الثلاثاء، 16 سبتمبر 2008

ايلي الحاج، هاتف منتصف الليل


هاتف منتصف الليل




إيلي الحاج





لم أعد أعرف متى حصلت هذه الحادثة، واذا حدثت بالفعل أم بالخيال. لكنني أذكر تفاصيلها الدقيقة من بدايتها قبل 24 عاما حتى ختامها أمس.أذكرها وأعتقد أنني سأمضي بقية حياتي أتذكرها. كانت سهرتي في الجريدة، وكنت قد وضعت عنوانا لخبر جلسة مجلس الوزراء لم يعجبني فجعلت أتأمله، وكالعادة أولعت سيكارة وفكرت لو أعرف مهنة أخرى أعيش منها . في النهاية ركب العنوان، قرأته بعيني واستحسنته. وما أن بدأت بتصحيح مجموعة أخبار صغيرة على هامش الجلسة رنّ الهاتف.كانت الساعة قبل منتصف الليل بقليل، وضعت السماعة على أذني وتابعت التصحيح .امرأة على الخط، ذكرت اسمي وسألتني ان كان هذا اسمي، أجبتها " نعم أنا هو"، وسألتها بماذا أستطيع خدمتها كأنني آلة تسجيل ترد على الهاتف.وكنت أتابع التصحيح وأتابع الاستياء من هذا التوافق الرئاسي القسري الذي مدّد جلسة مجلس الوزراء حتى منتصف الليل .سألتني:"هل كنت تدرس علم النفس في الجامعة عام 1980 ؟".- نعم . مين حضرتك ؟ - "لن أعطيك اسمي" ، قالت المرأة ،" احزره".كنت أبعد ما يكون عن مزاج التحدث الى أي كان ، فلزمت الصمت لحظة ، متهيئا لأقول أنني مشغول وأعتذر .لكنها سبقتني ، وقالت بمرح ظاهر:" سأساعدك ، أنا التي كنت تتمنى أن تموت أمام عينيها " .وضحكت . ضحكة تشبه حفيف أجنحة سرب طيور يرتفع عن الأرض .شعرت برجفة تعتريني ، بدوار .أعتقد أن القلم وقع من يدي ، أو رميته على الطاولة ، لم أدر . قالت : " عرفتني؟". وأضافت : "وْلِك كيفك يا صبي؟".نزعت نظارتيّ ، بيدي اليسرى أغمضت عينيّ بقوة ، وباليمنى شددت السماعة ألى أذني . كان نصف عمري يصعد أمامي كبركان وينهمر في برهة صاعقة مذهلة ، وفرح عميق يغمرني كأنني انتظرته منذ وُلدت ، وانفعالات جميلة هائلة تجتاحني.الا أن صمتي لم يحملها على التردد، بل تابعت تتغنج كأنها تكمل حديثا بدأناه البارحة ، ولم ننهه قبل سنين بعيدة :" سأنشط ذاكرتك أكثر. مرة وقفنا على تلة تحتها شاطىء البحر ، كان الموج قويا وعاليا ، وقلت لي ما دام الموج يروح ويجيء على هذا الشاطىء أظل أحبك ... عرفتني الآن ؟ " . - وَلوْ؟! هل كنت أعاتبها بهذه الكلمة المقتضبة ، لأنها ظنت أنني يمكن ألا اعرفها ؟ أم لأنها ابتعدت وانقطعت أخبارها عني كل هذا الزمن ؟ أو أردت فحسب أن أقول : " أكملي ، يسعدني جدا سماع صوتك " ؟ ما أعرفه أنني كنت أردد في داخلي : إلهي ، كيف نسيت وجهها ، بالأحرى كيف لا أستطيع أن أتخيل كيف أصبح وجهها ، مع أن قصتنا محفورة حفرا في ذاكرتي ؟ كنت أسميها " الملكة" لتميزها عن كل الصبايا اللواتي عرفتهن ، بثقتها القوية بنفسها ، والتي لا تتزعزع أيا يكن الشخص أو الوضع الذي تواجه . بتصرفاتها التي تنم عن اريستوقراطية طبيعية فيها لا تتخلى عنها ، حتى لو عاشت في غابة بين قبائل ما قبل الحضارة . هكذا كنت أرى اليها تلك الأيام . سألتني : "ما بك لا تحكي؟".لاحظت أني لا أستطيع الكف عن التبسم وأنا أسمع صوتها المتدفق الحار الهجومي . أمسكت وجنتيّ بيدي اليسرى الطليقة وظلت عضلاتهما تشدانهما بقوة الى الخلف . "- صاروا 24 سنة ".كأنها لم تسمعني، أو ربما قلتها هامساً متنهداً كأنني أحدث نفسي . وكانت لا تزال تتكلم :" أذكر ، لا أنسى أول ما تعرفت عليك . شاب مهذب زيادة عن اللزوم . في اليوم التالي طلبت منك ألا تناديني "دوموازيل" ، قلت لك : أولا لست "دوموازيل" ، ثانيا هذه الكلمة تبقي الكلفة بيننا . أنت فوجئت . وأنا شعرت تلك اللحظة أني أول فتاة تختارك وتحكيك هكذا . ومن يومها بقينا سوا. تذكر؟" .أذكر؟ هل أخبرها أنني مرارا أحببت ولكن مرة أُغرمت، وأن الحب يعبر في حياتنا ونتجاوز قصصه، أما الوله فيترك في قلوبنا جروحاً وندوباً لا تزول بمرور الزمن؟ استفزها بطئي في الأجابة : " شارد بالذكريات ، أو مشغول؟ " ." لحظة ، لو سمحتِ" . ناديت الحاجب وأعطيته على عجل الأخبار المتبقية أمامي ليوصلها الى زميل في مكتب مجاور ، مع ملاحظة أنني لم أصحح بعضها لانشغالي بأمر طارىء . وسمعت نفسي أقول أنني "لا أصدق أنك أنت الآن معي على الهاتف ... وكنت مشغولا، لكن صوتك حررني" ، أو شيئا من هذا القبيل .-" يبدو أنك لم تتغير ، ما زلت تحكي غيرعن الناس الذين أعرفهم . فيك شاعر يمكن . دائما كنت أقول لنفسي فيك شاعر ، وأحمل همّك ، كيف ستواجه الحياة وأنت بهذه الرقة ، وهي قاسية ؟ " .- ودائما كنت أخبرك : معك وحدك تأتيني القدرة على الكلام ، ولا تصدقينني . - " ثم أنا سعيدة لأنك لا تزال حياً ، كنت أفكر بك خصوصا عندما أتابع أخبار الحروب والمعارك في لبنان من الخارج . وكان شيء في داخلي ينبئني أنه لا يمكن أن يصيبك سوء . لا أدري ما مصدر هذا الاطمئنان . كنت متأكدة أن يوما سيأتي وألتقيك . مع أن ، مرة ، قبل أن يبعد كل منا في طريقه ، كتبت لي على ورقة أن فراقنا سيكون بروفة للموت ".وتابعت ، جذلة : " شفت ؟ أنا دائما أقوى منك حتى بالماورائيات . حدسي غلب حدسك . عدنا والتقينا ، ولو بالصوت على الهاتف . فراقنا ليس بروفة للموت. ما ظبطت معك " .وسألتني عما أذا كنت تزوجت ومن ومتى . عن أولادي ، أسمائهم وأعمارهم ، في أي مدرسة وأي صفوف ، عن علاقتي بهم . هل يشبهونني ؟ هل تغيّرت ؟ وما الذي تغير فيّ ؟ وكانت كارجة في استفهاماتها المتلاحقة عندما قاطعتها قائلا أن هذا تحقيق وأشعر أنني موقوف يخضع لاستجواب. لكنها لم تتوقف ." حقي أن أعرف" ، قالت . وأضافت بعد برهة صمت : " يشبه الأمر رواية جذبتك وأحببتها في الماضي ثم أضعتها قبل أن تصل الى النهاية . تظل متشوقاً لتقرأ التتمة ".ولم تلبث أن فاجأتني بسؤال آخر :" ترى عندك شيء تخجل به مني ؟ " . تذكرت أنها في ما مضى فسرت ما بيننا بمعادلة بسيطة : " كي تعرف انسانا في عمق حقيقته عليك أن تحبه كثيرا ، بلا حد ولا مقابل " . وأضافت :" وحدها أمك تعرفك مثلي ، ويمكن أقل ". وأننا لم نكن نحتاج الى الكلمات وبقية محاولات التعبير، بل كانت نظرة بيننا تكفي ليفهم كل منا ما يفكر به الآخر وما يشعر به أيضاً. علاقة غريبة ، الأسرار فيها ممنوعة ، لم أسمع من أحد في ما بعد أنه عاش مثيلا لها. كنا أكثر من صديقين ، أو عاشقين .الأصح أننا كنا شبيهين عاطفياً وفكرياً التقيا في حدث نادر، توأمين أبكمين يكفيهما أنهما معا ليطمئنا ويرتاحا الى هذا العالم ويفرحا لوجودهما فيه . كنا نسمي ذلك تواطؤنا على الجميع. أردت أن أغيّر مسرى الحديث ، في الواقع أنا أيضاً كنت متشوقا الى التتمة . قلت لها : " وأنتِ ؟ ماذا فعلت بك الحياة؟ " . لم يرق لها السؤال ، فأجابت أنها هي التي تفعل في الحياة " وأفتعل فيها أيضا ... أما اذا قصدت وضعي الاجتماعي فمتزوجة وأم لولدين ، بنت وصبي في عمر أولادك . لا بد أنك علمت بزواجي، صديقة لي اخبرتني أنها التقتك مصادفة في مناسبة اجتماعية بعد سنة من فراقنا وكنت عارفاً ، وعندما بادَرَت وتقصدت أن تقول لك أني وزوجي هاجرنا ولا ننوي العودة الى لبنان تصرفت كأني لا أعني لك شيئا ً. حتى أنك لم تسألها ألى أي بلاد هاجرت أو ما اذا كنت سعيدة أو تعيسة . أنا قلت لها أنك هكذا ، تتصنع اللامبالاة " .
بينما كانت تتحدث أولَعتُ سيكارة أخرى ، ففاجأتني ضاحكة من جديد:" تدخن أيها الشرق الأوسطي المتخلف ؟ " . كل عمرها لا تطيق الدخان فكيف بعدما عاشت كل هذه السنين في الغرب ؟ لكنني لم أجب فقد كنت أتملى من صوتها ، أتملى في ما يشبه تأمل المتصوفين في طرق السعادة ، وكما العائش بين عالمين مختلطين، الآن وقبل أعوام طاعنة في الماضي ، سمعتها تقول : "لا أكذب عليك ، غضبت عندما أخبرتني صديقتي بما جرى عندما التقيتما ، خصوصا لأنك تعمدت أن تنهي الحديث وتتوارى قبل أن تعرف أي شيء عنك ".
عاد الى ذاكرتي الحديث الأخير بيننا قبل الوداع . كنا على مرتفع أخضر تتوزعه صنوبرات ويطل على المدينة . قلت لها بصوت متهدج :" لن تري وجهي بعد اليوم ، ولكن قبل أن أرحل أريد أن أعترف أمامك ... أحبكِ كثيراً يا بنت " . غمرتني وشدت عليّ ، وَضَعت رأسها على كتفي ورأسي على كتفها . بقينا في هذا الوضع دقيقة ، أو ساعة . وعندما التقت عيوننا كانت مذهولة لا تصدق وأنا على حافة البكاء ، وكلمة لم نحكِ . ثم أدرت ظهري ومشيت . كانت الدنيا أمامي غائمة وغائبة ، ومن بعيد ألقيت نظرة الى الوراء . كانت لا تزال واقفة في مكانها تحدق فيّ أو في الفراغ ، وكانت آخر مرة أراها . بعد ذلك استوقفني صديق وسألني لماذا وجهي أصفر كالموت ؟ لدهشته لم أردّ بل واصلت سيري . مشيت مدة طويلة على ما أعتقد حتى وصلت الى البيت. للمرة الأولى أمشي كل هذه المسافة ولا أرى طريقاً ولا أناساً . بقيت في البيت ولم أنم يومين. في اليوم الثالث كتبت على ورقة في دفتر : " ثمة استسلام في كل حب وقدَرُك أن تبقى حراً ، ممسكاً روحك بيديك ، حزيناً في وحدتك، في حريتك ، كالله اذا وُجد الله ... كحيوان مستوحش ".
كان صوتها عبر الهاتف يحملني الى عالم غير الذي ألفته منذ أعوام طويلة ، لكأن شيئا ميتا في صدري منذ زمن بعيد أفاق وفاق أحلامي، فلا أصدق أن ما يحدث يحدث فعلا وأنني لا أبصر مناما جميلا . ورغم حديثنا عن عائلتينا ، راودتني فكرة أن كل ما توالى منذ فراقنا لم يحصل اطلاقاً بل كان وهماً عابراً . لم نكبر لم نتزوج لم نصبح أبا وأما في عائلتين ...سألتني :هل تذكر نظرية القناع ؟ أجبتها أذكر . البشر جميعا يضعون أقنعة على وجوههم في تعاطيهم بعضهم وبعض . أما أنا وهي فلم نكن نضع قناعين بيننا ولا نخاف أن يغدر أحدنا بالآخر أو يسيء اليه . كنا نتبادل الحماية . اثنان في مواجهة العالم وكلٌ يحمي ظهر الآخر .أضافت : طيب ، ما دمت تذكر، قل لي ... عندما تصمت ماذا تحكي ؟- أفكر كيف عثرتِ علي في هذا الليل .- بالصدفة. خلال زياراتي السابقة للبنان حاولت مرارا أن أعرف شيئا عنك ولم أوفق . ولكن اليوم زارنا أقارب من بيروت في بيتنا الجبلي حيث أقيم الآن مع أمي وولديّ ، عندما غادروا مساء تركوا جريدة فأخذت أتصفحها ، ونادرا ما أقرأ الصحف في لبنان . أنا أحب هذه البلاد ولكن لا تعجبني أخبارها. الا أنني هذه الليلة مللت على الأرجح فرحت أقلب الصفحات ووقع نظري على اسمك بحرف أسود تحت مقال . تسمرت عيناي عليه. انفلش وجهك أمامي على صفحة الجريدة . قلت معقول أنه هو واختار الصحافة ؟ ثم قرأت المقال فقلت أنت كاتبه، هذا أسلوبك هذه أفكارك. مع ذلك بقيت خائفة ألا يكون الكاتب أنت. تناولت الهاتف واتصلت بالجريدة على الرقم المذكور في الصفحة الأخيرة وعامل الهاتف حوّلني فورا عليك. صوتك لم يتغير. من ال "آلو نعم ؟ " عرفت أنني... أخيراً عثرت عليك!

عن ايلاف


ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .