الاثنين، 1 سبتمبر 2008

عن ملحق النهار البيروتية

السأم اللبناني
الياس خوري

تذكرتُ صلاح لبكي، لا لأن الشعر يستدعي الشعر، وانا بعد موت محمود درويش اعيش برفقة شعره، بل لأني خائف من النثر السيئ، الذي يهيمن على حياتنا اللبنانية. طاف هذا النثر من حولنا حين أُدخل لبنان في سراب "اتفاق الدوحة". كان لا بد من سراب كي يتوقف القتل، وتنام الحرب الأهلية. قلنا مثلما قال الجميع ان سراب السلام افضل من وحش الحرب، وان ما تبقّى لنا من حلم انتفاضة الاستقلال هو الوهم. رضينا بالوهم، لكن الوهم لم يرض بنا، كما يقول المثل الشعبي اللبناني. المثل الشعبي اكثر فصاحة لأنه لا يتحدث عن الوهم بل يستخدم كلمة بذيئة، لكني افضل استخدام كلمات مهذبة، لا تعفّفاً، وإنما لأن قاموس الشتائم اللبناني الشهير لم يعد يكفي غيظي واحتقاري لهذا الزمن.تذكرتُ صلاح لبكي، احد افراد رعيل الحالمين، الذين صنعوا من لبنان وطنا رومنطيقيا، زمن الفورة الشعرية الحديثة في الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي، التي ادخلت الرومنطيقية والرمزية الى الشعر العربي الكلاسيكي. صارت اللغة شفيفة ومعبّرة مع تلك الكوكبة الرائعة من الشعراء: الياس ابو شبكة وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وامين نخلة وصلاح لبكي وصولا الى سعيد عقل. صلاح لبكي روى حكاية زمنه في كتابه الجميل "لبنان الشاعر"، جاعلا من الوطن الصغير الذي كان يبحث عن معناه شاعرا يستقبل الشعراء ويستدعي جميل الكلام. كان لبنان الشاعر يبحث عن امارة الشعر التي خلت بعد وفاة شوقي. امين نخلة نسب الى شوقي بك ابياتا تعلنه وارثا، والأخطل الصغير اعلن نفسه اميرا، اما سعيد عقل فقد نأى بنفسه عن المنافسة، لا لأن شعره اسّس الجديد القائم على الرمز والكلمة المنحوتة بالموسيقى فقط، وإنما لأن عظاميته سوف تأخذه الى اماكن اخرى. لم يكن يوسف الخال مصيبا في محاضرته الشهيرة في "الندوة اللبنانية"، التي اعلن فيها ولادة المدرسة الشعرية الحديثة في لبنان والمشرق العربي، حين اعتبر ان شعر سعيد عقل يقلّد الشعر العربي القديم، لكن هذه مسألة تتعلق بارتباك البدايات ونزقها، واصرارها على نفي حقيقة انها ولدت كاستكمال لشعر سعيد عقل ونفي له. عدتُ الى صلاح لبكي كي اغسل الكلام بالكلام. لغتنا اليومية صارت في حاجة الى غسل، ولا شيء يغسل اللغة سوى الشعر. هذه هي مهمة الشعر، بعدما تخلّى عن كل مهماته الأخرى للفلسفة والمسرح والرواية. بقيت له الكلمات ينظّفها، كي يصوّب المعاني ويفارقها في آن واحد.في احد تجلياته الشعرية، موسق صلاح لبكي السأم، واعطاه معناه الوجودي:
"وحدي انا يا رب وحدي
نشوان من سأمٍ وزهدِ
وحدي ولو ان الربيع
مصفّق والنور يهدي
انا والشتاء اسومه
ويسومني برداً ببردِ
انا لست من هذا التراب
ولست من حسد وحقدٍ"
لجأ لبكي الى مجزوء الكامل، الذي بنى الصورة الشعرية بالموسيقى، معلنا نشوته بالسأم، فاتحا قلبه لعصف رومنطيقي كان سمة تلك الأيام.نستطيع ان نقول اليوم ان النصاب الأدبي في ذلك الزمن كان اسير وهم بنهضة شاملة آتية، وان الصوت الأدبي كان يبحث عن اندراج ما في الثقافة العالمية، اي الغربية. من هنا جاءت رومنطيقيته ورمزيته لتغطي مرحلة ما بين الحربين الأهليتين بحلم يقظة صنعه الشعر، وهو يحاول أن يستعيد اللغة من غياهب الكتب العتيقة. لكن هذا لا ينفي واقع ان لغة التأسيس هذه، فتحت الأفق الشعري والادبي، وسمحت لمرحلة الحداثة ببلورة مقتربها التراجيدي، الذي سيعلن ولادة ديوان العرب الجديد في الشعر والرواية.عدت الى سأم صلاح لبكي كي اعالج سأمي. ليس صحيحا ان سأمنا من اللغة السائدة، ومن "سعدنة" السياسة اللبنانية مجرد ظاهرة عابرة، وان الوقت كفيل تبديدها. لا وقت في الوقت كي نبتلع "الحقيقة اللبنانية"، التي اطلّت برأسها من جديد. لن يستطيع قادة الطوائف والملل ان "يشلبنوا" الخزي والعار اللذين اوصلوا وطنهم اليهما. واقع مروّع، وخوف مخيف. لا علاقة لهذا الخوف بخوفنا السابق. ايام الحرب الأهلية، ومقاومة الاحتلال الاسرائيلي والوصاية السورية، كنا نغطي الخوف بالأمل، ونستمد الشجاعة من المواجهة. اما هذا الخوف، فمقيت وسفيه، لأنه صغّر القضايا الكبرى، وادخلنا في متاهات الطوائف. بدل ان تؤسس انتفاضة الاستقلال وطناً، وتشكل هوية عابرة للطوائف والمذاهب، غرقت في وحول الطائفيات القديمة والجديدة، وعادت قوى الهيمنة الى احتلال المواقع، لأن الدرس البليغ والمؤلم والدموي الذي تعلّمناه، هو ان الطوائف لا تستطيع ان تكون قوى سياسية وعسكرية ومالية الا اذا ارتهنت للخارج.فسدت اللغة، فحين يفشل دم الشهداء في غسل الوطن من مرضه الطائفي، يصير الكلام السياسي مجرد خدع وفخاخ.الخوف ليس على الوطن الذي عاد "ساحة" وملعبا، بل الخوف على الشعب الذي يتفكك. يستطيع الشعب اذا شاء ان يصنع وطنا، لكن اذا تفكك الشعب وفقدت اللغة معناها، يصير الوطن سرابا ووهما.علينا ان ندافع عن لغتنا على الأقل. وهذا يبدأ بطرد لغة الطائفيين بنبرتها الآتية من ماض، هو اسوأ ما في الماضي. يجب ان تعود الى لغتنا معانيها، وهذا لا يتم الا بالتمايز الجذري عن هذه اللغة التافهة والدعية والتي تفتخر بالجهل والجهالة.انتهت لعبة المصالحة بين اللغة العقلانية والسياسة في لبنان. احتلال الطوائف والمذاهب للمساحة السياسية واللغوية، يعني موت الأمل. مهمة الثقافة اللبنانية اليوم الدفاع عن احتمالات الأمل، عبر استعادة اللغة وغسلها من الطوائف والدعوات الدينية.لن نسأم حين نسأم بالأدب الجميل، والثقافة الطليعية. بل نستعيد شيئا من بهاء الشعر والادب، ونسأم مع صلاح لبكي، ساخرين من الذين يعتقدون انهم يستطيعون الاستيلاء على الثقافة، عبر دفنها من خلال "تكريم" موتانا تحت اعلام الطوائف!

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .