السبت، 31 يناير 2009

بلال خبيز: الكتلة الوسطية بين غبطة البطريرك وسماحة الجنرال

من حق الجنرال ميشال عون ان يتخوف من اي كتلة وسطية مسيحية. مفهوم. فالجنرال كان ولا زال يغالب حلماً في ان يتحول زعيماً اوحد، بطريركاً، لكل المسيحيين، واغلب الظن ان اعتراضه على البعض ممن يخاصمهم في المجال المسيحي هو من باب صعوبة ان يتفهم قرار هؤلاء التحرك والعمل خارج الحدود التي تصلها اشعة شمسه البرتقالية.
من حق بعض المسيحيين في 14 آذار التخوف ايضاً من كتلة وسطية فكل الذين صوتوا في الانتخابات الماضية لعون نكاية ببعض فريق 14 آذار، يجدون نفسهم، من دون نشوء كتلة وسطية، امام خيارين احلاهما مر: اما التصويت لفريق 14 آذار واما الاستقالة من العمل السياسي ومن حقهم بالانتخاب.
امران لا يخرجان عن سياق التحليلات الدارجة والرائجة في لبنان. لكن الأكمة تخفي وراءها ما وراءها. وهذا المخفي لا ينطبق بالضرورة على مسار التحليلات وحدود حملات التشهير المتبادلة. واقع الأمر ان المواقف الأخيرة للجنرال وفريقه السياسي اظهرت مرة اخرى مدى عمق العلاقة التي تربطه بحزب الله وموالي سوريا في لبنان. ذلك ان النقطة المشتركة بين موالي سوريا وحزب الله في لبنان هي الرغبة الحاسمة بحتكار التمثيل السياسي لمن يدعون تمثيلهم، ولا تتصل بغرام هذه القوى بالممانعة ورغبتها العارمة في قتال اسرائيل وهزيمة المشروع الأميركي. بل ان بعض الذين تعوزهم الحجة في سياق ما يجري ويلجأون إلى استحضار كتابات الزميل الراحل جوزف سماحة بوصفها تصلح لوصف واقع الحال اليوم، يتناسون ان الرجل ساجل طويلاً ضد من كانوا يدعون إلى عدم تصديق الوعود الاميركية بتنفيذ القرار 425 اثر اقرار اتفاق الطائف. ومن محاسن الصدف يومها ان الإدارة السورية بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد كانت ترى مثل هذا الرأي وتشن حرباً لا هوادة فيها على من تعتبرهم عقبة في وجه اوهام الحلول السلمية التي راجت بعد مؤتمر مدريد للسلام. انما لا يحسن بالمرء ان يسقط كلام راحلين على استحقاقات جديدة. لكن الإشارة هذه تتصل اتصالاً مباشراً بواقع ان قوى الممانعة لا ترى في الممانعة قدراً ولا تتخذ من العداوة لإسرائيل مبدأً. هل يجدر بنا ان نضيف بعض الأمثلة التي تعود إلى العام 1982 وما بعده وما قبله؟ ربما يجدر بنا ان لا ننكأ جروح كثيرة. اقله اليوم.
غاية القول ان القوى الموالية لسوريا وحزب الله يجتمعان حقاً وفي العمق على السعي لاحتكار الموقف والرأي والعمل السياسي. فالحديث عن مقاومة اسرائيل مبتسر ومبتور على نحو يتيح لحزب الله ان يدعي ان للمقاومة طريق واحدة هي التي يجيدها. وان ما عدا ذلك خيانة وعمالة وارتباط بمشاريع مشبوهة. هذا ايضاً ينسحب على حركة "حماس" التي ترضع من الثدي نفسه الذي يرضع منه حزب الله. إذ لا يكف مفوهو الحركة عن اتهام "فتح" وقادتها بالعمالة والخيانة والتآمر على المقاومة. واغلب الظن ان بعض الحمساويين او المتحمسين لهذه الحركة ضعيفو الذاكرة، لكن بعضهم يعرف بلا ريب ان حركة "فتح" شكلت العمود الفقري لحركة المقاومة الفلسطينية طوال عقود. انما، وعلى نحو حاسم، ترى حركة "حماس" ان من يخالفها القول او الرأي مشبوه وعميل. فليس ثمة درجات في الاتهام وليس ثمة درجات في العمالة بالنسبة لها، من كان معها هو مقاوم وشريف وممانع، ومن عرّضها لأسئلة الربح والخسارة او النقد هو عميل وخائن.
حزب الله ايضاً لا يطيق من يعترض على منهجه. المعترضون بالنسبة له عملاء. كان يصفهم بالعملاء سراً وفي الجلسات الخاصة، واليوم يجهر بالتهمة ويعلنها على السنة كتبته ومفوهيه. المقاومات من هذا القبيل لا ترضى شركاء. لقد مضت سنوات طويلة على حادثة انشاء سرايا المقاومة المختلطة الانتماءات. لكن السرايا ما زالت ظاهرة لفظية تُستحضر متى يريد صاحبها استحضارها وتختفي متى يريد صاحبها اختفاءها، مثلها في ذلك مثل جبهة احمد جبريل تماماً، تطلق الصواريخ من جنوب لبنان حين يطلب منها ذلك، لكنها في جاري الايام تقبع خاملة في معسكراتها وانفاقها بانتظار تكليفها مرة جديدة بالقاء قتبلة صوتية على العدو يوقعها مجهول.
هذا كله يقع في المنهج والمسلك، ولا يقع في الحسابات السياسية الجارية. ولأنه يقع في المنهج والمسلك، يمكن على ضوئه تفسير الحمى العونية في الاعتراض على الكتلة الوسطية. ففحوى الاعتراض العوني يتصل يثقافة بعثية – اصولية، تفيد ان كل من ليس معنا هو ضدنا، وكل من لا يدور في فلكنا يدور حكماًً في الفلك الآخر. إذاً لا يحق للمسيحيين ان ينشئوا تكتلاً جديداً تحت اسماء وسطية ووطنية رنانة، وهم في حقيقة الأمر من اتباع 14 آذار. اما الدليل القاطع على تبعيتهم لفريق 14 آذار فيتمثل برفضهم التمتع بشمس عون الساطعة. ثقافة بعثية: من قال ان الجنرال عون من قراء ميشيل عفلق؟ ربما لم يقرأه بعد. لكن الثقافة البعثية ليست نتاجاً محلياً. لها نظائرها في العالم اجمع. وحيثما سادت وحلت، في التاريخين الحديث والقديم، جلبت الكوارث وعادت على بلادها بالويلات. المسألة ليست في رغبة الممانعين في قتال اسرائيل وقعود غيرهم عن قتالها. المسألة تتعلق في اجتماع هؤلاء تحت عنوان الممانعة بغية التحكم المطلق بمن يحتكرون النطق باسمهم.
من محاسن الصدف، وربما من سخريات القدر، ان بطريرك انطاكية وسائر المشرق للطائفة المارونية لا يتصرف بوصفه بطريركاً يفرض على الرعية ما يراه ويلزمها بما يقوله، فيما الجنرال العلماني يريد ان يصبح بطريركاً, وحيث ان للبطريركية مقران: واحد صيفي وآخر شتوي، فإن الجنرال يطمح على الأقل في تنصيب بطريرك في كل مقر: واحد ليقول قوله وآخر لينزع عنه شرعيته. ذلك ان الجنرال العلماني اصولي مثلما يجدر بمؤمني القرون الوسطى ان يكونوا، فيما بطريرك الموارنة منفتح مثلما يجدر بعلمانيي السياسة ان يكونوا. وبين الرجلين جرت مياه كثيرة. لكن ما قد يكون اكثرها غزارة هو بالضبط اصرار البطريرك على لبنانيته التي تعني التعدد ورفض التفرد والاحتكار، ورغبة عون في ان يكون بعثياً لا يروم من اعراض هذه الفانية غير السلطة المطلقة، وقسمة الناس بين اخيار يتبعون مشيئته واشرار ينصرفون عنه. اما ما يقع بين الجهتين فسواد اين منه سواد البصرة في عهد المماليك.
موقع المستقبل

بلال خبيز: انواع السيوف واصناف الدم

هل انهت حرب غزة احتمال حسم الصراع العربي – الإسرائيلي بالقوة المسلحة؟ اسرائيل اكتشفت ان التضامن الدولي مع "حقها في الدفاع عن امن مواطنيها" سيف ذو حدين. كان الجيش الإسرائيلي يقاتل من دون خصم عملياً. والأرجح ان مقاومة باسلة كالتي حدثت في جنين في مواجهة جيش ارييل شارون كانت قد تقصر من عمر الحرب قليلاً وتالياً تقلل من زمن تعرض المدنيين الفلسطينيين لهذا الكم الهائل من الموت. لكن حركة "حماس" في ما يبدو لم تكن تعد العدة لهجوم اسرائيلي واسع النطاق. على الأقل هذا ما رشح عن قائدها المتوج، خالد مشعل، في مناسبتين، كانت اخرهما ما نشرته "الأهرام" المصرية من مقتطفات كلمته في الجلسة المغلقة لمهرجان الدوحة. مرة اخرى قال مشعل لو كنا نعلم. ولم يسأله احد طبعاً لماذا كان العالم كله يعلم إلا هو وقادة "حماس" ومحللو النظامين السوري والإيراني. "حماس" لم تكن مستعدة للهجوم، هذا من جهة اولى، لكنها ايضاً وعلى ما يظهر من تصريحات قادتها ورعاتها الإقليميين، كانت تخطط لإلحاق الهزيمة بالإسرائيليين بسلاح غير سلاح المقاومة. انه سلاح استفظاع الرأي العام العالمي الولوغ الإسرائيلي المتعمد والمقصود في الدم الفلسطيني. لم تكن "حماس" بحسب هذا التحليل الذي يستجدي المجازر، مضطرة للمقاومة والمقامرة تالياً بخسارة بعض مقاتليها في مواجهات ضد الجيش الغازي والمحتل، فالدم الفلسطيني الرخيص جداً جداً، ذلك انه عكس الدم الإسرائيلي او الدم السوري يقاس بالشلالات وليس بالقطرات، كفيل وحده بضبط القوة العسكرية الغاشمة ومنعها من الولوغ في الدم إلى هذا الحد. كان المتوقع والمأمول ان تستمر العملية يومان او ثلاثة، فتسقط مصر وتشرّع ابواب رفح امام رغبات "حماس"، ويضغط العالم كله على اسرائيل فتوقف هجومها من دون قيد او شرط. ومن محاسن الصدف ان السيد حسن نصرالله كان قد اعلن الإعلان نفسه في بداية حرب تموز العام 2006، حين اعلن في مؤتمره الصحافي الاول عقب العدوان ان الهجوم الإسرائيلي محدود زمناً وحجماً، رداً على المهولين والخائفين من ضخامته وقسوته.
يمكن القول ان المراهنة الحمساوية على الرأي العام العالمي كانت في محلها. انما ثمة فارق لا تحسب "حماس" حسابه، يتصل بحجم الخسارة الفلسطينية والعدد الفائض من الايام التي قضاها اهل غزة في الجحيم. لكن المراهنة على تحرك رأي عام دولي فاعل نجحت، أخيراً، في وقف الحرب. وإن كان حزب الله في لبنان يستطيع ان يدعي ان مقاومة العدو المباشرة والحاق الخسائر في صفوفه كانت سبباً مرجّحاً في قرار قيادة العدو بقبول وقف النار، إلا ان خالد مشعل لا يستطيع ان يدعي الدعوى نفسها، ذلك ان ما بات ثابتاً في هذه الحرب انها كانت حرباً من جانب واحد. لكن هذه المراهنة على الدم الفلسطيني وقدرته على وقف العدوان تبدو في الجانب الآخر منها سيفاً ذو حدين، إذ ان الرأي العام العالمي نفسه سيكون صارماً وحساساً تجاه الدم الإسرائيلي الذي قد تريقه "حماس" او اي فصيل مقاوم. مما يعني ان الحديث عن المحافظة على الحق في المقاومة بات اليوم في غير محله، ذلك ان عصمة الدم ليست فلسطينية المنشأ والمصب. فإذا كان ثمة عصمة للدم فهي عصمة لكل دم بصرف النظر عن هوية اصحابه. وعلى نحو ما اصبح الدم الفلسطيني عاصماً للآلة العسكرية الإسرائيلية من الإيغال في القتل من دون حسيب او رقيب، فإن الدم الإسرائيلي ايضاً يملك من قوة الحضور ما يمنع اي كان عن اهراقه. والحال، فلو ان صواريخ "حماس" تتطورت واصبحت اكثر فتكاً فإن مداها سيبقى كليلاً إذا كان الحكم والفيصل في اي حرب مقبلة هو الرأي العام العالمي المحتج على اهراق الدم بصرف النظر عن هوية من تهرق دماؤه.
تستطيع حركة "حماس" ان تستمر في اللعبة نفسها، اي دفع اسرائيل إلى الولوغ اكثر واكثر في الدم الفلسطيني. لكن المسألة التي لم يحسب مدعو الحق بالمقاومة حسابها في هذه المعادلة، هي بالضبط الفارق الهائل في اثمان الدم، فإذا كان الدم الفلسطيني ثمين في العالم إلى الحد الذي نجح في ايقاف العدوان بعد ثلاثة اسابيع، فيجب الا يخفى على احد ان الدم الإسرائيلي كان وما زال ثميناً إلى الحد الذي يكاد يكون ممتنعاً على اي كان. مع ذلك يحتفل قادة حركة "حماس" بانتصارهم. انتصار الدم على السيف. هذا ربما، لأنهم يحسبون ان صواريخ القسام ليست من انواع السيوف، بل من اصناف الدم.
موقع المستقبل

بلال خبيز: صناع المستقبل


رافق المراسلون الصحفيون، اثناء الحملة الأميركية على العراق، القوات الاميركية التي تتقدم على الأرض. وكانوا يبثون صوراً للتقدم البري الأميركي، مستخدمين اخر ما توصلت تكنولوجيا البث والتصوير إليه. انما، وعلى ما يذكر الجميع، كانت هذه الصور غبشة وغير واضحة المعالم. فكان الصحافيون امام خيارين: اما بث الصور الغبشة في لحظة وقوع الحدث، واما بث صور واضحة بعد حدوثه. وحيث ان شاشات التلفزيون تعشق البث المباشر اكثر مما تلقي بالاً للوضوح. اختار الصحافيون بث الصور لحظة وقوع الحدث.
في الجهة المقابلة لتلك الحرب. كان الصحافيون الذين اتخذوا من بغداد مقراً لهم، يبثون صوراً عالية الوضوح والنقاء لضحايا القصف الأميركي، لكن هذه الصور كانت قديمة وتكاد تبدو اوثق صلة بالماضي مما تتصل بالحاضر. ذلك ان اعلان الحرب على العراق كان يعني ان الموت العراقي بات تحصيلاً حاصلاً، وان بث صور الموتى اثناء الحرب ليس اكثر من تكرار لموت سابق، في العراق او في افغانستان او في اي مكان آخر.
كان الموت الذي يصور في العراق حدثاً يقع في الماضي، فيما بدت صور اطلاق الصواريخ الأميركية على المدن العراقية صوراً مستقبلية. وبكلام آخر، كانت تقينات التصوير العالية التي تبث صوراً مغبشة، تقترح علينا انها تستطيع التقاط صورة المستقبل: غبشة وغير واضحة المعالم، لكنها تقع في المستقبل تماماً.
لم ندر يومها اين توقع الصواريخ الاميركية ضحاياها وفي اي وقت. كان علينا ان ننتظر زمناً قصيراً حتى تموز - يوليو العام 2006، لندرك ان الصواريخ الاميركية التي اطلقت على العراق تركت ضحاياها في لبنان صيف ذلك العام، وفي غزة في بداية العام 2008.
في هاتين الحربين الأخيرتين، كان الجانبان يتصرفان كما لو ان موت المدنيين تحصيل حاصل. امر حدث في زمن سابق، ولا يحدث الآن، وان الصورة الوحيدة التي يجدر بالناس الانتباه إلى اهميتها هي صورة الأسلحة المتجددة وقدرة المقاتلين على ترويع المدنيين.
في هاتين الحربين كان ثمة عناية شديدة من الاطراف المتحاربة في نفي الموت عن الجنود والمقاتلين واخفاء الخسائر العسكرية، ومبالغة في ابراز حجم الضرر اللاحق بالمدنيين في كلا الجانبين. كان المقاتل من حزب الله او حركة "حماس" يستمر مقاتلاً ما فتئ حياً، لكنه ما ان يخر صريعأً حتى تتم نسبته إلى المدنيين. وفي الجانب الإسرائيلي، كان الأمر اشد ترويعاً، لقد بالغت اسرائيل طويلاً في حجم خسائرها من جراء صواريخ القسام وصورايخ حزب الله من قبل. وعمد سياسيوها إلى لف العالم مرات ومرات لشرح ظلامتهم الكبرى. بل ان نظام الدعاية الإسرائيلية اخترع ضرباً جديداً من خسائر الحرب، سماها اصابات الهلع. فأضيف الخائفون من القصف القليل إلى جموع المدنيين الذين يجرحون ويقتلون بفعل القصف الإسرائيلي. ولا شك ان المعادلة بالغة الجور على الفلسطينيين واللبنانيين في هذا المقام، حين يجمع الخائفون إلى الجرحى والمعوقين والذين فقدوا حيواتهم جراء تلك الحرب، ويعاملون على سوية واحدة. لكن هذا السلوك كان يعني في الجانبين امراً واحداً. كانت اسرائيل تريد التمثيل بالجسم اللبناني والفلسطيني لتكوي الذاكرتين اللبنانية والفلسطينية بأهوال الحرب وفظائعها، منعاً لأي حرب محتملة في المستقبل. وفي الجانب الآخر كان حزب الله وحركة "حماس" يريان في المجازر الإسرائيلية في لبنان وغزة اسباباً لادعاء النصر. بدليل ان البنية العسكرية لهاتين المقاومتين لم تتأثر بالهجوم. وان كل ما فعلته اسرائيل لم يكن إلا اعتداءً سافراً على المدنيين. والحجة في الجانبين كانت واحدة تقريباً. اسرائيل تدعي العجز عن حماية جرحى الخوف من صواريخ القسام، إلا عبر التمثيل بالجسم المدني الفلسطيني واللبناني. مما يضع مهمات الجيوش والمقاومة في الدولة الحديثة محط تساؤلات وتشكيك عميقين. إذ يفترض بالجيش ان يحمي المواطن من كل أذى مثلما يجدر بالمقاومة ان تحمي الشعب الذي تدافع عنه من كل اذى ايضاً. وعلى اساس النجاح في هذه الحماية تبنى مقاييس الهزيمة والنصر. لكن الجيش الإسرائيلي والمقاومتين في لبنان وفلسطين اعتمدوا المقاييس الخطأ في هاتين الحربين. حيث كان المبتغى والمطلوب شيطنة الطرف الآخر امام الرأي العام العالمي والمحلي في الوقت نفسه. وهو ما جعل المدنيين في كلا الجانبين من دون اي حماية على الإطلاق. ذلك ان الطرفين كانا يعتبران موت المدنيين حدثاً نافلاً وقديماً، وان الصواريخ التي تذهب إلى اهدافها هي ما يصنع المستقبل.

الجريدة

دلال البزري: في معنى ان تكون مصر اولاً

«أين العرب!؟»، «أين الحكام العرب!؟»، «عرب التخاذل والعمالة!؟». صرخة إعلامية-سياسية مدوّية هذه الايام. والمقصود بها ليس «كل الحكام العرب»؛ ولا حكام دول الطوق كلها. بل احداها فقط. الدولة التي يتراءى الآن أنها يسيرة على الزلزلة، أي مصر.ايران، أيضاً، من اطلق إشارة هذا الاستهداف الاعلامي-السياسي، وأوضحت الأمر مراراً. طلاب الحرس الثوري الايراني يتظاهرون، وبعد احراق الاعلام يتوجّهون الى مكتب الممثلية المصرية مهدّدين باقتحامه إن لم نفتح مصر حدودها مع غزة، تماماً كما فعلوا مع السفارة الاميركية عام 1979.هذه بعض نيران ايران البعيدة. وسلاحها الاول مصادرة قضية فلسطين، وقيادة الصراع من اجلها. (يقول بعضهم «دخولها التاريخ»، هي وكل أنصارها وحلفائها). اما سلاحها الثاني، الأشد بطشا، فهو سلاح ايديولوجيتها، اللاغية للحدود والاوطان. صراع «يستنهض» طاقات «الامة الاسلامية» كلها، ولا تفرقة بين «وطن» و«وطن». بل بين دين وآخر. فلسطين في اساس نظريتها ارض اسلام، والصراع يهودي اسلامي.ايديولوجية الحرب الابدية المختلطة الجنسيات بقيادة أمة إيرانية قوية متراصة خلف مشروع القنبلة النووية. «وطن» المقاوم جهاده، ودياره هي تلك الآمنة من كل كافر الخ. انها الشرعية الجديدة للحرب ضد اسرائيل. وقواعدها تنتشر. «حزب الله» نجح في امتحانها فأقام دولته الاقوى من الدولة، وهدّد كيانها الضعيف اصلاً. الآن الدور لـ»حماس»؛ وايضا على نفس الانقاض. اشتركت في الانتخابات وفازت بها. كل هذا ذهب هدراً؛ ضربت الدولة والمؤسسات. وحجتها فساد شريكتها «فتح» وإستئثارها بالسلطة، وتشجيع الاسرائيليين... فكان ما كان من قرارها المنفرد بشن الحرب.مصر دولة الطوق المستهدفة الآن، اصابتها الحرب على غزة بشظايا هذا المشروع الحارقة، مشروع إهدار الدولة العربية، بإسم: «أين الحكام العرب؟». الاخوان المسلمون المصريون، نظراء «حزب الله» في الهوى الايراني، كان مرشدهم العام مهدي عاكف يردّد قبل هذه الحرب «طٌزْ بمصر...!» (كما القذافي مرة). واليوم، مع الحرب، يعود فيسرّب بأن لديه جيشا من 10 آلاف «مجاهد»... ثم ينفي؛ يحشد التظاهرات اليومية في العاصمة والاقاليم، التي تفدي «بالروح والدم»، وتطالب بفتح «باب الجهاد» و»إلغاء كامب دايفيد»... وفحواها الاساسية خلط تام بين شيء اسمه حكومة او سلطة فاسدة ومتسلطة، وبين شيء آخر إسمه الدولة.وحادثة رفع الحذاء التي حصلت منذ ايام في البرلمان المصري من اطرف المؤشرات الى هذا الالتباس المعطوف على قدسية القضية. النائب الاخواني، اشرف بدر الدين، الذي دخل البرلمان بقوانينه واعرافه وآدابه، وبطل رافع حذائه في وجه رئيس المجلس، يُسأل «ما هي الأسباب التي دفعتكم لرفع الحذاء في مجلس الشعب؟». فيجيب النائب واصفاً الاجواء المشحونة في البرلمان وانفعال نواب الاخوان وهتافهم «تسقط اسرائيل يسقط معها كل عميل!». ويتابع «كنت عائدا من رفح وشاهدت الابرياء الذين اصيبوا، ولم اجد وسيلة للتعبير عن غضبي الشديد واتهام المعارضة الوطنية بالخيانة سوى ان ارفع حذائي في مواجهة العدو الصهيوني»!.المهم ان الاخوان المسلمين يقودون هذا الالتباس، بين السلطة والدولة، وخلفهم اطراف اخرى معارضة من شعوبية وقومية وناصرية وسلفية ويسارية تقليدية. ورداً على حجة الحكومة بأن «مصر قدمت الكثير من اجل فلسطين، وهي لا تستطيع اكثر...»، تردد غالبيتهم اللازمة: «وهل هذا فعلا كل ما تستطيع ان تقدمه مصر؟ 120 الف شهيد فقط سقطوا منذ عشرات السنين، منذ 1967؟ هل هذا حقا جلّ ما تستطيعه مصر؟». وعلى هذا المنوال، تتم مناكفة الحكومة وتناسي الدولة باسم فسادها وتسلطية الناهبين لخيراتها. والاستجابة لهذا النداء الملتبس هو استجابة للفكرة التي طفحت على السطح من ان لا مانع من تحويل مصر الى احدى نقاط الطوق، او الدفرسوار الاسرائيلي لأهل غزة. وبخطاب حذائي غوغائي رثّ ومدروس، تتم التعبئة من اجل قلب الدولة، او تقاسم قسط اوفر من السلطة معها... باسم عدم السكوت عن الصمت العربي الرسمي... الخفالكل يحتشد الآن خلف اسلاميين انقلابيين، مشروعهم أجّجته الحرب على غزة. وشعارهم بسيط: إسقاط الدولة المتخاذلة... تماما كما فعل الضباط الاحرار قبل 57 عاماً: شرعية جديدة قائمة على فلسطين. ولكن من دون قيادة مصرية هذه المرة؛ بل إستجابة لحرس الثورة الايراني المهدِّد للسفارة المصرية... او لنداء حسن نصر الله لملايين المصريين.الالتبــاس بيـــن الدولـــة والسلطة يقســـم الساحة المصرية الاعلامية والحزبية بما يشبه الحال عشية الحرب الاهلية اللبنانية الاولى (1975). كان المعارضون اللبنانيون للنظام يطالبون بتسليح الفلسطينيين؛ ونجحوا، بل تسلحوا هم ايضا. فكانت 15 سنة حرب اهلية اشعلتها الرغبة في فتح جبهة جنوب لبنان الهادئة آنذاك باتفاقية هدنة. ولكن نتيجة الحرب كانت إسقاط الدولة اللبنانية وكافة مؤسساتها. والآن التجربة قد تتكرر مصريا؛ خاصة اذا خرجت «حماس» منتصرة، على طريقة انتصار «حزب الله». اي ناشرة حكمها «الشرعي» على القطاع، ومنتزعة من محمود عباس جزءا كبيرا من شرعيته او ربما كلها.ثمة اصوات وسط هذه المعْمعة تحاول التعبير عن فكرة اخرى حول الوطن والدولة. الالتباس السائد لا يساعدها، ولا التجاذب الحاد بين موالاة ومعارضة. فضلا عن المناخ المروّع للحرب على غزة. فالوقت الآن للـ«مع» او الـ«ضد». انت ضد الدولة القامعة الفاسدة؟ اي مع فتح الحدود للجهاد؟ ام انك مع هذا النظام القامع الفاسد المتهالك، مع المشاركة في ذبح اهل غزة؟«حسنا» يحيب احدهم «ولكن من قرر الحرب او السلم؟ الدولة تقرر السلم؟ والمعارضة تقرر الحرب؟ وانا؟ هل سألني احد رأيي؟ رأيي بالحروب السابقة؟ بإخفاقاتها؟ بالسلام الراهن؟ وبالحرب المقبلة؟ ثم هل سئل احد عن اخفاقات الحروب والسلام؟ اين هم مثلا من تسبّبوا بهزيمة حزيران (يونيو) 1967؟».اذا كان الثمن الذي دفعته مصر من لحم ابنائها غير كاف، فما هو الكافي؟ ما هي اذاً العلاقة التي يراها المصريون غير المتحزّبين، والمتحزّبون، بين بلادهم وبين القضية الفلسطينية؟ على ماذا يتوافق المصريون من اجل فلسطين ودعوتهم للاختيار؟ اسئلة تفجرها الحرب على غزة، بقدر ما تفجر الاحزان.
الحياة

بلال خبيز: حين يصير الموت ماضينا تذوي الدولة ويصير الشهداء موتى




الماضي المصور المستقبل الغبش


رافق المصورون الصحافيون الاميركيون الدبابات الاميركية حين بدأت تقدمها داخل الأرض العراقية. هؤلاء كانوا يبثون صوراً عالية التقنية لكنها غير واضحة على الإطلاق، بسبب ظروف التقدم العسكري وزمنه وسرعته. لم يكن في وسع المصور الصحافي المرافق للقوات الاميركية ان يوازن بين المكان والزمان ليتسنى له ان ينتج صوراً واضحة المعالم. كانت الصور العالية التقنية هي الصور الأقل وضوحاً في هذه الحرب. فعلى النقيض من هذه الصور الغبشة والتي لا تبين فيها الوجوه والملامح والأماكن التي يتم التصوير فيها، والتي تستخدم لأجل بثها أعلى التقنيات كعباً واكثرها كلفة، كانت صور الضحايا العراقيين التي تبثها شبكات التلفزة العاملة في العراق يومذاك بالغة الوضوح والنقاء. وبسبب من وضوحها ونقائها امكن تكرارها من دون كلل. واضحة ونقية إلى حد ان عين الناظر تعجز عن التقاط كافة تفاصيلها دفعة واحدة. التكرار كان ضرورياً للقبض على المشهد، لجعل المشاهدين يظنون او يتخيلون ان هذه الصور بعض من ذكرياتهم. او على الأقل من كوابيسهم.
طرفا التصوير في هذه الحرب كانا على طرفي نقيض. من جهة ثمة وضوح كامل لصور الضحايا العاجزين. وضوح كان ينقصه المنطق الذي يجعل القوة الاميركية بهذه القسوة التي لا يقرها المنطق طبعاً، والغبش في صور القصف والتقدم الذي يرافق القوات الأميركية من دون اي أثر للضحايا. القوات الأميركية في هذه الصور كانت تقاتل وتتقدم كما لو انها تبني بناء لم تتضح ملامحه بعد، فيما كان المصورون الذين يصورون الضحية العراقية متيقنين من الموت والدمار لكنهم لا يملكون ان يعرفوا اي بنية ستعقب هذا الدمار، واي حياة ستولد من هذا الموت. كان الغبش هو الحد الذي يجعل الحرب استمراراً للسياسة على نحو لا شك فيه، اما الوضوح فكان الحد الذي يجعل الحرب ارهاباً على نحو غير مشكوك فيه ايضاً. بكلام آخر، كان الغبش الذي يقترحه القصف الأميركي غير واضح المعالم لكنه يملك كل وسائل اتصاله بالمستقبل، اما الوضوح العراقي فكان ينتمي إلى ماض ما. لا مستقبل له وهو لذلك بالغ الوضوح. موت وحسب. لطالما عرفنا ان الموت ماضينا الذي لا يملك حق الإقامة في الحاضر. الموت من الماضي لكن القوات الاميركية كانت تجعله موتاً مستقبلياً او موتاً سيستمر. هذا الوضوح لم يكن يملك غير هذه الرسالة: ثمة موت سيستمر بعد هذا الموت. وهو يقع على الحد الفاصل ين السياسة والإرهاب. القصف الأميركي وهو يهدم البيوت والأمل بالمستقبل على رؤوس الأفراد، الذين تحولوا افراداً تحت وطأة أحكام قانون الحرب، تحول إلى وعد بالولادة الجديدة، إلى وعد بالبناء، وعد بالمستقبل، لذلك يبدو غبشاً وغامضاً ككل مستقبل. لكن صورة الموت العراقي كانت صورة الماضي. صورة نقية وواضحة مثلما يفترض بصور الماضي ان تكون. هكذا تضافرت التكنولوجيا والقوة والقوانين في صنع صورة غبشة للمستقبل. لكن العراقيين وهم يموتون كانوا يدركون ان حكمهم صار من الماضي، وان النتيجة واضحة من قبل ان تستقر على سمت محدد. فقط ثمة الكثيرين الذين ازهقت ارواحهم عياناً في حرب محسومة النتائج من قبل نشوبها.

الصورة والإرهاب
خلاصة هذا الهامش الطويل تتعلق بمنطق الصورة. لن تظهر الصورة فقيراً إلا إذا كان فقره مشهوداً وله ماض. الصورة في وجه من وجوهها وثيقة الصلة بالإرهاب. فلا يستقيم ارهاب حديث من دون صور. إذ عليه ان ينجح في دفع المصورين إلى انتاج الصور. سواء تعلق الأمر ببرجي نيويورك او بذبح نيكولاس بيرغ. لكن الصلة الوثيقة بين الإرهاب والصورة لا تتعلق بهذا الأمر فقط. بل بتعلقهما معاً وجميعاً بالماضي. الماضي الواضح المعالم. اي ما قبل الدخول الأميركي إلى الخليج، ما قبل احتلال العراق، ما قبل احتلال افغانستان. الخ... تماماً مثلما تكون صورة الميت هي صورته ما قبل الدفن وصورة المحكوم هي صورته ما قبل الموت. اي اننا منذ ان نشاهد الصورة يكون الحدث قد اصبح من الماضي. هل في وسعنا ان ننتج صورة ما تعلن انها صورة لما بعد. الأميركيون اقترحوا علينا مثل هذه الصورة في تلك الحرب. صور الدبابات الاميركية وهي تقصف وتتقدم في العراق كانت إلى حد بعيد تشبه قراءة ابراج الحظ. احتمالات غائمة وقسمة بين خير وشر وتفريق بين حزن وفرح، على نحو ما كان عليه خطاب الرئيس الأميركي الانجيلي الرسولي المفرق بين الخير والشر، لكنها دوماً حبلى بالاحتمالات. لن نتأكد إذا كانت الصورة قد تم أخذها في الرمادي ام في الناصرية، ولن نعرف إذا كانت الدبابة تابعة للفرقة العاشرة ام الحادية عشرة، ولن نعرف حكماً إذا كان سيعقب الموت العراقي سلم واطمئنان ام لا. لكننا نعرف بالتأكيد ان ثمة ما يعقب هذا الموت حتى لو كان موتاً أشد وقعاً.

الموت الذي يشهد عليه غيرك هو كارثتك المحققة
إثر زلزلال تسونامي الذي ضرب شرق اسيا، كتبت للفنانة الماليزية ناديا بحمدحاج التي تعمل وتعيش بين اندونيسيا وماليزيا اسألها عن احوالها بعد الطوفان. الاستعارة ليست باهظة في هذا المجال. تسونامي كان طوفاناً توراتياً من دون جدال.
اجابت بقدر كبير من التواطؤ: "ها نحن نراقب احوالنا على شاشة الCNN". الناجون من الطوفان بلا ذاكرة. او هم على الأرجح لا يستطيعون حصر الأحداث في ذاكرتهم. ضحايا كثيرون سيتم نسيانهم عمداً. لأن ليس في الذاكرة متسع لكل هذا الهول. واماكن كثيرة سيتم نسيان اصلها. الامر يحتاج منا إلى تضافر ذاكرات حميمة تعمل معاً ليتسنى لها ان تعيد تشكيل ملامح المكان. في بعض الأحيان كما في بولونيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، يتم الاعتماد على ذاكرة الفنانين. على اعمالهم الفنية التي رسموها للمدن ليتم اعادة اعمارها اشبه ما يكون بما كانت عليه. ليس هذا الضرب من الإعمار مهماً في حد ذاته عمرانياً. كأنما الكارثة التي تعقب حرباً ما هي فرصة المهندسين ليبنوا صروح الذاكرة. البيوت والشوارع لم تعد هي البيوت والشوارع. انها صورة لما يمكن ان نسميه ذاكرة جماعية. عمل يستهدف حث الأحياء على التذكر. ويقام كشاهد إثبات لما فشلوا في تذكره. الأمر أشبه بصناعة محثات على التذكر. سيمر المرء في المدينة المعاد اعمارها. كل شيء هناك معد لينجح في ان يتذكر. يتذكر عيشه وخيباته وسروره وخفته، لكنه وفي صورة اساسية يتذكر جرائمه: يصبح اعمار المدن لايزيد كثيراً عن عملية اعادة تشكيل المسرح وتمثيل الجريمة. - قانوناً يعتبر اعادة تمثيل الجريمة إثباتاً على صحة الاعتراف. لا يمثل القاتل جريمته إلا بعد اعترافه باقترافها. اي ليؤكد انه كان واعياً ومدركاً لما يفعل. لهذا ينبغي انزال العقوبة فيه - على هذا تبدو المدن المعاد إعمارها على صورة ما كانت عليه قبل الحروب والدمار هماً سلطوياً يريد الإثبات ان التدمير انما كان بفعل مدبر ومدروس ولم يكن عشوائياً مثلما يفترض بالكوارث الطبيعية ان تسلك في مسالكها. تسونامي كان عشوائياً بهذا المعنى. لم يكن مدروساً لأنه لم يقم اي اعتبار لهويات الضحايا واماكن تواجدهم. كان يزيح كل ما يعترض طريقه من غير تمييز. لهذا تراقب ناديا بحمدحاج احوالها على شاشة الCNN. ليس في وسعها التذكر تماماً، فالذاكرة شخصية وانتقائية. وليس في وسع المتذكر ان يعد مسحاً شاملاً لكل ما تم اخفاء أثره. ثم والأهم من هذا كله، ليس ثمة آلة عسكرية يمكنها ان تعيد تمثيل الجريمة في بلد آخر كما هي الحال في ما كانت عليه الحرب في العراق. صور القصف الأميركي في العراق تمثيل لجريمة وقعت في العراق واخرى ستقع في لبنان صيف العام 2006. لهذا تبدو الصورة من المستقبل أكثر منها في الماضي. صورة تهديد ووعيد اكثر منها صورة بث واقعي. تماماً مثلما هي حال الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة العالميين في نيويورك. في هذه الصورة اجتمعت واتحدت على نحو مرعب وفظ صورة الماضي والمستقبل، مما جعل التعالق بين الزمنين ثقيل الوطأة ولا يمكن لأي كائن على الكرة الأرضية ان ينجو من آثاره السيئة. من جهة كانت الطائرات التي اصطدمت بالبرجين تنبئ انها صورة مستقبلية ومن جهة اخرى كان الانهيار ينبئ ان شيئاً ما تم دفنه مع ما دفن تحت الانقاض. وجدنا انفسنا حيال هذه الصورة امام مهمتين متناقضتين على نحو فادح ولا يمكن احتماله، مهمة تذكر ما كان الامر عليه قبل الحادي عشر من أيلول، ومهمة توقع ما سيكون الامر عليه بعد هذا التاريخ. الماضي الرغد والهانئ والمستقبل الذي يبشر بكل انواع الدمار. آلة الدمار وضحيتها تختلطان وتمتزجان وتشكلان لحظة واحدة كارثية وقيامية كما يجدر بالكارثة ان تكون. لحظة لا تقع في زمن محدد، لا يمكن حساب ثوانيها ودقائقها، وبمعنى من المعاني لم يكن بإمكان العالم ان يستقبل القلق والحزن في لحظة واحدة، وان يتابع سيره كما لو ان شيئاً لم يكن.

احكام السيطرة على المستقبل
تكررت في لبنان هذه المعادلة في وجه من الوجوه. كانت صور الطائرات المغيرة وصور الدبابات في الحقول تنبئ بما يمكن ان يكون عليه مستقبلنا بالضبط. صورة واضحة، ذلك انها اكتسبت وضوحها من حرب العراق الآنفة الذكر، لكنها لشدة وضوحها اجبرت خصمها على اخفاء أي اثر لها. في لبنان كانت الجريمة نفسها تقع في المستقبل.
في بداية الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان، لم يكن ثمة الكثير من الصور التي تصدر من خلف ظهر القاتل. كان ثمة فقط صور للدمار والموت الذي يحيق بلبنان. وعلى نحو يبدو، لقراءة مسطحة وسريعة، غير منطقي وغير مفهوم، لم تكن القيادة الإسرائيلية تستثمر امر تعرض مدنها الشمالية لقصف حزب الله على نحو يدين هذا الحزب ويجعله في نظر الرأي العام العالمي قاتلاً متوحشاً. كانت اسرائيل تخفي وتنكر امر وقوعها في موقع الضحية. ذلك ان الوقوع في هذا الموقع له مترتبات على المستقبل لا يمكن ضبطها. لكننا في لبنان كنا عرضة لكاميرات الصحافيين الذين جذبتهم رائحة الدم والبارود كما تنجذب لمثل هذه الرائحة النسور القمامة. كنا في موقع الضحية في اصل الحرب: في مبتداها ومنتهاها، ولم نجد بداً من البقاء في هذا الموقع. حزب الله في هذه الحرب اخفى خسائره طبعاً، واحالها على المدنيين. كان حزب الله يتهرب طوال هذه الحرب، ولدواع تتعلق بطبيعة المعركة، من تحديد خسائره على نحو دقيق. كان يريد ايضاً ان يظهر بمظهر صانع المستقبل لجمهور اعدائه، ولتحقيق هذا الامر قام بخطوتين حاسمتين. حزب الله ايضاً تصرف مع السكان في شمال اسرائيل بوصفه قادراً على صناعة مستقبلهم وتحديد معالمه فأطلق صواريخه على المدن والقرى في الشمال الإسرائيلي وادعى، ونجح في تحقيق ادعائه، بأنه يستطيع ان يتحكم، اقله جزئياً، بمستقبل هؤلاء. ومن ناحية ثانية اخفى حزب الله خسائره بالإنفصال القاطع عن الإجتماع الذي يصدر عنه، حيث لم يكن يحق للعدد الاكبر من مقاتليه ان يكونوا مقاتلين في الموت والحياة معاً وفي آن واحد. كان المقاتل يبقى مقاتلاً ما فتئ حياً لكنه ما ان يموت حتى يعود إلى اهله. الاهل الذين يتحكم بمستقبلهم وما سيكون عليه غدهم جيش محارب من الجهة الاخرى من الحدود.

الشهادة على الموت او التغذي على الجثث
في ايام الحرب الأولى وحين كان الاحتلال الجوي في بداياته. كان صحافيو الفضائيات والقنوات المحلية والعالمية يبثون صور القصف والدمار والمجازر من اماكنها مباشرة. كانت المجازر تجتذب الكاميرات، فالطائرات المغيرة سرعان ما تدل الكاميرات على المكان الذي ينبغي تصويره. وكان الصحافيون يبثون من لبنان، صور الموت الواضحة والنقية كما كان شأنهم في حربي العراق. لكن استمرار القصف والتهجير وقطع الطرقات وتدمير الجسور منع الصحافيين من متابعة ما يجري في تلك القرى. هجر معظم السكان كما هو معلوم، وراحت الطائرات تنشر الدمار والركام في كل مكان. لم يكن احد في ايام الحرب الاخيرة يعرف ما الذي يجري بالضبط. كانت جريمة من دون شهود. وكان يجب على اللبنانيين ان ينتظروا وقف النار ليتسنى لهم ان يتحسسوا جروحهم. اعني الأحياء منهم. في مدينة صور دفن اكثر من 84 مقتولاً في حديقة المستشفى الخلفية كوديعة في انتظار وقف النار وتشييع الشهداء في مراسم تعيدهم إلى مدافن قراهم حيث ولدوا وحيث ينتمون. كان الموت مؤجلاً. لكن البكاء ايضاً كان مؤجلاً. كان على الامهات والأخوة والأخوات والأحباء ان يؤجلوا البكاء حتى تنتهي الحرب. فالبكاء في اصله ومعناه، هو الاستعداد لتوديع الميت العزيز، إدارة الظهر له والشروع في طقوس عيش مستأنف من حيث انقطع. البكاء لم يكن متاحاً للبنانيين تحت القصف، كان عليهم ان ينتظروا فراغ آلة الدمار من عملها ليحق لهم بالبكاء. لكن الدمع المعطل وهو وظيفة العين الثانية لم يكن وحده ما يجعل العين، عين اللبناني، مطفأة. لم يكن النظر ايضاً متاحاً للبنانيين. كانت الطائرات تقصف وتقتل في قفر مجهول لا يدركه النظر، وكان على الطائرات ان تنجز مهمتها على اكمل وجه. فتعيد العائدين إلى مكان غير الذي كانوا فيه. لا يعاد إعماره على النحو الذي كان عليه حتى لو اجتهد المواطنون في تحقيق ذلك. ستتغير الالوان وتنمحي الذاكرات وتغسل اللحظات الحميمة بالنار والرماد. سقطت هذه البيوت من دون تأريخ لسقوطها. سقطت من دون شهود. كما لو ان الأرض انشقت وابتلعتها في هوة سحيقة لا تستطيع الذكريات ان تطاولها.




النجاة بوصفه كارثة
الكاميرات في لبنان كانت تراقب الناجين، النازحون الذين ينتظرون الموجة القاتلة ويهربون امامها. الكاميرات تراقب الناجين، كما لو ان الموجة القاتلة التي ضربت لبنان منعت الشهود من ان يشهدوا ومنعت القتلى من ان يتحولوا شهداء.
ان تلجأ الكاميرات في نهاية الحرب إلى ملاحقة الناجين امر له دلالاته الكثيفة على مستويات عديدة. من جهة اولى كنا امام انجاز هائل حققته اسرائيل في جعل البلد برمته، على الأقل طوال زمن الحرب، يشبه باخرة في محيط هائج. الموتى من البحارة يرمون في البحر حيث لا قبور ولا شواهد، وليس ثمة من يزور القبر ويبكي عليه. وواقعة ان البحر مثلما تظهر صور احد الفنانين اللبنانين الشباب هو مكان ضيق ويمكن اختصاره بكلمة واحدة: البحر، ذلك انه دائماً يعيد تكرار المشهد نفسه والصوت نفسه على غير انقطاع. هذه الواقعة التي تختصر البحر باسمه تجعل من وجه الشبه بين لبنان اثناء الحرب وبحره مدعاة للأسى والشجن. ان يصبح لبنان بحراً تحت عسف الطائرات، يعني ان لا ننجح في التعرف إلى قبور موتانا ولا في وسم المكان الذي نعيش فيه بميسم الوطن. الوطن اولاً وآخراً له تاريخ ومعالم.

استعصاء الشهادة وإعادة تمثيلها
من جهة ثانية كان تأجيل الموت والبكاء حتى نهاية الحرب يجعل من اللبنانيين عموماً غير قادرين على الشهادة على موت شهدائهم. اسرائيل في هذه الحرب ارادت بمعنى من المعاني ان تمنعنا من ان نشهد على شهدائنا، وجعلت كل قتلانا موتى وحسب. كان علينا ان نعيد تمثيل الشهادة بعد زمن ليتسنى لنا ان نقول مرة اخرى ان هؤلاء الذين ماتوا على جوانب الطرقات شهداؤنا واننا شهدنا عليهم وهم يموتون دون رأيهم وارضهم وايمانهم.
من جهة ثالثة كانت الحرب الإسرائيلية وهي تمنع الكاميرات من تصوير الضحايا، اكانت الضحية رجلاً او امرأة او شجرة، وتلاحق الناجين في مهاجعهم الموقتة والمرتجلة، تجعل من فكرة الدولة الجامعة اثراً بعد عين. ففي اصل مهمات الدولة وعلى رأسها تقع مهمة تنظيم عيش المواطنين والرعايا على نحو يستعدون من خلاله لاستقبال الموت. الحياة في وجه عام هي سعي نحو الموت لا يتوقف. كان المواطنون اللبنانيون وهم يشيعون شهداء مجزرة قانا الثانية يرددون وهم يجهشون بالبكاء، ما ذنب الاطفال حتى تقتلهم الطائرات؟ هم يعرفون ان بين الضحايا ثمة رجال وشبان بلغوا اشدهم، لكنهم يعرفون ان الرجل البالغ يسعى نحو الموت، وانه في حياته اليومية يواجهه كل لحظة، وانه مستعد له وليس ثمة واسطة بين السعي والموت. موت البالغ مبرر بسبب من سعيه، وبسبب من انه انتظم مواطناً في صفوف المواطنين الذين تنظم الدولة موتهم وتجعله يقع تماماً في دائرة الحوادث العرضية. بمعنى ان قراءة تقرير عن عدد ضحايا حوادث السير والعمل في بلد كلبنان توضح رقمياً كم ان هذا الموت، الذي هو كثير وهائل، يمر امامنا من دون ان ننتبه لوقعه. حتى الدول التي تخوض حروباً طويلة تضع مواطنيها امام احتمال الموت في الحروب بوصفه حادثاً عرضياً من يومياتها. في لبنان لم يكن الحال على النحو الذي نتحدث عنه. الحكومة اللبنانية رأت انها لم تكن مستعدة للحرب ولم تكن على علم بالعملية التي اسر فيها حزب الله جنديين اسرائيليين والتي كانت السبب المباشر الذي ادى لاندلاع الحرب. وحزب الله نفسه اعلن بلسان امينه العام انه لم يكن يتوقع ان الرد الإسرائيلي سيكون حرباً شاملة. الامر الذي جعلنا نجد انفسنا فجأة كمواطنين لبنانيين امام دولة ومقاومة عاجزتين عن تنظيم الموت، مما جعل الموت ثقيل الوطأة ولا يمكن احتماله. موت كارثي.

العيش في زمن ما بعد الموت
لكن الكارثة لا تفسر وحدها هذا الهول. تسونامي كان كارثة. لكنه كان كارثة كما يجدر بالكارثة ان تكون. ان ننام ونصحو فنجد انفسنا امام دمار هائل وخسائر لا تحصى. ان يأتي الموت دفعة واحدة ويجتاح كل ما حوله. لكن الناجين ومنذ ان تضرب الموجة ضربتها يعيدون تشكيل المشهد الذي دمر وذاكرات المفقودين ويشرعون بالبحث عن جثثهم ليدفنوها في قبور ذات شواهد تحمل اسماءهم. الامر كان مختلفاً في هذه الحرب. كنا امام موجة قاتلة تعطل عمل الدولة، لكنها لم تكن موجة فحسب، كانت نظام حياة. كان علينا ان نتخيل موجة عملاقة تضرب من دون انقطاع هذه البلاد طوال ثلاثة وثلاثين يوماً كاملة. في هذا الزمن الذي لا يحصى من عمر الحرب، لم يعد اليوم الذي يعيشه المرء يقربه من الموت يوماً واحداً كما هي الحال في العيش العادي، بل صار اليوم الذي يعيشه المرء هو يوم يقع في زمن ما بعد الموت. اي ان النجاة التي يتحسس اثارها المرء في عظامه ولحمه كل صباح هي بالضبط العيش يوماً اضافياً في زمن ما بعد الموت. الاجتماع، أي اجتماع، والذي من صفاته انه يحترف الخوف، يريد ان يكون الموت مفهوماً ومعقولاً ومتوقعاً. اي ان يكون الموت هو التوقع. لكن ما كان من شأن هذه الحرب انها جعلت الموت الذي كان يصيبنا بلا انقطاع هو الماضي بامتياز. لهذا عطل الموت في ما عطل آلة الدولة التي تنظم الموت، وعطل الاجتماع الذي من صفاته ايضاً ان يحتفل بالموت لا بمجرد البقاء على قيد الحياة.

حسن البطل: لا تكتمل درع المقاومة دون تاج التمثيل




لا تستقيم "درع" المقاومة دون استكمالها بـ "تاج" التمثيل السياسي. بهذا الإيجاز يجوز فهم وتلخيص "المفاجأة" السياسية التي وعد باجتراحها السيد مشعل في الدوحة بالذات.بذلك طُوِيَت صفحة "تفعيل" (م.ت.ف)، وفُتِحت صفحة "البديل" منها، ونخشى من أنّ خيار تجديد شرعية السلطة، رئاسة وبرلماناً، صار أصعب منالاً، أو أن مخرج الطوارئ هذا، الذي به تجتاز النُّظُم والحكومات الديمقراطية أزماتها، قد أُغلِق، أو غدا عسيراً اجتيازه، في الأقل.يمكن التشكيك بأحقية انتحال حركة "حماس" للمقاومة وليس درعها فحسب، في ضوء تقييم أوّلي، يتّسم بالجدية والواقعية، لحرب غزة الأخيرة. نصر أو لا نصر؟ المعيار ليس هنا، وإنّما في النظرة الى الصمود كنصر، وهذا باعتباره أكسب "حماس" شرعية نضالية.لقد توصلت (م.ت.ف) إلى الشرعية الوطنية فالسياسية العربية والدولية استناداً الى شرعيتها الكفاحية، بدءاً من رصاصات انطلاقة 1965 فإلى ملحمة مَوْقِعة الكرامة 1968...فإلى اعتراف العالم بأنّ السلطة الوطنية هي جَنين (م.ت.ف) وجَنين الكيانية السياسية.في هذا المسار الشائك والطويل، والحافل بالمعارك، لم يخل الأمر من نقد داخلي وشعبي، وصل مرّات عديدة حدّ التشكيك في حلقات هذا المسار وفي وجهته ونتائجه.على الدوام تغذى النقد الداخلي من سند عربي وإقليمي منذ بداياته الأولى. هذا النظام العربي شكّل "جبهة التحرير العربية"، وذاك شكّل "طلائع حرب التحرير الشعبية". ليست مصادفة خلوّهما من اسم فلسطين.لن نمسك برقاب مفارقة فظّة، حيث لم يعد لـ "الصاعقة" السورية وجود في سورية، أو لـ "العربية" وجود في العراق، ولكن وجودهما كفصيل من فصائل (م.ت.ف) ظل محسوباً في حركة الحوار الوطني وحركة الشقاق الفصائلي، طالما حرصت قيادة (م.ت.ف) على بقائها ممثلاً سياسياً شرعياً، بل ورحبت بكل فصيل ينشقّ عن فصيل طالما انضوى تحت مظلة هذه المظلة.الآن، أو منذ تشكيل حركة مقاومة إسلامية في فلسطين، إلى رفعها راية "البديل" عن المنظمة، لا راية "تفعيل" المنظمة، يجب نقد النقد الموجّه إليها بذريعة كونها "متقادمة" أو غير "فعّالة"، لأن مسارها انتهى إلى ولادة عسيرة جداً للكيانية الفلسطينية، تكاد تودي بالوالدة والمولود معاً.أولاً: ستكون سورية هي القابلة أو الحاضنة للمنظمة البديلة. هذه ليست محاولة أولى يا دمشق، فقد سبقتها "فتح - الانتفاضة" و"فتح - الإسلام"، وبينهما استعارة واستئجار "فتح - المجلس الثوري" من العراق.. لكن، الخطورة في المحاولة السورية الرابعة تكمن في أن "حماس" قوّة فعلية على الأرض الفعلية، وخاضت عمادة الدم، واكتسبت - عن فعل أو انتحال - شرعية نضالية.ثانياً: ما قبل "حماس"، كانت الفصائل الشامية والعربية المشاركة تحاول تقديم نقد سياسي للمنظمة، أو لبرامجها السياسية. أما "حماس" فتزيد على هذا بنقد أيديولوجي إسلاموي، أي يغرف من الخزان العميق للعروبة السياسية المفلسة أيديولوجياً، كما من الخزان السطحي لما يبدو نضوب أو ضآلة الانجاز الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية.ثالثاً: على رغم الوجاهة الظاهرية للنقد السياسي الفصائلي العروبي واليساري قبل "حماس"، ثم للنقد الأيديولوجي الديني، فإن حلقات المسار السياسي لمشروع م.ت.ف الوطني، شديدة الصلة بما آلت إليه حلقات المشروع القوموي عسكرياً وسياسياً وعقائدياً.مثلاً، فإن برنامج النقاط العشر 1974 وُضع في ضوء النتائج السياسية لحرب العبور العربية في العام السابق. كما أن إعلان مبادئ أوسلو تلا قراءة الوضع السياسي العربي الذي تردّى، تحت تردّيه، بعد حرب الخليج الأولى، ناهيك عن الانقلاب العالمي الذي بدأ بالبيريسترويكا، وانتهى الى انهيار المنظومة الاشتراكية، بدءاً من جدار برلين.ما سبق، لا يعني أن قيادة م.ت.ف كانت غافلة عن صعود البديل الاسلامي، فهي كانت أول الحاضرين في طهران لدى انتصار الثورة الاسلامية، وعانت المنظمة وحركة "فتح" بالذات حتى في قيادتها، ما هو أكثر من "صداع الشقيقة" بين مجنّدي الخيار الاسلامي - الإيراني، والخيار العروبي - العراقي.. لكن م.ت.ف رفضت ما وسْعها وصاية عربية جديرة أن تأبى وصاية إسلاموية.الآن، يمكن "لفسائل" صغيرة ثمانية أن تدور حلقات حول ما يشبه كوكب "زحل" الحمساوي، وأن تمضي قدماً في محاولة أخرى، جديدة وخطيرة، لفتح صفحة "البديل" عن المنظمة والمشروع الوطني الفلسطيني.تتسلّح "حماس"، إضافة الى "درع" المقاومة والشرعية النضالية (في الخطاب أكثر من الواقع)، بشرعية سياسية في صناديق الاقتراع (لا تنوي تجديدها) وبشرعية وطنية (جزء من الشعب).. وبشرعية إسلامية أيضاً.ستقول "حماس" للشعب في البلاد، وبخاصة للمخيمات خارجها، إن م.ت.ف العتيقة ليس في جعبتها عودة ولا دولة.. ولكن الطريق إلى جنّات الخلد مفتوحة!.
الايام

الجمعة، 16 يناير 2009

بلال خبيز: الفصاحة المنتصرة

الرئيس محمود احمدي نجاد بديع البيان. في اللحظة نفسها ينبئك ان المقاومة تنتصر، وان اسرائيل تترنح جيشاً وحكومة تحت ضربات المقاومة، ثم لا يلبث ان ينبئك باللسان الفصيح نفسه، ان على العالم ايقاف الهجوم الوحشي الذي تشنه اسرائيل على الشعب الفلسطيني. المعادلة لمن لم يتعمق في البلاغة الفارسية والعربية على حد سواء تقتضي منا ان نتفكر طويلاً. هل المقاومة التي يتحدث عنها الرئيس نجاد موجودة في غزة، ام ان الطائرات التي تقل مناضليها لم تقلع بعد من مطارات طهران؟ الرئيس نجاد يعرف انه منتصر، هو منتصر فعلاً. إذ كيف يكون المرء مهزوماً إذا كان الدم المراق ليس دم شعبه، وإذا كان القاتل يوجه آلته الجهنمية إلى غزة وليس إلى طهران. منتصر، ويحق له ان يحتفل بالانتصار. بل انه، بخطابه فقط، وببعض عائدات النفط، بات يحتل عواصم عربية ومدناً كثيرة. منتصر وفصيح، والفصاحة من شيم المنتصرين.
والرئيس نجاد يستطيع ان يتكلم، فكل المنابر تنتظر كلمته. يتكلم، لأنه قادر في الحقيقة على الكلام. هكذا هي تسيبي ليفني ايضاً منتصرة وقادرة على الكلام. دائماً تواجه بسؤال مثير: متى تنهون هجومكم؟ ودائماً تجيب جواباً ملتبساً: نحن من يقرر متى وكيف واين ننهي الهجوم. منذ اللحظة الأولى للهجوم الإسرائيلي كانت تتلقى الاتصالات من قادة العالم الذين يستفسرون عن المدة الزمنية التي سيستغرقها الهجوم، ودائماً تتنصل من التعيين، ولم تنس مرة واحدة ان تتمنى للقادة الذين اتصلوا بها عاماً سعيداً. نحن في بداية عام جديد، وكان من المفترض ان يكون سعيداً. لكنه لم يكن.
المقاومة التي ما زالت تصر على تصوير عملياتها ضد جيش الاحتلال سعيدة ايضاً، لكنها ليست فصيحة لسبب غامض. النضال من اجل القضايا المحقة يكلف تضحيات. لا بأس، كان معبر رفح مفتوحاً قبل انقلاب 2007، لكن قلة التضحيات الفلسطينية يومذاك جعلت حركة "حماس" تستخدم الابراج العالية في غزة منصات لرمي مناضلي فتح عن سطوحها. القضايا الكبرى تكلف تضحيات جسام. ولم يكن وقتها الظرف مناسباً للتضحية في المكان المناسب، لا بأس من تنفيذ تمرين صغير بأجساد الفتحاويين. النتيجة اقفال معبر رفح. هذا المعبر الذي كلف الفلسطينيين اقتتالاً اهلياً ودماء كثيرة لإقفاله، واليوم ثمة دماء سالت إلى حد فاق القدرة على الاحتمال من اجل فتحه. لماذا اقفلتموه بالدماء ما دام امر فتحه عزيزاً إلى هذا الحد؟ يا للمعبر المحظوظ.
الدم الفلسطيني لم يترك مكاناً للوم والعتب. في وسع السلطة الفلسطينية في رام الله ان تنسى، في وسعها ان تضرب صفحاً عما جرى. الوحدة الوطنية اهم وابقى من المجازر الزائلة. فضيلة المجازر الإسرائيلية انها لشدة هولها تمسح مجازر الاخوة الصغيرة في ما بينهم. ليس ثمة مكان للعتب واللوم. هذا على المستوى الفلسطيني، وعلى بعض المستوى العربي ايضاً. الوقت ليس وقت عتاب. لكنه بالنسبة لبعض القادة العرب المستجدين في القيادة وقت مناسب لترؤس القمم واستعراض البلاغة اللفظية. ما الذي تفعله سوريا بالمناسبة؟ لماذا لم يتقدم رئيسها ووزير خارجيتها بمبادرة تحقن الدم الفلسطيني؟ ام ان العزلة المفروضة على نظامها تحول دون نجاح اي مبادرة؟ النظام الممانع معذور في عزلته. انما والحق يقال كدنا نصدق ما ردده اركان النظام وهم يفاخرون بأن دمشق اصبحت محجة للزوار الرسميين من اوروبا والعالم كله. في نيسان 1996، نفذت اسرائيل هجوماً وحشياً على لبنان. يومها وقف وارن كريستوفر منتظراً على باب الرئيس الاسد، فيما كان اللبنانيون قابعون تحت النار. ليس السر في من يموت بل عمّن يموت.
الدوحة، ايضاً. مكان مناسب لانعقاد القمة العربية الطارئة. من هناك يمكن للجيوش العربية ان تحرر قطر، ان تهاجم القاعدة الاميركية هناك، أو ان تحرق المكتب الاسرائيلي التجاري. هذه القمة فضيلتها انها تعقد في الدوحة حيث في وسع من يريد التظاهر امام المكتب الإسرائيلي ان يتظاهر. هل حصلت تظاهرة تضامن مع غزة في الدوحة امام السفارة الإسرائيلية او المصرية؟ لم تبث قناة الجزيرة خبراً مماثلاً. انما فلنأمل خيراً فقد تحدث في مقبل الأيام تظاهرة ولو قضاء وقطراً.


موقع تيار المستقبل

حسن البطل: نذهب إلى الهيجاء بسياسة هوجاء


وحدها، فلسطين السلطوية لا تحتار أو تتردد بين الدوحة والكويت، كما بين اجتماع وزاري طارئ لمجلس جامعة الدول العربية وآخر لمجلس الأمن الدولي على مستوى وزراء الخارجية. مع هذا، فإنّ نظم وشعوب عرب الدوحة (إذا عقدت قمتهم)، وعرب الكويت (إذا اكتفت قمتهم بالتشاور في هيجاء الحرب على غزة، على هامش اقتصاد ما بعد زلزال وول ستريت وتداعياته)، تبقى غير راضية عن فلسطين السلطوية - الأوسلوية - السياسية.. الخ!، ولا بعض شعبها الفلسطيني راضٍ عنها.لاحظوا أن رأب الانقسام الفلسطيني ليس في رأس بنود المبادرة المصرية، التي سبب الموقف منها (ومن قرار مجلس الأمن 1860) حيرة النظام العربي بين قمّتي الدوحة والكويت؛ وبين قرار عربي يصدر عن الجامعة العربية، وقرار دولي يصدر عن مجلس الأمن الدولي.فلسطين السلطوية، التي لا تحتار بين اجتماع وزاري عربي وآخر دولي في مجلس الأمن، كان رئيسها ذهب لحضور الاجتماع الوزاري العربي، وكذا الاجتماع الوزاري الدولي. بل وحضر اجتماع مجلس الأمن لتزكية خارطة الطريق، كما اجتماع المجلس الذي أصدر القرار 1860.ههنا، يجب القول إنّ السلطة المعاب عليها أنها نتيجة وضع أوسلوي، يمكنها أن تقول إن أوسلو نتيجة وضع انقسامي عربي، كما أن هذا الوضع الانقسامي العربي نتيجة من نتائج كامب ديفيد المصري - الإسرائيلي.لن تخرج قمّة الدوحة السياسية الطارئة (إن عقدت بمَن حضر كما تدعو دمشق) بقرارات سياسية قطعية تشكّل موقفاً، كما لن تخرج قمة الكويت الاقتصادية بخطّة عربية عملية وشاملة، تكون ناجعة في مواجهة تحديات ما بعد الأزمة المالية العالمية.مع هذا وذاك، لنلاحظ أن الهياج الفلسطيني والعربي والعالمي للحرب على غزة، لن يثمر عن استخدام المدفع أو البرميل، أو قطع العلاقات مع إسرائيل، أو مقاطعة البضائع الأميركية. لماذا؟ لأن أوروبا، مثلاً، وهي مركز صنع القرار السياسي الدولي والتوفيقي لإنهاء الحرب على غزة، عالجت "هيجاء" الحرب الروسية - الجورجية، وحرب إمدادات الغاز إلى أوروبا في هذا الشتاء الصقيعي، بغير ذهنية عربية في مواجهة "هيجاء" الحرب على غزة، وبغير سياسة عربية هوجاء لعلاجها.السيد ساركوزي نفسه، الذي قاد محاولات أوروبا للتهدئة السياسية لحرب جورجيا - روسيا، هو الذي قاد محاولاتها الأولى للخروج بتهدئة سياسية للحرب على غزة. لكن، دور روسيا في إدارة صراع الغاز مع شقيقاتها السابقات - الخائنات المتساقطات من المنظومة ومن حلف وارسو، أنجع من محاولات دول أوبيك العربية وغير العربية في التحكم بأسعار البرميل، وكذا من دورها في حلّ الأزمة المالية الدولية.موقف روسيا الفاتر من الحرب على غزة، وكذا موقف الصين الأكثر فتوراً، يجب أن يدخل في العقل السياسي العربي، أو في ذلك الشق من العقل الذي يراهن على البعد الإسلامي العالمي للحرب على غزة. هذان البلدان الكبيران، الحليفان السابقان لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، اكتويا بنيران التطرف الإسلامي الأهوج، عدا أن "توازن المصالح" الذي وضعه غورباتشوف صار يحكم سياسة موسكو وبكين الفاترة، وهو يحكم، أيضاً، سياسة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في توجهاتهما الخاصة لإطفاء سياسي للحرب على غزة.كشفت الحرب على غزة، ليس فقط أن الانقسام العربي هو المرآة المحدّبة للانقسام الفلسطيني، بل وأيضاً عمومية الحديث الجاري عن عرب التطرّف وعرب الاعتدال، سليل المفهوم القديم عن عرب الثورة وعرب الثروة، لأن مجلس التعاون الخليجي كما بقايا حلم الاتحاد المغاربي، كما حلف أكتوبر 1973 المصري - السوري - السعودي، جميعها تشظت بين حيرة الذهاب إلى قرار عربي مشترك من مجلس الجامعة العربية، وحيرة العودة بقرار دولي (مع امتناع أميركا) من مجلس الأمن.. ثم حيرة الذهاب إلى قمّة الدوحة (وهي من مجلس التعاون الخليجي) أو قمّة الكويت (وهي من المجلس أيضاً).. فقط، بقي المحور السياسي المصري - السعودي يحاول أن يقود سياسة عربية متعقّلة لإطفاء هيجاء حرب غزة بمزيج من بودرة قرار مجلس الأمن وماء المبادرة المصرية.. أما الفصائل التي تدين سياسة السلطة الأوسلوية، وهي تدري أنها نتيجة من نتائج انفراط محور أكتوبر 1973، وبالتالي نتيجة لحرب العراق، التي هي نتيجة من نتائج انهيار المعادلات القديمة، فهي تطلب الحل السياسي الممكن من مصر بالذات، ومنها يصل الإمداد الإنساني إلى غزة.يقول الجميع، إنّ هذه حرب لن تحسمها القوة الجبروتية الغاشمة الإسرائيلية، ولكنها قد تفرض هدوءاً ضرورياً للتفكير بين ويلات الهيجاء والتعقّل السياسي الضروري لصياغة حلّ سياسي ممكن.

الايام

حسن خضر: قضاء وقطر

أغلب الأفكار التي تدور بين الناس تنجم عن القياس. في الكلام، مثلاً، عن مشاعر الغضب التي تعصف بالشارع العربي، وفي مشاهد الـمتظاهرين في عواصم عربية مختلفة، كما في دعوات الـمقاومين والـممانعين، وتحليلات الـمحللين، ثمة ما يشبه النصّ الغائب. والنص الغائب، هنا، أن الأنظمة العربية الصامتة، والـمتواطئة، والـمتخاذلة، ستفقد شرعيتها مع مرور الوقت؛ مما يعني فتح الباب أمام تحوّلات عميقة كتلك التي عصفت بالعالـم العربي بعد النكبة في العام 1948.وهذه التحليلات، والدعوات، والتكهنات، خاطئة على أكثر من صعيد. فالكلام عن الصمت والتواطؤ والتخاذل لا يصف الحقيقة بقدر ما يُسقط مشاعر الدعاة والـمتكلـمين على واقع، يحاولون صياغته لا كما هو، بل كما ينبغي أن يكون.لديّ تحفظات كثيرة على النظام الـمصري، ليس بسبب موقفه من الـمسألة الفلسطينية، بل بسبب ما ألحقه بمصر من كوارث. ومع ذلك، أعتقد بأن موقف مصر من الـمسألة الفلسطينية، في سياق الحرب الدائرة على غزة، صحيح ويصب في مصلحة فلسطين ومصر على حد سواء. وأعتقد، أيضا، بأن إلصاق صفات من نوع الصمت، والتواطؤ، والتخاذل بالـموقف الـمصري، يندرج في باب التشهير، ولا يصف الواقع من قريب أو بعيد، إلاّ إذا قبلنا بتحوّل مشيخة اسمها قطر إلى مخ للعالـم العربي، وأفردنا لـمصر دور العضلات. بمعنى أن الأولى تضع الإستراتيجية، وتعلن النفير العام، والثانية تتولى التنفيذ.موقف مصر من قضية الـمعبر يعني عدم اعترافها بشرعية استيلاء حماس، بالقوة، على غزة أولاً، ووقوفها ضد تحويل غزة إلى كيان منفصل بالـمعنى السياسي عن الضفة الغربية؛ مما يعني القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية ثانياً، والحيلولة دون وصول النفوذ الإيراني إلى حدودها ثالثاً، وحماية أمنها واستقرارها الـمهدد من جانب كيان للإخوان الـمسلـمين على حدودها رابعاً، والحيلولة دون توريطها في غزة، بطريقة تلحق الضرر بمعاهدة السلام مع إسرائيل خامساً.ولا يهم، في موقف كهذا، طريقة ترتيب الأولويات، بل وضعها في السياق العام للـمصلحة الـمصرية أولاً، والفلسطينية ثانياً. وفي الحالتين يصبح الكلام عن الصمت والتواطؤ والتخاذل مجرد بلاغة فارغة، وممارسة للتحريض.يُضاف إلى ما تقدّم، وما زلنا في سياق التعقيب على النص الغائب، أن التحوّلات التي شهدها العالـم العربي بعد النكبة في العام 1948، وقعت على خلفية الحرب الباردة، والصراع بين الأميركيين والسوفييت، وتضافرت مع، ونجمت عن، صراعات بين نخب اجتماعية واقتصادية وسياسية جديدة وأخرى تقليدية، تحاول التأقلـم مع عالـم ما بعد الحرب العالـمية الثانية. وفي هذا الصدد، كانت الـمسألة الفلسطينية مصدراً للشرعية بالـمعنى الأيديولوجي، لكن الصراع الحقيقي كان حول تعزيز سلطة وشرعية الدولة الـمركزية، وإنشاء كيانات وهويات ثقافية وسياسية مستقلة، ضمن حدود جغرافية، كانت اعتباطية أحياناً، لكنها اكتسبت قداسة وديمومة بفضل النخب الجديدة، التي أطاحت بالنخب التقليدية.هذا يفسر، ضمن أمور أخرى، فشل الوحدة الـمصرية ــ السورية، كما يفسر العداء اللاعقلاني، الذي وسم العلاقة بين جناحي البعث في سورية والعراق، وتفتت كيانات لـم تستقر فيها سلطة الدولة، وشاء حظها العاثر أن تكون على مفترق للطرق، بالـمعنى السياسي والأيديولوجي، كما هو الشأن بالنسبة للبنان.الـمهم أن واقع الحرب الباردة لـم يعد قائماً، وأن صراع النخب الاجتماعية على السلطة والثروة في العالـم العربي، قد انتقل إلى مرحلة جديدة، مغايرة لـما كان عليه الحال في عقدي الخمسينيات والستينيات.الصراع في شكله الحالي لا يدور حول إنشاء وتثبيت أركان الدولة الـمركزية (وهذا هو القاسم الـمشترك بين النخب الجديدة والتقليدية، بعد الحرب العالـمية الثانية) بل حول هوية الدولة؛ مما يعني في حالات كثيرة العمل على تفكيكها، وصياغتها من جديد. وفي الحالتين يصعب التمييز بين التفكيك والتفتيت، وبين إعادة الصياغة والتهديم. كما حدث في العراق بعد انهيار السلطة الـمركزية، وكما سيحدث إذا ضعفت السلطة الـمركزية في مصر، وسورية، والجزائر، واليمن، والـمغرب.القوى الساعية للاستيلاء على العالـم العربي (على مراكزه الحضرية والحضارية في الـمقام الأوّل) تعرف أن فرصتها الوحيدة للفوز تتمثل في تعميم الفوضى، وزعزعة استقرار الأنظمة القائمة، فإذا سقط النظام، سقطت الدولة، التي يمكن بعد الاستيلاء عليها إعادة إنشائها بطريقة جديدة، تنسجم مع مصلحة أمة فوق الجغرافيا والـمصالح والتاريخ اسمها الأمة الإسلامية. وبالتالي، فإن الـمصلحة العليا للدولة لا تدخل في حسابات هؤلاء، طالـما أن النظام يحول بينهم وبينها. وهذا، في التحليل الأخير، معنى عبارة أفلتت من الـمرشد العام للإخوان الـمسلـمين في مصر ذات يوم، وجاء فيها بالحرف الواحد: طز في مصر.شخصياً، أعتقد بأن مصر لن تخرج من دائرة الصراع العربي ــ الإسرائيلي، لأسباب لا تخص موقفها من القضية الفلسطينية، بل تخص أمنها ومصالحها القومية (كما قال محمد حسنين هيكل مؤخراً) وكما دلل جمال حمدان، أحد أفضل الأدمغة التي أنجبتها مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، منذ ثلاثة عقود مضت. ولكن، لن يحدث ذلك لأن حماس تريد الحصول على الشرعية بعد استيلائها على غزة، ولأن إيران في مجابهة مع الأميركيين بسبب برنامجها النووي، ولأن سورية تفاوض إسرائيل، وتحتاج إلى أوراق للضغط، ولن يحدث بالتأكيد بسبب دولة لا في العير ولا في النفير، من طراز قطر.وإذا كان ثمة من ضرورة للكلام عن تحوّلات عميقة، في ظل، وبعد، ما حدث ويحدث في غزة، ينبغي أن تكون حول قياس الأعمال بالنتائج: هل كانت هذه الحرب حتمية، وهل يستحق معبر رفح خمسة آلاف (حتى مساء أمس) ما بين قتيل وجريح. ألـم يكن الـمعبر مفتوحاً قبل استيلاء حماس على غزة، ألـم نكتشف حدود اللعبة والعنف الإسرائيليين من قبل، أم أن ما حدث ويحدث مجرد قضاء وقطر؟

الايام

بلال خبيز: تربية الحقد


في الوقائع: يتظاهر عدد كبير من اليهود في المدن الاميركية دعماً لإسرائيل. هل يريدنا هؤلاء ان نصدق ان صواريخ القسام تهدد اسرائيل حقاً؟ ولو صدقنا ذلك، فكيف يسع هؤلاء تجاهل واقعة ان نيران الجيش الإسرائيلي تقتل الناس في غزة؟
حقوق الإنسان؟ اي حق هذا الذي يبيح لأي كان ان يستبيح قتل شعب بدعوى ان امنه مهدد من بعض افراد هذا الشعب؟ لطالما عرفنا ان المسألة تبدا وتنتهي في المحاججات السياسية. هذا ينطبق على حركة "حماس" وينطبق على الجيش الإسرائيلي وقيادته السياسية. في اسرائيل، ثمة مناقشات حامية: هل قادنا ثالوث القيادة إلى حرب تعرض امن المدن الإسرائيلية للخطر من اجل تحقيق نسبة اعلى من الأصوات في الانتخابات المقبلة؟ المجتمع الإسرائيلي منذ بداية المعركة، منذ بداية التخطيط على ما تدعي يديعوت احرونوت، ابدى استعداده للتضحية ببعض الأرواح، لكن شرط قبول التضحية ان يقود السياسيون المعركة بوصفها معركة من اجل الوطن وليس من اجل المناصب الحكومية وصناديق الاقتراع. في الجهة المقابلة: سؤال لم يتغير منذ 1948: اين العرب؟ هل حان وقت الاستفاقة العربية؟ السائلون ينسبون إلى انفسهم بعض التنصل من عروبتهم، يكونون عرباً بمقدار ما يُدخل القادة العرب، في حملة الدفاع عن الشعب الفلسطيني، شعوبهم وجيوشهم في المعركة الحاسمة. ايضاً المسألة تقع في السياسة اولاً واخيراً ولطالما عرفنا ذلك. هذا بيان يفترض ان الرابطة العروبية الوحيدة الممكنة والتي تجوز هي رابطة الثأر. انه منطق الضحية، المنطق الذي غلب على الفكر الحديث منذ الهولوكوست على اقل تقدير. ربما ايضاً منذ صلب المسيح في القدس، وبطرس الصخرة في روما. منذ ذلك الحين، دخل الثأر عنصراً حامساً ومرجحاً في السياسة اليومية. وعلى الأرجح ان مباني الدول الحديثة والروابط الإتنية تمت إلى منطق الثأر بأوثق الصلات. انما هل يحق للفلسطينيين المطالبة بالثأر ايضاً؟
المعضلة ليست في الثأر في حد ذاته. هذا شعور لا راد له، انما يستطيع الزمن ان يخفف من حدته. المعضلة تكمن في السياسة التي تبنى على اساسها الروابط القومية والوطنية. الرابطة التي تعيد تمثيل الجريمة كل يوم. في المدن الاميركية تظاهر اليهود ومناصروهم ليس لأن حماس تهدد الشعب اليهودي في فلسطين المحتلة، بل لأن ثمة اضطهاد تاريخي حاق باليهود في غير مكان. اسرائيل ومناصروها ينتقمون من الفلسطينيين، لأنهم يملكون الحق بتربية الحقد على غيرهم، حتى حين تكون صواريخ "حماس" غير قادرة على الإيذاء وتشبه في ما تشبه تصريحات احمدي نجاد، فإن الحق بتربية الحقد وتنمية الكراهية يجيز للإسرائيليين تشغيل آلة القتل في جسد من يعتبرونه عدواً.
الاشتغال بالسياسة كان على الدوام منتجاً وفاعلاً حين يستجدي ايقاظ مشاعر الكراهية وعزف ترانيمها. على الكراهية تنبني الإجماعات وعلى الكراهية يتم تخوين الذين يريدون التفكير قليلاً قبل الضغط على الزناد. ان ينتصر باراك في الحرب على غزة، يعني ان يجعل الوجع الفلسطيني اشبه بكي الذاكرة. حياً ومتذكراً، وبسبب من حيويته واقامته المديدة في الذاكرة يمتنع الفلسطينيون مستقبلاً عن تهديد امن المستوطنات. والحال، لا بد ان الوجع الفلسطيني هائل الوقع على الفلسطينيين انفسهم، اصلاً هو هائل الوقع على العرب جميعاً، مما يعني ان العودة إلى محاولة تهديد امن اسرائيل من قبل اي طرف فلسطيني بعد هذه المذبحة المتواصلة، لن يصدر إلا عن طرف من اثنين: واحد غض الذاكرة او ضعيف الانتساب إلى الذاكرة الفلسطينية الجامعة. وآخر يجري حسابات متجددة ويخرج من حساباته باعتقاد انه يستطيع إذا ما اشتعلت الحرب مرة اخرى ان يدمر اسرائيل ويرتكب مجازر في حق سكانها. لكن الفلسطينيين، العرب معهم، يعرفون ان مثل هذا الاحتمال بعيد المنال، وان جل ما تريده اسرائيل من هذه المذابح هو تأجيل الرد الفلسطيني بضعة اعوام اخرى ليتسنى للجرح الفلسطيني الغائر ان يلتئم قليلاً، وليتسنى للبعض نسيان التاريخ.
هكذا، تريد اسرائيل من فصد الدم الفلسطيني في غزة ان تحذر اهل الضفة وتكوي ذاكرتهم بالحديد والنار. تقتل الناس، من دون تمييز في الشجاعية وحي الزيتون من اجل ان يتألم اهل جنوب لبنان ايضاً. فالألم بوصفه اهم الروادع البشرية على الإطلاق مهارة لا يجيدها الموتى والشهداء، انها من اختصاص من بقي حياً. واسرائيل تريد ان تمثل بجثث الموتى ليتألم الاحياء. على هذا يتظاهر اليهود دعماً لإسرائيل لأن السياسة تنبئهم ان المهم بات ماضياً، ويقتل الجيش الإسرائيلي اهل غزة لكي يكون الألم هو مستقبل الفلسطينيين.
الجريدة

حسن البطل: لأ مش كده يا سيد مسعود

أعادني الاسم الكودي للحملة الاسرائيلية الجارية الى بداياتي المهنية.. وبفضل قلم الأديب الاسرائيلي ابراهام بولي يهوشواع ("الأيام" ص 14، يوم 2001/1/7، نقلاً عن معاريف) فهمت لماذا سمّاها جنرالات هيئة أركان الفريق غابي اشكنازي "الرصاص المصهور".عندما تلقى حي الفاكهاني - بيروت الغربية حمماً من قذائف عيار ربع طن، في تموز 1981، كنت في "مطبعة الكرمل"، وكان عمال الطباعة ينضدون عدد جريدة "فلسطين الثورة" بحروف من رصاص مصهور (طباعة لينو تايب)، ولأن أبخرته مسرطنة كان على عمال الطباعة مباشرة عملهم بشرب نصف ليتر من الحليب. لغير هذا قال درويش: "ارحموا العمال في مطبعة الكرمل"، أي لأنهم كانوا يطبعون صور الشهداء والقتلى.. ومعها مقالات مشحونة بيورانيوم سياسي مشع!المهم، ان تعبير "رصاص مصهور" مشتق، كما أوضح يهوشواع، من اغنية أطفال عبرية ينشدونها في عيد الحانوكا "الأنوار"، ومنها: "أبي صنع لي لعبة من رصاص مصهور". بعض قدامى زملائنا في قسم التنضيد الالكتروني اجتازوا مراحل الطباعة كلها، لكن قدامى حملة الأقلام، الذين كان معين بسيسو نصحهم باتقان الكتابة بالحبر، لا بالدم وحده، لفلسطين، يبقون يشعرون ان الحبر في أقلامهم الجافة ثقيل كالرصاص المصهور.. وفي سخونة الدم المهراق الفلسطيني في حروب الأعوام .2009 - 1965بالأمس اشتكى زميلي الاستاذ جهاد الخازن، في زاويته "عيون وآذان" من ان تعليقات القراء على ما يكتبه، إما هي شظايا غضب عنقودية، او مغموسة بيورانيوم مشع.. وبالطبع بالقدح والمدح، الثناء القليل والشتائم الوافرة المقذعة.. وبعضها باسم مستعار والآخر مبني للمجهول.مع الاخراج الجديد لموقع "الأيام الالكترونية"، صار من المتاح لقراء عمودي هذا نقعي في "رصاص مصهور"، دون الاشارة الى الاسم أو العنوان الالكتروني، بما يطرح على محرر عمود "من القارئ" تحدياً مهنياً وأخلاقياً بالنشر من عدمه، لا سيما وأنني استننت قاعدة مهنية بضرورة تزويد القارئ رسالته بعنوانه الالكتروني، ليتسنى لقراء غيره التواصل معه، وممارسة حق الرد، وهو أساس حرية التعبير المسؤولة، التي تغيب عن أقلام بعض القراء مع كل حرب اسرائيلية ذات اسم كودي خاص بها.كان رئيس أركانهم السابق، موشيه يعلون، قد تحدث عن صهر أو كي وعي الفلسطينيين، ثم وفي كتابه: "طريق طويل؛ طريق قصير" أفصح عن خيبته من العناد الفلسطيني، والرأس اليابس الفلسطيني، وانحاز إلى أقصى اليمين ودعوات الترانسفير. لماذا؟ لقد كان هو الضابط المكلف في حرب 1982 باغتيال ياسر عرفات، وتوصل يعلون بعد الانتفاضة الثانية الى استنتاج مفاده بأن عرفات هو واضع نظرية: اسرائيل بيت عنكبوت المنسوبة الى السيد نصر الله، المأخوذة من آية قرآنية كريمة: ".. وان أوهن البيوت لبيت العنكبوت" - العنكبوت 41.لاحقاً، ستتوصل تكنولوجيا المواد إلى ان أنجع واقيات الجنود المضادة للرصاص هي تلك المجدولة من خيوط تحاكي فيزيائياً وكيميائياً خيوط العنكبوت.. ولاحقاً جداً، سنعرف هل ستفلح حرب الجنرال اشكنازي في اعادة صياغة الوعي الفلسطيني بعد حملة "رصاص مصهور"، أي صياغة العقل الجهادي لحركة حماس صياغة سياسية ملائمة لاسرائيل.أعرف، كمحرر سابق للشؤون الاسرائيلية، ان العقلين اليهودي والعربي يشتركان في جوانب عديدة من الغريزة البدائية، باستثناء ان اسرائىل تمكنت من بناء قبضة حديدية - تكنولوجية ونظام لديمقراطية اليهود، وهو ما لم تدركه مصر للأسف بدليل ان انفعالية الخطاب الشعبي لم تتغير من "فلسطين المغتصبة" إلى التهليل لاطلاق قذائف على "المغتصبات" الصهيونية، ورمي أي تحليل نيّر وسياسة عاقلة، بما يرمي به القراء بعض ما أكتبه في هذا العمود، ويكتبه جهاد الخازن مثلاً، مع انه كقلم حر يميل مع الهوس السياسي، في حين ان قلمي الملتزم مكبل بضوابط الوحدة الوطنية.الاعلام الاسرائيلي محكوم، بدوره، برزم خيوط عنكبوتية متينة تقول وقت الحرب: صمتاً.. ابناؤنا يحاربون، بينما الاعلام الفلسطيني (والعربي والاسلامي) محكوم بسلاسل كأنها تقول: صراخاً.. أطفالنا يموتون.يخيل إليّ ان المتعاورين في هذه الحرب تحكمهم عقد دفينة: يهود اسرائيل والهولوكوست وهدم الهيكل. بعض العرب والمسلمين إما بتراث حرب صفين، او سقوط الاندلس، وبعض الفلسطينيين بالنكبة واغتصاب فلسطين.. والمؤامرات المحكمة الصليبية والامبريالية واليهودية - الصهيونية.. الخ.هاكم الدليل: كتبت بالأمس عن دور المنظمات الدولية في المساندة الانسانية، فكتب إليّ المواطن "مسعود" يقول بالحرف: "ألا تلاحظ ان المنظمات الانسانية التي تقدم الغوث في العالم للناس المنكوبين.. كلها منظمات عملها "الكفار"؟ لا منظمات انسانية عربية تقدم العون لسائر البشر. هذا هو الفرق يا استاذ. مش كِدَه وإلا إيه.جوابي هو: لأ.. مش كِدَه يا سيدي، لأنك لم تزودني باسمك ولا بريدك الالكتروني.
الايام

هدى الحسيني: كلهم مع غزة فمع من حماس؟


الملاحظة اللافتة، أن كل المظاهرات التي انطلقت في مختلف أنحاء العالم، أعلنت وقوفها إلى جانب أهالي غزة، لم تكن هناك من يافطة تقول: إنها مع «حماس». بوعيه أو لا وعيه، لا يستطيع إنسان يؤمن بالسلام بين الشعوب أن يدعم حركة تستهدف المدنيين، أقدمت عندما سادت سلطتها على «تطهير» غزة من كل مناوئيها السياسيين. لم يحمل المتظاهرون صور خالد مشعل أو إسماعيل هنية، لقد رُفعت صورة لجمال عبد الناصر في إحدى مظاهرات لندن، على الرغم من أن عبد الناصر قومي عربي، و«حماس» عكس ذلك. الملاحظة الثانية، أن إيهود أولمرت (رئيس وزراء إسرائيل) وتسيبي ليفني (وزيرة الخارجية) كانا في حكومة آرييل شارون عندما قررت الانسحاب الأحادي من كل غزة عام 2005، اليوم هما على رأس الحملة العسكرية ضد غزة. خالد مشعل الزعيم السياسي لـ«حماس» قال في خطابه مساء السبت من على شاشات التلفزيون السوري، إن العملية ضد غزة أنهت آخر أمل في السلام. وهناك كثيرون يقولون، وباعتراف قادة «حماس» الذين يرفضون العملية السلمية، إن «حماس» لعبت الدور الرئيسي في تدمير كل أمل في السلام، عندما بدأت العمليات الانتحارية في نيسان (أبريل) عام 1994. وإن هذه العمليات كانت من أسباب بناء الجدار الخانق. أراد مشعل في خطابه تقليد السيد حسن نصر الله أمين عام «حزب الله»، ومساء الاثنين بدأ إسماعيل هنية في الدعاء والتضرع، كأنه يريد أن يسحب البساط من تحت الشيخ يوسف القرضاوي، الذي جلجلت دعاءاته في خطبة يوم الجمعة الماضي، لكن هنية، في وسط دعاءاته، مرر استعداده الموافقة على وقف لإطلاق النار، عكس مشعل، الذي قال إنه يتألم لسقوط الأبرياء من الفلسطينيين، إنما المعركة تتطلب تضحيات. كشف خطاب هنية عن أن هناك انقساما في قيادة «حماس»، وكان الانقسام بدأ عبر توجه وفدين من «حماس» إلى القاهرة يوم الأحد، حيث ظهرت خلافات حادة في موقفيهما. أبلغ رئيس الاستخبارات المصرية اللواء عمر سليمان أن اتفاق وقف إطلاق النار يتطلب وضع آلية تمنع تهريب الأسلحة والصواريخ عبر الأنفاق إلى غزة، كما يفرض إجراء «حماس» مفاوضات سياسية مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. في هذه الأثناء، كان أهالي غزة المنكوبين يتساءلون، عبر شاشات التلفزيون، متى يأتيهم وقف إطلاق النار. وفد «حماس» الممثل لمشعل عاد إلى دمشق، لنسمع بعدها أن نائب الرئيس الإيراني حسين دهقان طلب من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أن يشجع «الدول العربية» لعقد اجتماع عاجل لبحث الهجوم الإسرائيلي على غزة. وكأن الدول العربية جالسة تتفرج. ومن ثم ليطل بعد ذلك رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم، ويدعو إلى اجتماع لوزراء خارجية الدول العربية، لبحث مأساة غزة (تدرج بعد ذلك ليصبح دعوة لعقد قمة عربية) وليطلب «عدم التدخل في الشأن الفلسطيني». ترى إيران، أنها عبر «حماس» والمزيد من الضحايا في غزة، ستجبر مصر على الانصياع وفتح معبر رفح من دون شروط والتزامات. سورية تريد عقد مؤتمر قمة عربي، بمن حضر، لسحب الورقة الفلسطينية من مصر. قطر الوسيط، محرجَة أو متجاهَلة، منافستها للسعودية دفعتها إلى مغازلة سورية، وإرضاء إيران، وتسويق «حماس». ثم: «إذا كان هناك من موقف عربي واحد مماثل، فستغلق هي المكتب التمثيلي الإسرائيلي في الدوحة». هكذا قال رئيس الوزراء، وزير الخارجية القطري.تعرف إيران وسورية أن هزيمة «حماس» في غزة ستضعف موقفيهما في المستقبل مع الإدارة الأميركية الجديدة وفي المنطقة بشكل عام. ثم إن إقامة أغلبية قيادة «حماس» في دمشق ليست مجانية، والتمويل الإيراني لـ«حماس» ليس من دون مقابل. وقول هنية في السابق: «إن إيران تمثل العمق الاستراتيجي للفلسطينيين»، وقول مشعل: «إن دور إيران في مستقبل فلسطين يجب أن يستمر ويتضاعف»، جاء الوقت لتطبيقهما ولو كلف ذلك التضحية بآلاف الغزاويين. على كل، على الرغم من الدماء والدمار والتشنجات، فإن أصواتا ترتفع في أميركا وإسرائيل وبعض الدول العربية تطالب بضرورة الحوار بين إسرائيل و«حماس». وتدعو هؤلاء القادة في «حماس» وإسرائيل، لا ليكونوا شجعانا، إنما براغماتيون لحل مشاكلهم. يقول لي مفكر بريطاني: إن المسألة اليوم ليست ميثاق «حماس» الذي لا يعترف بوجود يهود أو مسيحيين في فلسطين، المسألة اليوم أن هناك فلسطينيين يقتلون يوميا، وإسرائيليين يعيشون في رعب من الصواريخ، ومسيحيين يهاجرون. دول كثيرة في العالم تطالب «حماس» بالتراجع عن موقفها الرافض لحق إسرائيل في الوجود. الذين يعرفون «حماس» يقولون إنها لن تقدم على ذلك بسبب تجربة «فتح». لقد وقعّت «فتح» على اتفاقية أوسلو التي تطلبت منها الاعتراف بإسرائيل، فكانت النتيجة فوضى، ودولة منقسمة «ولسنا أحرارا في تقرير حياتنا». وقال لي أحد العارفين إنه خلال لقاءاته مع قادة «حماس» أدرك أنهم يعتبرون الاعتراف بإسرائيل يأتي في نهاية العملية، وليس كنقطة البداية، ويعطون مثلا: لو أن رئيسا وزراء بريطانيا طوني بلير أو جون ميجور، وضعا الحوار مع الجيش الجمهوري الأيرلندي وجناحه العسكري «الشين فين» كنقطة البداية، ما كانا قد توصلا إلى شيء، في أيرلندا الشمالية. ثم إن بلير عندما تحدث مع المعتدلين هناك لم يتوصل إلى شيء، فقط عندما تحدث مع المتطرفين من البروتستانت والكاثوليك توصل الجميع إلى عملية سلام ناجحة. ويقولون إن بريطانيا عاشت تحت رعب قنابل الـ«شين فين» أكثر من عشرين عاما، ولم تشن غارات جوية مدمرة على أيرلندا الشمالية.الأسبوع الماضي نشرت صحيفة «الغارديان» تقريرا جاء فيه أن فريق إدارة الرئيس المنتخب باراك أوباما يفكر في فتح قناة اتصال مباشر أو غير مباشر مع «حماس»، مثلا عبر وكالة الـ«سي. آي. اي» كما جرى في زمن ياسر عرفات. يقول ديفيد آرون ميللر الذي عمل مع إدارة الرئيس بيل كلينتون: «إن الحوار مع «حماس» قد يكون جزءا من استراتيجية تشمل مصالحتها مع «فتح» ومع انضمام الإسرائيليين. ويضيف: «إن حوارا بين أميركا و«حماس» قد يكون مهما وضروريا، لكن إذا جرى الآن، فإنه سيزعزع وضع محمود عباس، ويتجاوز الإسرائيليين، وأعتقد أنه مع أولويات أوباما الاقتصادية، فإن مثل هذا الحوار سيهز وضع الرئيس السياسي». من هنا يرى آرون ميللر أن فرصة أن يبدأ أوباما حوارا مباشرا أو غير مباشر مع «حماس» غير متوفرة. ويوضح ردا على سؤال بأن أوباما قال إنه سيجد طرقا لفتح حوارات مع أعداء أميركا! «المشكلة أن أعداء أميركا نوعين: دول مثل إيران وسورية، ومنظمات مثل «حزب الله» و «حماس». ليس لأميركا سجل في التعامل مع منظمات ليست دولا، خاصة عندما تكون هذه المنظمات في صراع وعداء مع حلفاء وأصدقاء أميركا. ويضيف آرون ميللر: «أعتقد أن أوباما قصد في استعداده للتعامل مع أعداء أميركا البدء في حوار جدي مع إيران (أكد ذلك أوباما يوم الأحد في مقابلة مع تلفزيون اي. بي. سي) وهذا ما سيفعله، وأيضا توسيع علاقات أميركا مع دمشق». وشرح عمق المشكلة، بأن البيت الفلسطيني مقسوم، ولا يمكن لعملية السلام أن تتقدم ما لم يكن هناك بندقية فلسطينية واحدة، وسلطة واحدة وفريق مفاوض واحد، وما لم تكن هناك سياسة فلسطينية موحدة، فلن يكون هناك حل للمشكلة الفلسطينية-الإسرائيلية. ويضيف: «لست متأكدا أن أحدا في لندن أو واشنطن أو القاهرة أو تل أبيب أو غزة لديه جواب الآن». لا بد أن هناك معتدلين في «حماس»، يدركون أن أي حل في الشرق الأوسط يستدعي تدخلا أميركيا. إن سورية تعرف ذلك، وتنتظر وصول الإدارة الجديدة لتستأنف اتصالات مباشرة مع إسرائيل. هي «علقت» المفاوضات ولم تقل إنها قطعتها. إيران تعرف ذلك أيضا، تنتظر وصول أوباما وقد تقابله برئيس إيراني جديد. البروباغندا الإعلامية لا تسمن ولا تغني من جوع. القضية الفلسطينية يجب ألا تنتهي، ورقة تستغلها إيران وسورية لدعم حججهما بأنهما الدولتين القادرتين، إما على توفير الحل، أو على نشر الرعب واللااستقرار. قد تكون هذه فرصة لإسماعيل هنية أو محمد نزال، حتى خالد مشعل قد لا يمانع. إن الشعب الفلسطيني في غزة هو من يموت وتدمر بيوته. كل من تظاهر عاد إلى بيته لينام في سريره مطمئنا للأمن الذي توفره له دولته، أو الدولة التي يعيش فيها.آن لأطفال غزة أن يذهبوا إلى المدارس، ويرتدوا ملابس نظيفة ودافئة، ويأكلوا طعاما طازجا. إن السلام ليس هزيمة، إنه المستقبل، والأولى بالمعتدلين في «حماس» أن يتضرعوا كي يمنحهم الله الحكمة والجرأة على اتخاذ قرار شجاع ينقذ شعبهم، فهذا الشعب انتخبهم على أساس أنهم سينقذونه من فساد «فتح» ،ويؤمنون له حياة كريمة، لا أن يرموا به في حرب غير متكافئة، ثم إن فلسطين تستحق مصالحة وطنية.
الشرق الاوسط

الاثنين، 12 يناير 2009

بلال خبيز: احتلالان

ما هي النار التي يريد القرار 1860 ايقافها؟ ولماذا ترى حركة "حماس" نفسها غير معنية بها؟ يقال جهراً وسراً، وهنا وهناك، ان حركة "حماس" غير معنية بالقرار، لأنها اصلاً لا تطلق النار. النار هي اسرائيلية اولاً وآخراً. صواريخ القسام تشبه صواريخ القيادة العامة، ذات تأثير محدود، ولا تجر اسرائيل إلى حرب على جبهتها الشمالية. ابلغ ما في رسالة الصواريخ الجنوبية ليس ما اراد مرسلوها تبليغه. ابلغ ما فيها انها اثبتت ان الصواريخ المحدودة العدد والقدرة والمدى، والقديمة الطراز، لا تستوجب رداً اسرائيلياً عنيفاً كالذي ترد به في غزة. المسألة ليست في الاحصاءات التي تجريها الصحافة الإسرائيلية في ما يتعلق بعدد الصواريخ الحمساوية التي انطلقت إلى الداخل الإسرائيلي في فترة التهدئة، وفي الفترة التي اعقبت اعلان خالد مشعل، من دمشق، انهاء العمل باتفاق التهدئة من جانب واحد. حركة "حماس" اعلنت انهاء العمل باتفاق التهدئة واسرائيل تمسكت بالاتفاق، اقله هذا ما بدا واضحاً في الأيام التي اعقبت تصريح مشعل من دمشق. لكن هذا يصح فقط في المؤتمرات الصحافية. في الواقع، اسرائيل تقصف وتقتل وتشرد و"حماس" تختبئ. ثمة مخابئ حصينة اعدت سلفاً في غزة لكنها لا تتسع لكل الشعب الفلسطيني، انها بالكاد تتسع لقادة حركة "حماس". في المؤتمرات الصحافية، حركة "حماس" تكبد العدو خسائر فادحة: في الأرواح؟ قطعاً لا. إذاً هي تكبدها خسائر في السمعة، او هكذا يحسب قادة "حماس" ومن وراءهم. النتيجة: يموت الفلسطيني وتتلطخ سمعة اسرائيل. النار تحرق على جانب واحد في هذه الحرب. والسمعة كذلك. إذاً لماذا يفترض ان تكون حركة "حماس" معنية بقرار دولي لوقف النار؟ لا سبب يدعوها إلى ذلك. لقد دخلت اسرائيل الفخ برجليها، هي اشعلت النار وهي من يتوجب عليه اطفائها. الصور التي تبثها شاشات التلفزيونات عن غزة تشبه العار. عار البشرية مجتمعة. المرء وهو يشاهد صور الموت والخوف وقلة الحيلة، يخشى ان تضعه الظروف، لأي سبب من الأسباب، في موقع القاتل، وليس في موقع الضحية. على العكس، يتضامن العالم مع الضحية إلى حد الاستعداد للتماهي معها. اسرائيل هي من يخشى صورتها. انما ماذا عن "حماس"؟ لماذا ترفض رفع سيف الموت عن عنق الشعب الفلسطيني؟ فقط لأن احداً لم يستشرها في القرار؟ اسرائيل ايضاً لم تستشر في القرار، وهذا حديث طويل. لكن "حماس" في ما يبدو تريد الإيحاء، مستفيدة من غلو اسرائيلي في القسوة والولوغ في الدم، انها تحتكر النطق باسم الشعب الفلسطيني ومصالحه: افتحوا المعابر، واوقفوا الحصار، ويمكننا ان نكف عن الموت امام الشاشات. لكن هذا الطموح غير قابل للصمود اصلاً. ما الذي يمنع اسرائيل مرة اخرى من ارتكاب المجزرة تلو المجزرة؟ ليس سلوك "حماس" السياسي قطعاً. ولا الحق في المقاومة الذي دخل على قاموس القوى السياسية دخول الخديج، في وقت مستقطع بين مرحلتين. الحق في التحرر والعيش ضمن دولة مستقلة هو الحق المقدس، وليس الحق في المقاومة. المقاومة وسيلة من الوسائل المشروعة لإحقاق هذا الحق. انما ما لنا وللسجال مع من لا يعرف لغة غير لغة التخوين. هل يجدر بنا ان نتذكر ان بعض دعاة الحق المقدس في المقاومة رأوا في الصواريخ التي اكتشفت قبل اطلاقها في جنوب لبنان صواريخ مشبوهة؟ إذا كان الحق في المقاومة مقدساً، فكيف يكون الصاروخ المعد للانطلاق إلى ارض العدو مشبوهاً؟ ايضاً ليس ثمة حاجة للسجال مع هذا المنطق. ثمة اناس لا يسمعون غير رنة اصواتهم في لبنان وفي فلسطين على حد سواء. مرة أخرى، ايضاً، تريد اسرائيل اتفاقاً شبيهاً بالاتفاق الذي انهى الحرب على لبنان. وحركة "حماس" ترى في مثل هذا الاتفاق نصراً اسرائيلياً لم يتحقق في الميدان. لا احد يعرف كيف يمكن ان يكون النصر اسرائيلياً، ولا احد يعرف كيف تكون الهزيمة "حماسياً". مع ذلك يجدر بالمرء ان يذكّر الذين استفاقوا بعد عامين على الإنجاز الذي حققته اسرائيل في حربها ضد لبنان، واكتشفوا ان لا نصر إلهياً ولا بشرياً قد تحقق، وان اسرائيل حققت ما كانت تريد تحقيقه في هذه الحرب انهم خونوا اكثر من نصف الشعب اللبناني لأن نصف هذا الشعب اطلق صرخة الوجع في تلك الحرب، وبعضهم بكى الضحايا علناً. حسناً نحن نعرف ان الدموع ممنوعة. هكذا تريدنا "حماس" ان نفهم. الحرب التي تخوضها في غزة هي بالضبط حرب انتظار القاتل حتى يسأم من القتل. في الأثناء على قادة المقاومة ان لا تدمع اعينهم على الضحايا. هل ننتظر ان تفور دمعة تسيبي ليفني في محجريها، لعل دمعتها تسرّع في حقن الدماء؟ حركة "حماس" وهذا شأن مقاومات اليوم كافة، ورثت على الأرجح تاريخاً من الدم الفلسطيني، والعربي استطراداً، المراق في حروب متتالية. الأنظمة اراقت دماء عربية في حروبها مع اسرائيل، والمقاومة الفلسطينية اراقت ايضاً دماء في حروبها مع اسرائيل. حزب الله ايضاً والمقاومة الوطنية اللبنانية من قبل. دائماً كان الدم العربي ارخص من دم الإسرائيلي في تلك الحروب. حركة "حماس" لا ترى ضيراً من شلال دم جديد باسمها هذه المرة. المتباكون على اراقة الدم الفلسطيني هم انفسهم اراقوا دماً فلسطينياً من قبل. على ماذا يتباكون؟ ولماذا اصبح الدم الفلسطيني عزيزاً إلى هذا الحد حين حان دور "حماس" لاحتلال القضية الفلسطينية؟ احتلال القضية يستحق بذل الدماء. اسرائيل تبذل من دم جنودها لاحتلال الأرض، وليس خافياً على احد ان احتلال القضية اهم من احتلال الأرض. إذاً لا يجدر بالسلطة الفلسطينية في رام الله ان تسعى لحقن الدم الفلسطيني في غزة، هذا الدم ليس دمها، انه دم القضية التي تريد "حماس" احتلالها. اما الناس فلطالما كانوا وقوداً للقضايا.
موقع المستقبل

حسن البطل: 1860


أولاً في الوصف، وثانياً في القراءة، وثالثاً في التحليل. بما في الوصف من بلاغة التصوير، سأقول إنّ الشاشات انتقلت، في فترة الأعياد، من ألعاب نارية بهيجة تنفجر مطلّة من الأضواء في السماء، إلى ألعاب نارية وخيمة تنفجر بأضوائها الوخيمة حاملة الموت والدمار لشعب غزة وأرضه.. لكن في العلاقة بين هرم بهجة الأعياد وهرم ويلات العذاب البشري تزيغ الأفئدة والعقول عن القراءة السياسية الصحيحة للعلاقة بين سير الحرب، أسبابها، ذرائعها؛ وبين نتائجها الآنيّة وتلك البعيدة المدى.مع هذا، لا بد من خوض مغامرة قراءة أولية في التحليل السياسي للقرار 1860، باعتباره رابع قرار رئيسي لمجلس الأمن خاص بأربع حروب عربية - إسرائيلية، هي القرار 242 لحرب العام 1967، والقرار 338 لحرب العام 1973، والقرار 1701 لحرب العام 2006 بين إسرائيل وحزب الله.من حيث المستوى / الشكل السياسي والدبلوماسي، فقد صدر القرار 1860 على مستوى وزراء خارجية الدول الكبرى في مجلس الأمن، في الأقل الدول الغربية الثلاث الكبرى، بينما صدرت القرارات الثلاثة السابقات له على مستوى المندوبين. إلى هذا، فإنّ قطبي الدبلوماسية العربية (السعودية وأمين عام الجامعة العربية) لعبا في صوغ القرار دوراً أكبر.أمّا من حيث المحتوى، حيث يدور "عصف عقول وألسنة" في إعداده وصوغه وطبخه، فللحق أنه جاء أوضح وأكثر تفصيلاً من القرارات 242، 338، و1701، بحيث إن السيدة رايس اضطرت للامتناع المزدوج: عن التصويت وعن استخدام حق النقض، كتعبير عن حراجة الموقف السياسي الأميركي، إزاء نجاح رؤساء الوفود العربية بخلق درجة من التباين بين فرنسا وبريطانيا (الاتحاد الأوروبي) والولايات المتحدة.إنّه قرار غير قاطع، لأن الدبلوماسية لا تقطع في موقف لم تقطع فيه سير عمليات الحرب أولاً، ولأن الصياغة حمالة الأوجه هي فن الدبلوماسية الأول. مع هذا، فالقرار الذي لا يتوقع فاهم في السياسة صدوره وفق البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، جاء بصيغة "الملزم" ولو لم يلتزم به، على الفور، الفريقان المتحاربان.. كلّ لأسبابه، علماً أن مناوشات وخروقات ما بعد صدور القرارات 242 و338 و1701 حيّة في الأذهان. يكفي، مثلاً، أن جيش إسرائيل أنجز "ثغرة الدفرسوار" الشهيرة في نهاية حرب أكتوبر 1973 بعد صدور القرار.ما الذي جعل القرار الملزم - غير الملتزم به بعد، أقوى وأوضح في الصياغة من قرارات سبقت، صدرت بعد حروب أخرى وأضرس، وأكثر تهديداً للسلام الاقليمي، بل والعالمي؟ وللتذكير، فإنّ موسكو، التي خشيت انهيار الجيش المصري في ختام حرب أكتوبر 1973، لوّحت باستنفار نووي، بينما أشار القرار 1860 إلى مؤتمر دولي في موسكو حول الشرق الأوسط سيعقد في مجرى هذا العام.للأسف، وبدلاً من "التنابز بالألقاب" الذي نهى عنه رسولنا الكريم، فإن المحور الشمالي الإيراني - السوري وتوابعه وأدواته انتهزوا اندلاع المعارك وصدور القرار 1860 للتنابز بالمواقف، بما عطل ذهاب العرب في مؤتمر وزراء خارجيتهم بموقف عربي سياسي مشترك كان سيجعل القرار أكثر قوّة ووضوحاً.يتحمّل المحور الشمالي - النضالي الجهادي مسؤولية أيّ ضعف نسبي في صوغ القرار السياسي لا الحربي، بينما نجح المحور الجنوبي - السياسي الدبلوماسي في لعب دور في صوغ القرار. لا حركة "حماس" ولا نظامي دمشق وطهران كانا في مركز صنع القرار. في المقابل، وبغض النظر عن تجنيات حكومة غزة بحق حكومة رام الله، فإن السلطة الفلسطينية، بقيادة الرئيس عباس، كان لها دورها في صناعة القرار العربي، بما أثّر إيجاباً في دور العرب بصياغته، ودور الاتحاد الأوروبي أيضاً.ماذا عن إسرائيل، صاحبة القوّة الجوية الرابعة عالمياً، "وأقوى جيش على وجه الأرض" حسب قول الرئيس بوش في لقائه الأخير برئيس الوزراء أولمرت؟مرّة أخرى، وأوضح من حروب الأعوام 1967، 1973، و 2006، يبدو دور إسرائيل قميئاً في صنع القرار الاقليمي، بل والدولي حتى، وإن رفع مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأميركي عتب إسرائيل على تقاعس واشنطن عن استخدام حق النقض. لنتذكر أن حروب إسرائيل، وبالذات حرب العام 1982 ضد م.ت.ف بلبنان، كانت تتوخى إعادة رسم الخارطة الجيو-سياسية للشرق الأوسط.. وفشلت في ذلك فشلاً مبيناً، وهي ستفشل هذه المرّة أيضاً، لأنها أفرطت باستخدام القوة أكثر من حروبها السابقات، فجرّت على نفسها إدانات دولية رسمية وتنديدات عالمية شعبية أكبر مما سبق... وكل هذا الموت زيت في آلة الحل السياسي، وعن أفقه لم يحد القرار 1860: دولتان لشعبين.. الخ!
الايام

حسن داوود: كأن الحرب لا ينهيها إلا عدد قتلاها

لا أعلم إن كان الموفد الثقافي الأوروبي، الذي قدم إلى لبنان في سياق التحضير للقاء حول الثقافة العربيّة المعاصرة سيعقد في بلده، قد حزم حقائبه وغادرنا. ثمّة من كان قد نصحه بأن لا يؤجّل ذلك أبدا، أي أن يترك بيروت من لحظة ما يقول له رجل الإستقبال في الفندق إنّ ما يحدث في غزّة بدأ بالإنتقال إلى لبنان؛ وأن يسافر على أيّ طائرة مغادرة، بصرف النظر عن وجهتها. في لقاء لي معه سألني إن كنت أقدّر أنّ شيئا ما سيحدث هنا، ظانّا أنّنا، لكثرة تمرّسنا بالحروب، بتنا نعرف إن كانت آتية إلينا، هكذا من دون حاجة إلى معلومات وصلتنا عنها. وكان في ذلك محقّا، إذ إنّنا نقيس احتمال حدوثها بدرجة الخوف المسيطر علينا. قلت له إنّني أشكّ في إمكان حدوثها هنا، ذاك اني لم أكن خائفا آنذاك، أي قبل يومين من إطلاق الصواريخ الأربعة على إسرائيل.ذاك أنّني، مثل كثيرين هنا غيري، لم أتمكّن من أن أجيد تلك اللعبة التي أكون أصغي منبهرا لأولئك الذين يبدأونها، حيث يروحون يتكلّمون مسمّين الدول والأحزاب والأطراف على اختلافها، جامعين بعضها إلى بعض ومفرّقين بعضها عن بعض حتّى يصلوا، في آخر تحليلهم، إلى أنّ الدولة الفلانيّة لها مصلحة في إشعالها هنا في لبنان. في أحيان أراني أفعل ما يفعلونه، لكنّني، وهذا ما يحدث لي على الدوام تقريبا، أخطئ في تفصيل ما لا أعرفه.. أو أنّني أكون قد أخطأت من البداية ثمّ أكملت من هناك، بانيا أخطاء على أخطاء لأصل، في نهاية تمريني ذاك إلى أنها (هي الحرب ) لن تصل إلى عندنا.لذلك رأيتني خائفا من أن يكون نصحي للمندوب الثقافي قد أبقاه هنا، حتّى صبيحة الصواريخ الأربعة تلك. ذاك أنّي، اعتمادا على درجة خوف الموظّفين، في تلك الصبيحة، قدّرت أنّها، هي الحرب، لا بدّ آتية. كانت إحدى الموظّفات تنظر إلى ساعة يدها كلّ دقيقتين مستعجلة مجيء يوم الأحد الذي يحين فيه سفر أولادها الثلاثة، الذين يعملون جميعهم خارج لبنان. وكانت هناك موظّفة أخرى جعلت تأتي من مكتبها لتسأل، كلّ دقيقتين أيضأ، إن كان قد حدث شيء جديد. أمّا الموظّف الرجل، ذاك الذي يدور على الطوابق مسلّما على الزملاء، بمزيج من حبّ الزمالة وبتكليف ربّما من الحزب الذي ينتسب إليه، فقال إنّهم ينصبون الصواريخ ويديرون ظهورهم إليها، هكذا متّهما ناصبيها بالإستخفاف بمصائر الناس. « أليس هو مع مقاومة إسرائيل عادة»، سألتُ الزميلة المنتظرة مجيء يوم الأحد، فنظرت إليّ بما يفيد أنّها منشغلة البال ولا يسعها أن تتكلّم في شيء. لدى الثلاثين شخصا أو الأربعين الذين التقيتهم في ذلك النهار كانت نسبة الخوف واحدة تقريبا وإن اختلفوا في تدبّرها. بعضهم كان يأخذها بالمزاح، لكن المزاح المبالغ الذي يقرب من أن يصير هستيرّيا، بعضهم كان يأخذها بالتحليل الذي يمكن أن يصل في نهايته إلى نتيجتين متناقضتين. بعض ثالث كان لا يطيق الكلام ولا المزاح. يوم الخميس ذاك كان يوم خوف عام، على غرار ما يُقال إضراب عام، لكن هذا ممّا يبعث على الحيرة أيضا، بل على أشدّ الحيرة ما دام أنّ آلافا منّا أعلنوا، بصوت هادر واحد، أنّهم سينتصرون لغزّة انتصار الشهداء.وهي، الحرب، بعد تلك الصواريخ الأربعة، بدت قريبة وهي توشك أن تشتعل في سرعة ما يشتعل عود ثقاب. بل هي، بعد ما قيل عن صواريخ إسرائيل الأربعة التي انطلقت إلكترونيّا ردّا على صواريخ الكاتيوشا الأربعة التي انطلقت من عندنا، هكذا من دون حاجة إلى جنديّ أو ضابط ليركّب إحداثيّاتها، أسرع اشتعالا من عود ثقاب. صواريخ أربعة فقط كانت ستعيدها، وهذه، فوق ذلك، صواريخ قديمة كما قال أحد الوزراء . ذاك أنّ الحرب عندنا، لتبدأ، لا تحتاج إلى أن تُقرع طبولها، كما أنّها لا تحتاج إلى أن يُسأل الذين سيتلقّونها إن كانوا راغبين في حصولها. ثمّ أن عدد المستعدّين لإشعالها كبير إلى حدّ أنّ حتّى أصغر هؤلاء يستطيع أن يصرّح، متدّلعا، أنّه لن يقول إن كان هو الذي نصب الصواريخ، هكذا محتفلا بنفسه ما دام أنّ وقته الذي ينتظره قد أزف.تلك الصواريخ الأربعة كانت ستصل إلى غايتها فيما لو أعقبتها أربعة أخرى. الحمد للّه على السلامة، قالت في الصباح التالي من كانت تنتظر يوم الأحد. بات يمكنها، بعد أن اطمأنّت إلى أنّ الحرب ستظلّ هناك، في غزّة أن تتفرّج على الصور التي يعرضها التلفزيون بتعاطف حقيقي مع الضحايا الذين لم تعد نشرات الأخبار تعيد إليها مَن سبق أن نقلت صوره منهم. لم تعد التلفزيونات تحتاج إلى ذلك بسبب الوفرة في أعداد القتلى، وذلك إلى حدّ أنّها، هي التلفزيونات، باتت تقصّر عن تصوير الكثيرين منهم. بات بإمكانها، هي التي لم تعد تستعجل انقضاء الساعات، أن تدير وجهها عن الشاشة التي أمامها، ان تقول عن المَشاهد التي أبعدت نظرها عنها إنّ هذا فظيع، وأن تقول كم هي متوحّشة إسرائيل. ذلك الغضب المطمئنّ باتت تستطيع أن تشترك فيه مع أولئك الذين تنقل التلفزيونات مشاهدهم أيضا، رافعين يافطات مندّدة بالجرائم وماشين، صامتين أو رافعين أصواتهم بالدعوة إلى الإنتقام، في البلاد التي تحبّها بعيدة. وفي أحيان لا تصلها الرسالة على النحو الذي يريده التلفزيون، كأن تخطر لها هولندا مثلا في الشريط الذي يصوّر متظاهري هولندا.وقد تقول شاتمة إسرائيل: 750 قتيلا يا كلاب، وذلك بغضب حقيقي وإن كان يُبقيها جالسة على مقعدها. فبالمقارنة مع ما كان ممكنا حدوثه، يمكن لغضبها هذا أن يكون ترفا ما كان لها أن تحظى به لو أنّ ما كان أخافها البارحة قد حصل . 750 قتيل يا كلاب، تقول في غضب حقيقي وحزن حقيقي أيضا، لكنّها، مع ذلك، ترى أنّ هذا العدد الكبير يبشّر بنهاية الحرب، أو إنّه يقترب من أن يكون كذلك. لقد علّمتها معايشاتها السابقة أنّ الحروب تكتفي بعدد من القتلى، وهي تنتهي حين تتمّهم. بل إنّ هناك من قال لها، في اليوم الرابع أو الخامس من هذه الحرب الأخيرة، إنّ الحرب لا توقفها إلاّ مجزرة تحدث، مسمّيا لها مجزرتي قانا ومجزرة مروحين. بعد يومين من ذلك سألت إن كانت مجزرة تلك التي حدثت في مدرسة الأونروا وقضى فيها 43 رجلا وامرأة وطفلا.
المستقبل

يوسف بزي: اسمع فأتذكر

كان الخبر أن طائرة ليبية نقلت جرحى من غزة، على عدد أصابع اليد، لمعالجتهم في مستشفياتها، فتذكرت «العقيد» معمر القذافي الذي رمى آلاف الفلسطينيين في الصحراء على الحدود المصرية، وما زالوا هناك حتى الساعة.كان المشهد المتلفز أن الرئيس السوداني يقف ببذلته العسكرية مخاطباً مئات الضباط من جيش السودان قائلاً «ان قتل اسرائيل لما يفوق 350 فلسطينياً هو فعل ابادة» مستنكراً « بطء ردة الفعل العربية الرسمية». فتذكرت أن «الفريق» عمر البشير يشن حرب ابادة (فعلية) على مئات آلاف من مواطنيه في دارفور، هو والجانجاويد وضباطه، وان مذكرة جلبه الى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكابه جرائم ضد الانسانية، لم تصدر بعد خوفاً من ان ينتقم بالمزيد من المجازر في حق أبناء دارفور أو حتى ان يشعل الحرب مجدداً بين شمال السودان وجنوبه.كانت الأخبار ان جماعة مقتدى الصدر «الممانعة» نظمت التظاهرات دعماً لغزة وتنديداً بالهجوم الاسرائيلي عليها. فتذكرت «بطولات:» ميليشياته الدموية في ضواحي الأعظمية بحق المواطنين العراقيين، وتذكرت آلاف الفلسطينيين الذين طردوا الى الصحراء على الحدود العراقية السورية الأردنية، مرميين هناك في الخيم، هرباً من تلك الميليشيات بالذات، ولم يستقبلهم أحد حتى الآن.كان الخبر ان «الارهابي» أيمن الظواهري يندد بأفعال اسرائيل وقصف الأبرياء في رفح وخان يونس وجباليا وبيت لاهيا (والأخيرة تسكنها أقلية مسيحية لعلم الشيخ المسلح)، فتذكرتُ «المقاومة» العراقية التي أرسلت في يوم القصف المذكور انتحارية لتفجر نفسها بتظاهرة تضامن مع الفلسطينيين في الموصل، مرتكبة مجزرة أودت بالعشرات من المواطنين العراقيين.كان الخبر أن «المعارضة» المصرية، من أطياف اليساريات والاسلامويات (المقموعة اغلب الأحيان) نظمت تظاهرات ضد الحملة الاسرائيلية على غزة وتضامناً مع حركة حماس. فتذكرت تلك المعارضة بالذات، الصامته عن مجريات السودان الدموية، وهي تتظاهر دعماً لصدام حسين الذي دفن أكثر من 350 ألف عراقي بمقابر جماعية، في «مأثرة» واحدة من مآثره أثناء «استعداده للزحف نحو القدس».كان الخبر ان محطة «الجزيرة» القطرية تشن حملة دعائية ضد «الأنظمة العربية»، وتعاطفاً مع «المقاومة» في غزة. فتذكرت مطارات قطر وهي تشحن القنابل الى اسرائيل بالذات اثناء حربها على لبنان في صيف 2006».وقطر نفسها السخية بـ «المال الحلال»، التي شكرها حزب الله وحدها دون سائر الدول بيافطات انتشرت من بيروت وحتى الحدود الدولية جنوباً، هي الامارة الوحيدة التي لم تطالبها «الجماهير» بطرد البعثة الاسرائيلية منها، ولا باغلاق اهم القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة والمتواجدة فيها.كان الخبر ان ايران الملالي نظمت التظاهرات تأييداً لحماس والجهاد الاسلامي وتنديداً بـ «التخاذل العربي» ، فتذكرت «فتوى» الولي الفقيه خامنئي الذي أصدرها منذ أيام و«حرّم» فيها تطوع مواطنيه لتنفيذ عمليات انتحارية ضد اسرائيل.كان الخبر أن زعيماًُ لبنانياً «ممانعاً» وقف امام الوفود التي تؤمه مستهولاً مقتل 400 فلسطيني بالغارات الاسرائيلية على أحياء ومخيمات غزة، فتذكرت ما جرى للفلسطينيين سكان المخيمات في لبنان بين عامي 1985 و1987 عقاباً لهم لأنهم «يؤيدون ياسر عرفات».كان المشهد ان النظام السوري سيّر التظاهرات وأصدر البيانات وهاجم دولاً عربية وسياسات عربية تحفظت على ما أقدمت عليه حركة حماس وتوابعها، فتذكرت مصير كل فلسطيني يحاول العبور والتسلل من الجولان الى اسرائيل، وتذكرت أكثر كيف ان هذا النظام «الممانع» (بجبهته الأكثر هدوءاً من سيناء ومن وادي العربة) طارد الفلسطينيين قتلاًَ وتشريداً وسجناً منذ تل الزعتر عام 1976 الى معارك الشوارع اليومية طوال السبعينات والثمانينات في لبنان الى حرب البقاع وطرابلس 1983 الى حروب ابادة المخيمات 1985 1987 مروراً بالاغتيالات والتفجيرات والاعتقالات التي لم تتوقف يوماً، وكاد يجهز بالكامل على منظمة التحرير الفلسطينية. بل هو النظام نفسه الذي نصّب المتهم الأول بمجازر صبرا وشاتيلا حليفاً وصديقاً له، وسلّطه على الادارة اللبنانية سنوات عدة.كان المشهد ان خالد مشعل، بابتسامة بليدة على تلفزيون، يعلن ان اكثر من 500 فلسطيني من مواطني غزة قضوا بالهجوم الاسرائيلي... «اما خسائرنا فقليلة جداً» . نون الجماعة في هذه العبارة تخص فقط حماس. الخمسمئة الموتى وما يناهز ثلاثة آلاف جريج طرحهم زعيم حماس، الدمشقي الاقامة، في العدم ونسّبّهم الى العدم. لم يدخلهم في «خسائرنا» في نون جماعته. وعن ماذا يحارب خالد مشعل؟ عن من يدافع؟ عن ماذا هو «مسؤول»؟ الجواب عند زميله، «رئيس الحكومة» دويلة غزة اسماعيل هنية وجملته البديعة «لو أبادوا غزة لن نغير موقفنا». ترخص غزة اذاً في سبيل الموقف. وفي وجه مَنْ قالها هنية؟ في وجه اسرائيل التي تعلن انها ترسل جيشها الى القطاع المحاصر لـ «الدفاع عن مواطنيها وجلب الأمن لهم» (اسلوب خاطئ. هذا نقاش آخر).اسرائيل تنذر مواطنيها للطمأنينة... ولو بتدمير غزة عن بكرة ابيها، وحماس بدورها تنذر «مواطنيها» جميعهم للموت، ولو من أجل صاروخ واحد.أمام هذه المعادلة، ما على «الممانعين» سوى الانتشاء. معادلة «انتصارية» مدوخة، خلاقة، لهذا السبب بالذات تستطيع حماس بالتأكيد، ومهما كانت نتيجة الحرب ومهما كان عدد الضحايا، ان تعلن «الانتصار». النصر منذور لحماس، وهذا لا جدال فيه، اذ لا احد يستطيع التغلب على سياسة قوامها ان كل صاروخ يطلق على اسرائيل (بقصد ازالة الدولة العبرية!) من المقبول ان تكون كلفته ونتيجته مئة طفل فلسطيني ميت.حرص حماس على «النصر» أقوى من حرص اسرائيل على مواطنيها وجنودها. من يرفض هذه اللعبة؟هناك اتهام صحيح ان ثمة نوايا اسرائيلية (عند أحزاب اليمين خصوصاً) بتهجير عرب اسرائيل وطردهم من الدولة العبرية. بالمقابل دعا ممثل حماس في لبنان اسامة حمدان عرب اسرائيل الى اثارة القلاقل في الداخل. يذكرني ذلك بدعوة الجيوش العربية للفلسطينيين بمغادرة قراهم ومدنهم «بغية تحريرها» عام 1948.الذي تعلمناه مراراً وتكراراً: ان الحركات التي تشبه حماس او الزعامات التي تشبه خالد مشعل، كلما ارتفع شعارها وتوسّع، تضاءل هدفها فشعار «تحرير كل فلسطين، من النهر الى البحر» هو حرفياً يهدف الى «السيطرة على معبر رفح».الذي تعلمناه مراراً وتكراراً انه كلما كان الاصرار على «المقاومة» ازداد منسوب «الحرب الأهلية» (آخرها معارك حماس وآل حلس وآل دهمش. وفي لبنان 7 أيار).الذي تعلمناه في الصراع على «الأرض الموعودة اكثر مما يجب» (حسب قول الكاتب آرون ديفيد ميلر) اننا مع هكذا اعداء وهكذا اصدقاء وحلفاء واشقاء سيظل السلام بعيداً. على الرغم من أنه يمكن القول ان العرب «تعبوا» من هذا النزاع المستمر منذ 60 عاماً. الفلسطينيون خصوصاً انهكهم هذا الصراع وهذا الظلم التاريخي المستمر اللاحق بهم من العدو ومن الأشقاء على السواء. الاسرائيليون ايضاً يبدو الارهاق قد حل بهم.بهذا المعنى، «الممانعون» محقون في تشخيصهم لهذا «التعب» الذي اصاب الاسرائيلي والفلسطيني والعربي. ولذا هم يقولون عن ما يصيب العرب «تخاذل» وما يعتري الاسرائيلي «ضعف» وما يلم بالفلسطيني «خيانة» وهم يريدون من ذلك استئناف الصراع بطاقة جديدة، بطموح جديد. لكن ما الهدف؟الاسرائيليون يحاربون من أجل سلام يناسب رؤيتهم (وهي غير عادلة حتى الآن) والفلسطينيون يحاربون من أجل تسوية سلمية تضمن اقامة دولة لهم قابلة للحياة، والعرب يصارعون من أجل سلم قد يساعدهم في استقرار دولهم او أنظمتهم أو مجتمعاتهم.المحاربون الجدد يسعون الى محو اسرائيل وتغيير الأنظمة العربية وتقويض الامبراطورية الأميركية. وهذا السعي هو دهري ولا نهاية له على أقل تقدير. والى ذلك الحين تنعموا بالحروب الأهلية والغزوات الأميركية والهجمات الاسرائيلية والانتصارات الالهية.
المستقبل

ماجد كيالي: من التوريط الواعي إلى حرب الصواريخ


منذ بدايتها، في منتصف الستينيات، توسلت الحركة الوطنية اسلوب الكفاح المسلح، أو حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، سبيلاً لتحرير فلسطين، لكن حركة فتح التي بادرت الى هذا الاسلوب، كانت تتوخى منه، اولاً، ابراز البعد الفلسطيني، واستعادة القضية من وصاية الأنظمة. وثانياً، تحريك الجبهات العربية، وفق فكرة «التوريط» الواعي، التي تفترض استدراج ردة فعل اسرائيلية ضد الدول العربية التي تقوم بدورها بالرد على الجيش الاسرائيلي.والحقيقة فان قيادة «فتح» لم تكن تعول على الكفاح المسلح، بحد ذاته، لتحقيق غاية التحرير، فهي كانت تعتقد ان الشعب الفلسطيني هو طليعة معركة التحرير، وان الجيوش العربية، فيما بعد هي التي ستحسم امر المعركة.لكن التجربة اكدت ان مراهنات فتح هذه كانت خاسرة وواهمة، وأنها تنطلق من منطلقات ارادوية وذاتية، لا تنبني على تحليل موضوعي وناضج للواقع العربي، وموازين القوى، والمعطيات العربية والدولية. فالنظم القائمة لم تكن تعد للتحرير، وعمليات فتح لم تحرك الجيوش العربية، لردع اسرائيل، وهذ الجيوش لم تكن على درجة مناسبة من الجهوزية، على مختلف المستويات لمواجهة جيشها. ودليل ذلك ان اسرائيل شنت حربا (1967) احتلت فيها اراضي واسعة من مصر (شبه جزيرة سيناء) وسورية (مرتفعات الجولان) والأردن (الضفة الغربية)، في ايام معدودات.بالمحصلة فان فتح وبدلا من ان تورط الأنظمة العربية، مع اسرائيل، تورطت هي، والفصائل، بصراع مع النظام الأردني (1970)، ادى الى خروج المنظمات من بلد يمتلك اطول حدود مع اسرائيل، وأكثر عدد من اللاجئين الفلسطينيين.ايضا، لم تنجح سياسة «التوريط الواعي» في لبنان، حيث ان طبيعة الدولة والجيش فيه لا تسمحان بذلك، ما ادى الى تصريف معظم طاقة فتح والفصائل الفلسطينية في صراعات جانبية مضرة، خارج الصراع مع العدو الاسرائيلي، منها: 1) التحول الى نوع من القوة النظامية في مواجهة اسرائيل، حيث حولت قوات الفدائيين الى نوع من جيش، من حيث الهيكلية والعتاد. 2) التحول الى سلطة في المخيمات وبعض المناطق اللبنانية، مع ما يترتب على ذلك من ميليشيات وأجهزة أمنية وخدمية واحتكاك سلبي بالمواطنين. 3) التورط بتوتير الأوضاع في لبنان، وتاليا في الحرب الأهلية فيه. 4) التورط باحتكاكات مع النفوذ السوري في لبنان. 5) تكبيد الفلسطينيين واللبنانيين خسائر فادحة، بشرية ومادية، نتيجة الحروب التي شنتها اسرائيل على لبنان منذ السبعينات وحتى حصار بيروت (1982).المعنى ان الدول العربية كانت في واد، وقيادة فتح في واد آخر، ما يفيد بخطأ اعتماد اي فصيل او قوة على رصيد طرف آخر، خاصة اذا كان ثمة اختلاف في طبيعة هذا الطرف وحساباته، كما يفيد ذلك بخطأ تحويل حركة التحرر الوطني الى سلطة، وخطأ انتقال هذه الحركة من معادلة المقاومة الشعبية (وضمنها المسلحة) الى معادلة الحرب النظامية (جيش مقابل جيش او صواريخ مقابل صواريخ).الان اذا اخذنا تجربة المواجهات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، الدائرة منذ اواخر العام 2000، مثلا، فسنجد ان ليس لها علاقة البتة بمعادلات حرب الشعب طويلة الأمد، التي تبتغي استنزاف العدو وانهاكه ورفع كلفة احتلاله، ولا بالانتفاضة الشعبية التي اندلعت في اعوام 19878 ـ 1993، والتي استطاعت تقديم النموذج الأنسب لكفاح الشعب الفلسطيني، مثلما استطاعت اثارة التناقضات الاسرائيلية، وفضح اسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية عنصرية غاشمة، وفرض وجود الشعب الفلسطيني في الأجندة الاسرائيلية والدولية؛ وحينها حيدت انتفاضة الحجارة القوة العاتية للجيش الاسرائيلي الى حد كبير، وقللت خسائر الفلسطينيين البشرية.معلوم ان طابع المقاومة المسلحة، وفق نمط العمليات التفجيرية، في المدن الاسرائيلية، وعمليات القصف الصاروخي من قطاع غزة الى البلدات الاسرائيلية المحاذية للقطاع، طغى عن تلك المواجهات، ما اسهم بحشد المجتمع الاسرائيلي خلف قيادته (بدل ان يعمق تناقضاته)، وشوش على الرأي العام الدولي، وعلى موقف الدول المؤيدة لحقوق الفلسطينيين، المتعلقة باقامة دولتهم بارضهم المحتلة، وقدم الفرصة لاسرائيل للامعان بالبطش بالفلسطينيين والاستفراد بهم، واستنزافهم، الامر الذي كانت نتيتجته ان الشعب الفلسطيني دفع ثمناً باهظاً، في الخسائر البشرية والمادية والسياسية؛ وها هو في ايام معدودات، وبنتيجة الوحشية والعنصرية الاسرائيلية، خسر اكثر من سبعمئة شهيد وأكثر من الفي جريح، هذا اولاً.ثانياً: ان هذه العمليات (التفديرية والصاروخية) كانت عشوائية في اهدافها، وتوقيتاتها، وزخمها، وبدت وكأنها غاية في حد ذاتها، غير خاضعة لمقياس او لعقلية قيادية. والحاصل فان هذه العمليات، كانت خارج الأعراف المتبعة في حروب التحرر الوطني ضد الاستعمار، أو حرب الشعب طويلة الأمد، أو حرب الضعيف ضد القوي، حيث يقتصد الطرف الضعيف بقواه، ولا يبدد طاقته، كونه لا يخوض حرباً بالضربة القاضية، لان هكذا حرب ستكون الكلمة الأخيرة فيها لمن يمتلك القوة العسكرية الأكبر والأقوى والأحدث. ولذلك فان خبرات حروب حركات التحرر الوطني تفيد بضرورة تحاشي تعريض قواها لضربات قاسية، وتجنب عدوها حين يكون مستنفراً ومستفزاً، ادراكاً منها انها تخوض حرباً سياسية، طويلة الأمد، يبنغي كسبها بالنقاط وليس بالضربة القاضية، وبالغلبة بالوسائل والمعطيات السياسية وليس بالوسائل العسكرية فقط. هكذا فان الوتيرة العالية من عمليات المقاومة عام 2002، التي ادت الى مقتل اكثر من اربعمئة اسرائيلي، جلبت مصرع وجرح واعتقال عشرات الألوف من الفلسطينيين، وتقويض الكيان الفلسطيني، ومعاودة احتلال الضفة الغربية وبناء الجدار الفاصل وتحويل قطاع غزة الى سجن كبير، ثم تراجعت عمليات المقاومة بدرجة كبيرة جداً، اذ شهد العام 2007 مصرع 11 اسرائيلياً فقط، وعام 2006 مصرع 24 اسرائيلياً، و2005 50 اسرائيلياً.ثالثاً، بعد انسحاب اسرائيل من غزة، وتفكيك مستوطناتها وبدلاً من ان يتحول هذا المكسب لانجاز وطني يمكن البماء عليه، اذا به يتحول الى عبء على المشروع الفلسطيني بسبب المبالغة بالقدرات، وعدم اطلاق نقاش سياسي عقلاني بشأن مكانه القطاع في العملية الوطنية، وبسبب الانقسام فثمة من اعتبر ان القطاع، وهو بمثابة سجن لمليون ونصف مليون فلسطيني، يمكن ان يتحول الى قاعدة لتحرير فلسطين او لدحر الاحتلال من الضفة. ونسي هؤلاء بأن القطاع بسكانه يعتمد على اسرائيل بموارده الحيوية (الكهرباء والطاقة والماء والمواد التموينية والصيدلانية)، التي تتحكم بمعابره، وبالسيطرة على مياهه وأجوائه.المغزى ان الزمن الراهن ليس زمن التحرير في الأجندة العربية والدولية، لذا فثمة مغامرة في تحميل القطاع عبء هذه المهمة، وتحمل تبعاتها. فقد أكدت التجربة ان الفلسطينيين يتعاملون مع عدو بجبروته. والدعم الذي يلقاه يفتقد لأي كوابح قانونية أو أخلاقية، كما لأي رادع في المعطيات الدولية والاقليمية. وليس ثمة ما يراهن عليه للتورط بهذا الوضع. لا الحال الرسمي العربي، ولا الشعبي المقيد.طبعاً لا يتعلق النقاش هنا بشرعية المقاومة، وضمنها المسلحة، ضد الاحتلال بل بكيفية ادارة المقاومة، وان الشعب، والمقاومة الشعبية، هو الاساس في مقاومة المستعمر. كما لا يتناول النقاش مسألة الغلبة في القوى، فلطالما كانت الشعوب المستعمرة أضعف بامكانياتها العسكرية من المستعمر. ولكن النقاش هنا يدور عن ضرورة اخضاع كافة اشكال المقاومة، وضمنها المسلحة، لاستراتيجية سياسية واضحة وممكنة، واختيار أشكال النضال الملائمة لكل مرحلة، مع تأكيد ان نجاعة اي شكل نضالي تتحدد بضمان ديمومته وتحمل تبعاته. وتأمين مقومات الحياة الطبيعية للشعب، كما بشل قدرة الطرف الآخر على استخدام اقصى قوته.المؤسف ان هذه التجارب والتحولات، على اهميتها وتداعياتها الخطيرة. لم تنتج وعياً نقدياً لها، ولم يجر تفحص جدواها او تأثيراتها، كما لم تنتج نظرية استراتيجية عسكرية خاصة بالمقاومة الفلسطينية، بسبب غياب المساءلة، وضعف العملية، والنزعة الشعاراتية، وايضاَ بسبب المشاعر الشعبوية، التي تنظر الى التضحية والشهادة باعتبارهما قيمة عليا، بغض النظر عن الانجازات المتحققة.
المستقبل

وسام سعاده: اشباح 1948


وسام سعادةإذا صحّ أن العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة يدخل مع أسبوعه الثالث في "مرحلة ثالثة"، فهذا يعني أنّه ستكون هناك مرحلة رابعة فخامسة فسادسة، وأن الأمور سائرة إلى المجهول، والمجهول يصعب حصره في 360 كم2 هي كل مساحة قطاع غزّة. فالأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصر الله عبّر بدقّة عن طبيعة العدوان الراهن، في خطابه يوم عاشوراء، وبالتحديد حين فاتح أنصاره قائلاً "نحن لا نعرف حتى الآن حجم المشروع وأبعاده". مع ذلك فهو لم يبن على الشيء مقتضاه: إذا لا يمكنك تخوين لبنانيين آخرين وفلسطينيين آخرين وعرباً كثيرين واستعداء كل العالم والحديث عن "تواطؤ" و"تآمر" طالما أن المشروع العدوانيّ الصهيونيّ لم يتضح حجمه بالنسبة لك، ولم ترتسم جميع أبعاده في ذهنك. وعندما يقال "لا نعرف حتى الآن حجم المشروع وأبعاده" فهذا يناقض بشكل أو بآخر بعض الدعاية الرائجة في قنوات "الممانعة" والتي تسرّعت منذ بداية العدوان للإطمئنان إلى محدوديته الزمنية والمكانية، وتقدير بساطة ارتباطه بالإنتخابات التشريعية الإسرائيلية. والحال أنّ المقولة التي روّجتها الممانعة والتي مفادها أن الأحزاب الصهيونيّة تخوض الآن الدور التمهيّدي للإنتخابات من خلال عدوان الثلاثي المنقسم على نفسه "أولمرت ليفني باراك" على قطاع غزّة هي مقولة مُضلّلة وعاجزة عن إدراك طبيعة الخطر الذي يتهدّد الفلسطينيين. يتخطّى هذا العدوان البعد الإنتخابيّ الصرف في اسرائيل، بل أنّ اقتراب موعد الإنتخابات الإسرائيليّة خدع الكثيرين من الممانعين، وشكّل تغطية للأهداف النوعيّة،"الجذريّة" أو "الإستئصاليّة"، التي يتوخّاها هذا العدوان. ليس يكتفي الأخير بالتمهيد في الإنتخابات، والصهاينة لم يقطعوا كلّ البحار لإستعمار فلسطين لا لشيء إلا تنظيم انتخابات. الأصح أن الإنتخابات نفسها لحظة متمّمة لهذا العدوان، بل لحظة قد لا يتبعها فوز هذا الحزب أو ذاك في إسرائيل.. وإنّما قيام حكومة إتحاد قوميّ في إسرائيل، حكومة "تنسيقيّة" بالكامل مع القيادة العدوانية للجيش الإسرائيليّ. ثم أنّ اطمئنان الممانعين في البدء إلى أنّ إسرائيل تخوض موسماً إنتخابياً دمويّاً في قطاع غزّة ليس إلا، إنما هو اطمئنان فاقد للمناعة أمام الدعاية الصهيونية، ويتناقض بالتمام مع مقولة أخرى غالباً ما يردّدها الممانعون، وغالباً أيضاً ما لا يفقهون مضمونها. فردّ كل شيء إلى الشهوات الإنتخابية في اسرائيل، أو تداخل الشهوات الإنتخابية مع الشهوات الإجرامية، هو تصوّر تبسيطي إختزاليّ يتعارض مع مقولة أن "اسرائيل هي دولة لجيش لا جيشاً لدولة"، تلك المقولة التي، عجباً كيف قرّر أن الممانعون تناسيها، تماماً، في هذه اللحظة المصيريّة بالتحديد.. مع أنّ الفارق الأساسي بين حرب تمّوز 2006 وبين الحرب على غزّة اليوم، هو غياب الإقتناع والإندفاع الكافيين لدى قيادات الجيش الإسرائيلي في الأولى، في مقابل مراهنة هذا الجيش بكل رصيده في الثانية، واختياره مسار "اللاعودة"، وهو ما يعود بشكل أساسيّ إلى بروز لمحات "بونابرتية" يمثّلها رئيس الأركان الجنرال غابي أشكنازي (والأخير من أمّ يهوديّة سوريّة وأب ناج من المحرقة النازية). فما تخوضه دولة إسرائيل حاليّاً يتخذ شكل التحدّي الوجوديّ مع نفسها، قبل أن تكون مواجهة وجوديّة مع سكّان الأرض الأصليين أو مع المحيط العربيّ والإسلاميّ. هذا التحدّي هو بالدرجة الأولى مع إحدى المقولات الأساسية التي جاءت في تقرير بيكر هاملتون في 6 كانون الاول 2006، وهو تقرير يتعرّض أساساً لإخفاقات الإدارة الأميركية في العراق وسبل تجاوزها لكنّه يقدّم جملة توصيات تتعلّق بتسوية الصراع العربي الإسرائيليّ. تفيد هذه المقولة بأن "الإسرائيليين في أكثريتهم أمّة تعبت من أن تكون دائماً في حالة حرب" وتبني على ذلك تفاؤلاً في حظوظ التسوية في المنطقة، بدءاً بالمسار السوريّ الإسرائيليّ. ما تحاربه اسرائيل الآن هو تحديداً هذه المقولة. وجهة النظر التي تطبع الحركة الصهيونيّة في الداخل الإسرائيلي وفي الشتات هو أنّ "الإسرائيليين لا يحبّون الحرب لكنّهم يفضّلونها على الإنتحار، وعلى المحرقة". المفارقة إذاً: إسرائيل تنسف تشخيص بيكر هاملتون لأزمتها، قبل أيّام من وصول باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة في واشنطن. لأجل ذلك ازدهرت في الأيّام الماضية في اسرائيل والشتات صيغ تعريفيّة للعدوان الحالي على غزّة بأنّه باكورة "حرب استقلال ثانية" (نسبة إلى "حرب الإستقلال" لعام 1948، أو "النكبة" في المأثورين الفلسطينيّ والعربيّ). مع التذكير بأن أرييل شارون عام 2000 تحدّث هو أيضاً عن "حرب استقلال ثانية". واليوم، تسود قناعة في اسرائيل بأن شارون قد تمكّن من ضرب التهديد الوجوديّ الآتي من الضفّة مع "الإنتفاضة الثانية" لكنّه خاطر بإنسحاب أحاديّ من غزّة، مثلما خاطر سلفه باراك بالإنسحاب الأحاديّ من جنوب لبنان عام 2000. إن أكثر الإسرائيليين مقتنعون اليوم بأنّ تجربة الإنسحابات، منذ إخلاء سيناء بموجب إتفاقية كامب ديفيد وصولاً إلى الإنسحابين الأحاديين من جنوب لبنان وقطاع غزّة، لم يؤدّيا إلى تعزيز فرص السلام في المنطقة، وإنّما إلى مزيد من الحروب، وإلى إنتعاشة نغمة "تدمير دولة إسرائيل" التي كانت خفتت بعد النكبة والنكسة، وفي أيّام تذبذب الحركة الوطنية الفلسطينية بين شعاري "الدولة الديموقراطية الموحدة للعرب واليهود" أو "الدولتين الديموقراطيتين المتجاورتين". إسرائيل اليوم تحاول أن تقول للعالم بأسره: إن انسحابها من قطاع غزّة كان الإنسحاب الأخير في تاريخها. والقراءة الإسرائيلية الحالية لتقرير لجنة فينوغراد تنطلق من فقرة حسبناها عابرة فيه وتقول بأنّ المقاتلين الأكثر يفاعة في الجيش الإسرائيلي في حرب تموز، وسواء كانوا جزءاً من وحدات النخبة أو من العديد أو من الإحتياطيّ كانوا وبأشواط "أكثر اندفاعاً من سواهم". وهو ما يتطابق مع استطلاع رأي أجري في آخر 2007 وسئل فيه الشبان في اسرائيل عن أي التنظيمات المسلّحة كانوا لينتسبوا إليها لو كانوا في وضع أجدادهم في أيام حرب 1948، فكانت النتيجة أنّ أقليّة منهم تختار نموذج "الهاغاناه"، أي المنظمة العسكرية شبه الرسمية المنبثقة عن "الوكالة اليهودية"، وتحت سيطرة اليسار، في حين أن الأكثرية تفضّل بوضوح نموذج التشكيلات اليمينية مثل "الإيرغون" (التي كانت تستهدف الإنتداب البريطاني وتنادي بالسيطرة على غرب وشرق نهر الأردن) و"الشترن" (المستعدّة دائماً للجوء إلى أبشع الوسائل لضمان قيام الدولة). والحال أنّ "حرب الإستقلال الإسرائيلية الثانية" إن كان يوجّهها مبدأ "أن لا سيادة غرب نهر الأردن إلا سيادة الجيش الإسرائيليّ"، ومبدأ أنه "لا دولة غرب الأردن غير الدولة اليهوديّة"، فهي تستفيد حتماً من غلاة الممانعة الذين يطرحون شعار "الإلغاء الوجوديّ" لإسرائيل دون أن يقولوا لنا بم وكيف ومتى، ولا يخاطبون جمهورهم إلا بالقول لهم "إتبعونا.. أحياء أو أموات إتبعونا".
المستقبل

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .