحال كنت اظن نفسي حليفاً لمقاومتين. فيما كانت انقسامات البلد واستحالاته تجعل من هذا التصنيف مستحيلاً في حد ذاته.
وبمثل ما سقطت سهواً من واقعة انني كنت من اوائل الذين قارعوا الهيمنة السورية، سقطت سهواً من واقعة انني سبقت مقاومي اليوم في مقاومة اسرائيل. وفي الحالين، كان ثمة تواريخ صغيرة تهدر مجاناً، ويهدر اصحابها. وكان ثمة ايضاً حسرة عظيمة تعلق في حلق من كان مثلي، وهو يرى ان السبيل إلى الدفاع عن مقاومتين لا مكان له في بلد ثورات التحرير والاستقلال. مما يجعل السقوط سهواً اهون الشرور.

الأحد، 17 أغسطس 2008

Abstractioneer: Gadgets for Blogger

Abstractioneer: Gadgets for Blogger

... فالانسان الشريد يغدو حراً بمعنى جديد , اذ أن من يفقد صلاته كلها هو الوحيد الذي لا يلزمه أي تحفظ فكري .

ام الدنيا




عين على شوارع القاهرة







الانصاب والموتى في امكنتهم لكن الاحياء يعدون الحقائب

بلال خبيز





قلت للسائق الذي اقلني من ميدان طلعت حرب، حيث ينتصب تمثال المصرفي ورجل الاعمال الشهير، إلى جزيرة الزمالك، انني اريد الوصول إلى حيث يقع تمثال ام كلثوم. فما كان منه إلا ان اجابني: وإذا ذهبنا ولم نجد التمثال، فماذا سيكون من امرنا حينئذ؟ قلت له: نعود إلى تمثال طلعت حرب. وكنت اظنه، على عادة المصريين في التندر والمزاح، يحاول ان يمازحني. لكنه ما لبث ان اردف قائلاً: وماذا لو ان تمثال طلعت حرب قد اختفى ايضاً، وكذلك التماثيل كافة؟ فأنت تعلم ان نصب التماثيل حرام.
كان السائق الذي افصح عن التزامه الديني والايديولوجي في المسافة الفاصلة بين ميدان التحرير وجزيرة الزمالك، يعبر عن رأيه الحاسم في الاعتراض على نصب التماثيل كائناً من كان صاحب التمثال. والحق ان هذا التوجه، مثلما هو معلوم، منتشر في اوساط الأصوليات السنية على امتداد العالم. لكن المسألة لا يمكن اختصارها على هذا المستوى وحده. ذلك ان الحساسية السياسية والأيديولوجية حيال التماثيل ليست مرضاً يصاب به الأصوليون الإسلاميون وحدهم دون غيرهم، بل ان الليبراليين الروس حطموا تماثيل لينين مؤسس الأمبراطورية السوفياتية بالحماسة الأصولية نفسها، كذلك لم يجد مناصرو الغزوة الأميركية للعراق طريقة للتعبير عن فرحتهم بهزيمة نظام صدام حسين سوى انزال تماثيله من الساحات العامة وجرجرتها على الطرقات، كما لو ان تدمير التماثيل تعبير قاطع الدلالة على القطع مع التاريخ السابق وفتح صفحة جديدة مع المستقبل.

تعقب الأثر التاريخي


على هذا يمكننا ان نأخذ كلام سائق التاكسي على معنيين. المعنى الأول يتصل بأيديولوجية دينية – مذهبية تفترض ان ازالة التماثيل واجبة ومفروضة، بحسب الايديولوجيا الدينية. والمعنى الآخر يفترض ان انتصاب التماثيل تعبير بليغ عن هوية المدينة التي تنتصب فيها تلك التماثيل، مثلما يكون من ناحية اخرى دلالة من دلالات معبرة عن علاقة هذه المدينة بتاريخها، ودرجة تصالحها معه. والحال، يريد المعترض على التاريخ "العلماني" في مصر ان يزيل كل الآثار التي تشير إلى هذا التاريخ. مثلما يريد المعترض على التاريخ الديني فيها ان يزيل الآثار التي تشير إلى هذا التاريخ على وجه من الوجوه. لكنها مصر. حيث التاريخ اكثر كثافة من السكان. وحيث ما زالت القاهرة الفاطمية تتسع لأعداد هائلة من الزوار فضلاً عن القاطنين فيها، وحيث ما زالت قاهرة الملك فاروق تتسع ايضاً لمزيد من القادمين والزوار فضلاً عن المقيمين فيها منذ ابد الدهر. انها مصر التي يتكثف فيها التاريخ وينتصب في الشوارع والحارات وعلى الأسوار، فيصعب على اي كان ان يخفيه او يستخف به، مهما بلغت سطوته وقدرته على القمع وتطلبه القسوة.

انتماء ما بين الشوطين

مصر هذه مثقلة بالتاريخ، إلى حد ان الزائر فيها لن يلمح تمثالاً لجمال عبد الناصر او انور السادات او جول جمال او سعد الدين الشاذلي. ليس لأن اي من هؤلاء لم يحقق انجازات كبرى في التاريخ المصري، بل لأن مصر عرفت انجازات اكبر وما زالت تحتضن في ذاكرتها وشوارعها ومبانيها انجازات هائلة لا يمكن مقارنتها بالانجازات التي حققها هؤلاء رغم شبه الإجماع الحاصل على اهمية ادوارهم وخطورتها.
لكن هذه الأدوار المهمة لم تصل على ما يبدو إلى حد التسليم الكامل بدورها والاتفاق على آثارها الإيجابية والسلبية على حد سواء. وفي حين يبدو دور جمال عبد الناصر محسوماً في بلاد عربية كثيرة، وتنتصب تماثيله او تسمى الشوارع والمساجد باسمه في كثير من بلاد العرب، إلا انه في مصر ما زال يقع تحت سيف الجدال، ولم يصبح جزءاً من التاريخ المصري المجمع عليه.
جمال عبد الناصر هو بالنسبة للعرب صانع نهضتهم ومحرك حركات التحرر الوطنية العربية من المحيط إلى الخليج. لكنه بالنسبة للمصريين كان زعيماً له ما له وعليه ما عليه. لكنه لم يرق إلى مرتبة ابراهيم باشا او محمد علي باشا او سعد زغلول، من حيث الإجماع على بداهة دوره وتاريخه. ليس ثمة تماثيل لجمال عبد الناصر في القاهرة، لأنه ما زال يقع في حمأة الجدال. والأرجح ان الزعيم الذي ملأ دنيا العرب وشغل ناسهم هو بالنسبة للمصريين زعيم بين زعماء كثيرين، وبعضهم يفوقه اهمية من دون جدال. لكن هذا لا يمنع المرء من ملاحظة تمثال ام كلثوم الذي ينتصب شامخاً على ضفة النيل، حيث يقع الفندق المسمى باسمها، قريباً من الشارع الذي يحمل اسمها ايضاً في جزيرة الزمالك.
لا غرو ان مصر ما زالت تخوض في مناقشات حارة حيال تاريخ الثورة المصرية والعهود التي تلتها. وهذه مناقشات تتمظهر في مجالات لا تحصى، فمن جهة يعتقد البعض ان الثورة المصرية التي احدثت ما احدثته من زلازل على امتداد المنطقة العربية، كانت تهدف إلى تغيير وجه مصر وتاريخها وطبيعة انتمائها. فقسرتها على انتماء عروبي، لا يصمد امام التدقيق التاريخي المنصف، وإذا كان ثمة من اسباب وعلل تدفع البعض إلى تبني مثل هذا الانتماء وجعله تحصيلاً حاصلاً، فإن ذلك يجب ان لا يحذف من تاريخ مصر العريق حقبات تاريخية طويلة وعامرة. ابتداء بتاريخ مصر الفرعونية الذي لا يرقى شك إلى اهميته، وصولاً إلى تاريخ مصر المملوكية والعثمانية حين كانت القاهرة اكبر مدن المنطقة، وربما العالم اجمع، ومن اكثرها ازدهاراً تجارياً، وفي تلك الحقبات شكلت القاهرة قطباً جاذباً لشطر لا يستهان به من شعوب آسيا وافريقيا واوروبا على حد سواء.
هذا التوجه يقع في قلب الجدال المصري الحاد اليوم، ويمكن لأي كان ملاحظة الكم الهائل من الكتابات التي تستعيد تاريخ مصر المستقلة والجاذبة التي تظهر في قاهرة اليوم. بل ان المدقق في التاريخ المصري القريب يمكنه ان يلاحظ هذا الارتباك المصري الحاد بين مقتضيات هويتين واتجاهين. وفي هذا السياق ربما يجدر بنا ان نتذكر ان ملايين المصريين الستقبلوا الرئيس الراحل انور السادات لدى عودته من اسرائيل في سبعينات القرن الماضي. مثلما كان ملايين من المصريين يعترضون اشد الاعتراض على تلك الزيارة وما عنته من تهميش لدور مصر العربي امتد لعقود خلت. كان اختلاط الهوية تعبيراً لا لبس فيه عن الخلاف الحاد بين وجهتي النظر الكبيرتين في مصر، لكنه من ناحية ثانية افسح في المجال لنشوء تيارات دينية تفترض ان الهوية المصرية البديهية والتي لا يرقى إليها شك تتمثل في اعتناق الدين الإسلامي واتباع تعاليمه. مما يعني ان هذا التوجه الطارئ في معنى من المعاني على تاريخ مصر وحاضرها، كان يلعب في الوقت الفاصل بين شوطين. وان الأصل في مصر اولاً وآخراً يقع في مقلب آخر.

صحراء عاقر ونيل ولود

لا شك ان هذا الاضطراب الذي يطاول الهوية المصرية يترك اثاره العميقة على وجه القاهرة ويضرب في عمق اعصابها. وإذا اضفنا إلى هذا الاضطراب واقع المعادلة التي تنوء مصر تحت ثقلها، على ما لاحظ جمال حمدان، وهي المعادلة التي تقضي ان تنوء مصر تحت عبء صحرائها ونيلها. اي ان النيل هو ما يمنع هذه البلاد من ان تتحول صحراء، لكنه، اي النيل، هو ما يمنع اهل هذه البلاد من الظعن في اقاصي الأرض بحثاً عن الكلأ والمأوى والماء. والحال يمكن للمرء ان يلاحظ ان ثبات القاهرة في مكانها يستند ايضاً إلى ثبات آثارها. فلا شيء في مصر معرض لعوامل الطبيعة وعوادي الزمان، وعلى نحو ما يعامل المصريون نيلهم، فيرون إليه مستمراً إلى ما شاء الله، وكبيراً إلى الحد الذي يمكن ان تبنى امة من حوله، فإنهم ايضاً يعاملون مبانيهم التي يسكنون فيها كما لو انها باقية إلى ما شاء الله، وان صلابتها وقدرتها على المقاومة لا تتصل من اي باب بحسن رعايتها وتطلبها الصيانة والانتباه. فما ان يمر المرء في شوارع القاهرة حتى يلاحظ حجم الإهمال الذي يضرب احيازها العامة. كما لو ان المصري لا يعتبر واجهة المبنى الذي يقطن فيه والمساحات المشتركة مع جيرانه جزءاً من الحيز الذي يخصه. فيما ينصب اهتمامهم البالغ على الدواخل، بيوتاً ومنشآت. كما لو ان المصريين عموماً قد وضبوا حقائبهم وهم في انتظار المغادرة، لكن ما يمنعهم من المباشرة في ذلك ليس اكثر من حشد الزوار – السياح، الذين ما ان تمضي فئة منهم وتغادر ميناء القاهرة الجوي، حتى تصل فئة اخرى اكبر واكثر عدداً.
يجد المرء في القاهرة حشداً لا يحصى من الأبنية التاريخية البالغة الجمال، لكن الاهمال اكثر من باد على واجهاتها. مثل هذه الأبنية في مدن اخرى تحاط بالرعاية والاهتمام البالغين، وتعامل كما لو انها تملك نفساً وروحاً. وكثيراً ما يغالي البعض في تزيينها ورعايتها وابراز تاريخها على نحو يكاد يكون في مصر مضحكاً. بل ان المار في شوارع مصر سرعان ما يلاحظ ان البعض من هذه الأبنية المعتنى بها، غالباً ما تكون من المقار الرسمية او تابعة للسفارات الأجنبية. كما لو ان هذه الكنوز التاريخية والتي لا يمكن نقلها من بلد إلى بلد، لا تعني المصريين كثيراً، فيما يجهد الزوار الأجانب في التدليل على قيمتها، في مسابقة ساخرة. حيث يصر الزائر على ابراز هذه القيمة امام المواطن المقيم الذي يعزف على الدوام عن مجاراته في ما يذهب إليه. وفي هذا العزوف ما يمنع الزائر من تحقيق رغبته بالتدليل على ملكيته الأثيرة والمعتنى بها.
على الأرجح ليس الفقر هو السبب الوحيد الذي يمنع المصريين من مثل هذه العناية ومجاراة هذا الاتجاه العالمي في التدليل الارستقراطي على الثبات. فالثبات بالنسبة للمصري العادي امر بديهي ومفروغ منه، ولا حاجة به للتدليل عليه. الا يردد المصريون دوماً: مصر ام الدنيا؟






الدور والتوقع





هذا في ما يخص امومة الدنيا على وجه عام. لكن مصر ايضاً مثلها مثل كل بلاد العالم تخوض في سجالاتها الكبرى. انها امة تبحث، البحث الأبدي، عن دورها. والدور لا يقع دائماً في الماضي، على الأرجح انه لا يقع اصلاً في الماضي. بل انه تطلع وتوقع على نحو ما يحدد القديس توما الاكويني المستقبل.
التطلع والتوقع في مصر باديان في كل الوجوه. النخب عموماً تبحث جادة في مسارات التوقع هذه. بعضها يخشى كثيراً من ترامي ممالك الفقراء المعدمين، وبعضها ينظر بعين الخشية إلى ازدياد حالات العنف اليومي وانتشارها. وبعضها الآخر يتطلع إلى استعادة دور مصري في المنطقة العربية، باتت مقوماته مطمورة. وبعضهم الآخر يدعو إلى انعزال غير مهموم بكل ما يجري حولهم. لكن الأحداث في الجوار وامتداداتها في الداخل المصري تجعل كل اقتراح من هذه الاقتراحات صعباً وغير ميسور.
يبقى ان هذا كله يقع على ارضية من المسلمات التي لا تخضع للنقاش. هذه المسلمات التي يستطيع المرء ملاحظة تجذرها في بداهة الانصاب التي تحفل بها القاهرة. الأنصاب في كل مكان، ويكاد معظمها يمت إلى التاريخ المصري الحديث بصلة وثيقة. لن نعدم ان نرى تماثيل لرمسيس او شارع يحمل اسم شجرة الدر. لكن معظم التماثيل تنتسب إلى تاريخ مصر الحديث. سعد زغلول، احمد عرابي، طلعت حرب، سليمان باشا، ابراهيم باشا، ومحمد علي... الخ. والمصريون يتعاملون مع هذه التماثيل التي تنتصب في ميادين القاهرة بالبداهة نفسها التي يتعاملون فيها مع اهرام الجيزة او ابي الهول. والأرجح ان المصري لا يتذكر طلعت حرب، دوراً ومكانة، إلا حين يسأله السائح، وغالباً لن تجد بين الجماعات المختلفة سياسياً على الحقبة الماضية خلافاً على طلعت حرب او محمد علي باشا. الخلاف يقع بالضبط في الفترة التي تلت هؤلاء. وهذا يعني في ما يعنيه ان اسباب الإجماع المصري متنوعة وكثيرة. وان ثمة الكثير مما يجمعون عليه، وهو بالضبط ما يعصم هذه البلاد من حريق آخر.





بيروت يا بيروت





ربما يتوجب على المرء ان يتذكر بيروت قليلاً، فالشيء بالشيء يذكر والمدينة تذكر بأخرى. في بيروت ليس ثمة ما هو ثابت وراسخ في المكان. تلك مدينة اعيد اعمارها مرات ومرات. بيروت العثمانية لم يبق منها اكثر مما بقي من سور الأزبكية في القاهرة، وبيروت الرومانية باتت أثراً بعد عين. وحتى بيروت الانتداب الفرنسي انزوت في بضعة احياء تنتشر بخفر وعلى استحياء على مساحتها الضيقة. مدينة تتجدد كل عقد، ولا يبقى من قديمها إلا ما ندر. وهناك تعامل الأبنية الناجية من زحف العمارات الحديثة كما لو انها كائنات مهددة بالانقراض. وفي بيروت تنصب تماثيل وانصاب، لكنها سرعان ما تنزل عن مناصبها وتجر في الساحات او يتم تفجيرها. كان تمثال جمال عبد الناصر يقع في ساحة عين المريسة المجاورة لشاطئ الصيادين. لكنه ذات حقبة من حقبات السياسة اللبنانية تعرض للتفجير وازيل من مكانه، لينتصب في مكانه نصب حجري، يفيد ان تمثال الزعيم كان هنا. وجمال عبد الناصر ليس الوحيد الذي لم يستطع تمثاله الصمود في بيروت. بيروت لا تطيق حتى ابناءها، ففي الحرب الاهلية السابقة، تمييزاً لها عن الجارية فصولاً اليوم، ازيل تمثال رياض الصلح وبشارة الخوري صانعا استقلال لبنان، وتمت اعادتهما منذ سنوات قليلة العدد. ومن جهة ثانية يجمع اللبنانيون على اهمية تمثال الشهداء المنتصب في الساحة المسماة باسمهم، في المكان نفسه الذي رفعت فيه مشانقهم في غروب الحرب العالمية الأولى على يد جمال باشا السفاح، الذي تولى امور لبنان في تلك الحقبة. هذا التمثال ليس تمثال الشهداء الأول. إذ سبقه إلى ساحة الشهداء تمثالاً نحته اللبناني يوسف الحويك. كان تمثال الحويك يمثل امرأتين تقعيان على جانبي تابوت، تمدان ايديهما لملامسة الجثة، وهي جثة الشهيد. المرأتان واحدة منهما مسلمة واخرى مسيحية، في تعبير مباشر عما يسمى بجناحي لبنان الذي يطير بهما، وما يصل بينهما هو جثة الشهيد. وعلى النحو نفسه يمكن التذكير ان ما يصل بين اللبنانيين اليوم، كما الامس، هو الموت الذي يصيبهم من دون استثناء. انها وحدة المعاناة والالم. حتى الشهداء ليسوا محط اجماع عام في هذا البلد. وبالعودة إلى تمثال الشهداء، شهداء الاستقلال، يمكن للمرء ان يعين مفارقة خارقة: لبنان اخذ استقلاله عام 1943، وقد استقل عن الانتداب الفرنسي بمساعدة انكليزية غير خافية. يومها عمد رياض الصلح احد مؤسسي هذا الاستقلال إلى الطلب من النحاس باشا الموافقة على استقلال لبنان، الذي بدوره بارك هذا الاستقلال. وفي هذا الأمر مفارقة اخرى، إذ ان مصر يومذاك كانت لا تزال تخضع لنظام الحماية البريطانية، اي ان الذي اجاز استقلال لبنان من هذه الجهة لم يكن يحكم بلداً مستقلاً بالفعل، لكنه كان دوماً مستقلاً بالقوة. في حين ان طالب الموافقة اللبناني، كان يدرك ان لبنان سيستقل بالفعل، وسيبقى محمياً بالقوة إلى امد غير منظور. لكن الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن استقلال لبنان كانوا قد سقطوا في مواجهة السلطنة العثمانية كما مر ذكره. وهذا يعين وجه المفارقة الخارقة. ان يكون شهداء الاستقلال راحوا ضحية عسف سلطة لا تمت بصلات قربى إلى السلطة التي كانت تنتدب لبنان يوم اخذ البلد استقلاله، لهو امر لا يمكن حمله على وجوه ومحامل كثيرة: البلد يجمع على الميت، وينقسم على الحي. فرنسا التي استمرت حية، كانت محل انقسام، لكن السلطنة العثمانية التي لفظت اخر انفاسها مع نهاية الحرب العالمية الأولى تحولت إلى محط اجماع لبناني على ادانتها. لأن البلاد الثانوية التي تندر اجماعاتها على النحو الذي يظهر عليه لبنان هي بلاد لا تكتب تاريخها. فشرط كتابة التاريخ ان يكتب الميت تاريخ الحي، لا ان يكتب الحي تاريخ الميت، وهذا عين الفارق الكبير بين مصر التي يكتب موتاها تاريخها، ويجمع اهلها على موتاها، ويختلفون على احيائها، فيما يكتب الاحياء تاريخ الموتى في لبنان، وتتعسر وحدة البلد ويعز استقراره لأن الاجماع على الاحياء مستحيل في اي مكان من العالم وليس في لبنان وحسب.

Blogger Buzz: Spice Up Your Blog with Google Gadgets!

Blogger Buzz: Spice Up Your Blog with Google Gadgets!

... فالانسان الشريد يغدو حراً بمعنى جديد , اذ أن من يفقد صلاته كلها هو الوحيد الذي لا يلزمه أي تحفظ فكري .

الثلاثاء، 12 أغسطس 2008



وقت مستقطع بين الحجارة والرمل

بلال خبيز


قلت لنفسي لو انني جرحت يدي او ساقي. جرح كتلك الجروح التي يهواها المنتحرون. ليس عميقاً بالقدر الكافي لكنه حاد وغزير، إلى حد ان الألم الذي ينتج عنه يتحول مع الوقت اكثر قسوة من الموت نفسه. لو انني جرحت يدي، هل تتفاقم الغربة؟
من عسير المصادفات ان الاطباء في هيوستن كانوا في اللحظة نفسها يجرحون صدر محمود درويش املاً في انقاذ حياته، من عسير المفارقات ان الشاعر، بصدر مجروح او جرح ملتئم، يخاطب المه في انتظام الجندي. الالم، هو رفيق الغريب. اكان في هيوستن ام في باريس، او حتى في بيروت. رفيق الغريب لأن الغريب يحسن التحدث اكثر ما يحسن إلى ألمه. في لحظة مثل هذه يصبح الألم ذاكرة للجسد.
" لم تكن البروة (كفرشوبا) قرية ذات شأن في تاريخ فلسطين (لبنان)، لكن ذلك الغروب (الصباح) الدامي جعل من كفرشوبا (البروة) المنسية ملحمة شعب صابر. وحين جلسنا على حجارتها ذات صباح، عرفنا الجريمة التي ننال عليها كل هذا العقاب، وادركنا ان الحجارة هي الوقت، فجلسنا عليها نغني للوطن".
الوقت لم يكن كله حجار فحسب. كان ثمة ايضاً بحور من تعب ورحيل، واكياس عواصف مهملة عند الزوايا، واعداء يحسدون ضحاياهم. وكان على المرء ان يربح الوقت. لأن الشعراء مثل الجنود لا يربحون الحروب. هل غلب الوقت محمود درويش؟ ومتى رفع الشاعر راياته البيض؟ تباً للأسئلة الخطأ، متى لم تكن بيضاً رايات محمود درويش؟ هكذا يكون الشاعر وهو يعيش في زمن ما بعد الكارثة. رافعاً راياته البيض، ليس لأنه مستسلم، بل لأن ثمة زمن ولد قبل ان يولد واورثه الكارثة. هذه المناديل التي تلوح للوداع هي رايات بيض، وهذه العيون ايضاً، إذ كيف يطيق وداع الاحبة والأمكنة من لم يرفع راياته البيض عالياً؟ كيف يمكن للمرء من دون مثل هذه الرايات ان يرحل من زمن إلى زمن، كل مرة راكباً ايلول جديداً؟ وليكن الأمر استسلاماً. لا بأس. استسلمنا لوهن الجسد في الغربة، واستسلمنا للمرض في مستشفيات غريبة وبيضاء. بيضاء، بيضاء، بيضاء، حتى لتكاد تشف عن شرايين قاطنيها، عن الدم الذي يعبر بطيئاً وشبه بارد في الشرايين. بيضاء، لأنها لم تكن تملك قلباً اصلاً.
وها نحن هنا، نرفع راياتنا البيض، لكل منا اندلسه ايها الراحل. لكل منا بيروته ايضاً. ولك وحدك ان تقف على تلة في رام الله، وتصيح: يا ليتني.. يا ليتني... يا ليتني كنت حجراً هناك! ابيض ومرقوم، ومرفوع كما لو انه لا يهزم ولا ينحني. من الذي قال ان السرو لا يحسن الانحناء. وحدها الاحجار تحسن ان تبقى منتصبة امام العواصف.
ها نحن هنا، لكل منا راياته، والمه، وحين يفكر المرء بنفسه قليلاً، لا يستطيع ان ينسى هول الوقت. الوقت الذي يطيح بوعودنا كلها. الوقت ( الموت) الذي ننتظره منذ الولادة، لكنه يفاجئنا دائماً لأنه لا يحسن التكرار. فج وعميق ووعر، كمثل رعاة جبليين، ونحن نقع تحت عصاه. ونحاول جهدنا ان نؤخر حلولها.
ها نحن هنا. كثيرون ماتوا قبلنا. كثيرون لا يحصون، بعضهم اعزاء واحبة، وبعضهم لم نكن نكّن لهم الود. لكنها المرة الاولى، التي لا نجد كلاماً مناسباً. هل في وسع اي كان ان يقول في محمود درويش كلاماً اقل من الشعر العالي؟ نظرة سريعة إلى ما كتب في وداعه، تثبت انه كان مستحيلاً على العقل، ومستحيلاً على المنطق. لكنه كان ايضاً الوحيد الذي يحسن ان يصنع للكوارث منطقاً ويصنع من الفجيعة تاريخاً.
تلك هي محنة ان تكون فلسطينياً، لأنك منذ ولادتك ستعيش في الوقت لا في المكان. الوقت الذي عبر، واصبح حجارة، والوقت الذي سيأتي وما زال رملاً. وبين الحجارة والرمل ثمة بحور كثيرة ينبغي ان تقطعها، وان تجوع وتعطش ثم تنجو. تنجو ليس كما ينجو الناجون فتنتهي الحكاية بخاتمة سعيدة. تنجو لتدخل من جديد في هول الوقت الذي ينتظرك بعد كل نجاة. تلك صعوبة ان تكون فلسطينياً. بالتاكيد. لكنك ايضاً ستحسد الفلسطيني على الحزن الذي يرافقه كظله. كم واحد منا لوحت له مناديل الامهات والشقيقات وهو يغادر؟ كم واحد منا اختبر حجم الحنين؟ لا احد قطعاً. ثمة في لافلسطينيتنا ما يجعلنا دوماً ابناء امكنة. نغادرها غاضبين، نغادرها خائبين، لكننا لا نغادرها ونحن نبكيها. فلسطين، بين كل البلاد تلك التي لا تستطيع مغادرتها، لأنها تقع في الوقت. والوقت ليس حجارة وحسب، انه القلب. القلب الذي يرمي لنافذة تحيته الاخيرة، والقلب الذي يعوي ويعد البراري بالبكاء الحر.
ان تكون فلسطينياً. هذا ما لم نكنه يوماً. وهذا ما نحسد محمود درويش عليه. كان فلسطينياً ولم نكن نستطيع الارتفاع إلى شجنه العالي. شجنه الذي ينمو مثل اشجار الكرز، عالياً وهشاً وشهياً.
رحل محمود درويش. وابتداء من الساعة التي رحل فيها، لم يعد في امكاننا ان نوازيه. له 175 سنتيمتراً من التراب في تلة تشرف على رام الله. يقولون انه احب المدينة. احبها؟ ربما، محمود درويش احب مدناً كثيرة، لكن جلها كان خؤون. رام الله المحبوبة هناك في ذلك البلد البعيد جداً. بعيد ولا نريد ان نصدق اننا نستطيع ان نرمي حجارتنا إليه. ان نحمل تلك الحجارة رسائل نكتب فيها: هذا حجر من لبنان، ونود ان نضيفه إلى احجار فلسطين. هكذا نعاون اهلها على مهمة قتل الوقت المستحيلة. وهي مستحيلة فقط هناك. رام الله المحبوبة بعيدة كثيراً، ربما لأن ترابها يحتضنه. فنحن لا نستطيع ان نوازيه او نلتحق به.
بين الفلسطينيين الكثر الذين نعرفهم ويعرفهم العالم، لم يكن درويش يدبر الوقت بالضحك. كان طافحاً بالحنين إلى حد انه لم يعد يملك مساحة فائضة. الضحك عدو المنطق، لأنه يولد من الرحم ذاتها. لكن الضحك ايضاً هو وسيلتنا لاختراع المكان. حين نضحك، تصبح البلاد بلاداً. بلاد ناقصة، لكنها تبقى بلاداً. هذا ما رأيناه في اعمال فنانين فلسطينيين كثيرين. لكن محمود درويش لم يكن ضاحكاً، كان يريد ان يثبت ان الحنين مستقبل، وليس مجرد حزن عابر تمحوه الضحكات.
ايضاً لم يكن يتقن الغضب. الغضب الذي يملأ المرء إلى حد الانفجار. لم يكن يتقن الغضب، لان الغضب اقرار بموت المستقبل. هكذا تعلمنا من بعض ما كتب، وهكذا كان يحسن ان يحيى الموتى ويبعث الروح في الرماد مستخدماً طاقته الهائلة على الحنين: كانت بيروت خيمتنا ونجمتنا.
لو انني جرحت يدي او ساقي. جرح كتلك الجروح التي يجيدها المنتحرون. هل كان في وسعي ان اقترب اكثر من تلك الأرض؟ كثيرة هي الجروح التي تصيبنا. لكن احداً لا يختبر الجرح الذي يجعله اقرب من تلك الأرض إلا المنتحرين. هل طعن محمود درويش قلبه؟ ومتى كانت الطعنة الأولى؟

هزم البلد وانتصرت القضية

هزم البلد وانتصرت القضية

بلال خبيز

خرج سمير القنطار من سجنه الطويل. خرج وما زال في ثياب الميدان. يريد ان يثبت ان القضية التي سجن لأجلها ما زالت تستحق تكرار التجربة المرة. تجربة الأسر والتعذيب. وهو في الحقيقة لا يحتاج إلى كبير جهد ليثبت ما يود اثباته. فحرارة هذه القضية تنتقل من جيل إلى جيل. والثابت في تجربة الرجل ومعاناته، انه ذهب إلى السجن عضواً ناشطاً في حزب سياسي – عسكري، وخرج منه عضواً في حزب آخر. الأحزاب تتغير وتتبدل، لكن القضية تبقى على حرارتها.
ليس سمير القنطار وحيداً في مذهبه هذا، ولا متفرداً في ما يعتقده ويجدد اعتقاده. الحزب الذي كانت له اليد الطولى في تحريره من الأسر تكونت نواته الأولى من ناشطين في احزاب أخرى. بعض هذه الاحزاب بلغ سن التقاعد القانوني، وبعضها اوقفت تصاريف القضية خفقان قلبه، وبعضها الآخر ما زال حياً إلى حين. وليستمر حياً تلون بكل لون وتمذهب بكل مذهب، فقارع ابطال الفضية اياها زمناً وناصبهم عداء مستحكماً، ودافع عنهم ازماناً اخرى، وليتمكن من النجاة كل مرة، كان يتلون مع ما يعتقد انه اللون الذي سيسود ويتحكم.
مقاتلو زمن حرية القنطار التي سبقت اسره كانوا متعددي المشارب. لكنهم في غالبهم الأعم كانوا يصدرون عن مبادئ وافكار كانت يومذاك رائجة في دنيا العرب، وفي العالم على حد سواء. وكثيراً ما بذلوا دماً في سبيل نصرة مبادئهم. ذلك ان النضال في بلاد كالتي نحن منها، يتوجه دائماً بوجهين على الأقل. ثمة الصراع، مسلحاً او غير مسلح، ضد المشروع الإسرائيلي ومن يواليه من وجه اول. وثمة الصراع ضد السلطان المحلي، بهدف نقل البلاد التي نحن منها من عالم الظلمة إلى عالم النور. هكذا تعاقب على القتال ضد المشروع الإسرائيلي مناضلون من كل لون. وكان ثمة دائماً من يقترح على المجتمعات الاجتماعية والسياسية افكاراً للاهتداء بها ونظريات للتطبيق، من الماركسية إلى الفكر القومي العربي، مروراً بكافة الأفكار القومية الأقل شأناً وتطلباً، وصولاً إلى الاصوليات الإسلامية. وكل طرف من هؤلاء حمل افكاراً وحاجج من اجل اقناع الناس بها وتجنيد المناضلين في سبيلها. وكثيراً ما تبادلت الاطراف المتصارعة تهم التخوين في ما بينها. إلى حد ان معارك التخوين بين الأشقاء كانت تبدو في بعض الاحيان اعنف واشد شراسة من وقائع النزال مع العدو الإسرائيلي. وربما يكون مثل احداث غزة الاخيرة واضطرار بعض مقاتلي حركة فتح ومسؤوليها إلى الهرب نحو العدو طمعاً بالنجاة من نار الشقيق قاطع الوضوح في سياقه هذا.
إذاً عاد سمير القنطار إلى بلده واحبائه، ووجد وجهاً من وجهي النضال الذي انخرط في مندرجاته حياً ومنتصراً. لكنه على الارجح لم يجد من رفاق الأمس الذي كان يقاتل معهم يوم اعتقل وسجن، من يستطيع تنظيم استقبال حاشد له، يجعله يشعر ان سنوات السجن لم تذهب هباء ولم ينفقها سدى. وهذا والحق يقال اصاب الكثيرين غيره ممن سبقوه إلى التحرر من الأسر. إذ لم يكن متيسراً للمناضلين الذين اعتقلوا في سجون اسرائيلية ان يتم استقبالهم حين تم تحريرهم بالحفاوة التي استقبل بها القنطار. بعضهم خرج من المعتقلات الإسرائيلية في الوقت الذي كانت فيه حروب الاخوة في بلده حارة إلى حد مكن هؤلاء الاخوة من نسيان الأسرى المحررين. وبعضهم ايضاً لم يجد من يهديه زياً عسكرياً او يسمح له باعتلاء منبر، ليبس لنقص في الفصاحة بل لنقص في الشروط التي تسمح له باعتلاء منبر.
على هذا، يمكن لنا ان نتفكر ملياً في معنى ان يخرج القنطار في هذا الوقت بالذات. فلو انه خرج في وقت غير ملائم، وما اكثر الاوقات غير الملائمة لمن كان مثله، لوجد نفسه في خانة المهمشين الذين يجهدون للاختفاء بين الحشود ولا ينجحون، لأن الحشود تعتبرهم دخلاء ومتطفلين.
من سوء حظنا في البلاد التي نحن منها، ان نجبر على المرابطة في جبهتين ساخنتين على الأقل. جبهة داخلية واخرى خارجية. وما ان نغلب هدفاً على آخر، وكلاهما ملح. حتى يتهمنا البعض بالتخاذل والخيانة. فمن يقدم معركة الداخل على الخارج يصبح خائناً للقضية، ومن يقدم معركة الخارج على الداخل يخون البلد الذي هو منه. اما توخي العدل والانصاف بين وجهي القضية والنضال، فامر ما زال مستعصياً على مناضلينا وسياسيينا وقادتنا الذين نفديهم بدمائنا.

الاثنين، 11 أغسطس 2008

... فالانسان الشريد يغدو حراً بمعنى جديد , اذ أن من يفقد صلاته كلها هو الوحيد الذي لا يلزمه أي تحفظ فكري .
جريدة النهار،
الاثنين 11 آب 2008 - السنة 76 - العدد 23439
مع الحرب وضدها
بلال خبيز
الحديث عن استعدادات اسرائيلية لحرب وشيكة على ايران يملأ الأجواء. باراك اوباما لمس تحضيرات من هذا القبيل. شاؤول موفاز يقول ان المعركة مع ايران هي "سباق مع الوقت والوقت يفوز". ثمة في كواليس العارفين في شؤون المنطقة من يقول ان استقالة ايهود اولمرت لم تكن بسبب فضائح الفساد، ولا ايضاً اتت بمفعول رجعي لحرب تموز، بل لأنه يعارض جنرالات الجيش الإسرائيلي الذين يؤيدون المبادرة إلى عملية واسعة ضد ايران. في المقابل لا يبدو السلوك السياسي الإيراني على خط التفاوض مشجعاً لدعاة السلام غرباً وشرقاً في تأجيل هذا الخيار. الحديث عن الحرب يعبق في الجو. جو العالم كله. هذه ليست حرباً محدودة في رقعة جغرافية ضيقة. ليس لأن ايران تملك من الموارد العسكرية واللوجستية ما يمكّنها من جعلها تمتد إلى اقاصي العالم، ولا لأن حليف ايران الرئيس الفنزويلي السيد هوغو شافيز، سيغتنم فرصة الحرب ليقصف شواطئ ميامي. بل لأن الحديث عن هذه الحرب طال واستطال حتى بلغ اسماع العالم كله، فرداً فرداً، ولم يعد ثمة في العالم من لا يملك رأياً في هذه القضية. وحين يبلغ امر ما هذا البلوغ ويشيع مثل هذا الشيوع، يصبح القاتل والمقتول في مثل هذه الحرب، والمتتصر والمهزوم في مرتبة النجوم. انها حرب، إذا اندلعت، ستسيّل حبراً كثيراً وتحرك اقماراً اصطناعية عديدة، وتجتذب كاميرات لا تحصى عدداً. والأرجح ان بعض المؤسسات الإعلامية الكبرى قد بدأت تجهز طواقمها لحصول مثل هذا الحدث ومواكبته منذ شهور، إن لم يكن بعضها بدأ يعدّ العدة لهذه الواقعة منذ أعوام.وحيث ان الحرب هدف اسرائيلي اليوم، فهل يمكننا ان نجهر، نحن الذين نقع تحت سيوف التخوين كل حين، بمعارضتنا لهذه الحرب؟ هل يمكننا ان ندافع عن سلم العالم الهش، ولو كان على حساب ارزاقنا التي تأكلها حمى اسعار النفط وبورصاته؟ ام ان ثمة من يستطيع مرة اخرى تخوين صوت ينادي بتجنب الحرب، لأن ثمة في تصريحات الرئيس محمود احمدي نجاد تأكيدات صريحة بأن قوى الاستكبار العالمي إلى زوال، وبأن شمس اميركا آيلة إلى غروب، او لأنه وعد اللبنانيين وهو يستقبل وزير خارجيتهم بانتصارات كثيرة ومزلزلة؟ وهل ننجو من شبكة العربي الغاضب الدكتور في العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، فلا يتهمنا بأننا نقف ضد الحرب لأننا نحب اسرائيل ونذوب فيها هياماً؟ هذه ليست اسئلة مماحكة او تندّر على وضعنا المزري جداً الذي جعل من مسألة التوصل إلى صيغة تناسب الجميع في البيان الوزاري انتصاراً لا يعدله انتصار. انها اسئلة تلحّ كما تلحّ الدمعة تماماً. هل يحق لأيّ كان في لبنان، المنتصر دوماً وابداً، وباعث نفسه من رماده دوماً وابداً، ان يشكك في الانتصار والبعث، على وجهي البعث وظهريه؟ ليس في وسع المرء ان يعرف. عليه ان يطلق الصرخة وينتظر الحكم. والحكم في هذه البلاد لا يطلقه قضاة ولا يتشاور فيه محلّفون، يكفي ان يسيء الظن بك صحافي متنكر او استاذ ضجر ويملك فائضاً من الوقت، او مناضل مرابط على الحدود، لتصبح واحداً من زمرة اولمرت واخوة ليفني. النتيجة معروفة سلفاً. لا تملك ان تدافع عن نفسك، لأن ثمة من يدينك من فمك او قلمك. والافضل ان تصمت، وان لا تبدي رأياً. او على سبيل التحوط عليك ان تبدي الرأي على النحو الآتي: إذا كانت اسرائيل تريد الحرب وتسعى إليها، فإن الحرب مذمومة ويجب ان نجيّش دعاة السلم في العالم كله لتجنبها. وإذا كانت ايران تسعى إلى الحرب وتريدها فيجب ان ندافع عن حقنا في اشعال حرب نهزم فيها اميركا واسرائيل دفعة واحدة. ويكون في هذه الحال كل داعية إلى المحافظة على السلم الهش خائناً ويستحق العقاب. بين الرأيين والاحتمالين، لا نملك ان نعرف من الداعي إلى الحرب حقاً ومن الذي يستدعيها فعلاً. إذ ليس في مكنة ايٍّ منا ان يقيم في قلب مرشد الثورة الإيرانية، ولا يستطيع وزير خارجيتنا ان يستقصي الرغبة الإيرانية حرباً او سلماً مثلما فعل باراك اوباما في اسرائيل. والحال، نحن مع الحرب وضدها. نحن مع الحرب إذا كانت ايران تريدها وضد الحرب إذا كانت اسرائيل تريدها. اما إذا قامت الحرب او وقعت، فعلينا ايضاً ان ننتظر نتيجتها. إذا ما هزمت اسرائيل في هذه الحرب، يكون الرأي واضحاً لا لبس فيه، وإذا هزمت ايران يجدر بنا ان نتلبس لبوس الضحايا، مقاتلين ومقاومين وجيوشاً ومواطنين وبحّارة في الحرس الثوري الإيراني، فنصبح جميعاً ضحايا بلا حول ولا قوة. اما إذا اسفرت الحرب عن هزيمة ملتبسة ونصر اكثر التباساً للطرفين، فعلينا ان نرفع انصاب المقاتلين المجهولين الذين منعوا العدو من ان ينتصر نصراً مبيناً، في وقت ننكر عليهم بطولاتهم وننسبهم إلى المدنيين الذين سقطوا ضحايا الآلة العسكرية الجهنمية. في الاحوال كافة، يجدر بنا ان نأخذ جانب الحيطة والحذر، فلا النصر مفهوم ولا الهزيمة محددة الأوصاف. هذا كله يتحصل لنا في لحظة التوقع، حيث الحيرة هي الفيصل والميزان. لكن وقوع الحرب لا يحسن صدور الرأي او يرتب مقامات المواقف. في خضم الحرب ايضاً علينا ان نتردد ملياً. هل نستطيع ان نبكي موتانا لحظة موتهم؟ ام ان هذا الضرب من الحزن المبكر يعد تفجعاً خائناً واستسلاماً سابقاً لأوانه؟ هل اتشاح الامهات بالسواد يخدم حلفاءنا في المعركة ام يجدر بالأمهات ان يؤجلن الحزن إلى ما بعد انقشاع الغيوم؟ فإما نودع ضحايانا صامتين، وإما نزغرد في اعراس الشهداء الذين حققوا لنا الانتصار الكبير. وفي الحالين تصبح المشاعر تمثيلاً واداءً ولا تعود متصلة بأصحابها، حيث يجدر بكل ام ان تشبه نظيراتها، ويجدر بكل ابن ان يتبع خطوات اخيه، ولا يبقى من مجال لحزن شخصي يعيد المفقودين احبة واعزاء.


الأربعاء، 6 أغسطس 2008

قميص عماد مغنية

بلال خبيز

نشرت صحيفة الغارديان البريطانية ما يفيد ان اغتيال العميد السوري محمد سليمان يتصل بسياسة تصفية الحسابات بين القوى المؤثرة في سوريا على خلفية اغتيال عماد مغنية، صانع حزب الله، في دمشق في شهر فبراير الماضي. من جهة ثانية حذرت اسرائيل رعاياها في دول غرب افريقيا من عمليات امنية قد ينفذها حزب الله ضدهم انتقاماً لمقتل عماد مغنية. وعلى الأثر بدأت السفارات الإسرائيلية والبعثات الدبلوماسية المقيمة في هذه الدول، إجلاء الرعايا الإسرائيليين منها، والذين يقدر عددهم بالمئات.
اما لماذا تختار اسرائيل وسوريا معاً هذه اللحظة بالذات للحذر من تبعات اغتيال عماد مغنية، فبعض علمه عند استخبارات البلدين. لكن بعض مظاهره تشي بنوع آخر من الاحتمالات السوداء الماكرة.
ليس من قبيل الصدف المزعجة ان تتوالى هذه الحوادث المتفرقة والعميقة الدلالة في اللحظة التي اقفلت فيها ايران ابوابها امام اي حل دبلوماسي عملياً. ليس من قبيل الصدفة ايضاً ان تحذر اسرائيل المجتمع الدولي من خطورة امتلاك حزب الله منظومة دفاع جوي روسية متقدمة، وان تتزامن هذه الصدفة مع اعلان وزير دفاع اسرائيل ايهود باراك نعي القرار 1701 في اللحظة التي يهم رئيس وزرائه بمغادرة منصبه واعتزال العمل السياسي. وهذه الرغبة بالاعتزال ردها بعض المراقبين إلى رغبة ايهود اولمرت في عدم التورط مرة اخرى في حرب جديدة مع حزب الله او ايران او سوريا، الامر الذي لا يمكن احتماله خلال ولاية واحدة. وتالياً افساح المجال امام رئيس حكومة جديد مستعد للمغامرة في حرب جديدة قد تكون كلفتها هذه المرة مرتفعة وباهظة.
حيال هذه النذر السوداء كلها، يستحضر عماد مغنية من جديد، ليشكل حجة مناسبة لمن يريد ان يشعل فتيل الحرب. والأرجح ان الإجراء الإسرائيلي في دول غرب افريقيا يصب في هذه الدلتا المتشعبة من الخيارات. فالإسرائيليون في هذه الدول ليسوا زواراً طارئين، كذلك فإن المواطنين اللبنانيين الموالين لحزب الله فيها ليسوا طارئين. ورغم ان اسرائيل تسوق حججاً لتسويق قرارها، تتعلق بنفوذ اللبنانيين في تلك الدول، إلى حد ان بعض وسائل اعلامها تسمي مجموعة دول غرب افريقيا "دول حزب الله". إلا ان امر اشعال حرب ميدانها العالم كله، على ما وعد امين عام حزب الله اثر اغتيال مغنية في دمشق، ليس امراً لوجستياً فحسب. بل ان حزب الله وقادته يعرفون جيداً مخاطر اشعال مثل هذه الحرب، ويحسبون لها الف حساب.
لذلك يجدر بنا ان نتذكر ان مثل هذه الحوادث لا تقع من دون تخطيط مسبق في السياسة اولاً. وان حزب الله لن يقدم على تنفيذ عملية من هذا القبيل ما لم يكن قد اتخذ قراراً مسبقاً بتحمل تبعاتها والتي قد لا تكون اقل من اشعال حرب قد تصل شظاياها إلى معظم افريقيا وشطر واسع من آسيا.
قد ينفذ حزب الله عملية ما استجابة لمصلحة ايرانية ملحة. لكن الناظر في المقلب الآخر لا بد وان يلاحظ ان من لا يكف عن تسويق فكرة الحرب على ايران والتحذير من مخاطر البرنامج النووي الإيراني هو اسرائيل نفسها. واغلب الظن ان الدولة العبرية اتخذت قراراً بترحيل رعاياها من هذه الدول تحضيراً لقيامها بمهاجمة ايران وحزب الله دفعة واحدة، مستخدمة لتبرير مثل هذه الحرب زلة لسان سياسية، وجاعلة من اعلان امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله الحرب المفتوحة على اسرائيل، حجتها في اشعال حرب هي من دون شك الاعنف في تاريخ المنطقة. واسطع دليل على مدى عنفها ان ميدانها اتسع وتمدد نحو غرب افريقيا من قبل ان تطلق الطلقة الأولى.
امام هذه الاخطار التي تدهم المنطقة برمتها تظهر الدول العربية في موقع من لا يملك في مصيره رأياً ولا قولاً. فالحرب ان حصلت سيتسع ميدانها من العراق العربي إلى معظم الخليج العربي مروراً بفلسطين العربية وسوريا ولبنان العربيين، والله اعلم. وعلى نحو ما تبدي دول حزب الله في غرب افريقيا عجزها عن التحوط لدرء مخاطر هذه الحرب التي لا ناقة لها فيها ولا جمل، تبدو الدول العربية هذه المرة كما لو انها تحولت ساحة لحروب الآخرين.
بالمناسبة: لماذا لم تنشر السلطات السورية نتائج التحقيق في اغتيال مغنية حتى الآن؟ ام ان نشر نتائج التحقيق نفسها قد يكون حجة للحرب التالية؟

الاثنين، 4 أغسطس 2008

لست ابنك يا ابي

انا البواب

بلال خبيز

قد يكون ما جرى بالنسبة للكثيرين بداية. بداية عهد جديد مختلف عما سبقه، قد يسير نحو الأسوأ او الأفضل، لكن فضيلته أنه يسير. ذلك ان ما يفرق البدايات عن النهايات، ليس إلا واقع ان البدايات تجر الجميع خلفها، لأنها اولاً حبلى بالمفاجآت، ولأنها ثانياً تسمح بدوال الدول والأشخاص، ولأنها اخيراً مراهنة على الزمن: على تعب محاربي اليوم، وفتور حماسة الجماهير والأنصار، ونضج قادتهم وشيخوخة بعضهم. مؤتمر الدوحة، كان بداية للبنان. لكن ما جرى بالنسبة لي في تلك الحوادث وما تلاها، كان نهاية قاطعة.
لم يكن الأمر ان موقعاً الكترونياً يحرره بضعة اشخاص غفلين اتهمني بالعمالة. هذا كان جزءاً من الأحجية. ولم يكن امر ابلاغي بأن ثمة من قرر تصفيتي هو العمدة في تقرير ما آلت إليه الأمور. فهذا ايضاً ضلع آخر من اضلاع المعادلة. لقد نشر موقع "فيلكا" تلك القصة الخرافية، لكن جمهور المؤمنين بأنهم اشرف الناس، ولا حجة عليهم ولا ذنب ولا هم يحزنون، تعامل مع التهمة كما لو انها الجزء الطافي من جبل الجليد، الذي بدأت اجزاء اخرى تطفو منه، في موقع "فيلكا" نفسه، بسبب حرارة التهمة، ربما. جمهور قرر ان موقعاً غفلاً احق بأن يصدق من عذابات رجل واحد على مدى ربع قرن. جمهور، بات في وسعه ان يكذبني في ما اعرفه ولا اعرفه. فأنا لم اعتقل في اسرائيل حتى لو ابرزت للدنيا كلها الوثائق التي تثبت هذا الامر. وانا لم اقاتل اسرائيل، لأن حزب الله لم يمنحني شهادة تثبت انني قاتلتها، ولأن مدرسة قتال اسرائيل بدأت مع حزب الله وستنتهي معه. انه اعتداء على تاريخ البلد، ما زال يمارس على مرأى ومسمع كل الناس، لكنه ايضاً بالنسبة لي اعتداء شخصي بالغ الخطورة. بت أفكر، إذا كان ما فعلناه من امر مقاومة اسرائيل تضحية من اجل هذا البلد، فأين تدفن هذه التضحيات؟ ومن الذي يدفن معها؟
ايضاً هذا جزء من الرواية. الرواية الأخرى تقول، انني صحافي في جريدة "النهار". اكبر الجرائد اللبنانية واوسعها انتشاراً واكثرها عراقة في الديموقراطية. جريدة "النهار" نفسها التي قارعت الوجود السوري ردحاً، والتي حصّلت بعض صيتها الحسن وسمعتها الطيبة في البلد، من مقارعة هذا الوجود. في هذه الجريدة، يوم كنت اكتب معترضاً على الهيمنة السورية في البلد على مدى سنوات التسعينات، كان الخلص من الأصدقاء يحذرونني يومياً. في تلك الأيام كان الخوف عميماً ايضاً، وكان سيف القمع والاغتيالات مسلطاً من دون رقيب او حسيب. لكنني كتبت في ما كنت اراه حقاً، وساجلت مدافعاً عن قناعاتي. في تلك الأيام الحالكة، كان ثمة قلائل، اقل من اصابع اليد الواحدة، ليس في النهار فحسب، بل في لبنان بجناحيه المهاجر والمقيم، يكتبون في الاعتراض على الهيمنة السورية، وكنت واحداً منهم. يومذاك كان مثل هذا الرأي يلائم هوى في نفوس بعض من في يدهم السلطة في "النهار"، فلم امنع من الكتابة. لكنني وبسبب مقالة واحدة، تعرضت لشتى انواع الضغوط. هكذا وجدت نفسي، ملاحقاً من جماعة نمي إلي انها تريد قتلي، وممنوعاً من الدفاع عن نفسي في "النهار" الحرة، وملاحقاً بشائعات تتنتشر في البلد طولاً وعرضاً، وليس ثمة من يبدي استعداداً ليتصل متضامناً. بل ان بعض كتّاب النهار اسر لبعضهم الآخر: ما فعله بلال جريمة: لقد وجد اسماعيل كبشه! مع ذلك، كان يمكنني ان اعتبر ان لكل مشوار نهاية وان مشوراي مع النهار وصل إلى نهايته.
لكنني ايضاً كنت موجوداً هنا. اناضل، لا نوم ولا طعام، ليس لخوف او لقلة شهية. بل لأنني كنت اسابق الوقت علني اجد من يمد يداً متضامنة. لم اكن اريد حماية من اغتيال، ولا رداً للشائعات. كنت فقط اريد منبراً يسمح لي بالدفاع عن نفسي، ورزقاً شحيحاً، كمثل الذي كان يتقطر من "النهار" الحرة، وهو اقل القليل، لأستطيع البقاء والصمود. في الأثناء، بعت كل ما املك. بت عارياً تماماً، من دون بيت، ولا سيارة، ومهدداً بتوقف المورد الشحيح الذي تبقى لي. كانت فوضى عارمة، وكنت استطيع ان اعذر من لم تسعفه يداه. وقلت ان الوقت كفيل بحل كل المشكلات، فقط علي ان اغيب عن الصورة بضعة اسابيع، وبعدها تعود المياه إلى مجاريها، وينحسر السيل.
لكنها لم تعد. بل انني بت متهماً من الجهة الأخرى التي كان يفترض بها ان تدافع عني: هذا موقع سخيف، وكتب ما كتب، واتهم الناس بالجملة. لكن بلال خبيز خاف وآثر ان يهرب. والحق انني هربت فعلاً. انما لم اهرب من "فيلكا" اسرائيل ومولانا "العربي الغاضب". هربت لأنني بت ابكماً. ولأنني ممنوع من الكتابة، ولأنني هاتفت كثيرين عارضاً خدماتي في ان اكتب لهم، لكن معظمهم لم يرد على اتصالاتي. ولأن مؤسسات الدفاع عن الصحافيين التي تحصل على تمويلاتها للدفاع عن الصحافيين، كانت في ذلك الوقت مشغولة بعروض الأفلام وتوزيع الجوائز، على صحافيين طبعاً. وهربت ايضاً، لأنني بعد عقود من العمل اميناً لتحرير اشهر مطبوعة ثقافية في البلد، اضطررت لأن اقبل نقوداً من ابي الذي جاوز السبعين. ابي الذي يعمل سائقاً والذي يعتني بأمي المريضة وحده، والذي لم استطع ان امد له يد العون طوال زمن جاوز العقد، منذ ان اصبحت رواتبنا هي الثابت الوحيد في سياسة الصحف اللبنانية، ابي هذا، هو الذي هربت منه. هربت لأنني لم اعد اجرؤ ان انظر في عينيه. كيف في وسعي ان اكون ابنه، هو دائماً كان ابي، لكنني اثبتت انني لم اكن ابنه.
وهربت ايضاً، لأن قادة 14 آذار كانوا مشغولين، عما انا فيه من ضيق وحسرة، بانتصار الدوحة السياسي. وفي غمرة الانشغال نسوا جميعاً تحية البواب. كنت بواباً افتح الأبواب المغلقة، وما ان تفتح ويبين ما خلفها حتى يتسابق الجميع إلى دخولها. وابقى في الخارج. هكذا احتفل اللبنانيون بخروج الجيش السوري من دوني. واحتفلوا بخروج الجيش الإسرائيلي من دوني، واحتفلوا اخيراً بالنصر في الدوحة من دوني. يومها كنت حائراً، شأني امام كل احتفال من تلك الاحتفالات: من الذي انتصر على البلد؟ والآن بت اعرف انهم جميعاً انتصروا عليه.

كل الحقوق لكل الناس

من يضمن الحقوق؟
بلال خبيز

يثير بيان ال39 في مصر قضايا بالغة الاهمية في مصر وفي البلاد العربية عموماً. وإذ يشير بعض المراقبين إلى كون البيان يبدو في جملة من مفاصله الأساسية استعادة لما كانت حركة "كفاية" المصرية تنادي به في سنوات التسعينات وما تلاها، فإن اعتماد بعض اعلام الثقافة في مصر على العودة إلى ما كانت تنادي به هذه الحركة يفتح الباب على احتمال من اثنين على الأقل.
الاحتمال الأول يفترض ان الحركة التي نجح النظام المصري في اخماد جذوتها، كانت سابقة لأوانها في ما يخص علاقتها وقدرتها على التأثير في الرأي العام. وانها بهذا المعنى تبدو شهيدة المستقبل المصري. اي ان البيان الذي يأخذ منها، انما يأخذ ما يأخذه بوصفها باتت جزءاً من التاريخ الذي لا يستعاد إلا تذكراً وتدويناً، وان العودة إلى ما كانت تنادي به تعني في المقام الأول ان الظروف باتت مهيأة لتطويع شيطان الرأي العام، بخلاف ما كانت عليه من قبل.
الاحتمال الثاني يفيد ان المثقفين ال39 انما ينادون بما كانت تنادي به الحركة كما لو انهم يقدمون انتساباً متأخراً إليها. وبكلام اكثر سذاجة ووقاحة، يمكن القول ان المثقفين ال39 انما يعلنون بيان اليأس من اي تغيير، فما دامت الشعارات هي نفسها ولم يتحقق منها شيء منذ ذلك الزمن وحتى اليوم، وما دام تقدماً لم يحصل على هذا المستوى، فإن البيان لا يعدو ان يكون مجرد صرخة يائس يقول ان لا جدوى من المحاولة وان ثمة ما لا يمكن تغييره لأسباب تتعدى قدرة الموقعين على البيان، مثلما تعدت قدرة الحركة من قبل.
الاحتمالان يملكان في الوقائع المصرية ما يسندهما من حجج وبيانات. ثمة حراك مصري لا يمكن للمرء إلا ان يلحظ حماوته حتى لو كان سائحاً. وهو ليس حراكاً تجميلياً على نحو ما يذهب بعض دعاة الإسلام المنفتح المصري اليوم، نحو ترتيب الأمور بين الله والناس بالتي هي احسن. بل يبدو الحراك كما لو انه نقاش في الأصول وعودة إلى تحديد البدائه الأولى. وهذا لعمري يجعل مثل هذا البيان فاتحة لبيانات اخرى قد تكون اتم بياناً واحد لهجة، في الوقت الذي يبدو فيه استكمالاً لتراث ضئيل، لكنه بالغ الغنى في تاريخ الحراك السياسي في مصر اليوم.
لكن هذه الوقائع لا تنفي واقعاً، يستشعره المصريون عموماً ونخبهم خصوصاً، يفيد بأن ثمة قناعة عامة باستحالة الثورات المنتجة. وهذا امر يكاد يكون مشتركاً بين النخب العربية كافة. فهذه البلاد لا ينقص تاريخها الثورات، بل ان بعضها يفيض عن قدرة تاريخها على الاحتمال. ومعنى ان تستشعر النخب وتعقل ان الثورات لا تنجب، يتصل اتصالاً مباشراً بقدرة المجتمعات على فصل المسار الثوري عن النتيجة التي تؤول إليها المجتمعات بعد الثورة. حيث يبدو احياء المسارات الثورية ملحاً في الوقت الذي لا يستطيع المجتمع معه احتمال وصول المسار إلى خاتمة منتصرة. وهذا في حد ذاته تحد هائل لا يمكن مجابهته بالنوايا الحسنة فقط، ولا بالتذمرات السياسية وحدها.
والحال، فإن ما يمنع المسار الثوري عن استكمال مسيرته نحو الخاتمة المنتصرة ليس قوة النظام، اي نظام، بل رغبة الثوريين في جعل النظام اقوى مما هو عليه. ذلك ان تعزيز الحريات في السياسة والتفكير والمعتقد، ورفض التمييز الديني والجنسي واللغوي والعرقي، يجعل النظام اقوى مما كان عليه واصلب عوداً، واوسع مبادرة. ففي الوقت نفسه يرى الموقعون على البيان ان النظام الحالي بات متجمداً عند حدود ضيقة لا تسمح بالمناورة الخارجية والداخلية، ويناقشون في السبل التي يمكن ان تؤدي إلى تفعيل آلته كنظام عصري وحديث.
تلك معضلة واجهها المعارضون السوريون من قبل، وادت إلى ما ادت إليه من خيبات. وتلك ايضاً معضلة واجهها اللبنانيون وما زالوا يواجهونها، وادت في ما ادت إليه إلى وصول البلد امام حائط خيارات متناقضة لا ينقذه من شرها إلا حيل اللغة في تأمين تعديلات لغوية مناسبة على نص البيان الوزاري. ذلك ان ما نفتقده جميعاً ليس الافكار، وليس المرتجى، بل من يستطيع ان يحفظ الحقوق المكتسبة بقوة القانون. وهذا لعمري يبدو في حالتنا العربية صعب المنال.

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .