الاثنين، 1 سبتمبر 2008

عن ملحق نوافذ - جريدة المستقبل


ماذا نضع بين فاصلتين.. الحياة أم السينما؟

حسن داوود
ربما يرجع ذلك الى الطريقة التي تعمل بها الذاكرة. بعد شهرين فقط من مشاهدة فيلم يصعب على أي منا أن يسلسله وأن يرتب مشاهده في سياقها. هناك أشياء كثيرة تسقط في النسيان ولا يبقى من فيلم "متحضرات"، مثلاً، إلا تمشّي ذلك المخبول، جيئة وذهاباً، على رصيف البناية المطلة على كورنيش الرملة البيضاء، لاعناً الحرب. وقد أغفلت الذاكرة مصيره في الفيلم، تماماً مثلما فعلت بجليلة بكار التي لم يبق من دورها، هي أيضاً، إلا صورتها راكبة سيارة مكشوفة ورطانتها بفرنسية البورجوازيات. أيضاً هناك المرأتان، المقيمتان في البناية نفسها، لاجئتين أو "محتلتين" بلغة ذلك الزمن، واللتين لا تتوقفان عن التحاور بالكلام الداعر الذي، كما أذكر، اقتطعت منه الرقابة اللبنانية عبارات كثيرة. المرأتان هما الأكثر بقاء في ذاكرة من شاهد الفيلم، إذ كان كل شيء فيهما مريباً: المنزل الذي يقيمان فيه، المكان الذي جاءتا منه (رغم تكلمهما باللهجة المصرية)، العلاقة التي تجمعهما، علاقتهما بكل ما يجاورهما أو يقترب منهما. ولا أعرف إن كانت المخرجة رندة الشهال قد أطالت ظهورهما على الشاشة لشعورها بأن تلك الريبة المحيطة بوجودهما يمكن لها أن تكون محور الفيلم أو مركز ثقله، فراحت تضيف على وجودهما ذاك فصل الاهتمام بالخادمة السريلانكية المريضة والمشرفة على الموت. أو ربما كان حضور جليلة بكار ودورها في الفيلم هو مركز ثقله، بحسب المخرجة أيضاً، أو ربما كان أشياء أخرى من بينها تلك التظاهرة التي كان يقوم بها ذلك المخبول، وحدَه من دون متظاهرين آخرين حوله أو وراءه (قد أدى هذا الدور، في ما أحسب، بول مطر).ذلك الجمع للشخصيات الغريبة الكثيرة يصل بها بالضرورة الى أن تتضاد وأن تتوزع الفيلم ليأخذ كل منها حصته من أحداثه ومشاهده. كان ذلك الزمن، وهو ليس بعيداً عنا الآن، زمن ولع سينمائيينا بكل ما هو نافر وإشكالي وغريب، حتى وإن اقتصر ذلك على ما يغلب ظاهره معناه. لم أجد، في أحد أفلام مارون بغدادي عن الحرب، ما كان يدعو الى ذلك المشهد الذروة، الذي صُرع فيه الحصان فهوى، وهو في أوج جموحه، على الأرض، فيما الكاميرا تجهد كي تأخذ المشهد كله. كان ذلك ذروة الفيلم، بحسب ما كان يرى مخرجه على الأرجح، مع أنه في وسطه ولن يُبنى عليه شيء ومما سيتبعه من مشاهد. كان ذلك زمن البحث عن جرعات قوة، أو علامات إضافية، أو "أفكار" كان على السينمائي أن يجترعها لتزاد على عمله.وقد أتاحت ذلك السينما الناشطة في كنف الحرب. كل شيء يُخترع، أو يجري تخيّله، سيبدو كما لو أنه ملتقط من مجريات هذه الحرب ومن واقعاتها. ومن بين ما تتيحه الحرب تلك السهولة في عمل المخيلات، حيث يُظن أن الفرق منعدم بين الفكرة العبقرية والفكرة المولّفة (بحسب لغة السينما). من بين الأفلام التي شاهدناها في تلك السنوات، بقيت في الذاكرة مشاهد متفرقة، قليلة غالباً، وهي مقيمة في ذلك الدرج البصري من الذاكرة، البصري فحسب، مثل ظهور ألوان باهرة أمام أعيننا لكنها لا تلبث أن تزول لتترك السماء كما كانت قبلها.أو أن الحرب، حتى وإن استطالت واستمرت، تظل توهم أنها موشكة على الانتهاء. لذلك كان ينبغي الاسراع في حمل الكاميرات وأجهزة التصوير وتسجيل الصوت إليها. ثم ان هناك السبق الذي ينبغي أن يؤخذ في الحسبان أولاً. السبق الذي حققه مارون بغدادي في إخراج فيلم عن أحد الرهائن وذلك في ذروة مسألتهم أو مأساتهم أو اتجاه أنظار العالم نحوهم. سبق رنده الشهال كان في الذهاب الى تلك القرية التي انقسم أهلها نصفين، نصف هنا، في الجولان السورية، ونصف في الجولان المحتل من اسرائيل، كما أن ذلك السبق ذاته احتوى أيضاً مغامرة الاقتراب من كل من العدوّين حيث يلتقيان في العلاقة التي تنفي كلياً افتراقهما.تتراءى لي رنده الشهال في فترة من حياتها، القصيرة، كما لو أنها لا تترك الكاميرا من يدها، بل ربما كانت تبقيها في حالة ٌّق لَفَُّّ لتديرها الى الناحية التي ترى عينها أن هناك ما تحب تصويره، سواء كان ذلك في بُعد الجولان ونأيه أو كان بين الأهل الذين صورت فيلماً عنهم. في باريس، كما في بيروت، لم نكن نتكلم عن السينما حين نلتقي، ربما لأن الشكل الذي اتخذته صلة الصداقة بيننا سبق له أن تشكل منذ أن كنا في تلك المرحلة من العمر، حيث فترة ما بعد الدراسة وما قبل بدء واحدنا صناعة نفسه كما يحب. لكن، في تلك اللقاءات المتباعدة، والتي كانت تزداد تباعداً مع انقضاء السنوات، كان ظلها السينمائي يتبعها، أو يجري على حركتها سرعة هي من مستتبعات ساعات العمل أو ساعات التفكير فيه على الأقل. وأنا إذ كنت أسمع كيف تدير الفريق العامل معها في مواقع التصوير، لم أتمكن من مطابقة رنده هذه ورنده تلك. كأننا نريد أن يظل الناس كما عرفناهم، من قبل ما يأخذهم شغلهم إليه. ثم إنها كانت منهمكة به، الى حد أننا قد نقول الآن، بعد وفاتها، انها كانت تعلم ربما أن الوقت المعطى لها قصير، هكذا مثلما تصير تأتينا الأفكار التي تشبه كلام التعزية الذي يقال مستعاراً من لغة شائعة لناس آخرين.الموت يعيد تلك الخفة التي تظهر فيها رنده كفراشة تتهيأ للابتعاد عن حلقة كانت فيها الى حلقة ناس آخرين واقفين على مقربة. مثل فراشة كانت في الزمن المتقطع الذي أعقب معرفتنا الأولى، وذلك حتى وقت حملها لمرضها واختفائها من بعده. ومثلما استعرنا فكرة الآخرين ولغتهم المعزية، رحنا نقول إن العالم يضيق ويصغر حيث لم يعد أولئك الذين عرفناهم وعشنا بينهم موجودين كلهم في متناولنا. كلما تذكرت سهرة أو حفلة أو لقاء أجد أنه لم يعد بإمكاننا جمع من كانوا مجتمعين فيه. ذاك مؤلم ومحيّر وهو يدفع بنا الى نوع آخر من الخفة، خفة الزوال لا خفة الرشاقة وكثرة الحركة.

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .