الخميس، 30 أكتوبر 2008

ايمانويل فالرشتاين:زمن الولايات المتحدة قد انتهى وليس هناك من خليفة لها


أدافع عن كونيّة حقيقيّة، لا عن لعبة بلاغة كلاميّة للسلطة




أجرى الحديث " لوران تستو" ترجمة : محمد صدّام



من هوإيمانويل فالرشتاين IMMANUEL WALLERSTEIN؟


هو عالم اجتماع ومؤرخ أمريكي وباحث متقاعد بجامعة "يال". أسس مركز "فرنان برودال" Centre Fernand Braudel لدراسة الاقتصاديات والأنظمة التاريخية والحضارات بجامعة "بانغامتون" بنيورك وأداره لمدة تسعة وعشرين عاما. وهو أيضا باحث منتم إلى "دار علوم الإنسان" (باريس) وقد ترأس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع. له عديد المؤلفات ترجمت إلى مختلف اللغات ونذكر من كتبه الأخيرة : ( الكونية الأوروبية، من الاستعمار إلى حق التدخل - 2006 ) و(لنفهم العالم، مقدّمة لتحليل أنظمة العالم - 2004).
بالاعتماد على نظريته حول أنظمة العالم (systèmes-monde ) يعتبر عالم الاجتماع والمؤرخ " إيمانويل فالرشتاين " أن الأفكار الغربية في ما يتعلق بالاقتصاد أو الايدولوجيا قد فات زمانها. وفي ما يلي نص الحوار الذي أجرته معه مجلة " الملفات الكبرى للعلوم الإنسانية " والصادر بالعدد 12 (سبتمبر – أكتوبر – نوفمبر 2008).


يتطرق مؤلفكم الأخير إلى مفهوم "الكونية الأوروبية" فما تعنون بهذا اللفظ و ماذا كانت مختلف استعمالاته؟


يعتبر أغلب الناس أنفسهم اليوم كونيين. لكن ما ننعته اليوم خطأ ً بالكونيّ ليس سوى وجهة نظر من شأنها تبرير الهيمنة التي فرضها الغرب أو بالأحرى العالم الأوروبيّ الموحّد، منذ أربعة أو خمسة قرون على (نظام العالم)*. مثل هذه الكونية تعكس نظرة خاصة للعالم ومصالح خصوصية، ولذلك أنعتها بـ"الكونية الأوروبية". وفي ما يخصّني فإني أدافع على أن تكون حقيقة "كونية"، لا مجرّد بلاغة كلامية للسلطة.أما استعمالات لفظة "كوني" (universaliste) فقد كانت متعددة. ونذكر على سبيل المثال استعمالها في الصراع ضدّ البربرية. لقد انبثقت هذه الكلمة، عبر الخطب، منذ أوائل القرن السادس عشر مع الأسبان الذين كانوا حريصين على تبرير الغزو العسكري والاستغلال الاقتصادي للمجال الأمريكي. ويتواصل هذا الاستعمال إلى اليوم مع فكرة " حق التدخل في شؤون الدول"، فيتمّ دائما اللجوء إلى نفس تلك الحجج المعروفة التي وقع تحليلها إبان المجادلة الكبرى (la grande disputation) التي قابلت "برتوليمي دي لاسكزاس"( Las Casas de Bartolomé) بـ"خوانجيناس دي سبورفيدا" (Juan Ginés de Sepúlveda) في القرن السادس عشر. كان "سبورفيدا" يبرر ما كان يفعله الإسبان بتقديمه لتوسعهم على أنه مفيد للإنسانية على قاعدة أربعة براهين أساسية : 1) أنّ الهنود الأمريكان كانوا "برابرة، بسطاء، أميين، بلا تربية ومتعجرفين (...) من فصيلة يحسن أن تكون محكومة من الغير". 2) من الواجب عليهم إذن أن "يقبلوا بالنير الإسباني" ليكفّروا عن الجرائم التي اقترفوها ضدّ القانون الإلهيّ، مثلا عندما مارسوا التضحية بالأرواح البشرية 3) هذا القانون الإلهيّ نفسه هو الذي يجبر الأسبان على منع "أفعال الشر" التي اقترفها أو قد يقترفها أولئك الهنود الأمريكان. 4) وأخيرا تيسّر الهيمنة الإسبانية مهمة التبشير التي يقوم بها القساوسة الكاثوليكيون إذ تضمن حمايتهم من أعمال عنف الوثنيين.وكان "لاس كازاس" يجيبه بأن قانون التصرف الأخلاقي لا يخوّل له استعمال مثل تلك البراهين، بما أن تعريف البربرية هو تعريف نسبيّ ويرتبط بموقع الذي يسمح لنفسه بإصدار مثل تلك الأحكام. وكان "لاس كازاس" يدعو بالخصوص إلى الحذر من "عدم إيذاء" الناس عند مقاومة الشر.وعلى النحو نفسه نجد "بلاغة السلطة" تتجسم اليوم في حقّ التدخل الذي يقوم على نفس البراهين الأساسية: فيجري الكلام عن واجب المتمدّنين في العالم المعاصر كي يتدخلوا في المناطق غير المتمدنة ليضعوا حدا للممارسات التي تغتصب فيها قيم تقدم على أنها كونية، من أجل الدفاع عن الأبرياء أمام شراسة الآخرين ومن أجل تيسير انتشار الأفكار الكونية (المتمثلة في الديمقراطية و حقوق الإنسان).هو ذاك إذن ما يجعل تلك الكونية كاذبة ولماذا يكون من الأجدر بنا أن نتكلم عن كونية أوروبية لا غير.


في مؤلف سابق بعنوان " فهم العالم – مقدمة لتحليل أنظمة العالم" تحللون العملية التي سمحت لأوروبا بفرض سيطرتها على العالم أجمع بداية من القرن السادس عشر ....


في كتاب "فهم العالم..."، حاولت فعلا أن أبين أنّ نظام العالم المعاصر وصل إلى ما وصل إليه اليوم، بصورة تدريجية وذلك بأخذي بعين الاعتبار، سوية، جوانبه الاقتصادية (كتوزيع العمل ...) والسياسية والاجتماعية - الثقافية. فنظام العالم المعاصر هو اقتصاد عالم رأسمالي وقد ابتدأ في القرن السادس عشر مع الاكتشافات الكبرى واكتساح القارة الأمريكية. فهو لم يكن يشمل طبعا كل الكوكب الأرضي في ذلك الوقت، لكنه كان مُنشـّطا من قِبل حركية متنامية باستمرار أفضت إلى انتشاره على كامل الأراضي المسكونة في أواسط القرن التاسع عشر.


أنتم تحددون مراحل متعددة لتطور نظام العالم هذا، المتمركز على الذات الأوروبية: انبعاثه في القرن السادس عشر ثم مأسسة عموده الفقري سنة 1648 مع التوقيع على معاهدة "واسفالي"*، ثم انبثاق مفهوم المواطنة في 1789 مع الثورة الفرنسية، ثم ترسّخ الإيديولوجيات في 1848 مع ربيع الشعوب * وأخيرا مناهضة النظام انطلاقا مما تسمونه "الثورة العالمية" لسنة 1968 . هل لكم أن تذكرونا بإيجاز بماذا طبعت هذه المراحل الأربعة عالم اليوم ؟


بادئ ذي بدء، لا أقول إن الأمر يتعلق حقيقة بمراحل، لأنّ لهذه التواريخ أهمية مختلفة. فمعاهدات "واستفالي" الموقعة سنة 1648 أوجدت تقريبا هيكلا قانونيا لنظام العلاقات ما بين الدول مازال منذ ذلك الحين يسيّر العالم. فهذا التاريخ إذن يكتسي بعض الأهمية، ومن غير اللائق تضخيمها.أما ماجرى في 1789 أي الثورة الفرنسية، فهو بالنسبة لي شيء مختلف. أعتقد قبل كل شيء أن هذا الحدث غير بفرنسا من الأشياء أقل بكثير مما يقال عنه، ثم إنه يندرج في سياق استمرارية سياسية واقتصادية. غير أن وقعه الثقافي كان عظيما على فكر البشر في أنحاء العالم - وعن طريق هذا الفكر بالتالي - على نظام العالم. وهذا لأنه أرسى لقبول أوسع لعناصر كادت ان تكون غير مقبولة في السابق. وكان هذا الحدث يحمل رسالتين: أولا أن التغيير السياسي ليس شيئا استثنائيا وغير عادي، بل هو على العكس عادي ومستمر، ثم إن السيادة لا تكمن في سلطانٍ أو في شرعيّة ارستقراطية، بل في الشعب. فالأفكار التي أخذت جذورها ابتداء من ذلك الحين كانت حقيقة ثورية بمعنى أنها كانت تستدعي أن يكون الشعب (أو من يمثله) قادرا على تغيير ما يريد. ويبدو واضحا أن النخب لم تكن راضية بذلك الأمر وسعت إلى احتوائه. ومذ ذلك الحين برزت ثلاث إيديولوجيات كبرى سعت إلى الاستئثار بهذه الأفكار: المحافظة* والليبرالية* والراديكالية*، وقد انتصرت الليبرالية الوسطية وفرضت هيمنتها على الصعيد العالمي. وتمثل سنة 1848 في هذا الصدد تاريخا حاسما. لقد أظهرت الثورة الاجتماعية بفرنسا وكذلك ربيع الشعوب لليبراليين الوسطيين إمكانية انتصار الراديكالية. وقد أفزعتهم هذه التوقعات و جعلتهم يغيرون استراتجيتهم و يتبنون منظورا من شأنه تلطيف العناصر الأكثر ثورية وشعبية، وذلك بكثير من النجاح. وقد تمكنوا في النهاية من فرض الانتخاب العام ونوع من إعادة التوزيع للثروات.... وأسسوا كذلك لنوع من الوطنية في الوقت نفسه – قومية واوروبية – مشدودة بعنصرية تؤيد الهيمنة الاستعمارية. وقد مكـّنهم كل هذا من الاحتماء من بعض العناصر المنبثقة من الثورة الفرنسية التي كانوا يعتبرونها سلبية. وتمكـِّن هذه القراءة حسب رأيي من تفسير العديد من الأحداث التي جرت بين سنتي 1848 و 1968 والتي شكلت عهد هيمنة الليبرالية الوسطية.لقد استطاع هذا التيار، انطلاقا من ذلك الوقت، أن يُنشِئ جغرافيا ثقافية (جغراثقافية) و استطاع، بإزاحة التيارين الآخرين إلى الهامش، من أن يفرض برنامجه ويحمل تيار المحافظين وتيار الراديكاليين على مساندة مواقف قريبة جدا من مواقفه.لقد استطاعت هذه الجغرافيا الثقافية أن تسيطر على العالم إلى حدود 1968. وتكتسي ثورة 1968العالمية في نظري بالتالي أهمية جوهرية. فهي تحطم احتكارية الوسطية الليبرالية وتصحح وضعية تتواجد فيها حقا ثلاث إيديولوجيات متباينة في العالم وليس استدلالا واحدا فقط تسانده - تحت أشكال مختلفة - ثلاثة تيارات فكرية. وقد تغير الواقع السياسي في العالم بفضل ذلك.


عندما تقولون إن ثورة 1968العالمية قد حطمت بكيفية ما احتكار الليبرالية، يسود لدينا مع ذلك، انطباع بأننا نعيش اليوم في عالم مطبوع بأولوية الإيديولوجية الليبرالية الجديدة ...


هناك مشكل يتعلق بالمصطلحات. فكلمة "ليبرالي" لها عدة استعمالات. فعندما نقول إن العالم اليوم هو ليبرالي، فإن الأمر يتعلق بالأحرى بالليبرالية الجديدة التي تختلف كليا عن الوسطية الليبرالية... فهي إيديولوجية محافظة ( التتشارية، الريغانية، العولمة، الخ...) عرفت ضربا من الازدهار المؤقت خلال ثمانينات القرن الماضي لأسباب تنتمي بالأحرى إلى الثورة المضادة القابلة للتفسير وهي اليوم في أفول مهمّ.
لقد عرف العالم الرأسمالي ما بين 1945 و 1970 توسعا اقتصاديا لا مثيل له على الإطلاق كانت إحدى نتائجه تحسين هام لوضع المنتمين إلى الطبقات الفقيرة. وعندما دخلنا في فترة ركود اقتصادي على المستوى الدولي استطاع الرأسماليون استغلال الفرصة محاولين التخفيض من التكاليف الثلاثة للإنتاج : كلفة اليد العاملة وكلفة مُدخلات الإنتاج (المواد اللازمة للإنتاج inputs) و كلفة الأداءات. لقد عرفت هذه السياسة بعض النجاح، غير أنه يجب النظر لما وقع بالفعل. فالمنوال الاقتصادي قد تطور حقا، وتم التقليص في الأجور الحقيقية والحد من الأنشطة البيئية والتنقيص من الأداءات. كل هذا صحيح على صعيد العالم. غير إننا إذا ما قارننا سنة 2000 بسنة 1945 يمكننا القول بأن البرنامج المضاد للثورة، أو الليبرالي الجديد، لم يتسن له الرجوع إلى المستوى الذي كان عليه، لأن جموع الطبقات الضعيفة حافظت على جزء من الامتيازات المكتسبة ما بين 1945 و 1970. لقد كان هناك إذن صعود ما بين 1945 و1970 وتقهقر جزئي ما بين 1970 و2000؛ لكن هذا يمثل خطوتين نحو التقدم وخطوة نحو التقهقر، وهذا أمر طبيعي جدا في اقتصاد العالم الرأسمالي منذ القرن السادس عشر. فكل حقبة من نوع A من حقب "كوندراتييف" تشهد خطوتان للأمام، متبوعتان بحقبة من نوع B و خطوتها إلى الوراء. يسمّى ذلك مفعول السّقاطة ويعبّر عنه بالانجليزية بـ" ratchet effect" . خلال الفترة الأخيرة دخل النظام الرأسمالي، الذي يعتمد على تراكم رؤوس الأموال عبر الإنتاج، في أزمة. وذلك لأن تكاليف الإنتاج الثلاث وصلت إلى مستويات ارتفاع من شأنها أن تعود بالوبال على إمكانية مواصلة التراكم اللامحدود للرساميل. وهذا يطرح على الرأسماليين تحدّيا أكثر أهمية وخطورة من ذلك الذي تطرحه مثلا المعارضة التقليدية لليسار. إن هذا يجعل مواصلة اللعبة لا تستحق كل هذا العناء بالنسبة للكثير منهم، بما أن شروط اللعبة نفسها – يعني التراكم المناسب لرأس المال – أصبحت مضطربة في العمق.

حينئذ يحملهم التفكير على تعويض نظام العالم هذا بشيء آخر يكون مرتكزا أيضا على تراتبية مقامة هي أيضا على الاستغلال وعلى قطبية اقتصادية واجتماعية، لكن تختلف عن النظام الرأسمالي. ربما يؤدي ذلك إلى حال أكثر سوءًا.إننا نجابه ما أسميه بأزمة هيكلية للرأسمالية، وهذا أمر عاديّ تماما من منظور علوم التعقيد (أو الظواهر المعقدة). فعندما يحيد النظام كثيرا عن نقطة توازنه يجد نفسه أمام تشعب في الطرق حيث يبرز اتجاهان مختلفان لتعويضه. يوجد بالطبع ذلك الاتجاه الذي كنت أتكلم عنه (تغيير نظام العالم حسب المنظور الرأسمالي) و يوجد اتجاه آخر يعتمده أنصار العولمة المختلفة والمداولة الاجتماعية العالمية... وغيرهم. وهو اتجاه أكثر مساواة وديمقراطية ويتماشى مع توجّه كونيّ للشمولية. هذا الأخير لا يعتمد مثل مذهب الشمولية الأوروبية على تفوق مزعوم للحضارة الغربية مقام على قيم وحقائق شاملة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والكل مدعوم بامتثال لا يمكن تجاوزه لقوانين السوق، بل على شبكة مشتركة من قيم شمولية بمعناها الحقيقي (الواقعي) تكون منبثقة من مذاهب شمولية محلية متعددة. وهي قيم تبقى موضوع تعريف وتكون حقيقة في خدمة الصالح العام.إن المهم حقا في فكرة تشعب الطرق الذي يبرز خلال فترة الأزمة الهيكلية هو الاستحالة الجوهرية المطلقة بالتنبىؤ بما سوف تكون عليه نهاية الأزمة وبمن سوف يكون المنتصر في اللعبة. يجب أن ننظر إلى هذا الصراع السياسي الراهن كإطار علينا ان نتعايش معه جميعا.


إنكم ترون على كل حال الوضع الراهن كنهاية لنظام العالم كما نعرفه ؟


بالضبط. فنحن في مرحلة انتقالية من النظام الراهن إلى نظام آخر لا نعرف لا اسمه ولا عناصر تركيبته. هنا يكمن الجدل والاختيار الذي يجب أن نقوم به.


هل إن صعود قوة الصين ، على سبيل المثال، من شأنها أن تعيد مركز ثقل نظام العالم إلى آسيا الشرقية ؟


إن كل ما تفعله الصين والهند هو عقلاني من وجهة نظرهما. غير أن تحركاتهما والحق يقال تزيد في حدة أزمة الرأسمالية، لأن هذان البلدان لهما وزن ثقيل على إمكانات تراكم رأس المال. هذه الإمكانات ترتبط بكون المستفيدين من هذا التراكم يبقون أقلية من سكان العالم. وما تقوم به الصين و الهند ليس إلا الزيادة في عدد الذين يحصلون على نصيب من فائض القيمة هذا. وعندما ندرك أنّ فائض القيمة محدود فإنّ انبثاق آسيا يعمّق من استحالة تراكم جيّد لرأس المال.لهذا السبب نشاهد اليوم هذه التقلّبات التي لا تصدق على الإطلاق في المصارف وفي الأسعار... وبطبيعة الحال سيشتد العنف وسوف يتواصل تأثيره. لا أحد يستطيع التحكم في هذه المسيرة، وهذه نقطة هامة. لا يوجد بلد يقدر على الحدّ مما يجري بصورة جدية . فزمن الولايات المتحدة قد انتهى وليس هناك من خليفة. نحن في وضع ضِيقٍ أو كساد جغراسياسي وجغراقتصادي لا مثيل له.


مصطلحات


نظام العالم :

أشاع هذا المفهوم "إيمانويل فالرشتاين" في كتابه (نظام العالم – من القرن السادس عشر إلى اليوم – الجزء الأول: الرأسمالية واقتصاد العالم 1450 – 1640). وتصف العبارة فضاء مستقلا اقتصاديا، محددا في حجمه بالوقت الذي يقضيه سكانه في التنقل وكذلك بالأشياء والاتصالات (التي تتوفر لديه). ويميز " إيمانويل فالرشتاين" بين شكلين من أنظمة العالم : شكل اقتصاديّ وشكل سلطويّ. فنحن نعيش راهنا في ظل اقتصاد عالم رأسمالي. هذا النظام مبنيّ على شاكلة مجموعة مندمجة من فضاءات سياسية وثقافية مختلفة، مهيكلة حسب ثلاثة أقسام : قلب ومركز ومحيط – تضم عديد التجمعات – دول ونظام علاقات يربط ما بين الدول، شركات، منازل عائلية، طبقات، مجموعات ذات هويات متنوعة. هذا المفهوم لنظام العالم هو امتداد لمفهوم اقتصاد العالم الذي طوره المؤرخ الفرنسي "فرنان برودال" في نفس تلك الحقبة. ويتعلق الأمر في كلتا الحالتين بمعالجة مجموعة من الظواهر (السياسية والاقتصادية والتاريخية والمجتمعية والثقافية ...) عبر وحدة تحليل لا بواسطة تحاليل متباينة مجاليا.



النزعة المحافظة:

يقدمها "إيمانويل فالرشتاين" كإحدى الإيديولوجيات الأساسية الثلاث لنظام العالم المعاصر منذ الثورة الفرنسية وقد عرفت العديد من التنوعات تشترك جميعها في عدم ثقتها القوية تجاه التغيير عن طريق العمل التشريعي و في ثقتها في حكمة المصادر التقليدية للسلطة.


النزعة الليبرالية:

في تعارض مع النزعة المحافظة، تجمع هذه الإيديولوجية حركات متنوعة جدّا. لقد أظهرت الليبرالية - كإحدى الإيديولوجيات المهيمنة على نظام العالم - أنها ملائمة للتطور التدريجي للنظام الاجتماعي ولتطور التربية والتعليم كقاعدة للمواطنة وللتراتبية الاجتماعية المبنية على الأهلية الفردية والأولوية التي تعطى للخبراء لتحديد السياسات العمومية. والليبرالية تتباين مع النزعة المحافظة بقبولها لفكرة التقدم مع الإلحاح على أنّ كل تغيير يجب أن يكون بطيئا ومقررا من طرف خبراء. أما بالنسبة لليبرالية الجديدة فإنّ "إيمانويل فالرشتاين" يرى فيها إيديولوجية محافظة.


النزعة الراديكالية:

ثالث كبريات إيديولوجيات نظام العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين. يدافع هذا التيار على ضرورة تغيير اجتماعي سريع من الواجب كي يتحقق أن يكون مشجعا من طرف الذين سوف يجنون ثماره. الماركسية والفوضوية وغيرهما... هي (مقاربات) ناجمة عن الراديكالية.


معاهدات واسفالي :

وقعت هذه المعاهدات سنة 1648 من اجل وضع حد لحرب الثلاثين سنة التي شاركت فيها الدول القوية الأوروبية ما عدا روسيا وبريطانيا العظمى، مؤسسة للنظام الوستفالي، الذي وضع إطارا لعالم محكوم قبل كل شيء من قبل دول ذات سيادة.


ربيع الشعوب :

يشير هذا المصطلح إلى مجموعة الثورات التي عصفت بأوروبا سنة 1848 (ايطاليا – فرنسا – النمسا – المجر – ألمانيا – بولونيا ورومانيا ) و يمكن النظر إلى سياقه كسياق شموليّ لأنّ هذه الأحداث كانت جزئيا مستلهمة من النزاعات القومية المواجهة لنتائج مؤتمر فيينا (1814-1815) الذي أرجع السلالات الملكية - التي أطاحت بها فرنسا الثورية والنابليونية - إلى الحكم .


جغرافيا ثقافية :

عبارة مقتبسة، على غرار جغرافيا سياسية (جغراسياسة) وتعني المعايير و لممارسات الاستطرادية المتعارف عنها بأنها شرعية داخل نظام العالم.


دورات أو مراحل "كوندراتييف":

تعني الدورات الأساسية للتوسع والركود لاقتصاد عالم رأسماليّ، نسبة إلى عالم الاقتصاد الروسي نيكولاي كوندرتييف (1892-1938). ويعمل هذا التوسع وهذا الركود في صيغة دورات تدوم الواحدة منها ما بين 50 و60 سنة وتتألف من مرحلتين تسمّى الأولى ( كوندراتييفA) وتتطابق مع فترة توسع والثانية (كوندراتييفB ) وتتطابق مع فترة انكماش وركود.


عن قنطرة

بيار روزانفالون: الاستقلالية السالبة

تعريف المثال الديموقراطي على صور تتعدى "المعيار التمثيلي"

الكثرة أو الغالبية النيابية والانتخابية هي مرآة جزء من الشعب. ومهما بلغت الكثرة فهي تقتصر على جزء. ويخالف هذا تسويغ السلطة من طريق الانتخاب، وافتراض التسويغ أن السلطة هي مرآة الشعب الواحد والمجتمع. والإجماع كان، على الدوام، أفق الفكرة الديموقراطية.

وذهب تعريف الديموقراطية، على أوسع معنى، الى أنها العبارة عن العمومية الاجتماعية، أو عموم المجتمع. ويضمر الرأي هذا أن الكثرة تقوم مقام الكل، وأن طبيعة النظام الديموقراطي، بعد استقراره، هي ثمرة شروط استقراره الأولى والباقية. وفي ضوء التجربة اللاحقة، طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، يفتقر الرأي المزدوج الى عنصر بزر لاحقاً هو الأحزاب، وغفل منظرو الفكرة الديموقراطية الأوائل عن الظاهرة هذه، ودورها. وشيئاً فشيئاً، غلبت الأحزاب السياسية والانتخابية على الحياة السياسية كلها، وقامت منها مقام القلب. فسادت الخلافات بين الكتل ومنافساتها المجالس النيابية والهيئات المتفرقة التي تتصل بها أو تتفرع عنها. وتردت الفكرة الأولى، وهي افترضت المجلس النيابي معقلاً للعقل العام والمشترك ومضماراً تُعرَّف فيه المصلحة العامة على الملأ، الى نظام صفقات في خدمة مصالح فئوية.
وحملت الحال هذه على صوغ المشروعية الديموقراطية على نحو مختلف. فتغير معنى الكثرة من مرآة الشعب الواحد والمتجانس الى جملة حلقات مترابطة، وتواريخ خاصة متعاقبة. وعلى هذا، تفهم المجتمعات نفسها، وتتدبر أحوالها في ضوء فكرة الأقلية أو القلة. والقلة لم تعد «الجزء القليل» الذي يفترض فيه الامتثال للكثرة أو الجزء الغالب، فغدت عبارة من العبارات المتفرقة والمنتثرة للكل الاجتماعي. فالمجتمع انما يُرى أو يظهر على شاكلة أحوال أقلوية. وبعد أن أُسبغت على التكنوقراطية، أو حكم الخبراء وأصحاب الكفايات، فضيلتي العقلانية والتجرد، تسللت الشكوك، وخسر الحكم هذا الفضيلتين المفترضتين مع تعاظم شيوع التربية والنظرة المتفحصة في الجسم الاجتماعي. وخسرت السلطة الإدارية المعايير الأخلاقية والمهنية التي رست عليها دالتها ومشروعيتها. ولحق الضعف المشروعية الإدارية والتكنوقراطية على نحو ما أصاب قبلها المشروعية الانتخابية - التمثيلية.
وخلفت معايير الحياد والتعدد والتعاطف والقرب على السياسة، وغلبت على فهم العمومية الديموقراطية المنشودة، وعلى تناول المشروعية وعواملها. وتكاثر عدد الهيئات المستقلة التحكيمية والمجالس الدستورية تبعاً لتغير عوامل المشروعية ومعاييرها. وارتسمت صورة مختلفة للحكم مع ايلاء الصورة (الإعلامية) والتواصل المكانة التي أولياها. فاحتكم في قياس عمومية هيئة من الهيئات الى استحالة تملكها، والاستيلاء عليها. فهي عمومية سالبة تترتب على استقلال الهيئة، وعلى دوام نأيها بنفسها وأحكامها عن الانحياز والميل. وهذا شأن هيئات الرقابة والتحكم والتقويم. وتبلغ العمومية من طريق ثانية هي تكثير صيغ السيادة الاجتماعية، أو تعقيد صور الديموقراطية وجماعاتها في سبيل بلوغ غاياتها. وهذه عمومية الكثرة. وتبلغ العمومية من طريق ثالثة هي الإقرار بالفرادة الاجتماعية والخصوصيات، حينما بزرت أو ظهرت, ويلتمس الإقرار هذا، في نهاية المطاف، الأفراد وأحوالهم وراء الجماعات، مهما ضاقت، فهذه عمومية الانتباه الى الفرادة واعتبارها. وتشترك العموميات الثلاث في تناولها الكل الاجتماعي على وجه دينامي يقدم إجراءات التناول والمعالجة، والتعميم تالياً، على الجمع الإحصائي (وهذا يضمر رغبة في الإجماع)، والنظرة الجامعة (وهذه تحمل المصلحة الاجتماعية على صفة جسم جمعي أو بنية متماسكة ومتكاملة). وعلى هذا، فالعمومية أفق يُهتدى به وليس نظاماً جوهرياً ناجزاً على مثال أوحى مفهوم الإرادة العامة (الشعبية) أو مفهوم المصلحة العامة، العموميات هذه تنهض مثالات مشروعية مناسبة: مشروعية الحياد نظير العمومية السالبة، ومشروعية التفكير نظير عمومية الكثرة، ومشروعية القرب نظير عمومية الانتباه الى الفرادة. وترتسم وجوه الشعب وصوره بحسب تبلور العموميات والمشروعيات هذه، وبحسب إعمالها، فتسند صورة الشعب الرقيب هيئات المراقبة والتحكيم والتقويم. وترعى صورة الشعب - النقض تكاثر صيغ السيادة الاجتماعية، وحق الواحدة في الاعتراض على زعم صيغة من الصيغ احتكار الصورة والحق والتمثيل. وتنازع صورة الشعب - القاضي، والناظر في الأحوال وفرادتها، صورة الشعب - الناخب الواحد والمستوي صفحة من غير نتوء.
والصور المتفرقة هذه مستمدة من صفات أفعال، وليس من أحوال ثابتة، فمشروعيتها غير مستقرة ولا محسومة. وهي وسعت فكرة المشروعية الى هيئات غير منتخبة، ولا تتمتع بقوة تمثيلية، وميزان مشروعيتها هو إسهامها في إنتاج فوائد ومنافع اجتماعية. وينجم عن هذا جواز طرائق كثيرة تخول العمل أو التكلم «باسم المجتمع»، وتخول التمثيل تالياً. والمشروعيات الثلاث تتماسك، وتتضافر على تعريف المثال الديموقراطي تعريفاً أغنى من تعريفه الانتخابي والتمثيلي. فموارد الهيئة السياسية الجامعة مصدرها، اليوم، ومسوغها، من داخلها، وليس من عامل يحوطها من خارج، شأن «الشعب» و «الإرادة العامة». وتشبه المشروعية الثقة التي تربط بين الأفراد والأشخاص ويتبادلونها. فهي «هيئة خفية» وغير مرئية. وتتولى المشروعية، عموماً، الغنى عن القسر، وتطرح الإرغام أو الإكراه سبيلاً الى القبول. وصيغة المشروعية الديموقراطية لا تقتصر على الغنى والإطراح، بل تتعداهما الى نسج علاقات بناءه ومجزية بين السلطة والمجتمع، وتنزع الى تملك اجتماعي للسلطات.
وصور المشروعية المحايدة التي تقدم وصفها تتجسد بسلطات الرقابة والتحكيم، من ناحية، وبالمجالس الدستورية، من ناحية أخرى، وهي أنشأتها سلطة تشريعية حريصة على تأطير سلطة تنفيذية منحازة ومحازبة. وتتولى المجالس الدستورية تأطير العمل التشريعي من طريق إلزامه عمومية أقوى وأشمل من تلك التي تنجم عن الغالبية أو الكثرة النيابية. ومشروعية أحكام المجالس الدستورية مصدرها تسويغها الفكري والفلسفي. ويقود هذا الصنف من المشروعية الى قارة جديدة هي قارة الديموقراطية غير المباشرة. وتجيب مشروعية القرب عن انتظار اجتماعي يتناول مسلك الحكام، فإلى الديموقراطية غير المباشرة يبرز بُعد آخر غير معهود من عالم الديموقراطية هو فن الحكم الديموقراطي. وعلى خلاف ميزان الرأي السياسي السابق، وهو كان يقتصر على معياري النظام (الهيئات والسلطات وعلاقاتها) والقرار (أو السياسات المنتهجة)، يفترض الميزان الجديد فن الحكم، أي اعتبار توقعات المجتمع ورغباته وحاجاته. فالواقعة الحاسمة هي تعاظم تعقيد الديموقراطية. وينجم عن التعقيد هذا مثنوية مزدوجة: بين الهيئات الانتخابية - التمثيلية وهيئات الديموقراطية غير المباشرة، من جهة، وهي مثنوية تصاحب نظام الديموقراطية)، وبين عالم الإجراءات والمسلك وعالم القرارات، من جهة أخرى (وهي مثنوية يرسو عليها حكم الديموقراطية). ويعلو البناء هذا النزاع بين الديموقراطية الانتخابية وبين مقابل الديموقراطية الذي ينظم دائرة المواطنة وأنشطتها، وائتلافهما هو جملة الحال الديموقراطية المعاصرة.


(أستاذ في «كوليج دو فرانس»، آخر كتبه «المشروعية الديموقراطية»، والمقالة مقدمته)، «أسبري» الفرنسية،
عن الحياة

الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

بول كروغمان: قصر نظر مركز الدائرة



الازمة المالية وسقوط "اسطورة الفصل"


قلما توحي البيانات الاقتصادية بأفكار شاعرية. ومع ذلك، فإنني وحينما كنت أقلب في رأسي البيانات المتعلقة بالأزمة المالية الأخيرة، أدركت أن بعض الأبيات التي دبجها الشاعر الإنجليزي الشهير "ويليام باتلر ييتس" كانت تدور في رأسي مع تلك البيانات. الأبيات التي أقصدها هي تلك التي يقول فيها "ييتس": الصقر يحوم، ويحوم في دائرة تتسع دوماً.. ورويداً رويداً لا يصبح الصقر قادراً على سماع صوت الصقَّار... عندها تتهاوى الأشياء.. ولا يعود مركز الدائرة قادراً على التماسك".

وإذا ما حاولنا مطابقة هذه الأبيات الشعرية مع ما يحدث أمامنا في الوقت الراهن فإننا نستطيع القول إن الدائرة التي تتسع دوماً هي ما يعرف بـ"حلقات المردود أو العائد" Feedback loops التي يفترض أنها تساعد على توضيح بعض التعقيدات التي تحدث ضمن الأنظمة المعقدة، كما تستخدم في عمليات تقييم الأداء (شيء أبعد ما يكون عن الشاعرية.. أليس كذلك؟). ولكنها تتسبب كما نرى أمامنا أحياناً في جعل أية أزمة مالية تدور، وتدور، حتى تخرج عن نطاق السيطرة. أما الصقار التعس في حالتنا الراهنة فهو بلاشك "هنري بولسون" وزير الخزانة الأميركي.

أيديولوجية إدارة بوش المناهضة لدور أكبر للحكومة، لا تزال تقف حجر عثرة في طريق اتخاذ إجراءات فعالة للخروج من الأزمة.

ومما يفاقم من خطورة الأمر أن تلك الدائرة لا تزال تواصل اتساعها بطرق جديدة ومخيفة في الحقيقة. وعلى رغم أن السيد "بولسون" ونظراءه في الدول المختلفة في شتى أنحاء العالم قد هرعوا لإنقاذ البنوك، إلا أن هناك ارتدادات أخرى تظهر على صُعد مختلفة. وبعض تلك الأزمات كان متوقعاً بصورة أو بأخرى. فلبعض الوقت ظل الاقتصاديون يتساءلون عن السبب الذي لا يجعل "صناديق التحوط" تعاني مثل غيرها وسط المذبحة المالية التي حدثت. بيد أن هؤلاء الاقتصاديين لم يعودوا بحاجة إلى المزيد من التساؤل الآن بعد أن رأوا بأم أعينهم أن المستثمرين يسحبون أموالهم من تلك الصناديق بالفعل الآن، مُجبِرين مديريها على تجميع الأموال من خلال بيع الأسهم والسندات والأصوال بأسعار منخفضة للغاية.

والشيء الصادم في الحقيقة الآن هو الطريقة التي تنتشر بها الأزمة المالية إلى الأسواق الصاعدة في دول مثل روسيا وكوريا الجنوبية والبرازيل. فتلك الدول، كما هو معروف، كانت في صميم الأزمة المالية العالمية التي وقعت في عام 1990، والتي استجابت لها تلك الدول من خلال تكوين احتياطيات ضخمة من الدولار واليورو، كان من المفترض أن تحميها في حالة وقوع أية أزمة مفاجئة في المستقبل. ومنذ فترة ليست بالبعيدة في الماضي، كان الجميع يتحدثون عما كان يطلق عليه "أسطورة الفصل" التي كان يقصد بها تلك القدرة المفترض توافرها لدى الاقتصادات الصاعدة على مواصلة النمو حتى في تلك الحالة التي يسقط فيها الاقتصاد الأميركي في حالة ركود. وفي شهر مارس الماضي أكدت مجلة "الإيكونوميست" لقرائها أن "نظرية الفصل ليست أسطورة كما يعتقد البعض، وإنما هي نظرية حقيقية قادرة على إنقاذ الاقتصاد العالمي".

هذا ما قيل في ذلك الوقت. ولكن ما نشاهده الآن هو أن الأسواق الصاعدة تعاني من مصاعب كبيرة، وأن نظرية الفصل لم تفدها بشيء. وليست هنالك حاجة للقول إن الاضطرابات الحالية في المنظومة البنكية، وكذلك الاضطرابات الجديدة في صناديق التحوط، وفي الأسواق الصاعدة، تشد أزر بعضها بعضاً، وأن الأخبار السيئة تولد أخباراً أسوأ، وأن دائرة الألم لا تزال تواصل اتساعها. وفي الوقت نفسه، نجد أن صناع السياسات الاقتصادية في أميركا يترددون، عندما تحين لحظة عمل ما هو لازم، عن احتواء هذه الأزمة.

ومن الأنباء الطيبة التي سمعناها تلك التي جاءت على لسان "بولسون" عندما أعلن أنه قد وافق في النهاية على ضخ رأس مال في المنظومة البنكية مقابل الملكية الجزئية لبعض البنوك. ولكن المحلل "جو نوكريا" كتب مؤخراً مقالا في مجلة "التايمز" أشار فيه إلى وجود نقاط ضعف رئيسية في خطة إنقاذ البنوك التي أعدتها وزارة الخزانة الأميركية، منها أنها لم تتضمن أي ضوابط ضد احتمال فشل البنوك في التعامل مع الرساميل المودعة لديها. وكان من ضمن ما قاله نوكريا في مقاله: "إن حكومتنا -وعلى النقيض من الحكومة البريطانية ـ تبدو خائفة من عمل أي شيء سوى التوسل والمناشدة".

والحق أن ثمة شيئاً غريباً آخر يتم في سوق الرهن العقاري. فـأنا شخصياً كنت أعتقد أن عملية استيلاء الحكومة الفيدرالية على وكالتي الإقراض الشهيرتين "فاني ماي" و"فريدي ماك" كان الغرض منها إزالة مخاوف الناس حول قدرة هاتين الوكالتين على الوفاء بكافة ديونهما، وهي المخاوف التي كان يمكن أن تؤدي بالتبعية إلى انخفاض أسعار الرهن العقاري. ومع ذلك رأينا كبار المسؤولين الأميركيين يركزون تحديداً على النقطة المتعلقة بإنكار أن ديون "فاني ماي" و"فريدي ماك" مدعومة "بالكامل" من قبل الحكومة الأميركية. وكنتيجة لذلك، فإن الأسواق لا تزال تتعامل مع ديون هاتين الوكالتين باعتبارها أصولاً خطرة، وهو ما يؤدي إلى رفع أسعار الرهن العقاري إلى أعلى في الوقت الذي كان يفترض فيه أن تهبط إلى أسفل.

في تقديري، أن ما يحدث هو نتيجة لحقيقة أن أيديولوجية إدارة بوش المناهضة لدور أكبر للحكومة، لا تزال تقف حجر عثرة في طريق اتخاذ إجراءات فعالة للخروج من تلك الأزمة. ومهما كانت الأسباب التي أدت إلى ضعف تلك السياسات واستمرار هذا الضعف، فإن الشيء الواضح أمامنا تمام الوضوح هو أن الأوضاع لم تصبح بعد تحت السيطرة.. وأن الاشياء لا تزال تواصل تداعيها وانهيارها.


كاتب أميركي حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد 2008

ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"

بلال خبيز: ازمات اميركا المعولمة

انهيار السمعة
يستشري بين المتابعين للأزمة المالية الراهنة التي تعصف بالعالم وصف هذه الأزمة من حيث حدتها وخطورتها بأزمة العام 1929. او ما سمي يوذاك بالركود الكبير، حين لم تعد المخازن والمستودعات تكفي لتخزين البضائع الكاسدة، واصبحت بدلات التخزين تتعاظم وتفوق الارباح في ظل الكساد. وكان من شأن هذه الازمة ان جعلت مبدأ الصناعي الكبير هنري فورد مبدأً عاماً للصناعات في جميع انحاء العالم. يومها اعتبر هنري فورد ان تحسين مستوى دخول العمال يسمح لهم باقتناء السلع التي تنتجها المصانع، والتي يمكن الاستغناء عنها او العيش من دون استعمالها.
سرعان ما تحولت سياسة هنري فورد الاقتصادية هذه عنواناً لعهد رأسمالي جديد، تزعمته الولايات المتحدة الاميركية واستمر حتى يومنا هذا، اقله في الولايات المتحدة الاميركية، ساري المفعول. يومذاك ايضاً كانت الولايات المتحدة الاميركية هي موطن الحجر الاول الذي تساقط من عمارة الاقتصاد القديم. ذلك ان ما كان غائباً عن تلك العمارة يتصل اتصالاً مباشراً بأهمية المستهلك ووزنه في المعادلة الاقتصادية. ومنذ ذلك التحول اصبح بالإمكان التأريخ لبدايات صناعة المستهلك بوصفه الركيزة الاساسية لأي اقتصاد حديث.
الازمة الحالية بدأت ايضاً في الولايات المتحدة. وفي التحليل الاخير لمسارها، تبدو مشابهة للأزمة السابقة في بعض الوجوه. ثمة سلع مستجدة طرحت في السوق، وثمة مستهلكون صنعتهم سياسات التسليف الاميركية لهذه السلعة. لكن حرية السوق المطلقة جعلت هذه السلع بعيداً عن متناول الكثيرين، مما جعل الركود امراً لا راد له. والحق ان المدقق في ما جرى في الاسابيع الاخيرة يدرك ان سياسة التسليف التي اعتمدتها المصارف الاميركية، وحضت عليها اعلى دوائر القرار النقدي في الولايات المتحدة جعلت من حجم الفوائد على القروض تصل إلى ارقام فلكية. فتلك المبالغ المتراكمة الناتجة عن الفوائد المالية لم تكن تجد ما يعادلها في الاصول التي قام الاقتراض على اساس قيمتها الفعلية. ويمكن القول ان الخسارات التي شهدتها الأسواق المالية لم تتجاوز حدود الارباح المحققة من فوائد القروض. وبكلام آخر، كانت الثروات تتراكم والارباح تتزايد من تلقاء نفسها، ومع تراكم الأرباح بات مفهوماً ان ترتفع اسعار العقارات التي كانت الهدف الاول للمسلفين، مما جعلها بعد حين ابعد منالاً من قدرة معظم الاميركيين على تحمل نفقاتها.
ما ان اخذت الازمة طريقها الفعلي نحو التبلور، حتى بات بديهياً ان يعاد تنظيم السوق المالية واسواق الأسهم وفق قواعد جديدة ما ان تنتهي الازمة. والارجح ان القواعد الجديدة التي ستشهد النور في المقبل من الايام تتصل اتصالاً مباشراً بفصل السوق المالية واسواق الاسهم عن سلة الاستهلاك العادية. بحيث لا تعود الحاجات الاساسية المربطة بعيش المواطنين وامنهم الاقتصادي والاجتماعي مرتبطة ارتباطاً مباشراً بسوق الأسهم الرجراجة. وهذا يفترض في مطلق الاحوال ان يعاد تقييم الأسهم وفق جدواها الفعلية وتالياً قيمتها الحقيقية. فلا ترتفع اسعار الاسهم بناء على اقبال المشترين بل بناء على اهمية المنتوج وضرورته وجدواه. مما يعني ان السياسات الاقتصادية المتوقعة على المدى القريب ستعيد تنظيم السوق المالية على نحو يتصل بحاجات المستهلك المباشرة.
لا شك ان مثل هذا التنظيم يواجه معوقات عدة. وقد يكون ابرز هذه المعوقات هو حجم الكتلة النقدية المتبخرة في الاسابيع الماضية. فهذه الكتلة التي تبخرت، وتلك المرشحة للتبخر، رغم انها صانعة ثروات ومقامات وسلطات، إلا انها تتصل مباشرة بالنظام النقدي، لكن اتصالها بالسلعة المستهلكة ما زال حتى الآن موارباً وغير مباشر. إذ ليس ثمة من يمنع اي كان ان يقتني جهاز تسجيل من ماركة غير معروفة. في هذه الحال يتدنى سعر المنتوج بسبب افتقار الماركة للسمعة الحسنة. مما يعني ان المستهلك حين يشتري سلعة من مصدر موثوق ومعروف وحسن السمعة، فإنه يدفع ثمن السلعة وثمن السمعة في آن واحد. فضلاً عن نظام الكفالات التي تجعل المستهلك اكثر ثقة بالسلعة التي يشتريها، لكنه من جهة أخرى يدفع ثمنها مقدماً عبر ارتفاع سعر السلعة المكفولة بحسب قيمة كفالتها وسمعة الشركة الضامنة. وحيث ان الأمر لا يبدو شديد التأثير في صناعات ومنتوجات معينة، ويبدو بالغ الاهمية في منتوجات أخرى، فإن التفاوت بين اهمية السلع وضروراتها واسعارها سوف يؤدي في القريب العاجل إلى انهيارات كبيرة لبعض الاسماء اللامعة في عالم الصناعة والتجارة على حد سواء. مما يضع شطراً واسعاً من الأعمال التي كانت حتى الامس القريب تدر ارباحاً خيالية على حافة الانهيار، وهذا مما يعيد خلط الانقسامات الاجتماعية والطبقية على نحو غير مسبوق، وقد ينتج عنه صراعات اجتماعية شديدة التعقيد، ولا يندر في بعض الاحيان ان تكون عنيفة ودموية حتى في اكثر البلاد تقدماً وتحضراً ورسوخاً في الديموقراطية.

عن الجريدة

دينس شتوته: حوار مع زبيغينو بريجنسكي

"على الغرب ألاّ يكرر الخطأ السوفييتي في أفغانستان"




لقد شارك الخبير الاستراتيجي المشهور، زبيغنيو بريجنسكي عندما كان مستشارًا للأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر مشاركة فعّالة في تسليح المجاهدين الأفغان في حربهم ضدّ الاتحاد السوفييتي. وفي الحوار التالي الذي أجراه معه دينس شتوته يبيِّن العِبَر التي يجب على الغرب تعلّمها من أخطاء الاتحاد السوفييتي. "حل المشكلة الأفغانية يتطلب حلولا خلاقة تعتمد المزاوجة بين السياسة والاقتصاد" تدعم جميع الأحزاب الألمانية باستثناء حزب اليسار المشاركة العسكرية الألمانية في أفغانستان، كما تطالب أغلبية المواطنين الألمان بالانسحاب من أفغانستان. فما الذي يجب على الغرب فعله - الانسحاب أم المحافظة على سياسته أم إرسال المزيد من الجنود إلى هذا البلد؟
زبيغنيو بريجنسكي: أعتقد أنَّ الجواب لا يمكن أن يكمن في أي من هذه الخيارات. فالانسحاب يمكن أن يعني أنَّ أفغانستان ستقع على الفور في أزمة شديدة ذات عواقب لا يمكن توقع نتائجها. ولن يتم حلّ المشكلة بإرسال المزيد من الجنود وحسب. والمحافظة على السياسة المتَّبعة لن يكون على ما يبدو أمرًا مرضيا، وذلك لأنَّه يتَّضح بصورة متزايدة وباستمرار أنَّ الأوضاع تزداد سوءا. في عام 1979 وعندما كنت مستشارًا للأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر نظّمت عملية تسليح المجاهدين الأفغان ضدّ حكومة أفغانستان وأوقعت من خلال ذلك
- مثلما ذكرت في فترة لاحقة - الاتحاد السوفييتي في "الفخ الأفغاني". فهل وقع الغرب الآن في هذا الفخ؟
بريجنسكي: يجب على الغرب عدم تكرار أخطاء الاتحاد السوفييتي. فقد دخل السوفييت إلى أفغانستان متوهمين أنَّ مجموعة من المثقفين الماركسيين سوف يساعدونهم في إيجاد دولة شيوعية تابعة للاتحاد السوفييتي وأنَّهم سيتمكّنون من تحقيق رغباتهم من خلال جيش أجنبي. "سياسة القصف والتدمير تزيد الآلام والأحقاد" والولايات المتحدة الأمريكية احتاجت عندما ردَّت على اعتداءات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 والتي انطلقت من أفغانستان فقط إلى ثلاثمائة جندي أمريكي، من أجل إسقاط الطالبان - وذلك لأنَّ الأفغانيين (تحالف الشمال الذي كان يحارب ضدّ الطالبان) كانوا مع الدعم الأمريكي. والآن نحن نخاطر بالإقدام على الشيء نفسه الذي فعله السوفييت؛ إذ إنَّنا وبدلاً من مغادرة هذا البلد بسرعة ودعمه اقتصاديًا، نحاول خلق دولة حديثة بحضور غربي كبير - وفي هذه المرّة بصيغة ديمقراطية. وأنا لا أعتقد أنَّ هذه الإستراتيجية حكيمة جدًا.
أليس ما تقترحه هو تمامًا نفس الشيء الذي فعله الاتحاد السوفييتي؟ فالجيش الأحمر حاول قبل الانسحاب تسليم جنود أفغانيين قيادة الحرب - ولكنه فشل في ذلك. فلِمَ يُفترض لحلف الناتو الذي يقف إلى جانبه عدد أقل من الجنود الأفغانيين مما كان لدى السوفييت، أن ينجح أكثر؟
بريجنسكي: لقد فعل السوفييت ذلك فقط بعدما كانوا قد هدموا المجتمع الأفغاني وأوجدوا عداءً شديدًا. فلا يجوز لنا أن نقلِّل من حجم الدمار الكبير والآلام البالغة التي تسبب بها السوفييت من خلال قيادتهم الحربية التي لا تأبه بشيء؛ والتي هجّرت من أفغانستان ملايين الأفغانيين وقتلت مئات الآلاف. ونحن لم نفعل ذلك حتى الآن. ولكن الخطر يكمن في أنَّنا إذا بقينا نثق لفترة أطول بالحلّ العسكري فستزداد أكثر وأكثر القوى التي تقاومنا. وحتى الآن ما تزال هذه القوى ليست مثل التي كانت تقاوم الاحتلال السوفييتي.
كيف يمكن للغرب أن يحول دون حدوث ذلك؟
بريجنسكي: نحن لا نستطيع من أعلى خلق دولة مركزية حديثة وفرض مثل هذا الحلّ بقوات عسكرية أجنبية. فهذا لا يتفق مع كبرياء المجموعات العرقية المختلفة والمشاعر الدينية في بلد لم يحتمل على الإطلاق دخول الأجانب إليه. ونحن نحتاج لطريقة أخرى في التعامل. وربما يكون إرسال بعض القوات الإضافية أمرًا مهمًا على المدى القصير، ولكن الأهم من ذلك هو إشراك تلك العناصر - التي يتم وصفها وصفًا شموليًا بأنَّها من الطالبان - في العملية السياسية.
تتحدث أجهزة استخبارات الولايات المتحدة الأمريكية في تقرير جديد عن "انهيار السلطة المركزية" وعن وجود "فساد مطلق في حكومة" الرئيس الأفغاني حميد كرزاي. وكذلك من المفترض أنَّ السفير البريطاني قد دعا الآن إلى إيجاد "حاكم دكتاتوري مقبول".
بريجنسكي: كيف يخلق المرء حاكمًا دكتاتوريًا من اللا شيء؟ المشكلة في أفغانستان هي أنَّه لا يمكن حكم البلاد من كابول بشكل فعّال، كما أنَّني لا أرى كيف يمكننا خلق حاكم دكتاتوري مثل حلّ ينزل لنا من السماء. فأي حاكم دكتاتوري يجب أن تتوفّر لديه إما جاذبية اجتماعية كبيرة أو أجهزة حكم قاسية لا تعرف الرأفة والرحمة - ومن الأفضل أن يتوفر لديه كلاهما؛ الأمر الذي لا أراه موجودًا في أفغانستان طالما لم يتكوّن بنفسه عند نقطة معيّنة.
كيف ينبغي للغرب التعامل مع تجارة الأفيون؟ "الخطر يكمن في أنَّنا إذا بقينا نثق لفترة أطول بالحلّ العسكري فستزداد أكثر وأكثر القوى التي تقاومنا"
بريجنسكي: سوف يؤدِّي تدمير مزارع الأفيون وبذلك مصدر رزق الفلاحين إلى زيادة قوة الطالبان. ويجب على الأوروبيين أن يدفعوا إلى الأفغان أكثر ما يمكنهم من المال، لكي يتوقّفوا عن زراعة الأفيون. فزراعة المخدرات تعتبر من ناحية مصدر دخل لطالبان ومن ناحية أخرى خطرًا بالنسبة لأوروبا، حيث يذهب الجزء الأكبر من المخدرات إلى أوروبا - وبالتالي فمن البدهي أن يعتبر حلّ هذه المشكلة مسؤولية الأوروبيين.
أغارت الولايات المتحدة الأمريكية عدّة مرّات على أهداف في باكستان، وذلك لأنَّ مقاتلي الطالبان يستخدمون في باكستان المجاورة معاقل ينسحبون إليها. فهل هناك خطر من تنامي زعزعة استقرار باكستان التي تعدّ قوة نووية؟
بريجنسكي: يجب أن لا تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بغارات على مناطق باكستانية إلاَّ في ظلّ ظروف غير عادية؛ عندما تكون هناك معلومات موثوقة حقًا عن أنَّ أعضاء رفيعي المستوى من تنظيم القاعدة سيكونون أهدافًا محتملة وأنَّ الحكومة الباكستانية لن تفعل شيئًا وفي ظلّ هذه الظروف يمكن تبرير مثل هذه الغارات. ولكن الغارات التي تهدف إلى منع الطالبان من العمل انطلاقًا من باكستان، فهي لا تؤثِّر إلاَّ في توسيع نطاق العمليات العسكرية - وستصنع من المشاكل الموجودة لدينا في أفغانستان مشاكل أخرى تمتد من أفغانستان حتى باكستان. وهذا سوف يزيد بشكل هائل من تعقيد التحديات التي نرى أنفسنا في مواجهتها - وربما سيزيد أكثر من زعزعة استقرار باكستان.
عن قنطرة

بلال خبيز: الديموقراطيون يصادرون هتاف الجمهوريين

اميركا تحاول استعادة روحها
الحشد الذي استمع إلى اوباما في كولورادو هتف "يو اس ايه". هتاف ليس مألوفاً صدوره عن جمهور ديموقراطي. لطالما احتكر الجمهوريون هذا الهتاف، كانوا دائماً يحتكرون التعبير عن مشاعر الأمة الاميركية: البسطاء الذين ينقادون إلى الغضب بسرعة انما الطيبون ايضاً، الطافحون بانفعالاتهم المباشرة، والذين يثقون بالآخرين حد السذاجة. لطالما كانت هذه الصفات معقودة للجمهوريين في الولايات المتحدة، فيما ظهر الديموقراطيون دوماً كما لو انهم اصحاب العقول المفكرة والقلوب الباردة. اختصاصيو ازمات يحللون ويفكرون، لكنهم لم يكونوا ابداً يشبهون الشعب الاميركي، إذا سلمنا ان هذه هي صفاته. في هذا السباق التاريخي للوصول إلى البيت الابيض، فقد الجمهوريون هذه الصفات، تحولوا من غاضبين إلى حاقدين، وباتوا وهم يدارون انهياراً شاملاً مستعدين لفعل اي شيء لاستعادة ثقة الأميركيين وايصال مرشحهم إلى البيت الابيض. اليوم يتركز خطاب ماكين على التنكر للحزب الجمهوري وادارة بوش. بل يذهب ابعد من ذلك، لقد بات يطلق وعوداً مرتجلة، وغير مبنية على برامج، انتقلت عدوى بايلين إلى ماكين، وها هو يصرح امام الحشود، وهي حشود صغيرة بالمقارنة مع الحشود التي تستقبل اوباما، انه لن يضيف اي ضريبة على اي كان إذا ما وصل إلى البيت الأبيض. وعد لا قيمة له على الاطلاق، على الاقل، لن يكون في الإمكان تنفيذه واميركا غارقة بدماء رأسمالها اليوم. العالم كله ينزف امواله، وليس في المستطاع ان يقف ساكن البيت الابيض مكتوفاً ازاء ما يجري.
الجمهور الديموقراطي في كولورادو وفي ولايات اخرى بات اكثر ثقة بأميركيته من قبل، لهذا اصبح الهتاف مألوفاً: يو اس ايه، كانوا يرفعون حناجرهم بهذا النشيد، امام اوباما الذي قال لهم ما كان قد قاله من قبل: ليس ثمة بيننا من هم مع اميركا ومن هم ضدها، راداً على زلة لسان سارة بايلين حين اخذتها الحماسة وقسمت الاميركيين بين محبين لأميركا وكارهين لها. اوباما يضيف، لسنا هنا لنجعل اميركا حمراء او زرقاء، كلنا نقاتل ونعاني وننزف دماءنا تحت خفق العلم نفسه، ليبقى خفاقاً وعالياً، وهو ليس ديموقراطياً ولا جمهورياً هو اميركي. اوباما لاعب ماهر، يعرف كيف يلتقط الكرة ويحتفظ بها لزمن طويل. ادرك ان الحزب الجمهوري يتخبط في علله وتاريخه، فلم يجهز عليه، ارتأى ان يحتضن المتناثرين على اطرافه، وقد اصبحوا كثراً اليوم. يعرف اوباما ان الجمهوريين اهدروا فرصتهم مع جورج بوش. كانت فرصة تاريخية لتغيير العالم، لكن الادارة الجمهورية لم تحسن التقاط السوانح المناسبة. اليوم لم يعد النقاش مجدياً في ما يخص الخطأ في شن الحرب على العراق من اصله. اليوم بات النقاش في كيفية احياء الروح الاميركية مرة اخرى، بوصف اميركا امة عظيمة. الاميركيون اليوم ليسوا في حاجة لنصر في العراق ولن تغير في اوضاعهم هزيمة. المسألة اعمق من ذلك بكثير: الاميركيون اليوم يحتاجون إلى احياء الروح الجماعية. هذا بالضبط ما يحسن اوباما التقاطه بخلاف ماكين الذي بات لاهثاً وراء الكرسي من دون ان يستقر على قاع محدد من محاولة استيلاد الكراهية. ولان الأمر كذلك، لن يعدم ماكين فرصاً في تقدم حملته في استطلاعات الرأي. ذلك ان الانقسام حاد في صلب المجتمع الاميركي اليوم، وثمة كثيرون سيميلون نحو التعصب الأعمى. نحو محاولة استعادة المجد السابق للجمهوريين بأي طريقة ممكنة. ليس خافياً على الاميركيين ان هذه الانتخابات قد تكون لها نتائج كارثية على الحزب الجمهوري. بعض الجمهوريين باتوا منذ اليوم يفكرون يجعل بايلين زعيمة للحزب، وفي هذا الاتجاه ما يشي بعمق الازمة التي يعانيها الحزب الجمهوري، ذلك ان زعامة بايلين لن تكون اكثر من نسخة جديدة عن شوفينية فاشية كان لها ما يماثلها في النصف الاول من القرن الماضي في اوروبا عموماً ولم تنج اميركا من اثارها ايضاً في الحقبة الماكارثية. انه تصعيد الكراهية، كراهية كل ما هو خارج الحدود اولاً وكراهية كل من لا يوافقهم الرأي على ضرورة تصعيد نشيدها. البعض الآخر يرى ان الحزب سيعاني ازمة ساحقة، وان لا امل له في ايصال مرشحه إلى البيت الابيض. انها حقبة ديموقراطية طويلة على الجمهوريين، والافضل ان يعدوا العدة للالتحاق بالمنتصر، وإلا سيتعرضون للمحاسبة. تماماً مثلما سيحصل مع جورج بوش الابن.
كان ريتشارد كوهن كاتب الواشنطن بوست موحياً حين كتب منذ اسابيع: مثل هذه الازمات تاريخياً، لم تنته إلا بعدما غرق العالم كله بدمائه في حربين عالميتين لا سابق لقسوتهما وعبثيتهما. اليوم ثمة فرصة في استعادة اميركا انفاسها مع باراك اوباما، الذي يدرك بغريزة السياسي الصائبة ان اخطر ما يمكن ان تواجهه اميركا اليوم هو الانقسام الحاد، ذلك ان الانقسامات كانت دائماً الرحم الذي تتغذى منه ترنيمة الكراهية، وإذا ما قدر للكراهية ان تخرج من رحم الازمة الاميركية إلى النور، فعلى العالم برمته ان يأخذ حذره، فيعد الملاجئ ويخزن الغذاء تحسباً لأيام كالحة.
عن ايلاف

جيفري دي. ساكس:حماقة غرينسبان

الاقتصاد العالمي: الازدهار والانهيار ثم استعادة العافية




سوف يسجل التاريخ هذه الأزمة الاقتصادية العالمية تحت عنوان «حماقة غرينسبان». كانت هذه الأزمة في الأساس من صنع مجلس إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة أثناء فترة اتسمت بسهولة كسب المال وإلغاء التنظيمات المالية الرسمية منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين وحتى اليوم.
إن سياسة المال السهل، التي دعمها مسؤولون فشلوا في التنظيم والمراقبة، كانت سبباً في خلق فقاعات لم يسبق لها مثيل في الحجم في أسواق الإسكان والائتمان الاستهلاكي في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان، وعلى الأخص تلك البلدان التي شاركت أميركا في توجهاتها الاقتصادية. والآن انفجرت الفقاعات، وأصبحت هذه البلدان في طريقها إلى الانزلاق إلى حالة من الركود الحاد.
وفي قلب هذه الأزمة كان ذلك الارتفاع غير العادي في أسعار المساكن والأوراق المالية والذي تجاوز الحدود التاريخية كلها. كان غرينسبان سبباً في تغذية فقاعتين- فقاعة الإنترنت أثناء الفترة من عام 1998 إلى عام 2001، ثم فقاعة الإسكان التي انفجرت للتو. وفي كل من الحالتين كانت الزيادة في قيم الأصول سبباً في اقتناع الأسر الأميركية بأنها أصبحت أكثر ثراءً، الأمر الذي أغراها إلى زيادة هائلة في الاقتراض والإنفاق- لشراء المساكن، والسيارات، وغير ذلك من السلع الاستهلاكية المعمرة.
كانت أسواق المال متلهفة إلى إقراض هذه الأسر، وذلك لأن أسواق الائتمان كانت غير محكومة بتنظيمات رسمية، الأمر الذي كان بمنزلة دعوة موجهة إلى الإقراض المتهور. وبسبب ازدهار أسعار الإسكان وسوق الأوراق المالية، فقد تزايد صافي ثروات الأسر الأميركية بما يقرب من 18 تريليون دولار أثناء الفترة من عام 1996 إلى عام 2006. وبالتالي، كان ارتفاع معدلات الاستهلاك استناداً إلى هذه الثروة سبباً في المزيد من الارتفاع في أسعار المساكن، الأمر الذي أقنع الأسر الأميركية والجهات المقرضة بأن هذه الفقاعة دائمة ولن تنفجر أبداً.
ثم انهار كل شيء. فقد بلغت أسعار المساكن أوجها أثناء عام 2006، وبلغت أسعار الأوراق المالية العادة ذروتها في عام 2007. ومع انهيار هاتين الفقاعتين فسوف تنمحي ثروة ورقية ربما تقدر قيمتها بحوالي عشرة تريليونات من الدولارات أو قد تصل قيمتها إلى خمسة عشر تريليون دولار.
إن وقتنا الحالي يشهد حدوث العديد من الأمور المعقدة في الوقت نفسه. أولاً، بدأت الأسر الأميركية في تخفيض استهلاكها بحدة بعد أن شعرت- وهو شعور حقيقي- بأنها أصبحت أكثر فقراً عما كانت عليه منذ عام واحد. ثانياً، أفلس عدد كبير من المؤسسات التي بالغت في الاعتماد على الروافع المالية، مثل «بير ستيرنز» و»ليمان براذرز»، الأمر الذي أدى إلى المزيد من الخسائر في الثروات (ثروات هذه المؤسسات المفلسة، وحملة الأسهم، والدائنين) والمزيد من خسائر الائتمان الذي كانت مثل هذه المؤسسات تقدمه ذات يوم.
ثالثاً، خسرت البنوك التجارية أيضاً الكثير في هذه الصفقات، فضاع القدر الأعظم من رؤوس أموالها. ومع انحدار رؤوس الأموال، ستنحدر أيضاً قروض هذه البنوك في المستقبل. ورابعاً، كان إفلاس «ليمان براذرز» واقتراب مؤسسة التأمين العملاقة AIG من الإفلاس سبباً في إحداث نوع من الهلع المالي، الذي جعل حتى الشركات القوية عاجزة عن الحصول على القروض المصرفية قصيرة الأجل أو بيع الأوراق التجارية قصيرة الأجل.
والتحدي الماثل أمام صناع القرار السياسي اليوم يتلخص في استعادة القدر الكافي من الثقة للسماح للشركات بالعودة إلى الحصول على أرصدة الائتمان قصيرة الأجل لتغطية رواتب موظفيها وتمويل أصولها. ولسوف يكمن التحدي التالي في التحرك من أجل استرداد رؤوس أموال البنوك، حتى تتمكن البنوك التجارية من العودة إلى إقراض الاستثمارات الأطول أمداً.
ولكن على الرغم من أهمية هذه الخطوات وإلحاحها، فإنها لن تنجح في منع الركود في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان التي ضربتها الأزمة. فمن غير المرجح أن تتمكن أسواق الأوراق المالية والإسكان من استرداد عافيتها في أي وقت قريب. ونتيجة لهذا فقد أصبحت الأسر أكثر فقراً، ولسوف تضطر إلى تخفيض إنفاقها بصورة حادة، الأمر الذي لابد أن يجعل الركود أمراً محتماً في الأمد القريب.
سوف تكون الضربة الأشد من نصيب الولايات المتحدة، بيد أن الدول الأخرى التي شهدت ازدهاراً في الإسكان والاستهلاك حديثاً (والتي تشهد انحداراً الآن)- وبخاصة المملكة المتحدة، وإيرلندا، وأستراليا، وكندا، وإسبانيا فلن تنجو من الضربات. أما أيسلندا التي بادرت إلى خصخصة بنوكها وإلغاء التنظيمات المالية منذ بضعة أعوام، فإنها تواجه اليوم خطر الإفلاس على المستوى الوطني، وذلك لأن بنوكها سوف تعجز عن السداد للدائنين الأجانب الذين أقرضوا هذه البنوك بكثافة. وليس من قبيل المصادفة أن هذه الدول كلها، باستثناء إسبانيا، كانت ملتزمة التزاماً تاماً بالفلسفة التي كانت سائدة في الولايات المتحدة، ألا وهي فلسفة «السوق الحرة» والنظام المالي غير الخاضع للتنظيمات.
ولكن رغم الآلام التي تعيشها الأنظمة الاقتصادية غير الخاضعة للتنظيمات، على غرار النظام الأنجلوساكسوني، فإن أياً من هذا ليس بالضرورة أن يؤدي إلى كارثة عالمية. وأنا لا أرى أياً من الأسباب التي قد تؤدي إلى كساد عالمي، أو حتى ركود عالمي. أجل، سوف تتعرض الولايات المتحدة لانحدار في الدخل وارتفاع حاد في معدلات البطالة، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض حجم صادرات بقية دول العالم إلى الولايات المتحدة. بيد أن العديد من أجزاء العالم الأخرى التي مازالت تنمو، والعديد من البلدان ذات الاقتصاد القوي، بما في ذلك الصين، وألمانيا، واليابان، والمملكة العربية السعودية، مازالت تتمتع بفوائض تصديرية ضخمة، وعلى هذا فقد استمرت في إقراض بقية العالم (وبخاصة الولايات المتحدة) بدلاً من الاقتراض.
إن هذه البلدان تفيض بالسيولة النقدية، ولا تتحمل مثل هذه الأعباء المترتبة على انهيار فقاعة الإسكان. ورغم أن الأسر في هذه البلدان قد عانت إلى درجة ما بسبب انهيار أسعار الأسهم، فإنها ليست قادرة على الاستمرار في النمو فحسب، بل إنها قادرة أيضاً على زيادة الطلب الداخلي من أجل معادلة الانحدار في الصادرات إلى الولايات المتحدة. ويتعين على هذه البلدان الآن أن تبادر إلى تخفيض الضرائب، وتخفيف شروط الائتمان المحلية، وزيادة الاستثمارات الحكومية في الطرق، ومشاريع الطاقة، والإسكان العام. كما تمتلك هذه البلدان ما يكفي من الاحتياطيات من العملات الأجنبية لكي تتجنب خطر عدم الاستقرار المالي بسبب زيادة إنفاقها الداخلي، مادامت تتوخى الحكمة والحرص في إنفاقها.
وفي الولايات المتحدة، فإن المعاناة التي يعيشها الملايين من الناس حالياً، والتي سوف تنمو أثناء الأعوام المقبلة بسبب ارتفاع معدلات البطالة، تشكل فرصة لإعادة النظر في النموذج الاقتصادي الذي تبنته أميركا منذ تولى رونالد ريغان منصب الرئاسة في عام 1981. فقد أدى انخفاض الضرائب وتخفيف التنظيمات إلى نوع من العربدة الاستهلاكية التي استمتع بها الأميركيون طيلة بقائها، ولكنها كانت أيضاً السبب في خلق فجوة تفاوت هائلة في الدخول، ونشوء طبقة دنيا ضخمة، والاستغراق في الاقتراض الأجنبي، وإهمال البيئة والبنية الأساسية، والآن هذه الفوضى المالية الهائلة. ولقد حان الوقت الآن لتبني استراتيجية اقتصادية جديدة- قائمة على «صفقة جديدة» جديدة.
* أستاذ علوم الاقتصاد ومدير معهد الأرض بجامعة كولومبيا.


«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

صالح بشير: سلام مع العرب وحرب مع ايران

اسرائيل والتطبيع بأقل الخسائر
لأن الدولة العبرية اكتسبت، وحيدة أو تكاد، زمام المبادرة في الشرق الأوسط وفي شأن صراعاتها فيه، فهي قد استحوذت تاليا على زمام المبادرة في خصوص عملية التفاوض، تقبل على هذا المسار وتُدبر عن ذاك، تُقرّب الفلسطيني أو تُبعد السوري أو تفعل العكس، أو تستفيق فجأة على اقتراحِ حلٍّ سامته إهمالا وازدراءً مديدين، على ما فعلت أخيرا مع ما يُعرف بـ«مبادرة السلام العربية»، تلك التي تقدمت بها السعودية ثم تبنتها الدول العربية ملتئمةً في مؤتمر قمتها في بيروت سنة 2002.
تنتقل الدولة العبرية بين تلك المسارات تنقل المطمئن المنفرد بالخيار، تئد بعضها أو تعيد له الحياة متى ما عنّ لها ذلك وارتأت، تستنفدها تباعا، تُقبل على التفاوض، تنازُلَ الحد الأدنى، يطلبه منها العالم فتسترضيه به دون أن تبذل الكثير أو ما تكره، وتجهضه في الآن نفسه بمبادرات على الأرض تفرغ مفهوم التسوية من محتواه، لا سيما إذا ما تعلق الأمر بالشق الفلسطيني. ذلك أن الإقبال على التفاوض يفترض قدرا من إكراه، ناجم عن شروط ميزان قوة بعينه أو عن ضغط خارجي، من قوى نافذة، معنية بصراع من الصراعات دون أن تكون بالضرورة ضالعة فيه على نحو مباشر أو «تقني»، والحال أن إسرائيل في حلّ من الإكراهين ذينك، أقله ما لم نُدخل في الاعتبار العامل الديمغرافي (ذلك الذي استجدّ أمراً ملحّا) وتوجس الدولة العبرية من التكاثر العددي للفلسطينيين، خصوصا بين ظهرانيها، أي داخل كيان سنة 1948.
غير أن إسرائيل لا تتوخى التفاوض، مهما بلغ عقما ولا جدوى ظاهرييْن أو بالنسبة إلى الجانب العربي، من باب التلهّي أو من باب إشغال العرب والفلسطينيين بغث كلام السلام وزائف المرونة، بل إن التوخي ذاك، إنما يصدر عن عقل حديث ينشد، بصفته تلك، أقصى النجاعة مما يفعل أو لا يفعل. وهكذا، وعلى سبيل المثال، لم تكتف الدولة العبرية من تفاوضها مع الفلسطينيين باتخاذ ذلك التفاوض ستارا، تقوم من ورائه وتحت غطائه بنسف شروط التسوية نسفا يبلغ بهذه الأخيرة مبلغ الاستحالة والتعذر، فمثل ذلك مما قد لا تكون في أمسّ الحاجة إليه أصلا، بل إنها ذهبت أبعد من ذلك، إذ تمكنت، على أقل تقدير، من إسباغ بعض اللبس على لا مشروعية ما تقترفه في الأراضي المحتلة ضمّاً واستيطاناً، ما دام استمرار السلطة الفلسطينية في التفاوض، بالرغم من تلك الاقترافات وفي ظلها، قد يكون نزع عنها سمة الفداحة أو جعلها أمراً نسبي الخطورة، هذا ناهيك عن أن تلك السياسة قد جعلت من الخلاف حول التسوية شأنا فلسطينيا داخليا، خالصا أو يكاد، بُعدا يغذي النزاع الدائر حربا أهلية بين «فتح» و«حماس».
ما الذي تطلبه الدولة العبرية، استئناسا بتلك التجربة التفاوضية وبسواها من أوجه التعاطي الإسرائيلي، من سعيها المستجدّ والمفاجئ إلى بعث الروح في مبادرة عربية سبق لها أن وأدتها في المهد؟
أول وأهم ما يمكن استخلاصه من متابعة تصريحات وأقوال المسؤولين الإسرائيليين في شأن تلك المبادرة، أنهم يريدون الفصل بين شقين فيها يراهما الجانب العربي متلازمين تلازما ضروريا لا يشوبه انفصام وما يمثل روح مبادرتهم السلمية، هما التسوية الترابية، أي الانسحاب من الأراضي المحتلة سنة 1967، مقابل التطبيع الشامل.
تبدو إسرائيل، من مقاربتها للمبادرة العربية، ساعية إلى نيل التطبيع الشامل دون بذل شيء، أو على الأقل دون بذل ما يرضي العرب والفلسطينيين، على صعيد التسوية الترابية، وذلك ما قد يكون مغزى دعوة رئيس الدولة العبرية، شمعون بيريز، وسواه من المسؤولين الصهاينة، إلى التفاوض على تلك المبادرة نفسها، وهي دعوة ترمي إلى جعل تلك المبادرة متماشية مع الفهم الإسرائيلي لـ«التسوية»: تلك التي تضمن احتفاظ الدولة العبرية بما ضمته من أرض، لدواع أمنية و/أو استيطانية، وإقامة «دولة» فلسطينية منزوعة السيادة، تمارس سلطاتها على السكان دون الأرض.
لم يستجدّ، على صعيد ميزان القوة، ما من شأنه أن يدعو إسرائيل إلى التخلي عن مفهومها ذاك لـ«التسوية»، ما يعني أن إسرائيل ربما أضحت، من خلال استعادتها للمبادرة العربية، لا تستبعد بلوغ التطبيع الشامل، دون بذل الكثير، خصوصا ما امتنعت عن بذله حتى الآن وأصرّت وخاضت المعارك من أجل الحؤول دونه، على صعيد التسوية.
وهي ربما صدرت في منحاها المستجدّ هذا عن مراهنة، هي تلك التي مفادها أن ما جعلته العقبة الفلسطينية متعذرا حتى الآن (نعني التطبيع الشامل)، قد يجعله الهاجس الإيراني وما تستثيره سياسات النفوذ التي تتوخاها الجمهورية الإسلامية، سعيها إلى امتلاك أسلحة الدمار وامتداداتها المذهبية-الإيديولوجية، أمرا قابلا للتحقيق في المتناول. أي أن المراهنة الإسرائيلية تلك ربما قامت على الاعتقاد بأن الدولة العبرية تلتقي، لأول مرة ربما، مع الدول العربية في تعيين ما يمكن اعتباره «خطرا وجوديا»، وبأن الشأن الفلسطيني أضحى، تبعا لذلك، ثانوي الأهمية قياسا إلى إلحاح ذلك الخطر الإيراني، حقيقيا كان ذلك الخطر أم لم يكن، وبأن ذلك من شأنه أن يفتح في وجه إسرائيل باب الانتماء إلى المنطقة، أقله كمجال استراتيجي، خصوصا أن لها في ذلك ما تقدمه: كونها الدولة الوحيدة، في الشرق الأوسط، التي يمكنها أن تستوي قوة نووية، موازية ورادعة لتلك الإيرانية المُزمعة.
فهل أن الدولة العبرية بصدد استبدال مبدأ «الأرض مقابل السلام» بمبدأ آخر هو «الحماية (من الخطر الإيراني) مقابل السلام»؟ تلك فرضية يجدر ألاّ نستهين بها...

عن الجريدة

ساطع نور الدين: السنة والشيعة في انتظار لحظة الانقضاض المناسبة

التعايش المستحيل



لقاء في منتصف الطريق، يختزل واحدة من اهم صور المستقبل اللبناني، بالمعنى الحرفي للكلمة، الذي قد لا يسر الكثيرين ممن كانوا خارج تلك الصورة، وسيظلون بعيدين عنها. لقاء بين أقوى السنة وأقوى الشيعة، يحدد افقا بعيدا، او بتعبير ادق يضع رؤية استراتيجية للسياسة اللبنانية، التي يبدو منذ مدة ان ملامحها العامة صارت محكومة بتلك الثنائية الاسلامية، التي تجمع على اطرافها بين الحين والآخر، وفي المناسبات المهمة، حلفاء ليس لهم سوى دور ثانوي، يستكملون اللوحة ويضفون عليها مسحة جمالية قديمة، فقط عندما تستدعي اللحظة الحديث عن التنوع اللبناني، بأشكاله التقليدية، او عندما تتطلب المعركة تشديد شروط التفاوض. لم يعد هناك جدل حول هذه الثنائية ومركزية دورها السياسي الذي يتعمق يوما بعد يوم، بعدما لحقت خسائر متتالية بالمسيحيين اللبنانيون سواء في »صراع الارحام« في الستينات من القرن الماضي، او في الصراع على الدولة في السبعينات، او في الصراع على السلطة في الثمانينات، وهي خسائر ساهمت في خفض الكم والنوع، وفي تبديد الفكرة اللبنانية الاولى ذات المضمون المسيحي المعترف به، وفي ضياع الخطة الوطنية الرئيسية التي لا يمكن ان تقتصر على الانحياز للسنة او الشيعة، كما لا يمكن ان تنحصر بمهمة الوساطة بينهما.. كما يستحيل ان تبنى على خيار السفر الى طهران، في ذروة اشتباكها مع العالم العربي، وفي استعادة شبه حرفية لمعارك مسيحية سابقة مع القومية العربية، ورموزها السابقة. لكن الطابع الاستراتيجي للقاء مستمد فقط من هذه الزاوية التي تفترض بناء على معطيات وأرقام محلية وتقديرات خارجية ان مستقبل لبنان سني شيعي. وكل ما عدا ذلك تلاوين باهتة، سواء في بعدها المسيحي، او في ابعادها الاخرى التي يصعب العثور فيها على اقلية واعدة على مستوى الانجاب، خارج هذا المسار التاريخي، الذي سيحكم لبنان لعقود طويلة مقبلة.. حتى تتعرض احدى الغالبيتين الاسلاميتين لما تعرض له المسيحيون من هزائم، وتقرر الاستسلام او الهجرة! في اللحظة الراهنة، يبدو اللقاء اقرب الى دعوة متبادلة موجهة الى الجمهور السني والشيعي لانتظار الظروف المناسبة للانقضاض على الآخر، او لتصفية حسابات تراكمت على مدى السنوات الثلاث الماضية. الانتخابات النيابية المقبلة هي مجرد محطة عابرة في هذا السياق، ومناسبة غير مقنعة وربما ايضا غير مجدية لاختبار موازين القوى بين الغالبيتين الاسلاميتين، اللتين تتنازعان الآن على دور الضحية وعلى هوية الجلاد.. من دون نجاح يذكر، ومن دون امل في تهدئة خواطر العامة التي ورثت قرونا من الفتن، وما زالت تحفظ وقائعها وترددها عن ظهر قلب، والتي لا تكتفي بقراءة كتب مختلفة للتاريخ، لكنها تقرأ ايضا في كتابين مختلفين للمستقبل. الثنائية ليست طائفية او مذهبية فقط. هي سياسية ايضا. تحاول ان تزاوج بين فكرتين كان التعايش بينهما مستحيلا طوال اربعة عقود. ولا يزال.

عن السفير

ستيفن كنزر: اميركا في افغانستان

الهوة اللولبية




رغم خلافاتهما حول كيفية متابعة حرب الولايات المتحدة في العراق، يريد السيناتور جون ماكين والسيناتور باراك أوباما أن يرسلا المزيد من القوات الأميركية إلى أفغانستان. كلاهما على خطأ. التاريخ يصرخ باتجاههما، ولكنهما لا يسمعان.

يحسن كلا المرشحين صنعاً إذا حملقا للحظة في لوحة للفنانة البريطانية إليزابيث بتلر وعنوانها ''بقايا جيش''، تمثل جنديا وحيدا هو من تبقى من جيش بريطاني قوامــه 1500 جندي أراد أن يعبر مسافة 150 كيلومتراً من الأراضي الأفغانية المعادية عام .1842 يشكل جسد الجندي النحيل المتهالك والمهزوم تذكاراً لا يمحوه الزمن عما يحصل للجيوش الأجنبية التي تحاول إخضاع أفغانستان.

ترتكز سياسة ماكين وأوباما تجاه أفغانستان، مثل معظم سياسات الولايـــات المتحـــدة نحو الشرق الأوسط وأواسط آسيا على العواطف بدلاً من الواقعية. تقــود العواطــف العديد من الأميركيين لأن يرغبوا في معاقبة مرتكبي جرائم 11 سبتمبر ،2001 وهم يرون الحرب ضد ''طالبان'' أسلوباً لتحقيق ذلك. كما يُعتبر القول بأن النصر على ''طالبان'' مستحيل وإن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تأمـــل بالســلام مـــع أفغانستان إلا من خلال الحلول الوسطى مع قادة ''طالبان''، شبه خيانة.

يتجاهل هذا التجاوب المفاجئ نمط السيناريوهات المتغيرة التي طالما كانت جزءاً من الحياة القبلية الأفغانية لقرون عديدة. تتحول الأخلاق مع تغير المصالح. لا يعتبر دعاة الحرب الذين ساندوا ''طالبان'' بالضرورة أعداءً للولايات المتحدة. وإذا كانوا كذلك اليوم فليس بالضرورة أن يكونوا كذلك غداً.

بدأت هذه الحقيقة البدائية في الأسابيع الأخيرة تعيد تشكيل الحوار حول السياسة الغربية تجاه أفغانستان. التقى دعاة الحرب على الجانبين بهدوء في المملكة العربية السعودية. نادى وزير الدفاع الأفغاني بإجراء ''تسوية سياسية مع طالبان''. لم يذهب وزير الدفاع الأميركي روبرت جيتس إلى تلك الحدود، لكنه قال إنه قد يكون في نهاية المطاف منفتح لفكرة ''التسوية كجزء من النتيجة السياسية''.

إلا أن جيتس وصل مرحلة الهذيان من البهجة المبنية على إمكانية تحقيق أمر ما، من خلال تكرار شعار ماكين وأوباما: يمكن للمزيد من الجنود الأميركيين تحييد أفغانستان. أكد جيتس، وهو يتحدث بعد أيام من تقرير استخباري وطني توصل إلى نتيجة أن الولايات المتحدة عالقة في ''انهيار لولبي'' هناك، أكد أنه ''لا يوجد سبب لأن نكون انهزاميين، أو أن نقلل من قيمة الفرصة لأن نكون ناجحين على المدى البعيد''.

واقع الأمر أن النجاح بعيد الأمد في أفغانستان، الذي يعرّف بأنه مستوى مقبول من العنف وتأكيدات بأن الحدود الأفغانية لن تستخدم لشن هجمات ضد دول أخرى، لن يكون ممكناً إلا بعدد أقل من الجنود الأجانب على الأرض، وليس أكثر.

أنتجت سلسلة من الهجمات الأميركية التي لا تلين على أفغانستان ''أضراراً جانبية'' على شكل مئات الوفيات المدنية، مما يؤدي إلى عزل الأفغان الذين يحتاجهم الغرب. وطالما تستمر الحملة سوف يستمر انضمام المجندين إلى ''طالبان''. ليس صدفة أن الطالبان نموا بشكل واسع منذ بدء حملة القصف الحالية، فذلك يسمح لـ''طالبان'' أن يدّعوا عباءة المقاومة أمام محتــل أجنبـــي. ليــــس هنــــاك مــا هــو مقــدس أكثـــر مـن ذلــك في أفغانستــان.

كذلك تشكل الحرب الأميركية في أفغانستان أداة تجنيد لـ''لقاعدة''، فهي تجتذب فيضاً مستمراً من المقاتلين الأجانب إلى المنطقة. قبل بضع سنوات ذهب هؤلاء المقاتلون إلى العراق ليحاربوا ''الشيطان الكبير''.

وهم يرون الولايات المتحدة الآن تصعّد حربها في أفغانستان والمناطق المجاورة في باكستان، وهم يذهبون إلى هناك زرافات ووحداناً بدلاً من العراق.

وحتى لو قامت الولايات المتحدة بعكس عملية تصعيدها للحرب في أفغانستان، فلن تكون الدولة مستقرة طالما أن تجارة الحشيش توفر كميات ضخمة من الأموال للمتشددين العنفيين، استئصال نبات الحشيش هو مثل استئصال ''طالبان'' فكرة عظيمة ولكنها غير قابلة للتطبيق.

بدلاً من شن حملات لا نهاية لها من رش المبيدات وحرق الحشيش، التي تعزل الأفغان العاديين، يتوجب على الولايات المتحدة أن تسمح باستمرار الزراعة دون إعاقة، ومن ثم تقوم بشراء المحصول بكامله. يمكن تحويل بعض المحصول إلى مورفين للاستخدام الطبي، ثم يحرق الباقي. تبلغ قيمة محصـــول الحشيش الأفغاني ما يقدر بأربعة مليارات دولار سنوياً. يفضل صرف هــذا المبلغ عن طريق وضع النقود في جيوب الفلاحين الأفغان بدلاً من إطـــلاق الصواريــخ على قراهـــم.

سوف يؤدي نشر المزيد من الجنود الأميركيين في أفغانستان إلى زيادة حدة هذا النزاع الخطر وليس إلى تهدئته. سوف تكون التسوية مع ''القاعدة'' لا يمكن تصورها وكذلك منفرة. ولكن ''طالبان'' قوة مختلفة. يشكل التفاوض بأسلوب ماهر بين زعماء القبائل، بناءً على استعداد صادق للتسوية أفضل أمل لأفغانستان. إنه توجه يرتكز على الواقع وليس العاطفة.


مؤلف كتاب ألف تل: إعادة إحياء رواندا والرجل الذي حلم بذلك

ينشر بترتيب خاص مع خدمة كومون جراوند
عن ايكاوس

شربل بركات: النظام الانتخابي الاميركي

التصويت الشعبي قد يتعارض مع تصويت الهيئة الناخبة وخيانة المندوبين واردة

أكثر من مئة مليون ناخب أميركي مدعوون إلى الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية، يوم الرابع من شهر نوفمبر المقبل، ولكن 538 شخصاً فقط ستكون لهم الكلمة الأخيرة، وإن نظرياً، في اختيار من سيكون رئيس أكبر قوة سياسية وعسكرية واقتصادية في العالم، وذلك يعود الى النظام الانتخابي الاميركي غير المباشر، المعتمد منذ عام 1787، والمنصوص عليه في الدستور، والذي يخلق توازنا بين حقوق الافراد وحقوق الولايات. وتنقسم آراء الأميركيين بشأن هذا النظام بين مؤيد ومعارض، ويعتبر المؤيدون انه يعطي بعض الحقوق للولايات، تناسقاً مع النظام الفدرالي الاميركي، بينما يعتبر المعارضون انه ينزع صفة الديمقراطية عن الانتخابات الرئاسية، إذ من المحتمل ان يفوز رئيس بالتصويت الشعبي، ويخسر في تصويت الهيئة الانتخابية.
تمّ وضع الدستور الأميركي عام 1787، ورغم انه اعتبر وقتها «تقدمياً»، يكفل معظم الحريات الفردية، ويؤمن تمثيلاً ديمقراطياً للشعب في مؤسسات السلطة السياسية، فقد تضمن في الأصل ثغرات عدة.
والسبب الرئيسي لهذه الثغرات «المقصودة»، هو ان الدستور وُضع في لحظة تاريخية محددة، وفي وقت لم تكن الحياة السياسية الأميركية منتظمة أو مستقرة، ولم تتضح بعد طبيعة النظام الأميركي، وكانت الخلافات الموروثة من الحرب الاهلية حاضرة، والخلافات بين الداعين الى استقلال واسع للولايات والداعين الى «مركزة» النظام في يد الحكومة، فاعلة ومؤثرة. لذلك ارتكزت «روحية» الدستور، على أنه اداة للموازنة بين حقوق الاميركيين الافراد، وحقوق الولايات، وحقوق الحكومة الفدرالية والكونغرس (مجلسي النواب والشيوخ).
وهذا التوازن الثلاثي العناصر، الذي لا يزال سارياً الى يومنا الحالي، هو الذي يكسب الدستور الاميركي، وتحديدا النظام الانتخابي، وبالاخص نظام انتخاب الرئيس، صفة «التعقيد»، والتناقض في بعض الجوانب.
وفي كل دورة انتخابية رئاسية، يعود الجدل بين النخب الاميركية، حول مدى صحة نظام انتخاب الرئيس، وحول ايجابيات وسلبيات هذا القانون، وحول ديمقراطيته أو عدمها، وتتعالى اصوات مطالبة بتعديله، بينما ينبرى آخرون الى الدفاع عنه.
وتشير سجلات الكونغرس الأميركي إلى انه خلال السنوات المئتين الماضية، جرى تقديم ما يزيد على 700 اقتراح إلى الكونغرس لإصلاح أو إلغاء الهيئة الناخبة.
آلية انتخاب الرئيس
علامَ يقوم هذا النظام إذن، وكيف يعمل؟
الأسس الدستورية لانتخابات الرئيس، المعروفة بالنظام غير المباشر او نظام الهيئة الناخبة «Electoral College»، منصوص عليها في المادة الثانية من الدستور.
وتلخّص هذه المادة، كما يلي (بالإيجاز):
أولاً: تُعيِّن كل ولاية، وفق الطريقة التي يقررها مجلسها التشريعي، عدداً من أعضاء الهيئة الناخبة يساوي العدد الإجمالي لممثليها في مجلسي الشيوخ (2 في كل ولاية بصرف النظر عن عدد سكانها) والنواب (كل ولاية حسب عدد سكانها بناء على إحصاء سكاني يجري كل عشر سنوات).
لكن لا يجوز أن يعين في الهيئة الناخبة أحد أعضاء مجلس الشيوخ أو مجلس النواب، أو شخص يشغل منصباً في الحكومة.
ثانياً: الهيئة الناخبة جزء من التصميم الأصلي لدستور الولايات المتحدة. أنشأها «الآباء المؤسسون» كتسوية وسطية بين انتخاب الرئيس على يد الكونغرس وانتخابه بالتصويت المباشر.
ثالثاً: تتألف الهيئة الناخبة حالياً من 538 عضواً (مجموع أعضاء مجلس النواب (435) ومجلس الشيوخ (100)، إضافة إلى 3 أعضاء لمقاطعة كولومبيا (التي تضم العاصمة الفدرالية واشنطن). يجب تأمين أغلبية 270 صوتاً من أصوات الهيئة الناخبة لانتخاب الرئيس ونائبه.
رابعاً: تختلف إجراءات اختيار أعضاء الهيئة الناخبة بين ولاية وأخرى. بصورة عامة، يسمي قادة الحزبين السياسيين الرئيسيين (الديمقراطي والجمهوري) في الولاية أعضاء الهيئة الناخبة خلال مؤتمراتهم الحزبية القومية في الولاية، أو استناداً إلى تصويت تجريه اللجنة المركزية للحزب في الولاية.
خامساً: يختار الناخبون في كل ولاية أعضاء الهيئة الناخبة الذين يتعهدون بتأييد مرشح رئاسي يوم اجراء الانتخابات العامة، وهو يوم الثلاثاء الذي يلي أول يوم اثنين من شهر نوفمبر (يصادف يوم 4 نوفمبر هذا العام). يجوز ان تظهر أسماء أعضاء الهيئة الناخبة أو أن تغيب في لائحة الاقتراع تحت اسمي المرشحين المتنافسين لمنصب الرئاسة، وذلك حسب الإجراء المتبع في كل ولاية.
سادساً: يجتمع أعضاء الهيئة الناخبة في كل ولاية في أول يوم اثنين يلي يوم الأربعاء الثاني في ديسمبر (يصادف يوم 15 ديسمبر هذا العام) لاختيار رئيس ونائب رئيس الولايات المتحدة.
سابعاً: يحدِّد مجموع أصوات الهيئة الناخبة من سيكون الرئيس ونائب الرئيس، وليست الأغلبية العددية الإحصائية التي قد يحصل عليها المرشح من مجموع الأصوات الشعبية التي نالها على مستوى الدولة.
ثامناً: يجتمع الكونغرس في جلسة مشتركة في شهر يناير من السنة التي تلي الانتخابات الرئاسية لعد أصوات أعضاء الهيئة الناخبة وتحديد الفائز.
وفي حال لم يحصل أي مرشح رئاسي على أغلبية أصوات أعضاء الهيئة الناخبة، ينص التعديل الثاني عشر للدستور على وجوب ان يقرر مجلس النواب نتيجة الانتخابات الرئاسية. يقوم مجلس النواب باختيار الرئيس بأغلبية الأصوات من بين المرشحين الثلاثة الذين حصلوا على اكبر عدد من أصوات الهيئة الناخبة. تُحسب الأصوات وفقاً لكل ولاية، بحيث يكون لكل نائب صوت واحد. وفي حال لم يفز أي نائب رئيس بأغلبية أصوات مجلس النواب، يقوم مجلس الشيوخ باختيار نائب الرئيس بأغلبية الأصوات، فيختار كل سيناتور أحد المرشحين الذين حصلا على اكبر عدد من أصوات الهيئة الناخبة.
(وقام مجلس النواب باختيار الرئيس مرتين: الأولى عام 1800 والثانية عام 1824، واختار مجلس الشيوخ نائب الرئيس مرة واحدة عام 1836).
«الفائز يحصل على كل شيء»
هذا العام، تمنح 48 ولاية من أصل 50، والعاصمة «واشنطن دي سي» أصوات الهيئة الناخبة على أساس «الفائز يحصل على كل شيء». فعلى سبيل المثال، سينال المرشح الرئاسي الذي فاز بالتصويت الشعبي في الولاية، كل أصوات أعضاء الهيئة الناخبة المخصصين لتلك الولاية، حتى لو بلغ هامش الفوز 0.1 في المئة.
مثلاً اذا فاز المرشح الديمقراطي باراك اوباما بالتصويت الشعبي في ولاية كاليفورنيا على منافسه الجمهوري جون ماكين، يفوز بالـ 55 مندوبا في الهيئة الناخبة المخصصين للولاية. ومن شأن هذه القاعدة ان تسهل عمليات فرز الاصوات.
وقبل ذلك كانت بعض الولايات تطبق قاعدة الفائز يحصل على كل شيء، وبعضها الآخر يطبق النسبية (الفائز يحصل على نسبة من المندوبين تساوي نسبة الاصوات الشعبية التي حاز عليها).
ولايتان فقط ستطبقان النسبية هذا العام، هما نبراسكا وماين، ومن المحتمل في هاتين الولايتين، حسب استطلاعات، انقسام أصوات أعضاء الهيئة الناخبة بين المرشحين من خلال التوزيع النسبي للأصوات.
يوم الاستحقاق
بإيجاز، يتوجه الناخبون الاميركيون هذا العام، الى صناديق الاقتراع يوم الرابع من نوفمبر، لانتخاب الرئيس ونائبه. في بعض الولايات تضمّ لائحة الرئيس ونائبه، أيضا لائحة المندوبين المؤيدين له، وفي ولايات اخرى لا يستخدم هذا الاجراء.
تُفرز الأصوات بعد إقفال صناديق الاقتراع، ومع تطبيق قاعدة الفائز يحصل على شيء، يُحسب لكل مرشح عدد الولايات التي فاز بها، وتعرف نتيجة الانتخابات بجمع عدد مندوبي هذه الولايات، والمرشح الذي يحصل على 270 مندوباً، يفوز في الانتخابات.
ويوم الخامس عشر من ديسمبر، يصوِّت مندوبو الهيئة الناخبة شكليا للمرشح الذي يدعمونه.
ثغرتان
ولكن العملية ليست بهذه السهولة، فالخبراء يرصدون ثغرتين أساسيتين في النظام الانتخابي، اللتين قد تؤديان الى الالتباس.
الالتباس الأول يعود الى إمكانية تعارض التصويت الشعبي مع تصويت مندوبي الهيئة الناخبة، كما حصل في عام 2000 حين فاز المرشح الجمهوري جورج بوش بولايته الاولى بـ271 صوتاً من أصوات الهيئة الانتخابية، مقابل 266 لمنافسه الديمقراطي آل غور، مع أن الأخير حصل على 540 ألف صوت شعبي أكثر من بوش، وذلك يعود الى إمكانية ان يفوز أحد المرشحين في ولايات صغيرة، ويخسر في ولايات كبيرة، وغير ذلك من الحسابات المعقدة.
والالتباس الثاني انه لا تنص أي مادة في الدستور أو في القانون الفدرالي على وجوب أن يصوت أعضاء الهيئة الناخبة وفقاً لنتائج التصويت الشعبي في ولايتهم.
إلا أن قوانين بعض الولايات تنصّ على فرض غرامات على المندوبين الذين يسمون بـ«الخونة»، أو تسقط أهليتهم وتستبدلهم بسبب إدلائهم بصوت «باطل».
ولم تصدر المحكمة العليا الأميركية حكماً محدداً ما إذا كان يجوز، بموجب الدستور، فرض تطبيق التعهدات أو العقوبات بسبب عدم الالتزام بالتصويت طِبقاً لما تمّ التعهد به. ولم تتم أبداً محاكمة أي عضو في الهيئة الانتخابية لعدم التزامه بالتصويت حسب ما تعهد به.
المؤيدون
يقول مؤيدو نظام الهيئة الناخبة، أن هذا الأخير يتناسب بدقة مع النظام الفدرالي الذي يُشرك خمسين ولاية، بوصفها ولايات ذات استقلال ذاتي، في اختيار الرئيس. ويشيرون الى انه لو ألغي هذا النظام لفقدت الولايات الصغيرة تأثيرها واهميتها في العملية الانتخابية الى حد التهميش، وعند ذلك، يركز المرشحون الرئاسيون على الولايات الكبيرة ذات الكثافة العالية من السكان، ويتجاهلون كلياً الولايات الصغيرة.
ويعتبر هؤلاء أن نظام الهيئة الناخبة ساهم في الحدّ من إمكانية مرشح حزب ثانوي، أو مرشح حزب ثالث، في المنافسة على الرئاسة، ويلفتون الى ان الهيئة الانتخابية ترسخ نظام الحزبين الذي يرون فيه نظاما ايجابيا يفرض درجة من الاعتدال في السياسة الأميركية، ويعتبرونه عنصرا أساسيا في استقرار البلاد، فهو يمنع الحركات والميول والاتجاهات المتطرفة يمينا او يسارا من النمو والازدهار ومن الوصول الى السلطة الاولى في لحظة تاريخية محددة.
مثلاً: نجح المرشح المتطرف ستروم تيرموند وحزبه الداعي إلى العزل العنصري في انتخابات عام 1984، في كسب الأصوات الشعبية، وأصوات الهيئة الناخبة في ولايات قليلة فقط، ولكن النظام الانتخابي منعه من الفوز.
كما يقول اصحاب هذا الرأي ان هذا النظام يحفظ حقوق الاقليات العرقية والاثنية المكونة للشعب الاميركي. وعلى سبيل المثال، تُشكِّل الاثنية اللاتينية ما يوازي 12 في المئة فقط من عدد سكان الولايات المتحدة، كما تُشكِّل نسبة اقل من ذلك في مجموع أصوات المقترعين. وفي نظام الانتخابات المباشرة، سينخفض تأثير هذه الجماعة بشدة على المستوى القومي،
اما في النظام غير المباشر فيمكنها التأثير في الولايات التي توجد فيها، ففي اريزونا، التي كانت دائماً تميل إلى أن تكون ولاية متأرجحة سياسياً، تبلغ نسبة المتحدرين من أصل لاتيني حوالي 25 في المئة.
المعارضون
اما المعارضون لنظام الهيئة الناخبة، فيعتبرون ان هذا النظام ينسف السمة الديمقراطية من اساسها، ويقولون ان جوهر النظام الديمقراطي هو ان تحكم الأغلبية، وهذا ما ليس مطبقا في انتخابات الرئيس الاميركي.
اذ من الممكن ألا يغدو الرابح في الاقتراع الشعبي هو من سيصبح رئيساً.
ويشير المعارضون الى أن «المؤيدين لنظام الهيئة الناخبة، يتجاهلون، انه منذ عام 1788 تاريخ أول انتخابات رئاسية اميركية، وفي 55 انتخاباً رئاسية، تعارض التصويت الشعبي مع تصويت الهيئة الناخبة أربع مرات (من ضمنها انتخابات الـ 2000)».
ويقول هؤلاء المعارضون: إن «الديمقراطية تنص على ان كل الناخبين يجب أن يكون لديهم حافز متساوٍ للانتخاب، لكن هذا ليس هو الحال في الولايات المتحدة. فالأكثرية الساحقة من الناس تعيش في الولايات التي تعتبر مناطق محسومة تاريخياً لاحد الحزبين الديمقراطي او الجمهوري. وبسبب النظام غير المباشر تحولت هذه الولايات الى ممرات عبور يتجاوزها المرشحون الرئاسيون، بينما يركزون حملاتهم على الولايات المتأرجحة او غير المحسومة».
وفي الإطار نفسه، يعتبر المعارضون ان هذا النظام «لا يؤمن المساواة المفترضة بين اصوات جميع المواطنين الاميركيين»، مثلاً: يكون لصوت الناخب في ولاية «ديلاوير» أو «نورث داكوتا» قيمة أكبر من قيمة صوت الناخب في الولايات الكبيرة مثل كاليفورنيا، وتكساس، ونيويورك. (تقاس بنسبة المصوتين إلى أعضاء الهيئة الناخبة)،
أكثر من ذلك، إذا جرى تقييم الأصوات في ولاية ما، بالنسبة الى تأثير صوت المقترع في من سيكون المرشح الذي سيربح أصوات الهيئة الناخبة لتلك الولاية، فإن درجة التباين تصبح صارخة أكثر.
على سبيل المثال، في انتخابات عام 2004 الرئاسية، نتج عن الاقتراع الشعبي فرق بين المرشحين قدره 365 صوتاً في ولاية نيو مكسيكو (ممثلة بخمسة مندوبين في الهيئة الناخبين)، ولكنه رسا عند 312.043 صوتاً في ولاية يوتاه (الممثلة كذلك بخمسة مندوبين)، ما يعني ان مقترعاً في نيو مكسيكو كانت قيمة صوته تفوق بمئات الأضعاف في قدرتها على التأثير، مما كان عليه الحال في قيمة صوت الناخب من يوتاه.
سؤال مشروع
وعلى خلفية التعقيدات والالتباسات التي تحيط بالنظام الانتخابي الاميركي، يتبادر الى الاذهان هذا العام، سؤال مشروع، مع تمتع المرشح الديمقراطي باراك اوباما بشعبية جارفة تجاوزت الحدود الأميركية، وهو هل من الممكن ان يفوز المرشح الأول من اصول إفريقية بالتصويت الشعبي، وان يخسر منصب الرئيس امام منافسه الجمهوري جون ماكين في انتخابات الهيئة الناخبة بسبب «المندوبين الخونة» او بسبب استراتيجية ما يعتمدها منافسه الجمهوري جون ماكين للعب على حسابات المندوبين المعقدة؟.
الانتخابات في أرقام
أصدر مكتب الإحصاء الأميركي وثيقة رسمية أمس الأول، لخّصت الانتخابات الاميركية المقررة في الرابع من نوفمبر في أرقام:
• التعداد السكاني للولايات المتحدة: 301.1 مليون (عام 2007)، عدد السكان في سن الانتخاب (18+): 215.7 مليوناً (عام 2004)، نسبة المشاركة في التصويت: 122.3 مليونا أو %56.7 (عام 2004).
(المصدر: أرشيف روبر للرأي العام، جامعة كونكتيكت)
• يتطلب الفوز في الانتخابات الرئاسية الحصول على 270 صوتاً من أصوات المجمع الانتخابي.
الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2004 أُعيد انتخاب المرشح الجمهوري جورج بوش، إذ حصل على %50.6 من أصوات الناخبين و286 صوتاً من أصوات المجمع الانتخابي، مقابل %48.1 للمرشح الديمقراطي جون كيري.
• في عام 2000 فاز المرشح الديمقراطي آل غور بـ %48.3 من أصوات الناخبين، مقابل %47.8 للجمهوري جورج بوش. وفاز بوش بالبيت الابيض بحصوله على 271 صوتاً من المجمع الانتخابي عقب انتخابات شهدت منازعات في ولاية كاليفورنيا وتطلبت استصدار حكم قضائي من المحكمة العليا.
• في عام 1996 أعيد انتخاب المرشح الديمقراطي بيل كلينتون الذي حصل على %49.2 من أصوات الناخبين و379 صوتاً من أصوات المجمع الانتخابي، مقابل %40.7 للجمهوري بوب دول.
• في عام 1992، أطاح المرشح الديمقراطي بيل كلينتون بالرئيس الجمهوري الحاكم الرئيس جورج بوش (الأب)، إذ حصل على %42.9 من أصوات الناخبين و370 صوتاً من المجمع الانتخابي. وحصل بوش الأب على %37.1 من أصوات الناخبين، بينما حصل إتش. روس بروت (من حزب الاصلاح) على نحو %19.
(واشنطن - د ب أ)
عن الجريدة

نصير الاسعد: صدفة ان يحتشد النظام شمالا ويخلي حدوده مع العراق

في ضوء الأحداث الأمنية "الاستراتيجية" في سوريا خلال العام الجاري من اغتيال مغنية إلى الإنزال الأميركي في "البوكمال"

مطلع أيلول 2007، أغار الطيران الحربي الإسرائيلي على موقع داخل سوريا في منطقة دير الزور. غداة الغارة الإسرائيلية صدر موقف رسمي سوري يؤكد أن سوريا تحتفظ بحق الرد "في الزمان والمكان المناسبيَن". لكن بعد أيام، بدأت الأخبار تتوالى من إسرائيل تارة ومن الولايات المتحدة تارة أخرى، وتفيد أن الموقع المستهدف نووي سوري. ومع الوقت "تبخّر" التوعد السوري بالرد، وحلّ مكانه "تعاون" من جانب دمشق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفتّشيها. والأهم ان ما حلّ مكان التوعد بالرد على إسرائيل، كان الهرع السوري باتجاه تركيا وباتجاه التفاوض السوري ـ الإسرائيلي غير المباشر بوساطة تركية، بعد هرع نحو المشاركة في "مؤتمر أنابوليس" الذي لم يعمّر طويلاً."الرواية الأميركية" توحي بتواطؤ سوري أول من أمس الاحد، جرى إنزال أميركي داخل الأراضي السورية قبالة الحدود السورية ـ العراقية. وبحسب معلومات صحافية، فقد استغرق الإنزال وقتاً. صدر موقف سوري "يستنكر" العملية الأميركية و"يحتج" عليها ويحمّل الولايات المتحدة مسؤولية التبعات. ويتوعّد بالدفاع عن الأرض السورية في "مرة ثانية".غير ان "الرواية" الاميركية لما حصل في "البوكمال" تقول إن الإنزال إستهدف عناصر تعمل في شبكة مهمتها إرسال المقاتلين من شمال افريقيا والشرق الأوسط الى سوريا ومن ثم التسلّل الى العراق. وتضيف أن "القوات الأميركية إضطرت الى تولي الأمور بنفسها نظراً الى تجاهل سوريا الدعوات الأميركية الى ضبط حدودها مع العراق". "توحي" الرواية الأميركية بأن ثمة تواطؤاً سورياً مع "تولي القوات الأميركية الأمور بنفسها". وفي هذه الحالة، يكون الإستنكار السوري غطاء لذلك التواطؤ أي تغطية عليه. والحال انه لا يمكن إستبعاد هذا "السيناريو" في أي تحليل. إغتيال مغنية.. وتواطؤ دمشق منذ بضعة شهور ابتداء من العام الجاري، تشهد سورياً أحداثاً أمنية "تبدو" غامضة أو مفاجئة. في شباط الماضي، جرى إغتيال القيادي في "حزب الله" عماد مغنية في دمشق. في الإطار الرسمي، أعلن النظام السوري أن التحقيق في الإغتيال سيتواصل حتى إكتشاف الحقيقة. وبالمناسبة لا يزال التحقيق مستمراً الى اليوم بعد مرور نحو تسعة أشهر ومن دون نتيجة. أما في الإطار "شبه الرسمي" فإيحاء بأن الإغتيال فعلٌ إسرائيلي على الأرض السورية، فيما يعلن "حزب الله" أن الإغتيال نتيجة لـ"خرق أمني" إسرائيلي في سوريا. وأخذاً في الإعتبار ما يقال سورياً بشكل "شبه رسمي" من أن إغتيال مغنية فعلٌ إسرائيلي على الأرض السورية، وما يرجّحه "حزب الله" بشأن "خرق أمني" إسرائيلي في سوريا، لا يمكن في مجال الحديث عن المسؤوليات في إغتيال مغنية إلا »الإختيار« بين ثلاثة إحتمالات، كل واحد بينها "مرّ". فإما أنّ الداخل السوري مباحٌ ومتاح للمخابرات الإسرائيلية، وإما ثمة تواطؤ مخابراتي سوري مع المخابرات الإسرائيلية، وإما ان المخابرات السورية هي من قتل عماد مغنية. ذلك أن اللافت على هذا الصعيد، هو "التزامن" بين الإغتيال من جهة وإنطلاق التفاوض السوري ـ الإسرائيلي غير المباشر بـ"تأثير" الضربة الإسرائيلية للموقع النووي السوري قبل خمسة أشهر من الإغتيال نفسه من جهة ثانية.
الضوء إلى اليمين و"اللفّ" إلى .. الشمال
في أيلول الماضي، وقع انفجار في دمشق. تحدث النظام السوري رسمياً عن عملية تخريب إرهابية استهدفت العاصمة السورية. وفي "مناخ" هذا الانفجار تكررت الأنباء الآتية من سوريا عن "إشتباكات" بين الأجهزة السورية ومجموعات متطرفة إرهابية. وفي "المناخ" نفسه أطلق النظام السوري كلامه عن تحوّل طرابلس والشمال اللبناني الى "قاعدة للتطرف والإرهاب" تهدّد أمن سوريا، وصولاً الى نشر قواته قبالة الحدود الشمالية للبنان تحت عنوان منع التهريب ومنع التسلّل حيناً وعنوان تنفيذ القرار 1701 حيناً آخر.التطمينات الأوروبية حيال الإنتشار شمالاً واللافت في هذا المجال، هو ما يتصل بعدد من الأمور.
ما يلفت أولاً أن يكون النظام السوري "محتشداً" داخل حدوده قبالة الحدود مع لبنان و"تاركاً" حدوده مع العراق في الوقت نفسه. هذا مع العلم ان "إدعاءه" يقوم على منع تسلل الإرهاب من لبنان الى سوريا ومنها الى العراق، أي على منع الإرهاب من استخدام الأراضي السورية ممراً. وما يلفت ثانياً، هو انه في مقابل المخاوف اللبنانية من الحشود السورية، والتي برزت بإزاء "النبرة" السورية العالية ضد لبنان وتوازنه السياسي القائم، كانت ثمة تطمينات أوروبية للبنان بأن الانتشار السوري لا هدف لبنانياً له أي أنه لا يمهّد لأي دخول ـ مرفوض وممنوع دولياً ـ الى لبنان. وزادت هذه التطمينات بأن للانتشار علاقة بـ"شيء ما" داخل سوريا، "يبدو" الآن أنه عملية تطويق للشبكات التي كان النظام أسسها أو تعاون معها لأغراض "شتى" في لبنان والعراق.
لقاء رايس ـ المعلم
وما يلفت ثالثاً، هو أن لقاء جمع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس بوزير خارجية النظام السوري وليد المعلم قبل بضعة أسابيع، توازياً مع الانتشار السوري شمالاً. وللتذكير فإن اللقاء تم في حينه على ثلاث مراحل: "دردشة" ـ أو "وشوشة" ـ بين المعلم ورايس، ثم لقاء بين المعلم ومساعد رايس ديفيد ولش، ثم اللقاء الثنائي. وبـ"الطريقة" التي عبّر الموقف الأميركي عن نفسه حيال الانتشار السوري قبالة الحدود اللبنانية، وهي طريقة "جمعت" بين عدم استنكار الانتشار والتذكير بأن لبنان "خط أحمر"، يمكن إستنتاج أن اللقاء الأميركي ـ السوري "تركّز" على التعاون السوري مع أميركا بشأن "محاربة الإرهاب"، لا سيما في العراق.الإتفاقية الأمنية بين بغداد وواشنطن إن الأمور الثلاثة السالفة الذكر لافتة في حد ذاتها. بيدّ أن أهميّتها تزداد بالعلاقة مع التوقيت السياسي. ذلك أنها تتزامن مع البحث "الحثيث" في الاتفاقية الأمنية ـ العراقية. وليس خافياً في هذا السياق أن إقرار الاتفاقية الأمنية يعني ـ عندما يحصل ـ أن القوات الأميركية الموجودة في العراق ـ ومن ضمنه الحدود مع سوريا ـ جزء من "السيادة العراقية"، وأن إقرارها يعني "التشدّد" مع "دول الجوار" التي يأتي منها ريح. وهذه الدول هي عملياً دولتان: سوريا وإيران. وإقفال الممرّ الإرهابي من سوريا الى العراق، ستكون له نتيجة على صعيد محاصرة الدور الإيراني عراقياً.الأحداث الأمنية "الاستراتيجية".. من دون غفلة مما تقدم، لا يُستنتج فقط أن لا مبرّر أو منطق لاستبعاد "إخلاء" السلطات السورية منطقة الإنزال الأميركي "كي تقوم القوات الأميركية بالمهمة بنفسها"، بل يمكن أيضاً استنتاج أن النظام السوري بـ"طريقته" و"أسلوبه" إنما يتطبّع مع دفتر الشروط الدولي. وإلا كيف يمكن لسوريا حدوداً وداخلاً أن تصبح خلال بضعة شهور مسرحاً لأحداث أمنية "استراتيجية" على تقاطع مع معطيات إقليمية سريعة التحرّك؟ وهل صدفة »أنها تحبل« على الحدود مع الشمال لتلد على الحدود مع العراق؟.وفي حال كان في الأمر "شيء" آخر، لن يكون النظام السوري أكثر إرتياحاً.. خصوصاً إذا كان ثمّة "مرة ثانية" أميركية اي إذا كان ثمّة نيّة أميركية بـ"توضيح خطّي" لدمشق، بفعل تباطؤ ما أو تجاهل أو تأخّر.

عن المستقبل

بلال خبيز: السوق الحرة تأكل ابناءها

غينسبرغ وآخرون يمثلون امام لجنة استماع



مثل الان غينسبيرغ امام لجنة استماع مؤلفة من قانونيين اميركيين برئاسة هنري واكسمان لمساءلته عن اسباب الأزمة المالية التي تعصف بأميركا والعالم اليوم. رئيس مجلس ادارة البنك الفيدرالي السابق والذي يبلغ من العمر 82 عاماً، تعرض للوم الشديد من قبل اعضاء اللجنة التي استجوبته بقسوة هو ووزير الخزانة السابقة جون دبليو سنو وبعض المسؤولين الماليين السابقين. وإذا كان جون دبليو سنو قد تعرض للنقد اكثر من مرة سابقاً، إلا انها المرة الاولى التي يتعرض فيها عراف اقتصاد السوق الان غينسبرغ لهذا القدر من اللوم الذي وصل حد التجريح، وحملته اللجنة مسؤولية الانهيار الحالي معنوياً، بما يشكل نهاية حزينة لحياة حافلة بالنجاحات.
اشتهر غينسبرغ باعتباره المدافع الابرز عن حرية السوق، باعتبار ان السوق تعالج مشكلاتها بطريقة آلية يصعب على المحللين الاقتصاديين توقعها. وهو كان في ذلك مقتفياً اثار عالم الاقتصاد الانكليزي الشهير ادم سميث الذي برزت نظريته عن حرية السوق بوصفها احد اعمدة النظام الرأسمالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وعرّضها كارل ماركس لنقد قاس في نهاية ذلك القرن. لكنها استعادت القها في ثمانينات القرن الماضي بعد انهيار الانظمة الاشتراكية وفي غرة عهد الان غينسبرغ كحاكم فعلي للاقتصاد الاميركي طوال 18 عاماً. وبلغ من شهرة الرجل واهميته ان رجال السياسة والاقتصاد في العالم كله كانوا يتابعون كل همسة يهمسها الرجل ويأخذون كل كلام يقوله بمثابة الكلام الذي لا يقبل الزلل. وبلغ من امر سطوته على الاسواق المالية والاقتصاد عموماً ان مصورين صحافيين باتوا يراقبونه وهو يدخل إلى مبنى المصرف الفيدرالي كل يوم، فإذا كانت حقيبته منتفخة تخرج الصحف في اليوم التالي لتحذر الناس بأخطار محتملة على الوضع الاقتصادي، وإذا كانت حقيبته ضامرة تخرج التعليقات الصحافية في اليوم التالي لتبشر الناس بأن الاوضاع بخير. لكن غرينسبان الذي لم يعلق يومذاك على ما تذهب إليه الصحف، عاد واوضح بعد خروجه من منصبه ان هذا الامر لم يكن إلا اضغاث تكهنات لا قيمة لها، وان حقيبته كانت تنتفخ او تضمر بسبب انه كان يحمل معه في بعض الأحيان سندويتشات إلى مقر عمله. ولا علاقة لانتفاخها او ضمورها بالاقتصاد من قريب او بعيد. لكن هذه الحكاية توضح، بما لا يقبل الشك، إلى اي مدى بلغت سطوة غرينسبان على الاقتصاد العالمي، وهذا ما عكسه واقع انه بقي في منصبه طوال ثلاثة عهود رئاسية، من عهد بوش الأب، إلى كلينتون بولايتيه، وصولاً إلى جورج بوش الابن. وفي مطلع عهد كلينتون صرح الرئيس الديموقراطي يومذاك انه لن يتدخل في سياسات المصرف الفيدرالي الذي يرأس غينسبرغ مجلس ادارته. وكذلك فعل جورج بوش الابن.
تقاعد غينسبرغ عام 2006 وحل بن برنانكي في منصبه. ويومها اعتبر غينسبرغ ان اختيار برنانكي لهذا المنصب كان اختياراً موفقاً. مما يعني ان الخلف سيستمر على نهج السلف الذي اثبت كفاءته طوال 18 عاماً. لكن المدافع الأشرس عن حرية السوق اعترف امام لجنة الاستماع انه صُدم بسبب حدة الازمة، وانه في صدد مراجعة قناعاته حول نظرية السوق. ورداً على سؤال من اعضاء اللجنة عن سبب ثقته العمياء بالسوق، اجاب ان هذه النظرية لطالما عملت بكفاءة طوال ما يزيد عن الاربعين عاماً قضاهاً في مناصب رسيمة او شبه رسمية. وانه اليوم متفاجئ إلى ابعد حد بسبب عجز السوق عن اصلاح اوضاعها، مثلما كانت تفعل دائماً.
في معرض دفاعه عن افكاره، اشار غينسبرغ إلى ان اي مسؤول اقتصادي رفيع يرسم سياساته الاقتصادية بناء على تقديرات وتوقعات، فإذا كانت تقديراته مصيبة بنسبة 60 بالمئة فذلك يعني ان سياسته ناجحة، وان الاقتصاد سيشهد نمواً لافتاً من دون شك. لكن الاصابة في التقديرات بنسبة ستين بالمئة تعني ان السياسة خاطئة بنسبة 40 بالمئة، وهذا امر لا يمكن اغفاله. والحق ان مثل هذا التقدير الذي يقر به غينسبرغ يكشف معنى الجملة التي لطالما رددها بوصفها الميزان الذي تقاس عليه السياسات الاقتصادية: اي تحرير السوق من القيود. فتحرير السوق من القيود باعتبار ان السوق تحسن التعافي من الضربات التي تتعرض لها بطريقة افضل بكثير من سياسات التخطيط الاقتصادية، ونصائح المحللين حائزي جوائز نوبل في الاقتصاد، يعني في نهاية المطاف ان مسألة تحرير السوق من قيودها مرغوبة ومطلوبة بسبب عجز علم الاقتصاد ان يكون علماً دقيقاً. وبمعنى آخر، السوق بالنسبة لغينسبرغ امهر من المنظرين والمحللين الاقتصاديين، لكنها ايضاً غامضة ورجراجة ومتقلبة ولا يمكن قياس تقلباتها بدقة. مما يوجب على عالم الاقتصاد ان يكتفي بمعالجة بعض اثار الهزات التي تحدث بين الفينة والفينة. اما التدخل في السوق فلا لزوم له، لأن ليس ثمة وصفة علمية تؤدي إلى تنظيم عملها على نحو يكفل التقدم والرخاء والنمو. وهذا مما يخفي خلفه قناعة ثابتة لدى غينسبرغ ومن يرون رأيه بأن علم الاقتصاد اشبه ما يكون بعلم الزلازل. حيث لا يستطيع علماء الزلازل منع حدوثها او ترقبه، وتقتصر ادوارهم على معالجة اثارها.
مع نهاية غينسبرغ المحزنة، يبدو ان السوق تأكل ابناءها. تماماًً كما اكلت الثورات ابناءها من قبل. ومع غروب شمس نظريات غينسبرغ وآدم سميث من خلفه، يبدو ان العالم قد ترك من دون بوصلة على المستوى الاقتصادي، ولن تتوقف تسونامي الاقتصاد، كما وصف غينسبرغ الأزمة الحالية، قبل ان تأكل كل ابناءها واحداً تلو الآخر. لكن ما لا يمكن حسابه بدقة هذه المرة، يتعلق اولاً واساساً في معرفة القعر الذي ستستقر عليه.
عن ايلاف

الاثنين، 27 أكتوبر 2008

بلال خبيز: الموت في لبنان والشكوى في سوريا

سوريا المحظوظة
يثير الخطاب الرسمي السوري في نفس اللبنانيين بعضاً من الحسد. لا يتأتى الحسد طبعاً من مستوى الرفاهية التي يتمتع بها الشعب السوري. وطبعاً لا احد في وسعه ان يتحدث عن اتساع هامش الحريات في سوريا مقارنة بمثيله اللبناني. (مراسلون بلا حدود لاحظوا ان الصحافة في سوريا، حرية وقدرة على التعبير، تقع في ذيل القائمة، رغم ان ليس ثمة من احرق مكاتب تلفزيونات في دمشق او اطلق قذائف صاروخية على مبنى جريدة، إلا ان العمل الصحافي في سوريا لا يقارن من حيث اتساع هامش حريته بمثيله اللبناني). كذلك لا يمكننا ان نفكر ان سوريا التي تعاني من احتلالين لقسم من اراضيها، واحد تركي، وان بات ممتنعاً على التداول الخطابي اللفظي، وآخر اسرائيلي في الجولان. وهو امر لا يعاني منه لبنان راهناً على الأقل. ايضاً، ليس في وسع اللبناني ان يحسد السوريين على قوة شكيمة دولتهم ومتانة العقد الاجتماعي الذي يربط بين مواطنيها، فسوريا منذ فجر استقلالها تعاني من رهاب التطرف. إذ لطالما كانت ارضاً خصبة لكل انواع التطرف بصرف النظر عن الرأي بنوعية هذا التطرف وضروراته واهميته. وسوريا ايضاً لم تكن في منجاة من الصراعات الطائفية التي يعتبرها اللبنانيون علة العلل. فحوادث 1860 الأعنف جرت في دمشق، وان كانت النتائج السياسية التي تمخضت عن تلك الحوادث اتصلت بلبنان اكثر من اتصالها بسوريا في ذلك الحين. ولا نستطيع ان ندعي ان سوريا دولة مرهوبة الجانب يخشاها اعداءها ويحسب لها جيرانها الف حساب. فحيث قُدّر للسياسة السورية ان تتدخل خارج اراضيها تكبدت في ما تكبدت خسائر فادحة في السمعة السياسية فضلاً عن الخسائر المادية المباشرة. لكن هذا كله لا يمنع اللبنانيين من الشعور بالحسد.
سبب الحسد لا تخفيه غابة من المضمرات والموضوعات والحيثيات التي تجعل من سوريا ما هي عليه وتجعل من لبنان ما هو عليه. الحسد يتأتى من كون سوريا تستطيع الانتصار من دون حرب، وتستطيع الاحتفال من دون عيد. ذلك ان سوريا منذ نشأتها قامت على فكرة انها ليست اكثر من نواة صغيرة، ومركزية للوطن العربي الأكبر. والحال ليست سوريا طامعة في تحقيق استقلالها عن غيرها، سوريا طامعة في الاندماج بغيرها، لذا لا يفكر السياسي السوري مرتين حين ينسب انتصار الفلسطينيين بالدم والقهر والمعاناة إلى سوريا، وحين ينسب انتصار اللبنانيين إلى سوريا ايضاً. ولا يتردد السياسي السوري كثيراً في اعتبار ان حزب الله او حتى ايران تخدمه وهو لا يخدمها. ذلك ان سوريا حتى اليوم ما تزال مشروعاًَ، ان في مفكرة الحزب القومي السوري الذي يواليها اليوم ولاء التابع لسيده، او في افكار البعث الذي يحكمها منذ عقود. سوريا لم تستكمل حدودها، هي على ما اسلفنا نواة صغيرة نقية وطاهرة من اصل المشروع العربي الكبير. ولأنها طاهرة ونقية ولا يأتيها الباطل من اي جهة، ودائماً بحسب القيادة السورية، فإنها تجيز لنفسها، اي هذه القيادة ان تخوّن من تريد تخوينه وان تطلق الصفات التي تشاء على من تريد ان تطلقها. حتى مصر نفسها لم تنج من مثل هذه الاحكام السورية. مصر التي حاربت اسرائيل، ولطالما ردد السوريون انفسهم ان لا حرب من دون مصر، تتحول إلى بلد تحكمه حفنة من الخونة والمستسلمين في عرف النظام السوري. ولا يتورع النظام السوري عن اتهام الممكلة العربية السعودية بتهم مماثلة، لأن قادتها لا يرون رأيه، فيما تحجم الدول العربية الاخرى، كبيرها وصغيرها عن سلوك هذا المسلك الخطر.
الأرجح ان النظام السوري وهو يجيز لنفسه نسبة الانتصارات التي يحققها غيره إليه لا يقف عند حد، فحتى التدخل الروسي في جورجيا بدا بالنسبة للنظام انتصاراً سورياً لا لبس في وضوحه. مستعيداً، على انعدام حيثيات ومعطيات، وضعاً سابقاً لانهيار الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن الماضي. بل ان الازمة المالية التي تعصف بدول العالم اليوم من اقصاه إلى اقصاه، تظهر في عين النظام السوري نوعاً من الانتصار الساحق. العالم ينهار لكن سوريا بخير. مثل هذه الإجازات التي يجيزها النظام لنفسه، تفعل فعلها في المنطق الذي يستوي عليه اي خطاب، اكان الخطاب معارضاً للسياسة السورية ام كان موالياً لها. فلا يكف المعارضون للنظام السوري عن الانزلاق من نعي الوحدة العربية نحو نعي الرابطة العروبية برمتها، ولا يكف الذين يرون خلاف ما يراه الخطاب الرسمي السوري عن الانزلاق نحو استسهال حل القضايا الشائكة التي تحف بالمنطقة من كل جانب، بافتراض ان العناد السوري هو السبب في تعقيد الازمات. فلا يندر ان يقرأ المرء كل وقت كلاماً متسرعاً يفيد ان فرص السلام العربي – الإسرائيلي اهدرت بسبب رغبة سورية بالسباحة في بحيرة طبريا، مما ينفي عن المشكلة بين اسرائيل وجيرانها تعقيدات لا حصر لها ويبسط الحلول بطريقة لا تخلو من خفة من يريد ان يتخفف من كل حمل.
رغم ذلك كله، لا تفعل سوريا شيئاً سوى الانتظار. سوريا دولة موقوفة ووطن ناقص إلى ان يتم النصر النهائي وحل المشكلات جميعاً ومعاً وفي آن. وسوريا الموقوفة هذه لا تسمح لمن يريد محاسبتها ان يحاسبها لهذا السبب بالذات.
في العلاقة مع لبنان، ثمة سبب حاسم للحسد. سبب تظّهر حيثياته وقائع الاسابيع القليلة الماضية. حيث تشكو سوريا، نظاماً وإدارة، من خطر ارهابي قد يطاولها من شمال لبنان. لكن وقائع السنوات الماضية تدل ايما دلالة على كون لبنان هو المتضرر الفعلي من نشاط الارهاب المتطرف. فالمتفجرات تطاول اللبنانيين وتزهق ارواحهم، بوتيرة اعلى بما لا يقاس من الوتيرة التي تصيب السوريين. وطبعاً لا احد يستطيع ان يقارن بين وضعية سوريا كهدف للإرهاب الاصولي ووضعية العراق، لكن الإدارة السورية تملك دائما حجتها. اللبنانيون والعراقيون يتعرضون للموت والاغتيال والاضطرابات الامنية والإدارة السورية هي من يرفع شكواه عالياً واعلى من شكاوى الجميع. والحق انه في وسع اي كان، نظاماً كان ام شخصاً، ان يشكو كما يحلو له، لكن الخطر كل الخطر يكمن في ان كثيرين في هذا العالم يستمعون للشكوى السورية اكثر مما يستمعون لشكاوى الآخرين.
ألم يكن في وسع اي سياسي لبناني، ان يستكمل خطاب الوزير محمد الصفدي في طرابلس، حين قال ان طرابلس ليست مصدراً للإرهاب بل هي ضحيته؟ فيضيف، ما بال النظام السوري يتهمنا بتصدير الإرهاب إليه ويريد معاقبتنا مرتين: مرة حين نتعرض للتفجيرات وعمليات الاغتيال، فلا يرى النظام السوري في هذا الاستهداف سبباً للتضامن، بل يتخذ من المعاناة اللبنانية حجة لتأكيد دعواه ان البلد يعج بالإرهابيين، ومرة اخرى حين نتعرض للتهديد في مدننا وقرانا، ونخسر من ارواح مواطنينا وجنودنا، ثم يدعي ان الإرهاب يشكل خطراً عليه، في وقت عانى لبنان طوال الاعوام الثلاثة الاخيرة، من عمليات اغتيال طاولت مقدمي البلد ووجهائه وحيداً ومن دون ان يسمع انينه احد. هذا رغم ان النظام السوري لم يكف عن اتهام العدو الإسرائيلي بهذه العمليات إلا انه لم يكف ايضاً عن اتهام القتلى بالتجسس لصالح قاتلهم.

عن موقع المستقبل

صالح بشير: حين السيادة تتجاوز الحيز الترابي

... أن يعاد اختراع «الدولة» فهماً وممارسةً
ليس كل معترض على الدولة، مفهوما ونظام اجتماع، وليس كل مجترئ عليها نابذ لها، بداعية حرية، على ما يجزم وهم وادعاء شائعان لا يعدوان أن يكونا من قبيل إيديولوجي، إن نحن فهمنا الإيديولوجيا، بالاستناد إلى كارل مانهايم مثلا، على أنها الخطاب الفئوي المأتى والزاعم شمولاً، مبعثُه نظرة أو مصلحةٌ قِطاعية أو جزئية، تموّه صفتها تلك بانتحال «موضوعية» تُستقى من العلم أو من حتمية التاريخ أو من توسل قيم كبرى ومتعالية.قد لا يوجد بين المعترضين على الدولة من المعاصرين طرف لا يصح فيه مثل ذلك «التعريف». من غلاة النيوليبراليين، من دعاة تحرير السوق تحريرا يبلغ مبلغ الإطلاق، إلى من يمكن تسميتهم بـ»الكونيين الجدد»، يتموضعون في ما بعد الدولة الوطنية أو في ما وراءها، إلى اللائذين، توجسا وقلقا، بالهويات الصغرى أو الكبرى، الواقعة في ما دون الدولة الحديثة أو في ما فوقها، لا تكاد تتصادف معها البتة. كل هؤلاء، وسواهم، يعاندون الدولة باسم تحرر، فئوي الدوافع وقطاعي المصالح، ولكنه مبدئي الادعاء، أي يزعم الاستناد إلى مبدأ الحرية الذي يُقدم الدولة، أي دولة وليس فقط ما كان منها توتاليتاري النظام أو استبداديه، على أنها نقيضه الناجز. والحال أن المقاربات تلك تنطوي على مغالطة، وذلك بداهةً من تجليات طبيعتها الإيديولوجية. إذ تصطنع كل فئة من الفئات التي سبقت الإشارة إليها أو سواها، الاعتقاد بأن الدولة يجب أن تكون تجسيدا لمبدأ الحرية، كما تراه هي، حتى إذا ما أخلّت الدولة بتلك الوظيفة المرتجاة منها، وإن على سبيل التغيب والانحسار، وليس لها إلا أن تفعل، ووجهت بالعداء. أما وجه المغالطة في تلك المقاربات، فهو المتمثل في أنها تسبغ على الدولة وظيفة ليست لها وتحاسبها بمقتضاها، إذ ليس على الدولة أن تكون تجسيدا لحرية فئة بعينها أو قطاع دون سواه (غير ذلك المتمثل في كونها المعبر عن استقلال شعب أو مجموعة) بل ان وظيفتها الأساسية، حتى في «أفضل» تجلياتها، أي عندما تكون ديموقراطية، تتوقف عند الاضطلاع بدور الضامن لحريات مختلف الأطراف والموازنِ بينها، لا تُغلّب إحدها على الآخر، أقله من الناحية النظرية، لا دور الناهض بها أو ببعضها. ويبدو أن المعترضين على الدولة أولئك، مهما كان الهاجس الفئوي الذي يصدرون عنه، إنما يعون ذلك الإعضال، فتراهم لذلك يسعون إلى تمويه فئوية مطالبهم من خلال أدلجتها، أي من خلال إنكار مأتاها أو طابعها القطاعي والخصوصي المصلحة، ونسبتها إلى مبدإ متعالٍ. ووفق النظرة تلك، تكفّ «حرية السوق» مثلا عن أن تكون إحدى الحريات، تواجهها أو تحاذيها أخرى، لتكتسب سمة تأسيسية، لتصبح الحرية الأولى التي تتفرع عنها أو تنجم كل الحريات سواها، من تعبير وانتظام وغير ذلك. فهي شرطها أو مبعثها الأوحد، حتى إذا ما انتفت تلك الحرية الأولى أطبق الاستبداد، وذلك أيضا شأن الصادر عن مطلب انعتاق خصوصي، عرقي/إثني/ثقافي، يحل الأمر ذاك منزلة المبدأ الكوني والذي يُقاس الانتماء إلى الدولة الجامعة من عدمه على أساسه. وقس على ذلك مختلف ظواهر الارتياب بالدولة الوطنية، أو بالدولة-الأمة، والارتداد عليها، وهي كثيرة.غير أن الاكتفاء بتوصيف تلك الظواهر قد لا يفسر الشيء الكثير، إذ يبقى ما لا مناص من الإقرار به، من أن الدولة تلك قد فقدت شرعيتها أو بعضها، وأن الفقدان ذاك كان من بين ما سهل وزيّن ظواهر الارتداد عليها. فقد كانت تلك الشرعية ناجزة، تحصيل حاصل، اعتبرت محايثة، ضرورة، لحداثةٍ كان الجميع يسعى في طلبها ويراها الأفق الذي يشخص نحوه كل اجتماع بشري، قبل أن تصبح محل نقد شديد، راديكالي أحيانا، في العقود الأخيرة. كما أن الدولة كانت التجسيد «الطبيعي» لكل توق وطني، استقلالي، لذلك رأت حركات التحرر، في العالم الذي كان مستعمَرا، أن آية نجاحها وانتصارها، إنما تتمثل في تمكنها من اجتراح دولة تكون، لا محالة، متماشية مع الأنموذج الحديث لها، إذ لم يكن من الممكن تصور أنموذج له بديل. وهكذا صير، في حالات كثيرة قد تكون الغالبة، إلى إقامة الدول قبل إنشاء الأوطان، إذ تفاءل الكثيرون بأن تكون الدولة، إذ تسبق الوطن إلى الوجود، كيانا مندمجا، قابلته وأداة اجتراحه، وهو ما لم يكن بالمراهنة الحمقاء ضرورة، على ما بيّن عالم الاجتماع الأميركي أرنست غلنر، في كتاب له شهير.ما الذي أدى إذاً إلى نسف شرعية الدولة الحديثة أو على الأقل إلى تأزيمها؟ قامت تلك الدولة وتأسست على مسلّمة أساسية، هي تلك التي تفيد المطابقة بين سيادتها ومجال تلك السيادة، أي بين هذه الأخيرة وحيّز ترابي بعينه. والحال أن مبدأ المطابقة ذاك لم يعد قائما أو أنه أضحى إشكاليا. قد يعود ذلك، من ضمن ما يعود إليه، إلى العولمة، خصوصا في شقها الاقتصادي والذي أفضى إلى ما يشبه الانفصال التام بين الرأسمال والمكان، فإذا الأول، إذ أوهن علاقته بالثاني على نحو قد يكون مبرما، وتحرر منه بحيث يمكنه الانتقال إلى أي جزء من العالم متى ما عنّ له، قد أفقد الدولة إمكانية الاضطلاع بدورها كمرتبة احتكام بين مختلف «الفرقاء» الاجتماعيين. شيء من هذا القبيل هو ما ذهب إليه على سبيل المثال الفيلسوف البولندي زيغمونت بومان في بعض كتاباته. هذا فضلا عن عوامل أخرى كثيرة، شأن انتشار فكر يرتاب بفكرة «السيادة» من أساسها ويعمل على إعادة النظر فيها أو على تجاوزها دون أن يأخذ في ذلك بإيديولوجيا اقتصادية محددة... وسوى ذلك مما لا يتسع المجال للخوض فيه. والأرجح أن فقدان الدولة لسمة التطابق بينها وبين حيز ترابي بعينه على أساس مبدأ «السيادة» يستوي تحوّلا مبرما لا رجعة فيه، مما قد يعني أن إعادة الاعتبار للدولة، وهو ما يبدو أمرا ملحّا، لا يجب أن تتوقف عند العودة إلى الدولة كما عهدناها أو إلى ترميمها وفق منوالها السابق، بل إعادة اختراعها وفق مبدأ مختلف، يقوم على تعريفها بوظائف توكل إليها، لا باعتبار السيادة والحيز الترابي حصرا.فكيف يمكن لذلك أن يتحقق؟

عن الحياة

عباس بيضون: لا جواب سوى الازدراء

التحول إلى لا شيء



لم يستفز ماكدونالد مزارعينا ولا مثقفينا فقد سبقته ماركات كثيرة ففي مدى عقود تغيرت تماما مآكلنا كلها، وكذلك ملابسنا وأثاثنا ومعمارنا وطرق عيشنا وكيفية تمضية وقتنا وفراغنا. كان البنطلون بالتأكيد غازيا أكبر من الماكدونالد وزال الطربوش ببطء أكثر من زوال القنباز - الثوب القديم الواسع. كانت المقاومة غير فعالة كثيرا على مستوى المعيش مما جعلها أكبر على مستوى الفكر. تغيير الحياة لم يتم بصعوبة كبيرة لكن ترافق بكراهية أكبر للغازي الغربي وربما للذات التي تقبلت جرثومته وتركتها تتوسع في داخلها. المهم أن الماكدونالد يمكن أن يستفز الأوروبيين أما العرب فلن تشكل بالنسبة اليهم فارقا فقد باتوا منذ زمن بعيد في تصرف كل الماركات الأوروبية أولا ولن تزيد الماركات الأميركية شيئا.انهارت حياة بكاملها أو ثقافة بكاملها في غضون عقود فقد تغير أيضا الأدب والفنون والموسيقى والفكر. مع ذلك كله لم نصبح غربيين ولا جزءا من الغرب. بدا هذا التغير وكأنه حدث في غيبوبة، كأنه ليس تاريخنا الخاص ولا نجد فيه أنفسنا. توضح صورة الاغتصاب الشائعة في بعض أدبنا هذا التصور أي تقبلنا بلا إرادة البذرة الغربية التي انتهت بأن غربتنا عباس بيضون، الصورة: لاريسا بندرعن أنفسنا أو بعبارة أخرى تحولنا إلى ما لا يشبه أحدا، لا أنفسنا ولا الغرب. يمكننا هنا أن نتحدث عن ثقافة وربما حياة غير تقليدية وغير حديثة عاجزة عن أن تكون هنا أو هناك. لا يعني انقسام المجتمع إلى قطاع حديث وتقليدي تبعا لمعيار اقتصادي أو ثقافي. نسي سكان حزام الفقر أصولهم الزراعية ولكنهم لا يصبحون بسهولة مدنيين وسيدفنون بالتأكيد في قراهم وجنب قطع الأرض التي هجروها لأنها لم تعد تكفيهم. يعرف الوعاظ والشيوخ والإسلامويون، ربما أكثر من غيرهم، فعالية الميديا ويستعملون بوفرة الكاسيتات والكومبيوتر وشاشات التلفزيون. فيما يبدو المهندس والطبيب وربما الشاعر الحديث مسكونين بكل الخراقات الدينية، ويلجأ السياسيون الحديثون إلى البصارات.هذا يدل على أن الانقسام "قديم وحديث" ليس انقساما بقدر ما هو ازدواج بل هو تركيب متناقض داخل الشخص نفسه: لا يجري هذا على الأفراد فحسب، بل على التجمعات أيضا، إذ يمكن الحديث عن نقابات طائفية ودول عشائرية اشتراكية وأنظمة دينية برلمانية وديموقراطيات دينية وجمهوريات أوتوقراطية. هكذا نصل إلى أطر اجتماعية وسياسية لا يمكن وصفها بالتقليدي أو الحديث. إذا تبعنا مثلا العلاقات العشائرية والعائلية والطوائفية وجدناها تحول وتتحول في السلطة والجيش والنقابات بحيث تلبس هذه مدلولات سياسية واجتماعية وإيديولوجية تموهها تماما. ولا حاجة للقول إنها لا تعود هي نفسها كما لا تعود السلطة والجيش والحزب والنقابة هي نفسها أيضا. إننا أمام أشكال لا تتعرف تماما على نفسها وأمام لعبة مرايا يتموه فيها التقليدي بالحديث والاجتماعي بالسياسي والإيديولوجي بحيث لا يعود ممكنا التصنيف أو التعريف. لكن هذه الأشكال إن اتصفت بشيء فهي تتصف بأنها انتقالية مستمرة. وهي على ذلك تتحول أكثر مما تتطور. ولا تملك في الغالب أفق تغيير أو استراتيجية. لذا يمكن القول إنها بلا تقاليد، أي بلا قدرة على التراكم والتكيف وامتلاك وجهة. وبعبارة أخرى يمكن القول إنها بلا ذاكرة حديثة، إذ يبدو أنها لا تملك فكرة فعلية عن تاريخها الراهن. بل يمكن القول إن ميزاتها الأولى هي نسيان الحاضر أو اعتباره نوعا من بروقا مستقبلية. نسيان الحاضر يتجلى في الصغير والكبير من الأمور. إننا لا نجد مكتبة حقيقية لثقافة الحاضر ولا ذاكرة فعلية لروادها ولا استمرارية حقيقية لسجالاتها. إنها تبدو الآن محاولات فردية وانقطاعات مثابرة. كما أننا من ناحية أخرى لا نتوقف عن السؤال من أين نبدأ وكأن شيئا لم يتحقق. وفي الغالب لا نتعلم من التجارب ونهرع على النفير ذاته. إن تجربة الإسلامويين مثلا نموذج لهذا التكرار العقيم والبداية المستمرة. لكن تاريخ الأنظمة السياسية العربية كلها قد لا يخرج عن هذا الشكل.لنتحدث إذن، بدلا من الكلام بتبسيط عن التقليد والتحديث، عن نسيان الحاضر. هذا قد يكون صدمة التحديث لكنه بالطبع ليس جوابا تقليديا. يمكننا أيضا أن نتحدث عن نوع من خصام بين المعيش والمفكر به.إن المعيش هو دائما في حالة من النسيان فيما الفكر ينطلق من تطلبات وتمنيات لا مقابل واقعيا أو تاريخيا لها. تنهار التقاليد لكن التقليد يبقى كفكرة ومبدأ. ولا يهم الماضي السعيد المنقطع بل فكرة الماضي. التحديث نفسه لا يهم كإمكانية بل كمبدأ. في هذا الوضع يمكن للإيديولوجيا أن تسود حرة مستقلة وبعيدة عن أي امتحان للواقع وعن أي تجربة أو معيش. يمكن لها أن تستولي على الفكر كله وأن تتحول إلى ألفاظ تتكرر بلا نقاش وبتقديس وببغاوية من قبل الجمهور. إن العقل الذي ينتج عن هذا عقل إيديولوجي صرف. عقل لا يرى سوى هواه الخاص وإلحاحاته الداخلية.لن تجد هنا أفكارا صرفة. إننا نجد الشغف أكثر مما نجد الفكرة. نجد الرضة والشعور بالدونية والضغينة كما الرغبة في إثبات النفس وربما استيهامات العظمة. الإلحاح الداخلي هو الأساس أكثر من الحساب الواقعي. العلاقة بالغرب تقع هنا، إنه محل استقطاب لكل هذه الشغفات المتناقضة، إنه المغتصب الذي لا شفاء من رضة اغتصابه وهو المثال الذي لا سبيل إلى بلوغه وربما قتله رمزيا أو فعليا مما يقدم حلا لهذا السباق المستحيل. ثم أنه مركز الشرعية والاعتراف ونحن نتوسل إليه ليعترف بنا ولا بأس أثناء ذلك من أن نطلق العنان لاستيهامات عظمتنا أمامه. ثم أن توسله وقتله أو التعاظم أمامه أمور شبه داخلية ولا تحتاج إلى حساب واقعي، فيخيل لصدام حسين مثلا ولبن لادن أن في وسعهما محاربة العالم كله. يحمل التاريخ الاستعماري بالطبع أسبابا لكل هذه المشاعرPASSION. إنه تاريخ النهب والاحتقار والاستئصال والطرد أحيانا في لبوس التمدين والمثال الحضاري. لكن المشكلة مع الغرب تبدو أعمق بقدر ما هي مشكلة المرء مع ذاته التي يحسها دائما مغتصبة أو مبتورة أو مستولى عليها من قوة عدوه أو عاجزة عن أن تجد اسما أو هوية. المشكلة مع الغرب هي مشكلة رمزية أيضا وتتطلب جوابا على المستوى ذاته. لا يمكن لاقتراحات التمدين والمساعدات الثقافية والإنسانية أن تحل شيئا بهذاالصدد. إنها تتلقى بريبة، فهي تؤكد من طرف آخر دونيتنا المستديمة تجاه الغرب. ما يفعله الغربيون في هذا المجال مهما للمثقفين والطبقات السياسية لكنه لا ينفذ إلى الخطاب المغلق الرمزي الذي يشكل البنيان الإيديولوجي السياسي للشعوب. هذه الشعوب أهينت بعمق من قبل الغرب وفاقم تهاونها مع هذه الإهانة. وتقبلها السهل لها من رضتها وعذابها مع نفسها وهي تريد تعويضا على هذا المستوى وبالنسبة للشعوب الإسلامية فإن محاولة تمدينها أو اقتراح خطة تمدين عليها تزيد في الغالب بل تفاقم من ارتيابها فهذا بالنسبة لها هو المنطق الاستعماري بلغة أخرى.العولمة لا تعني لها بالطبع استفزازا حضاريا أميركيا كما قد تعني لأوروبا. لقد خسرت هذه المعركة من زمن وما تعنيه العولمة بوجه خاص للمثقفين هنا هو مزيد من الشعور بالتأخر والعجز عن اللحاق والمزيد من الشعور بالثانوية. ففي عالم يتهدد مستعمريهم الأوروبيين بأن يغدوا ثانويين لا أمل لهم إطلاقا. في عالم يتهدد فيه الغرب الذي عرفوه بالغيب يمكن أن يضيعوا هم نهائيا في مجاهل الزمن. أي أن العولمة تضيف إلى هذا النسيج من الرضة والدونية وهذيان العظمة تعقيدا أكثر وانكفاء أكثر. وربما كان السلوك الانتحاري من بوادر الشعور بالضياع الكامل. إذا كان الغرب بالنسبة لكثيرين هو المعيار لمقدار ما هو العدو فإن ثانوية الغرب تجاه أميركا تجعله يتوقف أن يكون معيارا للقوة أو الضعف. وليس بعد فقدان المعيار سوى الضياع المطلق. الأمر يحتاج في الحقيقة إلى معالجة على المستوى الرمزي ذاته. يتطلب عمل ذاكرة وجوابا تعويضيا حقيقيا. والمدخل بالطبع إيديولوجي سياسي. لا تعني شيئا المساعدات الثقافية الاقتصادية للشعوب الإسلامية ما دام المدخل السياسي الإيديولوجي غير مطروق. ولنقل بصرامة، لا معنى للمساعدات ما دام التفضيل العالمي لإسرائيل لا يعني شيئا سوى مزيد من الاحتقار للشعوب الإسلامية وسوى تكرار مثابر لصورة الاغتصاب الاستعماري. لنقل بصرامة إن إسرائيل ليست بالنسبة لشعوب الشرق بلدا شرقيا إنها ذراع غربي. وتفضيلها يعني باستمرار تكرار التفوق واللااعتراف الغربيين ذاتهما، بل تكرار الغزو الغربي الذي جر عجزا وشللا عربيين وإسلاميين. ولأقل إن إسرائيل بالنسبة للمسلمين والعرب هي المعيار. إن تفضيلها يستدعي مجددا التعقيد النفسي الإيديولوجي ضد الغرب وتفوقها الواضح هو نوع من عرض يومي ومباشر لانتصار الغرب وصدمته. ما دام الأمر هكذا فإن المشكلة تتفاقم ويزداد شعور المسلمين والعرب بأنهم لا يحصلون على جواب سوى الازدراء. إن الكلام عن المساواة الثفافية والحضارية لا يعني شيئا لمن يرون أن تفضيل إسرائيل هو إعلان عملي يومي وملموس عن اللامساواة، وأن هذا التفضيل هو على نحو ما تفضيل للذات وإعلان عن تفوقها. لا أريد أن أذهب بعيدا في هذا الموضوع، لكن من الواضح أن ذكر القدس وفلسطين في أي محاكمة للغرب ليس عبثا. وإذا كنا مهتمين حقا بمصالحة من الإسلام فإن علينا أن نبدأ من هنا. من دون معالجة الإرث الرمزي لا يسعنا أن نبدأ في معالجة تفاصيل الواقع.
عن قنطرة

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .