الجمعة، 26 سبتمبر 2008

بلال خبيز، اسمهان، كأنها زمن من هواء عليل

كأنها زمن من هواء عليل


بلال خبيز




لم تدخل اسمهان قائمة المطربات اللواتي يرافقن العاشقين إلى خلواتهم، ولم تتحول خليلة اهل الهوى أو من فاتوا مضاجعهم. اسمهان بقيت مطربة على حدة. مطربة نفيسة وفاخرة. مصدر للتشاوف وامتداد المحادثات، مثابة تأهيل وتكريم ومادة حديث لا يختلف عليه. اسمهان كبيرة مطربات العرب، لم تسعفها حياتها القصيرة. ليست كسيد دويش ممن عاشوا حياة قصيرة لكن أثرهم في من أتى بعدهم يكاد لا يمحى. بأغنيات يمكن عدها وحسابها خطوة خطوة خرجت اسمهان من سياق الغناء العربي برمته. من السياق الذي فرضه المستمعون والمغنون على حد سواء. كان سيد درويش الذي يضارعها ويبزها في قصر مكثه على الأرض من قامة أخرى. هو واحد من الذين يمكن ان ندعي انهم تركوا تراثاً متكاملاً. وحدها اسمهان بين الكبار نتحسر على حياتها القصيرة ونتوقع لها لو قيض لها ان تعيش عمراً مديداً ان تصنع مكانة لا نتردد في القول والتصريح انها تحاذي ام كلثوم وتتجاوزها في كثير من الحالات. اسمهان صاحبة سيرة فنية ناقصة على الدوام. لم يكن موتها المفاجئ، وكل موت مفاجئ في طبيعة الحال، تتويجاً وختاماً لحياة في المغامرة والصخب. سيرتها ناقصة وحياتها لم تكتمل. قد تكون الوحيدة بين الذين يعرفونها ويسمعونها او عرفوا القليل من سيرتها والروايات التي تدور حول حياتها، قد تكون الوحيدة التي سلمت بهذه الخاتمة. لكن ورثتها لم يسلموا بهذه الخاتمة، وما زلنا حتى اليوم ننظر إلى ما تركته خلفها بوصفه تراثاً ناقصاً.
مفجع ان يترك المرء بعد موته تراثاً ناقصاً، وان يتجول الوارث في هذا التراث، فلا يحسن ان يقبض على المفصل الذي ينيخ الإرث ويجعله قابلاً للاندراج في انماط ومسالك رغم ان هذا الإرث لا يمكن تجاهله او حسبان انه لم يكن اصلاً. لم تترك اسمهان ارثاً مهملاً، لكنها ايضاً لم تترك مفتاحاً لمن ورثها يعينه على استكمال الإرث وتتبع الأثر. انها في معنى من المعاني فاجعة على من يرثها. تضربه بالسحر وتصيبه بالعياء. انسب الطرق للتخلص من إرثها المسحور ان يقضي المرء حياته في الدوران داخل حلقتها الجهنمية. اسمهان في هذا المعنى، اكثر المطربات التباساً واشدهن قدرة على التملص من تبعات تصنيفها في خانة او مكان او تيار او تاريخ. لم تمت، لقد سفحت على حليبها، سفحت قبل ان تكتمل، والأرجح انها ما كانت لتكتمل ابداً. دوماً كانت تبشر بفن تام وتفصح من غير لبس عن قدرتها على تحقيقه ودائماً كان الفن ناقصاً، ويزداد نقصانه فداحة لأن المراقب لا يتوانى عن الظن انها قادرة على اتمامه على النحو الذي لا يستطيع احد غيرها ان يضارعها فيه.
ليس ثمة عمر يكفي اسمهان. كانت ستموت قبل اوانها ولو طال بها العمر وامتدت بها السنين. اسمهان كانت تستطيع ان تتجاوز نفسها في كل مرة. لكنها كانت تتجاوز اول ما تتجاوز شركاءها واقرانها. تترك الكلام الذي تغنيه منثوراً على القارعة, لا يستطيع السامع ولا الملحن ادخاله في النمط السائد، ولا ينجح العاشق ان يتقمص سيرتها. لم تكن قادرة على دخول القلوب، والأرجح ان القلوب لم تكن قادرة على احتمال قسوتها وفظاظتها التي تذكر اصحابها بأنهم دائماً يقعون دون مقام عقد الصلة معها. لم تكن مطواعة فتتحول سيدة امام عبيد مستمعيها، ولم تكن ايضاً قادرة على التحول إلى عبدة لجمهورها. كانت دائماً تذكر باستحالة عقد الصلة معها. قاسية وجلفة، إلى حد انك لن تستطيع ان تتبناها، لكنها مع ذلك رائعة وعالية، كما لو انها تكتسب فظاظتها من خسة المستمع ومن عجزه عن عقد صلة معها من اي نوع. كانت اسمهان مطربة لا تجارى. لن تنام على هدهدتها الجفون، ولن ترتل صباحاً كما لو انها تشبه الصباح، انها في اصل تكوينها تأتي من مكان هو غير الأمكنة التي نرتادها ونستطيع ان نمتلك شميمها او عطرها او ملاستها او حتى مشهدها العابر. من يذكر ملامح اسمهان جيداً؟ سنتذكرها بشبيهتها، سنتذكرها بوصف صورتها عميقة ومن دون حجم. سنتذكر انها لو توضعت امام المصور لن تعود هي نفسها التي تقف على خشبة المسرح.
لم تدخل اسمهان القلوب. لم ترافق العاشقين في صعودهم ونزولهم. ولم تعلمهم فنون العشق وطرق الغرام، وايضاً لم تعلمهم الصبر والسلوان. اسمهان لم تدخل القلوب، لأنها لم تغادر الآذان أصلاً. ما ان تسمعها حتى تدرك ان مقامها في الأذن لن يزول، وانها لن تغادر هذا الصحن الضيق إلى أي مكان آخر. لهذا لا تجد بداً من الصمت، من تحويل الحديث وحبس الآهات، لأنك دائماً تريد ان تحفظ الصوت في الأذن، وانت تعرف جيداً ان محادثك يملك الأذن نفسها التي تملكها، وان الحديث يجري بينك وبينه كما لو انكما تتشاركان في وليمة شهية وعامرة، او في هواء عليل. ستمدحان الصوت الذي يسكن الأذن كما لو انه ريح عميقة، وستعرفان ان انجع السبل للقبض عليها ان تتركها تتملك الحاسة، وان تعرف انه بوسع الأذن ان تكون مصدراً لمتعة لا توصف، ولا يمكن التعبير عنها بإطلاق آه وحسب.
اسمهان في الأذن، لكن ليس ثمة كثيرون وكثيرات في الأذن. لهذا، ربما، تبدو هذه الحاسة مهجورة وبدائية، لأننا دائماً نفرغها من كل ما تكتسبه ونسلبها حقها في ان تكون قادرة على امتاعنا حقاً. نحن سرعان ما نخرج صوت المغني من مقام الصوت إلى مقام المعنى. نتألم معه، ونحب ما يحبه، ونقول ما يقوله، لكننا لا نسمعه إلا عبوراً بين الطبلة والصيوان، ومع ذلك نتوهم اننا نعرف الطرب جيداً. لكن اسمهان تقول لنا ان الطرب لن يغادر الأذن، وان الصوت يبقى صوتاً ولا يتحول شيئاً آخر، وانك لو نجحت في اكتساب الصوت وحبسه في الأذن الضيقة لعرفت معنى ان تكون الحاسة حاسة وحسب.

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .