الخميس، 18 سبتمبر 2008

بلال خبيز، صمت الذئاب

صمت الذئاب

بلال خبيز

لا يصيح الديك في بلادنا إلا على جثث الصحافيين. الديك يتعرف الصباح من رائحة الدم المسفوك على الطرقات. في الموصل او بغداد، او في بيروت. الصحافيون الذين قيض لهم النجاة، حتى الآن، من الطلقات والعبوات الناسفة، يرسلون إلى المنفى. وحدهم المنفيون يستطيعون العيش في هذه البلاد. فالمنفيون ليسوا من يغادرون بلادهم فقط، بل ايضاً من لا يزالون يتعلقون بقيم ومبادئ ويتبعون المنطق والحس السليمين في ما يخص قضايا بلادهم.
المطالبون بالديموقراطية منفيون. والمطالبون بالحريات وسيادة القانون منفيون. والمطالبون بتعديل السياسات الاقتصادية وحماية المواطنين من وحوش الغلاء منفيون. كل هؤلاء منفيون، لأن المنفى تعريفاً هو ان يكتب المرء ويتكلم لغة غير لغته، ويهتم بقضايا لا تثير من هم حوله. من من الصحافيين اليوم يستطيع ان يعد على اصابع يديه العشرة اسماء اشخاص معنويين يتصلون بالديموقراطية او بحرية الرأي من اي باب؟ من من الصحافيين، غير المقتولين حتى الآن، يستطيع ان يعتمد على من يحميه إذا ما رأى رأياً مخالفاً لأصحاب السلطات، الغاشمة منها والغشيمة على حد سواء؟
في بلادنا تسفح دماء الصحافيين قبل صياح الديك وبعده. في بلادنا نتعرف على ضوء النهار بتعداد الجروح، واستشعار الكوارث. في بلادنا، ليس ثمة اسرار تهتك غير حيوات الصحافيين. وفي بلادنا، ينبغي علينا ان نعيش من دون حماية من اي نوع.
الصحافيون، بالخبز القليل الذي يتسنى لهم العودة به إلى بيوتهم، يبادلون دماءهم. الصحافيون، ثمة حسد مستشرٍ ينتشر امامهم ووراءهم، فلا يمرون من دون اثارة زوابع من الدم.
الصحافيون، الذين يستهلكون عيونهم وقلوبهم لأجل ان تنار العيون وتمتلئ القلوب، غالباً ما يكونون فريسة سهلة لمن يريد الاصطياد في المياه العكرة او الصافية. وغالباً ما تتحول اجسادهم إلى صناديق بريد دامية.
الم يعلق الكثيرون على مذبحة مراسلي قناة "الشرقية" في الموصل بالقول ان الرسالة وصلت؟ وحدها الرسائل الدامية ما يصل. ووحدنا بين شعوب الأرض كلها ما زلنا نتخاطب بالدم ونتراشق بالنار. كما لو اننا شعوب بلا لغات. كما لو ان العقاب الوحيد الذي يمكن انزاله بأي منا هو الموت. لا ظروف مخففة، ولا احكام متنوعة. نقف على حد الموت، كما لو اننا نكفّر بدمنا عن ذنوب الأرض كلها.
الصحافيون موتى او منفيون. هكذا يجدر بهذه البلاد ان تسمح لأجزائها بالتواصل. هكذا يفترض بنا ان نصدق ان القتل قد يكون عقوبة مناسبة لمن اخطأ. ذلك اننا لكثرة ما يستسهل بعضنا القتل ويحترفه، نجد انفسنا مسوقين لتبرير موتنا الخاص. في هذه البلاد ثمة سبل كثيرة لتبرير القتل: القتل التباساً؟ لقد التبس الامر على المقاتل في حزب الله فأطلق النار على الطوافة العسكرية ذات اللون الصحراوي، وقضى النقيب الطيار سامر حنا شهيداً. القتل تذكيراً: لقد انزعج القاتل من الدعوة اللبنانية إلى الحوار، فأراد تذكيرنا انه ما يزال طليق اليدين: قتل الشيخ صالح العريضي. القتل انتقاماً: فريق قناة الشرقية كان يصور برنامجاً عن شهر رمضان في الموصل. لم يكن يقترف جريمة التدخل في السياسة اصلاً. مع ذلك تم قتلهم جميعاً، لأن ثمة من تزعجهم برامج تلك القناة. والقتل وسيلة للمطالبة بالحقوق المهدورة: ما الذي كان يمنع اهل باب التبانة في طرابلس من عقد الصلح مع اهل جبل محسن قبل اسابيع؟
هل يكفي تعداد ضروب القتل وانواعه التي شهدناها في الاسبوع الاخير لنعترف اننا لا نجيد سوى القتل. وان كل ما يقال عدا ذلك لغو فارغ وكلام لا معنى له.
على هذا، وما دمنا نحترف القتل والتنكيل في ما بيننا، ونكاد لا نجيد غير لغة الرصاص والخناجر، لماذا نحمل على اعدائنا حين يعملون فينا تقتيلاً وتنكيلاً؟ اليس ثمة ضحايا سقطوا في اكثر من بلد عربي، بأيدٍ عربية يفوق اضعافاً مضاعفة اعداد الضحايا الذين قتلتهم اسرائيل او شردتهم؟
هل نعد على الاصابع: الكويت، لبنان، سوريا، العراق، اليمن، الجزائر، فلسطين...
الصحافيون يكتبون، ويقرأون، ويناقشون. الصحافيون قوم عزل، وفي بلاد لا تعرف غير طعم الدم، تبدو هذه المهنة كما لو انها مهنة الحملان. لكنهم يعرفون ان دماءهم ستقدم في الاضاحي، وما اكثرها في بلادنا. ومع ذلك ثمة من لا يزال يريد ان يكون حملاً. لكن اكثر ما يقلق في هذه المجزرة المتنقلة هو بالتعريف: صمت الذئاب.
عن جريدة الجريدة الكويتية

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .