الأحد، 7 سبتمبر 2008

بلال خبيز، الدنيا منام

الدنيا منام


بلال خبيز


منذ متى صارت الكتابة في لبنان مثقلة بموت كاتبيها؟
منذ رياض طه ام جبران تويني؟ لا فرق في الحالين. فقط ثمة شعور يتعاظم في النفس الكاتبة. شعور يجعل الكلمة عاجزة عن التجدد. حتى الرثاء بتنا لا نجيده مثلما كنا نفعل من قبل، يوم كنا نرثي احباءنا واساتذتنا، ونحن في قرارتنا نرفع راية الامل. اليوم، هل ثمة من يبيع الأمل؟
ان ترثي ميتاً يعني ان ثمة ما يجدر بك فعله بعد موته، وانت تأسى لأنه لن يتسنى له ان يكون شاهداً عليه إن لم يكن مشاركاً فيه. ان ترثي كاتباً او فناناً يعني ان بقاءه على قيد الحياة كان من شأنه ان يقصر المسافة بينكما وبين الامل. لكنك حين تقعد عن الامل، وتشعر ان الدنيا منام، وان ما يجري حولك لا شأن لك فيه، لا من قريب او بعيد. تماماً مثلما لا تكون قادراً في المنام على الاختيار. حتى في اختيار جنسك وسنك ولغتك.
رنده الشهال، تغادر في لحظة البكم هذه. في لحظة لا نستطيع ان نكتب رثاء يليق بها. تغادر ونحن مشغولون بألسنتنا المعقودة، بأيدينا التي لم تعد تقوى على التكرار. وحيث ان الكتابة لا تتقوت من الدموع مثل الوجه العاري، فإن المرء يصبح امام غياب يحصل في هذه اللحظة هو الغائب. كما لو ان الكتابة تسأل نفسها اين المتفجعين، واين المشيعين، واين الذين يحسنون البقاء على قيد الحياة؟
في هذه اللحظة التي يشعر فيها بعض الذين لم تعقل الحدثان الهائلة السنتهم ولم تعقف اقلامهم ان الدنيا ظلمة وحين " تثقل الدنيا عليك، وتشعر ان صدرك صار بلاطة ثقيلة خرساء، ولا تجد امامك سوى النوم، النوم لا بحثاً عن الأحلام، بل بحثاً عن ظلام شامل لا تخترقه بقع المنامات، النوم كسبات بلا افق، عندذاك يصل عتبك على الدنيا الى ذروته، وتشعر بأن كلماتك تتفكك، وبأنك فقدت طعم المعاني ورائحتها ومذاقها". حينذاك، او عندذاك، تصبح الدنيا كلها بكماء. في هذه اللحظة، لا تعود ابهى الكلمات مناسبة، ولا يعود ثمة سبب لاقتراف هذا الجرم.
هل كان بفترض بنا ان نرثي احباءنا من قبل موتهم، في اللحظة التي تكون فيها كتاباتنا مشرقة ويكون الأمل سيداً؟ هل في وسعنا ان نتخيل العالم من دون هؤلاء جميعاً، وان نحسب الامل ممكناً؟ لماذا لم نبك من قبل؟
واقع الحال اننا بكينا كثيراً. بكينا بما يفيض عن حاجة الموتى للبكاء. بكينا من قبل ومن بعد. اليوم ثمة اسباب كثيرة لنشعر ان الدمعة متعسرة وان البكاء مستحيل. اين نجد نافذة الحزن هذه حتى نعوي على زجاجها الصقيل؟ لقد امعنا في احلامنا وراودتنا افكار لا اساس لها، لكننا قررنا ان الحياة رحبة وان العيش متسع، وعلى هذا الوهم ودّعنا الموتى الذين غادرونا وعدنا إلى شؤوننا. هل كان يجدر بنا ان نبقى متمسكين بالأمل بعدما شاهدنا سمير قصير مقتولاً بأم العين؟ الم يكن انسب لذكائنا ان ندرك ان موت الرجل، يوم مات، يعني بكل بساطة موت الامل. لكننا انتظرنا وجالدنا سنوات حالكة لنفقد الكلمة تلو الكلمة والصورة تلو الصورة، والشهيد تلو الشهيد، بصرف النظر عن القاتل، اكان داءً عضالاً ام عبوة ناسفة. فمنذ ذلك الصباح الدامي من اصياف بيروت، بات الشهيد يعرّف بكلمته بصرف النظر عن قاتله والهدف الذي اراد تحقيقه بالقتل.
شهداء، ولا فخر. ليس ثمة في هذه الشهادة ما يجعلنا نسمو بها إلى ما يسعنا ان نكتب فيها شعراً. شهداء، في وقت تكون الشهادة قد سبقت الموت. هل كان سمير قصير آخر الشهداء؟
تغيب رنده الشهال. اليوم ثمة في البلد موتان، وشهادتان. موت رنده الشهال، وموت النقيب سامر حنا. في رد الفعل على الموت الأول ثمة استسلام لا طاقة لنا على احتماله. لذا نؤثر الصمت، ونتذكر. نتذكر ما كتبناه، نتذكر المناقشات الحامية، والخلافات الكثيرة، والاحلام الكبيرة، ونتذكر المستقبل، اولاً واساساً، المستقبل الذي ادعينا انه لنا نحن اللبنانيين. لكن ما نجيده في هذه اللحظة ليس اكثر من الصمت.
في الموت الثاني، ثمة كثر يريدون ان يجعلوا من شهادة النقيب سامر حنا شعلة مضيئة في نفق طويل. الشهيد يمضي إلى مثواه، لكن السبب الذي استشهد من اجله ما زال قيد التكون وفي عهدة الامل. كثر في لبنان، ان لم يكن لبنان كله، يرون في هذه الشهادة محطة على الطريق. ثمة شهداء قادمون لوراثته، وهو ليس اول القافلة. وحدها امه، طلبت من رفاقه خلع بزاتهم. ذلك انها بحدسها الامومي ادركت ان الشهادة في هذه اللحظة لا يسعها ان تكون مدماكاً اول في مبنى الانتصار.
غابت رنده الشهال، نحن الذين شبعنا موتاً نعرف ان عجزنا عن ايقاد الشعلة مجدداً يجعل منا الغائبين الحقيقيين. ذلك اننا لا نحسن ان نعلق بمرارة على هذا الغياب، ولا نستطيع من جهة ثانية ان نلقي كلمة تأبين حارة ونستكمل المسار.
عن ملحق النهار اللبنانية

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .