الجمعة، 27 فبراير 2009

عكثفا الدار: لتواصل ليفني المفاوضات من موقع المعارضة


ان اصرت تسيبي لفني فسيكون بمقدورها ان تنتزع من نتنياهو تعهدا صريحا بأن "تسعى حكومته للسلام مع الفلسطينيين".المزيد من الضغط سيدفع رئيس الوزراء الموعود للتصريح بأنه "يؤيد حل الدولتين لشعبين". لا بل هناك اشاعة بأن قائد الليكود ناضج لادخال "خريطة الطريق" تلك الوثيقة المغبرة التي قررت بأن "الجانبين سيتوصلان الى اتفاق دائم ونهائي وشامل في العام 2005 ليشكل نهاية للصراع الاسرائيلي الفلسطيني" ــ في برنامج حكومته. صياغات اكثر ايهاما من هذه مهدت الطريق للتزاوج بين قابلة عملية اوسلو شمعون بيريس وبين الذي دفنها ارئيل شارون.لنفترض ان المحامي حاييم رامون او المحامي رام كاسبي سيقومان بصياغة القالب الذي يتيح ادخال الاصلاحي بن تسيون نتنياهو وابنه رجل "الاتسل" ايتان لفني الى مخدع السلام. غداة مراسيم الزفاف ستتصل تسيبي لفني بأحمد قريع وتحدد معه موعدا لاستئناف المفاوضات. للتذكير: المداولات بين الاثنين جرت حتى الآن على اساس التزام رئيس الوزراء المنصرف ايهود اولمرت علانية في مؤتمر انابوليس في تشرين الثاني 2007 بما يلي: ــ "المفاوضات ستركز على كل القضايا التي تم الامتناع عن تناولها حتى الآن" وحتى يزيل الشكوك اضاف قائلا: ــ "لن نتهرب من اية قضية وسنتناول كل قضايا اللباب" اي: ــ الحدود، المستوطنات، اللاجئين والقدس طبعا.هذا السطر هو خط احمر بالنسبة للفني. من هنا تشتق الاسئلة التي يجب عليها ان توجهها لنتنياهو ومن بينها: ــ هل يوجد لديه استعداد لمواصلة المفاوضات من النقطة التي تم الوصول اليها مع محمود عباس وابو العلاء؟ ومن هنا ــ هل يوافق على اقامة دولة فلسطينية على اكثر من 94 في المائة من اراضي الضفة الغربية بما في ذلك غور الاردن؟هل يخطر بالبال طرح مصير القدس والتنازل عن السيادة على جزء ملموس من المدينة الشرقية؟ وماذا عن مبادرة السلام العربية التي اعتبرتها لفني "فرصة تاريخية يحظر تضييعها".عشية الانتخابات وعد نتنياهو بعدم الاكتفاء بـ "السلام الاقتصادي" وانه سيفتح قناة سياسية مع الفلسطينيين. ولكنه اوضح أن حكومته لن تكون ملتزمة بأي تفاهم بلورته الحكومة السابقة. معنى ذلك هو ان لفني ستضطر لاعلام صديقها الفلسطيني بأن عليه ان ينسى امر ما تفاوضوا حوله طوال اكثر من سنة. بعد ذلك تعقد اجتماعا للمختصين والخبراء وتقترح عليهم القاء المسودات في سلة القمامة وتحويل الخرائط الى طائرات ورقية. الفلسطينيون على اية حال اعتادوا على العودة الى نقطة البدء مع اغنية جديدة في القلب. هم وضعوا في الارشيف كل الاتفاقيات السابقة من واي 1998 مرورا بكامب ديفيد 2000 وانتهاء بطابا 2001.الراكضون وراء لفني من اوساط اليمين يرفضون الاعتراف بوجود خلاف حول التفاوض مع الفلسطينيين هم يدعون وعن حق أنها بيضة لم تولد بعد. الدليل على ذلك ــ ادارة المفاوضات نفسها وصلت الى طريق مسدود ان ضمت لفني كلا من بيغن ويعلون فلن تخرج حمامة السلام من بيضة كهذه. هي لن تترك حتى قشرة امل لأنصار حل الدولتين لشعبين. فمن الذي سيحافظ على الجمرة ويبقيها وقادة؟ ايهود باراك؟ ام سيارات الاودي الثلاث لدى ميرتس التي تم انقاذها؟سواء ان اعجبها ذلك واعجب رفاقها الذين يجدون صعوبة في الانفصال عن السلطان والجاه، لفني هي قائدة معسكر السلام. انتخابات الكنيست الثامن عشر اعادت اليمين الى الحكم وارسلت هذا المعسكر الى صفوف المعارضة. من هناك يمكنها ان تواصل المداولات مع السلطة الفلسطينية وتناول قضية القدس من دون ان تخشى من قيام ايلي يشاي باسقاط حكومتها. ان كان بمقدروها جسر الهوة بين الجانبين فلتقم بصياغة مسودة التسوية الدائمة. هذا هو الطريق الوحيد لانقاذ السلام وتحويل الانتخابات القادمة الى استفتاء حول مستقبل اسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. من يعرف ربما كان هذا هو السبيل لحث نتنياهو ــ ارئيل شارون قال إن خطة فك الارتباط كانت رده على مبادرة جنيف التي طرحها يوسي بيلين.هناك في الديمقراطية حالات يخدم فيها القائد الحقيقي مصالح بلاده من المعارضة وهذه واحدة منها.
عن "هارتس"

عباس بيضون: الحرب العادية



نتائج الانتخابات الاسرائيلية فاجأت حتى الاستطلاعات التي توقعت هزيمة كاديما وتفوق ليكود، حرب غزة حركت شعبية باراك في حزب العمل وتراءى في الاستطلاعات انه الرابح الأكبر منها، لكن نتنياهو بقي متفوقاً. ليفني التي تكلمت كثيراً إبان الحرب لم تستفد منها، بحسب الاستطلاعات وبقيت شعبيتها تراوح مكانها، لم تقنع الناخبين بأنها محاربة جديرة بقدر ما أقنعهم باراك. نتائج الصناديق صدقت الاستطلاعات ولم تصدق، بالأحرى فاجأت الاستطلاعات وأحرجتها، ربحت كاديما على ليكود بصوت واحد هو نفسه الصوت الذي ربح به بيغن ذات يوم على بيريز وبدأ من حينها حكم الليكود، انه الصوت الذي قال بيغن إنه أعطاه التفوق السياسي والمعنوي، هذه المرة لم ينفع الصوت الواحد ولم يسجل تفوقاً معنوياً وسياسياً لليفني، مع ذلك فإن ربحها على نتنياهو قلب النتائج رأساً على عقب، انتظرت الاستطلاعات عبارات تحسّن لم يتحقق، خسر باراك بأكثر مما توقع له الجميع، لقد خرج حزب العمل ثانوياً وضعيفاً من الانتخابات. فازت اسرائيل بيتنا بـ15 مقعداً، عادت العصا في يد ليبرمان، انه منذ الآن صانع الرؤساء، ليس سهلاً فهم ان تربح كاديما مجدداً على ليكود ولا ان يخسر في الوقت ذاته العمل على نحو باهظ ولا أن يربح ليبرمان بقدر ما ربح. ليست هذه جريمة الاستطلاعات التي كانت حتى قبل يومين محقة، كانت مفاعيل غزة قوية عاملة طوال الوقت، لقد حركت الحرب شعبية حزب العمل، لكن اليمين المتطرف بقي متفوقاً، اهتز كاديما فعلاً وكاد أن يبوء بخسارة، لكن كما ذهب تحليل ظهر في هآرتس اصطف الناخبون تحت وطأة الاستطلاعات ورداً عليها، في اليومين الأخيرين قبل الانتخابات حصل «انزلاق انتخابي» شامل، تفوّق نتنياهو جذب إليه اليمين بما في ذلك يمين الوسط، ذهب جانب كبير من قاعدة كاديما إلى الليكود، خاف اليسار من تصاعد شعبية نتنياهو ومن قيام حكومة لليسار المتطرف ففضل قسم كبير منه أن يصدّ ذلك بالانحياز الى كاديما، إذ لم يكن حزب العمل في موقع التصدي الفعلي لغلبة اليمين، ما خسره كاديما من يمينه ربحه من يسار العمل، وربحه أيضاً للعجب، من ميرتيز، ذهب ثلث العمل تقريباً إلى كاديما، وكذلك ثلث ميريتز، خسرت ميرتيز وخسر العمل لمصلحة كاديما، لكن النتائج كانت ببساطة أن اليسار فضل الوسط والوسط فضل اليمين، لم تكذب التوقعات، لقد ربح اليمين وخسر اليسار أما الانزلاق الانتخابي فكان باتجاه يميني. هذا التفسير، إن لم يكن مقنعاً فهو الوحيد الذي يمكنه ان يحلل النتائج وان يشرح لماذا ربح كاديما وخسر في آن معاًَ ولماذا خسر الليكود وربح في آن معاً، ربح كاديما، لكن اليمين هو الذي فاز وخسر الليكود، لكن اليمين هو الذي ربح. الآن وخلافاً لرغبة الولايات المتحدة تقوم حكومة من اليمين المتطرف، لكن التعارضات في وسطه لن تكون سهلة، فبين اليمين المتطرف السياسي واليمين المتطرف الديني خلاف يصعب حله، يؤيد ليبرمان، لمصلحة المنتخب الروسي، الزواج المدني والاعتناق السهل لليهودية، أما شاس التي اعتبر حاخامها بأن من يصوت لـ«اسرائيل بيتنا»، تنظيم ليبرلمان الروسي كمن يصوت للشيطان، فهي ضد ذلك تماماً. لقد كان الانزلاق الانتخابي انزلاقاً نحو اليمين، ونتنياهو غير المحبوب من (الديموقراطيين) سيكون هو المحاور لأوباما الذي يبدو أنه أمضى الأسابيع القليلة في حكمه بإشارة واضحة الى انه سيفي بوعوده، في ثلاثة أسابيع باشر ودفعة واحدة كل القضايا الكبيرة العالقة، غوانتانامو، البيئة، الضمان الصحي، العمالة النسائية، البحث العلمي، التصحيح الاقتصادي، الشرق الأوسط. لن يكون التحالف الأميركي الإسرائيلي موضع سؤال بالطبع، لكن ليكودية الإدارة الأميركية لن تبقى كما هي. في المقابل لم يخرج أبو مازن قوياً من الحرب، لقد تكلم كثيراً وتحرك كثيراً، ولكنه لم يقم ببادرة واحدة يمكن أن تكون في مستوى الصراع، لم يعد يكفي الكلام عن حلول جعلتها إسرائيل مستحيلة. نسفت اسرائيل مقومات الدولة الفلسطينية بالكامل ولم تترك لها من الأرض والتواصل الجغرافي والسيادة، فمع 10 آلاف سجين والمستعمرات العشوائية وغير العشوائية والجدار العازل لا يمكن لعاقل الكلام عن إمكان دولة، كانت غزة تحت النار لكن ابو مازن قبل تحدي حماس، وقبل في هذا الظرف سجالاً عقيماً معها في الوقت الذي كان عليه أن يشرح للعالم ما فعلته اسرائيل بغزة، وان التهدئة كانت اسما آخر لحصار تجويعي، وان تحرير غزة كان تقريباً لتحويلها إلى معسكر تجميع، انه رئيس الشعب الفلسطيني وكان عليه في تلك اللحظة أن يكون فقط هكذا وأن يجد الخيال لبادرة ولو رمزية تجعله، بوضوح، طرفاً ملحوظاً في صراع ضحيته شعبه، لم يقطع حتى العلاقات وترك الشارع لحماس، كل هذا يعني ان الطرف الفلسطيني المقبول دولياً يخرج منهكاً، في حين يصل اليمين الإسرائيلي المتطرف الى السلطة وتسعى حماس من الطرف الآخر إلى الاستبداد بغزة، فحتى يكون المشروع المعلن هو اللامشروع، تمزيق المبادرة العربية والخروج من اوسلو والقضاء على منظمة التحرير لا تعود مسائل مثل الدولة ووحدة الشعب ملحة او هامة، البندقية على شبر واحد أو على مساحة اكبر هي الأمر نفسه، فالمهم البندقية والمهم اللاعتراف، هكذا يغدو في الواقع في حلقة رمزية مغلقة. حلقة رمزية وافتراضية بالكامل، فالحرب والنصر والدولة والسيادة والتحرير والمقاومة كل هذه تغدو ذات محمولات رمزية بدون اي واقع واضح او صلة بالواقع. اليمين المتطرف الإسرائيلي يفضل أن يبقى في مواجهة حماس او تبقى حماس في المواجهة وحماس ستبرهن سهولة أن مع اليمين الاسرائيلي المتطرف لا يمكن التفكير بأي مشروع آخر سوى المجابهة، الحرب وحدها هي الكلمة بالطبع، لكنها حرب «مشهدية». رمزية البندقية الفلسطينية في مواجهة القتل الإسرائيلي العشوائي والحرب أدنى خسائر، أنها حرب لن تتقدم خطوة، لا هنا ولا هناك، تبقى البندقية في مكانها ويستمر القتل بأقل خسائر على سجيته، هكذا تختار إسرائيل الحرب الدائمة والمستمرة بأقل مواجهة ممكنة، لكنها أيضاً تستمر في جعل الحياة الفلسطينية مستحيلة إلى حد يستدرج معه الفلسطينيون إلى الإكثار من كلمة الحرب لتكثر هي من فعلها. هكذا، مع آلاف السجناء وآلاف القتلى تقول إسرائيل إنها وحدها ضد العالم وإنها ليست البادئة وإنها تحمي نفسها، إنه فخ جهنمي بالفعل، بل هو سيريالي وغير معقول، ليس التجويع فقط ولكن الاغتيالات والسجن والقصف المنتظم هي الامور العادية اليومية، انه القتل العادي والسجن العادي والقصف العادي، وحدها البندقية الفلسطينية تغدو برمزيتها وعنوانها وخطابها الاستثناء الذي يبرر هذه المرة حرباً «عادية» طاحنة. لكن عادية بالطبع ومعقولة ومفهومة ستبقى المجازر الاسرائيلية هي القانون والدولة والأمن والنظام فيما البندقية الفلسطينية العزلاء وغالباً غير مؤذية هي العصيان والانتهاك، انه لعبة عبثية، لكنها ايضاً مناورة قذرة وحيلة عالمية وخداع مريح، الإسرائيليون يقودون اللعبة والفلسطينيون يستدرجون إليها، الفلسطينيون يدخلونها مضطرين ويتخذون فيها دوراً مقرراً من قبل، ومن قبل جرى التحضير له ورسمه وتقديمه للعالم، لقد اتخذ الإسرائيلي قراره والانتخابات الإسرائيلية شاهدة، اختار الحرب الدائمة، لكن الحرب بأقل خسائر، أخبار الحرب «العادية» وينبغي استدراج الطرف الآخر إليها، الفلسطينيون يبطشون ببعضهم بعضاً والإسرائيليون انتهوا إلى قرار، لن تكون هناك دولة ولا كيان ولا استقرار فلسطيني، لن يكون هناك أي مقومات للبقاء او لاقامة أي شيء، لن يترك للفلسطينيين ان يؤسسوا على حدود اسرائيل شيئا، على اسرائيل ان تحارب، لكن عليها ان تجد الحرب التي تناسبها. الحرب التي لا تخيف ولا تحبط، الحرب التي بلا خسائر، اختارت الحرب «العادية». الآن على الفلسطيني أن يختار.
السفير

جميل السيد:بداية المحكمة الدولية ام سقوط القضاء اللبناني؟


مع نهاية الاسبوع الحالي، تسقط في الأول من آذار صلاحية القضاء اللبناني ولجنة التحقيق الدولية عن ملف التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وتنتقل تلك الصلاحية إلى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي ـ هولندا، كما ينتهي معها دور القاضي دانيال بلمار كرئيس للجنة التحقيق الدولية، ليصبح بعدها مدعياً عاماً لتلك المحكمة. ÷ ومع اقتراب هذه الاستحقاقات، كثرت التحليلات والتكهنات مؤخراً، لا سيما حول موضوع نقل الضباط الأربعة المعتقلين، وبرزت في هذا المجال تصريحات مبهمة او متناقضة، تارة عن وزير العدل اللبناني، وتارة اخرى عن كاتب المحكمة روبرت فنسنت، في حين كانت للقاضي دانيال بلمار توضيحات علنية عدة حول هذا الموضوع مؤخراً. أما الثابت في ذلك كله، فهو ان تلك التناقضات في التصريحات حول نقل الضباط، تعود بالدرجة الاولى الى انه لم يصدر حتى الآن «نظام الإجراءات» للمحكمة الدولية، حيث انه في غياب مثل هذا النظام، فإنه يستحيل اتخاذ أي قرار حول الضباط المعتقلين، حتى ولو بدأت المحكمة عملها في الاول من آذار القادم. فالمحكمة الدولية من دون نظام الإجراءات، هي كمن يشتري سيارة ولا يستطيع السير بها، لأنه ليست لديه إرشادات القيادة!! ÷ ومن الآن وحتى يتبيّن ما اذا كان هذا الخلل الاساسي في انطلاق المحكمة، يعبّر ام لا، عن نية سياسية تهدف الى التباطؤ في الاجراءات بما يؤدي الى المماطلة في البت بمصير الضباط المعتقلين، فإن الثابت حتى الآن هو أن جهات لبنانية، قد بدأت في التعاطي مع موضوع انتقال الضباط الى لاهاي وكأنه الانجاز الوحيد والأهم، متناسين بأن الهدف الاساسي من قيام المحكمة الدولية هو كشف الحقيقة وليس المتاجرة بموضوع الضباط كفولكلور إعلامي لا يقدم ولا يؤخر في مسار المحكمة، على غرار الفولكلور الاعلامي الذي جرت المتاجرة به عبر محمد زهير الصديق وهسام هسام وغيرهما من شهود الزور، والذي ادى الى الاطاحة بلجنة ميليس والى تدمير التحقيق الدولي منذ بدايته، حيث لم يتعاف هذا التحقيق الى اليوم من آثار ذلك الفولكلور الاعلامي. ÷ لذلك كله، سيلاحظ اللبنانيون في الأيام القليلة المقبلة بأن معظم الفولكلور الاعلامي لتلك الجهات سيتركز على المتاجرة بموضوع نقل الضباط إلى لاهاي، في حين ان الانتقال الى لاهاي، وبأقصى سرعة، وبالنسبة إليّ على الأقل، هو أمنية ليتها حصلت منذ سنوات، بدلاً من بقائنا رهائن الاعتقال السياسي في احضان مدعي عام التمييز القاضي سعيد ميرزا، الذي اعترف صراحة، وفي مناسبات عدة، بأنه عاجز عن إخلاء سبيل الضباط لأسباب سياسية، وانه مطلوب منه المماطلة بالاعتقال حتى المحكمة الدولية بصرف النظر عن معطيات التحقيق وخلاصات اللجنة الدولية التي جاءت لمصلحة الإفراج عنهم. ÷ وبانتظار الانتقال إلى لاهاي، فإنه، من اليوم وحتى نهاية هذا الاسبوع، تستمر صلاحية القضاء اللبناني في الإفراج عن الضباط والمدنيين المعتقلين خلال هذه الايام المتبقية، والتي لا تتجاوز عدد اصابع اليد الواحدة. فإما ان يفرج القضاء اللبناني عنهم خلال هذه الفترة، وإما ان يفرج عنهم لاحقاً في لاهاي بالذات. وفي الحالتين فإن هذا الفارق الزمني بين الافراج هنا او في لاهاي، لم يعد بعيداً، وبإمكان الضباط المعتقلين تحمله واجتيازه والخروج منه مرفوعي الرأس وبيض الوجوه. اما بالنسبة للقضاء اللبناني، فإن هذا الفارق الزمني نفسه، سيكون الحد الفاصل بين إنقاذ القضاء نفسه، وبين قضاء القضاء على نفسه، وعلى أيدي المعنيين مباشرة من القضاة اللبنانيين، الذين لم يبق امامهم سوى هذه الايام المعدودة للتصرف كقضاة او للبقاء كشهود زور تجاه العدالة، حتى الرمق الأخير في هذا الملف إكراماً للسياسة، وعلى غرار شهود الزور الآخرين، بدءاً من محمد زهير الصديق ومروراً بهسام هسام وانتهاء بأحمد مرعي. ÷ وبناء عليه، فإن ما أردت قوله في هذه السطور هو بمثابة تبرئة للذمة تجاه الرأي العام اللبناني، وتجاه السلطة اللبنانية، وبالأخص فخامة الرئيس، الذين سيشهدون بأن بداية المحكمة الدولية من دون الإفراج عن الضباط المعتقلين تعسفاً من قبل القضاء اللبناني، ستكون بداية النهاية لهذا القضاء اللبناني نفسه، خاصة ان لاهاي هي لعبة أوراق مكشوفة بتصرف الجميع، وما هو مخفي ومحجوب اليوم من فضائح وخبايا تحت ظل المعنيين في بيروت، لن يكون محجوباً غداً عن أحد في لبنان وخارجه... ÷ وعلى هذا الاساس اكتفي بوضع الرأي العام والسلطة اللبنانية بموالاتها ومعارضتها، وقبلهم فخامة الرئيس، في صورة الوقائع الأخيرة لما يجري حول هذا الموضوع، مستشهداً بالله انني بلّغت وقمت بالواجب قبل فوات الأوان: ÷ فالقاضي بلمار، رئيس لجنة التحقيق الدولية، والذي ودع لبنان مؤخراً، كانت له محطة أخيرة في مجلس الأمن الدولي منذ شهرين، حيث قدم تقريره النهائي وعقد مؤتمراً صحافيا في نيويورك أكد خلاله علنا بأنه سلم الى مدعي عام التمييز القاضي سعيد ميرزا «رأيه وموقفه من مسألة اعتقال الضباط، وانه سلمه كل المعلومات التي تسمح للقضاء اللبناني بالقرار بشأنهم من دون العودة الى لجنة التحقيق الدولية، وانه في حال لم يفرج القضاء اللبناني عنهم قبل الأول من آذار، وفي حال بقي هنالك موقوفون بعد ذلك التاريخ، فإنه سيطلب من القضاء اللبناني بأسرع ما يمكن إيداعه ملفات التحقيق والموقوفين للبتّ بأمرهم...». ÷ وبالطبع لم ينس القاضي بلمار قبل مغادرته لبنان، أن يتوجه أيضاً الى الرأي العام اللبناني والسلطة وقضائها والضباط المعتقلين، من خلال إطلالة إعلامية نادرة في بعض الصحف، حيث كانت له فيها مواقف عدة، من بينها تأكيده مجدداً بأنه سلم الى القاضي سعيد ميرزا رأيه وموقفه الرسمي حول البت باعتقالات الضباط من قبل القضاء اللبناني قبل الاول من آذار المقبل، خاصة بعدما كانت اللجنة الدولية برئاسة سلفه القاضي برامرز قد سلمت ايضاً الى القضاء كل المعطيات التي أثبتت بطلان شهود الزور والمعلومات المضللة التي تسببت باعتقال الضباط في زمن القاضي ميليس. ÷ رئيس اللجنة الدولية قال كلامه أعلاه ثم كرره ومشى. وحدهما، مدعي عام التمييز القاضي سعيد ميرزا ومعه المحقق العدلي صقر صقر، لم يسمعا كلامه على مدى شهرين متتالين، فكان لا بد لمحامينا أن يتوجهوا إليهما أكثر من مرة، باعتبار ان موقف القاضي بلمار من شأنه ان يحرر القاضيين اللبنانيين من الضغوط والحسابات الشخصية والسياسية، وان يدفعهما بالتالي الى التجاوب مع رأي اللجنة الدولية ومعطياتها المؤدية الى الإفراج حكماً عن الضباط المعتقلين قبل نهاية شهر شباط الحالي وقبل انتقال ملف التحقيق الى المحكمة الدولية. ÷ المفاجأة كانت بأن المحقق العدلي صقر صقر اقسم لوكلاء الدفاع، بكل الانبياء والقديسين، بأن مدعي عام التمييز سعيد ميرزا لم يطلعه حتى هذه اللحظة على الرأي المبلغ إليه من القاضي بلمار حول الضباط. ÷ المفاجأة الثانية بالمقابل كانت أن القاضي ميرزا نفسه قد ابلغ إلى محامينا بأنه يرفض اطلاعهم على رأي القاضي بلمار حول إطلاق الضباط المعتقلين، لانه يعتبر بأن هذا الرأي هو من «أسرار المذاكرة» بينهما!! هذا في حين ان مذكرة التفاهم الموقعة بين الحكومة اللبنانية ولجنة التحقيق الدولية، قد حددت دور المدعي العام ميرزا على انه وسيط تنسيقي بين اللجنة من جهة وبين الاجهزة الأمنية والمحقق العدلي من جهة اخرى، وبحيث انه كوسيط، لا يحق له مطلقاً الاحتفاظ بمعلومات اللجنة لنفسه، كما لا يحق له مطلقا ان يحجبها عن المحقق العدلي صقر صقر، خاصة ان هذا الاخير مدعو دائما كمحقق عدلي الى اتخاذ قرارات في ضوء معطيات اللجنة الدولية وآرائها، وانه في حال حجبها عنه لأي سبب، فإن ذلك يؤدي حكما الى تضليله والى جره لاتخاذ قرارات خاطئة، فكيف اذا حجب عنه مدعي عام التمييز رأياً من القاضي بلمار يتعلق بمصير الضباط لجهة الإفراج عنهم؟؟ ÷ نكتفي بهذه الوقائع اعلاه، على كامل مسؤوليتنا القانونية والاخلاقية والشخصية، لنسأل الرأي العام اللبناني كله، كما السلطة اللبنانية وفخامة الرئيس: هل تصدقون القاضي بلمار بأنه سلم الى القضاء اللبناني رأيه حول البت باعتقال الضباط؟ أم هل تصدقون القاضيين ميرزا وصقر؟ ولماذا يتم اخفاء هذا الرأي!! ÷ الجواب الحتمي هو ان الجميع من دون استثناء يصدقون القاضي بلمار. ÷ النائب سعد الحريري، بمناسبة ذكرى استشهاد والده مؤخراً، كرر مرتين في الاعلام بأنه سيقبل بأي شيء يصدر عن التحقيق الدولي والمحكمة، بما في ذلك الإفراج عن الضباط. ثم انضم إليه النائب جنبلاط علناً في هذا الموقف بعدما كان ينادي بتعليق المشانق للضباط والثأر منهم وجعل عائلاتهم تبكي دماً. ÷ وها إن موقفاً ورأياً واضحاً وصريحاً حول الضباط، اعلن القاضي بلمار رئيس لجنة التحقيق الدولية انه سلمه الى القاضي ميرزا، وها انه ايضا قد طالب بأن يبت القضاء اللبناني بهذا الموضوع قبل الاول من آذار، وإلا انتقلت الصلاحية إليه في لاهاي!! ÷ وها ان القاضي ميرزا لا يزال يكرر من دون مواربة، وحتى امام القاضي برامرتز سابقا، بأن الاعتبارات السياسية تمنعه من الافراج عن الضباط وتطلب منه المماطلة باعتقالهم حتى رميهم إلى أحضان القاضي بلمار والمحكمة الدولية دون وجه حق، وانه يخشى على نفسه من بعض النافذين المعنيين. ÷ وها ان القاضي صقر صقر يتبادل الأدوار مع القاضي ميرزا، ويطالبنا بتأمين ضمانة سياسية له من فخامة الرئيس تحميه من الانتقام السياسي في حال أفرج عن الضباط، وفقاً لمعطيات اللجنة وتحقيقاتها!! وها انه ايضا يبدي خشيته من انه، إذا ما أفرج عن الضباط، فإنه قد يخسر المنصب الموعود به في التشكيلات القضائية المقبلة، لتعيينه، بمسعى من القاضي ميرزا، كمدع عام عسكري، مقابل «صموده» في اعتقالنا السياسي حتى الرمق الأخير!! ÷ وها ان كل ذلك يجري، وكلها وقائع ليس من عادتنا ان نكذب فيها، لا سمح الله، فكيف اذا كانت تلك الوقائع يعرفها، في معظمها، رئيس واعضاء المجلس الاعلى للقضاء؟ وكيف اذا كانت لجنة التحقيق الدولية على اطلاع عليها؟ وكيف اذا كان العديد من المراجع الرسمية في الدولة، محايدين ومعارضين وموالين، من أعلى المستويات الى ادناها، يعرفون بها أيضاً؟!! ÷ نعم نحن نصدّق ما اعلنه القاضي بلمار، وبناء عليه فقد طالبنا المحقق العدلي صقر صقر رسميا، اما ان يفرج عنا قبل الاول من آذار بالاستناد علنا الى رأي القاضي بلمار، اذا كان رأيه يصب بهذا الاتجاه. او ان يرفض اخلاء سبيلنا ويبقينا قيد الاعتقال بالاستناد علنا الى رأي القاضي بلمار، اذا كان رأيه يصب في هذا الاتجاه ايضا. ÷ أما ان يتم اخفاء رأي القاضي بلمار والتمييع به بين القاضيين ميرزا وصقر، حتى نهاية الاسبوع الحالي تضييعا للوقت، حتى رمي الضباط المعتقلين جزافا وسياسيا الى احضان المحكمة الدولية والقاضي بلمار في الاول من آذار، فتلك جريمة موصوفة ومشهودة، ليس بحق الضباط المعتقلين فحسب، وانما بحق لبنان وقضائه ودولته وشعبه ورئيسه. جريمة تبلغ حد اساءة الامانة الاخلاقية والوظيفية وخيانة للحقوق البديهية للرئيس الشهيد، جريمة لا يمكن عدم المحاسبة عليها مهما طال الزمن وتبدلت الاحوال!! ÷ بين اليوم ونهاية الاسبوع، أيام معدودة، هي الحد الفاصل بين إنقاذ القضاء اللبناني او تدميره. اما الذين يتوهمون بأن فولكلور نقل الضباط الى لاهاي سيكون فرحتهم الكبرى وانتصارهم الأكبر، فعليهم بالمقابل ان يدركوا ان فرحتهم السطحية والعابرة تلك، انما ستكون على حساب اغتيال القضاء اللبناني والرئيس الحريري، لكن بأيديهم هذه المرة، وامام المحكمة الدولية نفسها. ÷ من سيوقف هذه الجريمة وهذا الفولكلور التافه المؤدي إليها؟ سؤال موجه الى فخامة رئيس البلاد اولا وآخراً، والى النائب سعد الحريري ثانيا؟ لان القضاة الذين يرتكبون تلك الجريمة انما يتذرعون باسمه. ÷ وحدها الايام القليلة الفاصلة عن الاول من آذار هي التي ستجيب عن هذا السؤال، فهل ستكون بداية المحكمة الدولية في لاهاي هي نهاية عمر القضاء في لبنان؟ ÷ نقل الضباط المعتقلين سياسيا الى لاهاي ليس فزاعة لهم، ولن يكون أبداً نصراً او إنجازاً لغيرهم، بل هو إمعان في سقوط القضاء اللبناني ومعه الثقة والعدالة والحقيقة، فهل سيقبل فخامة الرئيس ان يكون شاهداً على هذا السقوط؟ وهل سيقبل سعد الحريري بأن يغتال والده للمرة الثالثة على اعتاب المحكمة الدولية، بعدما اغتيل على ايدي المجرمين في المرة الاولى، ثم على أيدي محمد زهير الصديق وهسام هسام وغيرهما في المرة الثانية امام التحقيق؟ اللهم فاشهد أنني بلّغت...
السفير

علي الأمين: حزب الله بين "الحرية" و"الفلتان"


علي الأمين
البلد
2009-02-26
حادثة الاعتداﺀ على احد ضباط قوى الامن الداخلي في برج البراجنة مساﺀ الاحد الماضي، واحتجازه قبل الافراج عنه بعد تدخل "حزب الله"، اثارت تساؤلات اضافية حيال ظاهرة الانفلات الامني والاجتماعي في بعض المناطق اللبنانية، وتحديدا في بعض احياﺀ الضاحية الجنوبية لبيروت.
ورغم ان الفوضى التي تتمثل في عودة الشللية، وما يسمى مجموعات، الاحياﺀ ليست جديدة تماما، إلا أنها اثبتت في السنوات الاخيرة حضورا وقوة يصعب على الكثيرين توقع انحسارها في وقت قريب، ان لم نجارمن يذهب نحو القول ان قوتها راحت تتعاظم ونفوذها راح يتمادى في اكثر من منطقة او حي داخل الضاحية الجنوبية.
وتتمثل قوة هذه المجموعات الشللية، التي تعيد الذاكرة الى مرحلة الحرب وميليشياتها، في كونها تساهم في تقويض مظاهر الأمن المركزي ومقومات الدولة، إن على مستوى مخالفة القوانين أو على مستوى التعدّي على الامن الاجتماعي، كما وتساهم في خلق مرجعيات "ما فوق دولتية" وفوق القانون، في ما بات يعرف بـ "حكم الامر الواقع".
"حزب الله" اكد اثر حادثة ضابط قوى الامن، لموقع lebanon now أنه "لا يقوم بمهام الامن في هذه المنطقة، والتي تبقى حصرياً من مهمة القوى الامنية الرسمية المدعوة لتفعيل دورها والقيام بواجباتها كاملة فيها"، مذكّرً ا في هذا السياق بما "سبق وأعلنه السيد حسن نصرالله بعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان عام الفين، عندما قال ان الحزب ليس بديلاً من الدولة اللبنانية واجهزتها، والتي دعاها للقيام بواجباتها في حفظ الامن بشكل كامل ودون تجزئة أو تفرقة".
يعرف كثيرون، وتحديدا أولئك المقيمون في الضاحية الجنوبية، ان "حزب الله" يقع خارج لعبة الفلتان التي تشهدها بعض، الاحياﺀ ولعب دورا في لجم بعض مظاهر الفوضى والتعدي، لكن جهوده هذه لم تمنع حتى الان تفشّي ظاهرة البناﺀ المخالف في مناطق عدة، خصوصا منطقة الرمل العالي المحاذية للمطار، الى جانب منع موظفي بعض المؤسسات العامة، مثل مصالح المياه او موظفي شركة، الكهرباﺀ من ممارسة مهماتهم على صعيد الجباية ومنع التعديات.
على ان ظاهرة لا تقل خطورة يتم التداول فيها منذ مدة، وهي ظاهرة الاتجار بالمخدرات التي تجد في بعض مناطق الضاحية مكانا آمنا يصعب الوصول اليه من قبل القوى الامنية، الى جانب ازدياد مظاهر الفساد الاخلاقي من خلال زيادة الاماكن التي تستخدم كبيوت للدعارة وان بشكل سري وغير علني. ومتابعون لاحوال الضاحية يلفتون النظر إلى عدد من البيوت التي اكتشفت على هذا الصعيد وقام "حزب الله" باغلاقها والتحقيق مع بعض اصحابها.
اما السلاح فحدّث ولا حرج لجهة انتشاره في ايدي هذه الشلل التي، وان كانت خارج البنية التنظيمية لـ "حزب الله" وربما حركة "امل"، إلا أنها تعتبر نفسها تحت مظلتهما السياسية وتتوقع مقابل ذلك ان تكون على قدر كبير من حرية التصرف والتحرك، شرط ألا تدرج تحركاتها في اطار سياسي او امني معاد لهذه الثنائية.ولعل ما جرى مع احد ضباط قوى الامن الداخلي في عين الدلبة، التابعة لبرج البراجنة، يعكس مدى الثقة التي تدفع احدى الشلل للقيام بهذا، الاعتداﺀ الى حدّ عدم تحسبها لما يمكن ان تؤدي اليه هذه الخطوة من تداعيات على افرادها، المعروفين أمام الاجهزة الامنية. وذلك يشير أيضا الى وجود مجموعات تستفيد من الثقة المهزوزة بين "حزب الله" وبعض الاجهزة الامنية، لتمارس ما تريد...
وثمة وقائع كثيرة تؤكد تمادي الفوضى التي بات السكوت عنها خطيرا.
ختاما: ان يقول "حزب الله" انه يدعو القوى الامنية إلى القيام بواجباتها في الضاحية الجنوبية، فهذا يحتاج، كي يصبح منطقيا، الى مبادرات جدية ومسؤولة يقوم بها الحزب على هذا الصعيد، منها أن يدعم سياسيا واجتماعيا وميدانيا دخول هذه القوى، وان يزيل كل ما يعتقد انه خط احمر لا يجوز الاقتراب منه.
يبقى القول إنّ هناك خيطاً رفيعاً بين "الفلتان" الأمني وبين "الحرية" الأمنية، تماما كما هو الخيط بين "فلتان" الأطفال و "إعطائهم الحرية".
ويبدو أن "حزب الله"، الذي يحتاج إلى "الحرية الأمنية"، ما عاد قادرا على الحدّ من "الفلتان"...وخطورة هذه الظاهرة انها تكاد تصبح نموذجا يطالب البعض باستنساخه او تقليده في مناطق اخرى.
البلد

الخميس، 26 فبراير 2009

حسن البطل: ان صدق عزم واشنطن على بناء فلسطين!





لن أقرأ لكم ما بين سطور الخطاب الرئاسي الاميركي الاول أمام أول جلسة كاملة لمجلسي الكونغرس. هل تقرأون معي شريط الخطاب المتلفز، حيث خيّل اليّ ان الكاميرا تمهلت قليلاً وهي تبرز بعض وجوه السناتورات والنواب.. إلى وقفات أطول على وجه رئيسة المجلس، السيدة نانسي بيلوسي، ونائب الرئيس، السيد جون بايدن.السناتور جون كيري (ماساشوستس)، العائد حديثاً من جولة شرق أوسطية. السيدة السناتور هيلاري كلنتون (نيويورك) العائدة من جولة افتتاحية للشرق الأقصى، والذاهبة الى جولة افتتاحية في الشرق الاوسط.يسهل القول ان جميع هؤلاء قادة في الحزب الديمقراطي الحاكم، والأهم ان لجميعهم خبرة محترمة في الشؤون الخارجية (نائب الرئيس جون بايدن، سناتور ديلاواير)، أو على معرفة جيدة في المسألة الفلسطينية - الاسرائيلية وإطارها الشرق أوسطي.الرئيس الـ 44 نفسه جاء إلى فلسطين - اسرائيل إبان حملة الانتخابات الرئاسية. أيضاً، زارتنا نانسي بيلوسي، اول امرأة تترأس المجلس، والشخصية الثالثة في الادارة بعد الرئيس ونائبه حسب الدستور. كذا، فالسيد جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية، انهى للتو جولة شرق أوسطية، بما فيها غزة (حيث توقف طويلاً أمام خرائب المدرسة الأميركية الدولية - غزة). أما الوزيرة الشقراء، هذه المرة، الست هيلاري، سناتور نيويورك، فهي شهيرة بما يكفي في أميركا والعالم (وعندنا، عندما رافقت زوجها الرئيس وابنتها تشيلسي، في قص شريط افتتاح مطار غزة، واضاءة شجرة الميلاد في بيت لحم).جميع هؤلاء ملتزمون إقامة دولة فلسطينية (الاسم السياسي الكودي هو: الحل بدولتين)، ولعل اوضحهم في هذا الالتزام هو نائب الرئيس جون بايدن، الذي ألقى "خطاب ميونيخ" في شهر شباط الجاري. قال: حان الأوان لحل الدولتين. لقد تأخر انجازه. سنعمل عليه.. وسنتغلب على المتطرفين.ما سبق، قد يكون لمحة من "بطاقات التعريف الشخصية"، ولكنها تلقي كشافاً ضوئياً على أسباب عزم الادارة الجديدة تقديم 900 مليون دولار لإعادة إعمار غزة، ولدعم السلطة الفلسطينية. هذا المبلغ يقل 100 مليون عن تعهد العاهل السعودي تقديم مليار دولار، الذي يوصف في بلاغة الشكر والحمد اللغوية العربية بـ"المكرمة الملكية".هل نصف ما قد يعد أكبر مبلغ في دفعات المساعدات الاميركية للفلسطينيين بانه "مكرمة"، أم ان الولايات المتحدة، والاتحاد الاوروبي بالتالي، يُظهرون جدية متزايدة في وضع الأسس لبناء دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة.آخر أخبار السيدة الدكتورة في العلوم السياسية، كوندوليزا رايس انها تعاقدت مع دار نشر لاصدار سلسلة من الكتب والمذكرات. سنقرأ فيها قصتها مع مشروع الدولتين، منذ ان اشترطت على السيد بوش ان يتعهد باقامة دولة فلسطينية لقبول حقيبة الخارجية.. الى 18 جولة شرق اوسطية لها (رقم قياسي لوزير خارجية أميركي).نقترح على أركان الادارة الديمقراطية الجديدة ان يجعلوا اسرائىل تعي وتفهم وتحسّ، بلغة الدولارات، ان ما تبنيه اميركا في فلسطين، بأموال دافع الضرائب الأميركي، محظور على دبابات ومدفعية وطائرات اسرائىل ان تدمره.. أي انه كلفة اعادة بناء المدرسة الأميركية الدولية مثلاً، في حال تدميرها مرة ثانية، سوف تخصم من المساعدات الاميركية المدرارة لاسرائيل، وان شارعاً تشقه أموال usaid في الضفة الغربية، وتحرثه الدبابات والجرافات الاسرائيلية، سوف تُجبر اسرائىل على دفع كلفة إعادة ترميمه من جديد.دول الاتحاد الاوروبي، الممول الأول والمانح الأكبر لفلسطين، تشكو اسرائيل وتتذمر امامها بالطرق الديبلوماسية، او بتصريحات كبار الخبراء الاوروبيين.. لكن، اذا عزمت واشنطن على محاسبة اسرائىل فسوف تقتدي بها اوروبا.في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم، تكاسلت واشنطن عن محاسبة اسرائىل وخصم ما تصرفه على بناء المستوطنات من ضمانات القرض الاميركي الضخم لاسرائيل البالغ 10 مليارات دولار، لاستيعاب هجرة المليون روسي.. وفي النتيجة، فان ليبرمان وقادة احزاب متطرفة يعارضون اقامة دولة فلسطينية، يقيمون في مستوطنات يهودية على ارض الدولة الفلسطينية المزمعة.. وأخيراً، تنهبت واشنطن وفتحت نصف عين من عينيها الاثنتين.الدولة الفلسطينية مشروع سياسي، ومشروع سلام اقليمي شامل.. ومشروع انقاذ لاسرائىل من نفسها.. لكنها تبدأ بمشاريع بناء أسس الدولة. وكما تحاسبنا اميركا على كل دولار، عليها ان تفعل الشيء نفسه مع اسرائىل، وتحاسبها على كل دولار مهدور من أموال المساعدات لبناء فلسطين.للعلم. مولت واشنطن ميزانية السلطة العام الماضي بـ300 مليون دولار غير تمويل مشاريع بمئات الملايين.
الايام

صالح بشير: يستقيم وعينا الديمقراطي من دون تفكير ذاك "الاستثناء"


قد يخطئ علمانيو العرب وديموقراطيوهم وتحديثيوهم، سواء أُطلقت عليهم تلك الصفات عن وجه حق، أو على سبيل التجاوز السخيّ أو زعَمها بعضهم لنفسه إدعاءً، إذ يعتبرون أن ما يعيق دعواتهم ويقف في وجهها عقبةً كأداء إنما هو حصرا بُنى مجتمعاتهم وتكلس سلطاتها وتعسفها والتيارات الدينية، تقليدية كانت، تستنكف عن أي تغيير، أم ثورية نكوصية (على ما بين النعتين من تنافر ظاهري)، تعبر عنها وتنهض بها المجموعات النضالية والجهادية.القول بذلك لا يجانب الصواب طبعا، ولا ينكره أحد، وقد يأخذ به أو ببعضه حتى من لم يكن ديموقراطيا أو علمانيا أو تحديثيا. لكن المأخذ عليه، وعلى الاقتصار عليه، أنه تعميمي لا تخصيصي، وأنه مقلد لا مجدد، يكتفي بتكرار وباستحضار إرث التنوير الأوروبي ومقولاته الكلاسيكية، في صيغة لها إيديولوجية رثّة في الغالب، ودون الإحاطة بخلفياتها الفلسفية والتاريخية، ودون القدرة على ذلك، من قبل نُخبٍ لدينا تستعجل التنظير والتصدي لإنتاج الفكر والظفر بلقب المفكر (وهذا أمر هيّن في بلدان العُرب)، دون أن تستوفي عدّة وشروط الاضطلاع بمثل تلك المهمّة.ونتاج ذلك، أو بعض نتاجه، أقله في هذا المجال وبصرف النظر عن التيارات والمشارب الأخرى (وهي ليست أفضل حالا)، وضع الفكر والثقافة السياسيين في ربوعنا، وذهولهما المقيم عن خصوصيات كثيرة، يطول الخوض فيها ولا تتسع لها هذه العجالة، بحيث لا يمكننا إلا الاكفتاء بإحداها، ممثلة في الظاهرة الإسرائيلية، وفي مفعولها أو دورها الداحض والناقـــض للديموقراطـــية في بلداننا كما يفهمها دعاتُها المحليون، إذ تستوي الدولة العبرية وتجــربتها تحديا، نظريا وفكريا، قصّرت نخب المنطقة، تلك التحديثية منها الناشدة التقدم على وجه التخصيص، في إدراكه والتصدي له.نحن، بطبيعة الحال، لا نرمي من هذا الكلام إلى استعادة وتسويغ تلك الحجة البائسة التي كثيرا ما لاكها ويلوكها المستبدون العرب، من أهل السلطة أو من أهل الإيديولوجيا، من أن قيام الدولة العبرية ووجودها، هو الذي حال دون استتباب الديموقراطية في بلداننا وأجهضه. وهو أمر، إن سلمنا جدلا بصحته، لا يرى المرء كيف ينطبق على كيانات تقع في الأطراف، نائية عن ساحة المعركة. هذا ناهيك عن أن إسرائيل ذاتها هي من يقدم الدحض الأبلغ لهذه الحجة، وهي التي أفلحت في الحفاظ على ديموقراطية نظامها، رغم الحروب والعداء الذي حاصرها، وشكل تهديدا لوجودها، أو هكذا خُيّل لها في بعض الأطوار، دون أن يفكر جنرالاتها في الانقضاض على السلطة بذريعة إنقاذ الوطن. كما أننا لن نسعى حتى إلى محاكمة الأنموذج الإسرائيلي باسم القيم الديموقراطية التي يدعيها ويخلّ بها إذ يرتضي اضطهاد الغير، على اعتبار أن ذلك، إضافة إلى ممارسات الغرب عموما، إبان الفترة الاستعمارية وبعدها، كان له بالغ الأثر في تشويه الفكرة الديموقراطية في بلدان المنطقة ولدى أبنائها. وربما أظهر تلك الفكرة على أنها ليست أكثر من بناء إيديولوجي مثل سواه، يخفي خلف برّاق شعاراته واقعا من الإجحاف.بل ما نعنيه يتجاوز ذلك ويتعداه إلى القول بأن الظاهرة الإسرائيلية تمثل تحديا مبرما ناقضا للأقانيم التي يحسبها ديموقراطيونا وتحديثيونا وعلمانيونا الشرط الضروري لكل نصاب ديموقراطي، بحيث ينتفي مثل ذلك النصاب بانتفائها. والحال أن الدولة العبرية ديموقراطية، وإنْ لمواطنيها من اليهود على نحو حصري أو يكاد، بالضد من ذلك الشرط الضروري المُفترض.فهي تأسست، ككيان وليس فقط كنظام حكم، على إرادة إيديولوجية، تتوخى، مثلها في ذلك مثل كل إرادة إيديولوجية، النبذ والإقصاء (حتى حيال اليهود غير الصهاينة) وتطويع التاريخ بالعنف، وقسر الشروط التاريخية لبلوغ هدف محدد سلفا وما كان يمكن لتلك الشروط التاريخية، بمفردها ووفق ديناميكيتها الخاصة، أن تفضي إليه، ما قد يجعل الصهيونية، فكريا، في عداد الإيديولوجيات التوتاليتارية التي شهدتها أوروبا النصف الأول من القرن العشرين. لكنها أفضت، من حيث نظام الحكم، ووفق التحديدات التي سبقت الإشارة إليها، إلى نتيجة مناقضة.كما أن للظاهرة الإسرائيلية ملمحا آخر، يُفترض أنه ينافي الأسس التي تقوم عليها الكيانات الديموقراطية والحديثة، هو تأسسها على خرافة تاريخية، وإعادة أحيائها بالضد من كل بديهية موضوعية، هي العودة إلى أرض كان يقيم فيها اليهود منذ آلاف السنين، وانتحال ذلك على أنه مصدر شرعية تاريخية من ناحية، ومن ناحية أخرى قيام الكيان على الانتماء الديني لا على الانتماء المدني، وتأسيس المواطنة عليه، بجعل الانتماء المدني، الذي تُفترض فيه النسبية والرابطة القانونية، مشروطا بالانتماء الديني، المطلق والمتسامي على كل قانون بشري، ليس فقط في علاقة الدولة بمواطنيها، بل أيضا في علاقاتها بمحيطها، ما دامت الخرائط الوحيدة التي تعترف بها إسرائيل، هي تلك الواردة في الكتاب المقدس.وهكذا، تستـــوي الظاـــهرة الإسرائيليــــة تسفيهـــاً ماثلا متفعِّلا في التاريخ، لكل ما يسوقه ديموقراطيونا عادةًَ شروطا لا بد من تحقيقها من أجل التحرر والتقدم وبلوغ الديموقراطية. ولعل ذلك ما يفسر تلك المفارقة التي مفادها أن الظاهرة الإسرائيلية ربما كانت أفعل في إلهام الحركات الإسلامية من سواها، تلك التي رأت فيها نموذجا على ما يمكن أن تحققه أمة مؤمنيـــن (فـــي المقام الأول، وأمة مواطنين عرضا). كما أن اعتبـــار فلسطيـــن أرض وقف إسلامي لا يجوز التفاوض عليها قد لا يكون أكثر من صدى لما يذهب إليه الصهاينة من أن الأرض تلك وعد إلهي لليهود. وإذا صح هذا الافتراض، فقد يكون من أوجه جدلية النزاع العربي-الإسرائيلي التي لا يجري التنبه لها عادة.كل ذلك للقول إن فكرا ديموقراطيا كسولا، كذلك المعمول به لدى نخبنا، لن يبلغ مراميه، إن هو لم يواجه ذلك الاستثناء الإسرائيلي، إدراكا وتجاوزا، على ما حاولنا تبيانه في هذه العجالة، التي تطرح (بعض) أسئلة أكثر مما تجزم بأجوبة.
من قديم صالح بشير المتجدد

بلال خبيز: صالح بشير: من يعوض هذا الغياب؟



هل كتب صالح بشير مقالته لهذا الأسبوع؟ : "لو صاح الديك على هذه الكرة الأرضية لعرفنا، لكن الموت". الموت الذي يأتي مبكراً كعادته. لن نقرأ صالح بشير مرة اخرى على صفحات الصحف. لقد اخلى المكان لأناس قد يكتبون عنه. ومن سوء طالعي انني واحد منهم.
بموت صالح بشير تنقص الجدوى. لم يعد في وسعي ان انتظر مقالة الثلاثاء متيقناً من لذة القراءة. لقد غاب صالح بشير وبغيابه باتت اللذائذ اقل مما كانت من قبل. وهي كانت قليلة اصلاً. لكن نقص اللذائذ لا يكفي وصفاً لهذه الخسارة. فصالح بشير ككاتب متميز، كان واحداً من الذين يجهد الكاتب في كل مكان لضمهم إلى لائحة قرائه. الكاتب يكتب لمن هو اعلم منه وافقه، وصالح بشير كان اعلمنا وافقهنا. اقله، كان واحداً من الأعلام القلائل الذين يغادرون تباعاً من دون استئذان.
حين يكتب الحي عن الميت، جسداً، يخشى من المستقبل. الكتاب في الأصل ليسوا سوى تلامذة لكتاب آخرين. يقرأون لأنهم يجيدون ادعاء الصفتين : صفة القارئ وصفة الكاتب. مؤلم ان يغيب القارئ الذي هو صالح، انما ايضاً قد يكون غياب صالح الكاتب اشد ايلاماً. ومنذ اليوم عليّ ان اغادر اطمئناني كل ثلاثاء، وان ابدأ بالتفتيش وسط كومة قش الكلام السائر عن ابرة كاتب في وسعه ان يلكز اعصابي ويحرضني على الفكرة. غياب صالح بشير يترك الأسبوع ناقصاً نقصاً فادحاً، ويصعب ان نملأ هذا النقص كيفما اتفق.
لم اكن اعرف صالح بشير شخصياً. كانت العلاقة بيننا علاقة قارئين بكاتبين. كنت أقرأ صالح وحين اكتب افكر فيه قارئاً. والحال، حين يخسر ميزان الكتابة احدى كفتيه، تصبح الكتابة عصية وبالغة العسر. هذا الغياب لا يتصل بالحزن العميق والمباشر على رحيل الرجل الذي عرفته كاتباً. هذا الغياب يترك الأحياء حيارى، والأرجح اننا في غياب هذا الرجل نصبح اقل ثقة بما نقوله مما كنا من قبل. كما لو ان غياب صالح بشير يضعنا على حافة الاعتراف بأنانياتنا المرتفعة كقراء. ننتظر ان يكتب، ونريد ان نعجب بما يكتب، ولا نمهله او نرحمه او ندعه قليلاً ليرتاح. لهذا نحسب انه تركنا من دون استئذان، لنغالب الحيرة في غيابه.
يقولون ان الكاتب لا يموت، آثاره تبقى، ودوماً ثمة من يعيد قراءته بعد زمن. لكن الكتاب يعرفون جيداً ان خسارة واحد منهم تعني ان مستقبل الكاتب نفسه بات مهدداً. لا تستقيم كتابة من دون متلقين. ولا تصح كتابة عالية الشأن على ما كانت عليه كتابة صالح من دون ان تجعل الكتاب انفسه جمهوراً من القراء والمتلقين. صالح كان كاتبنا، نحن الكتاب، وكنا قراؤه. واليوم حين يغيب تفيض في الروح مشاعر الفقد العظيم. فبهذا الفقد افقد انا القارئ بعض صفتي كقارئ، وينقص الكلام الذي اكتبه قيمة كان يستمدها من تلك القراءة، مثلما يفقد الكلام الذي اكتبه ميزانه الدقيق الذي يجعلني اتهيب الكتابة وانا احسب ان صالح قد يقرأ ما اكتب.
وداعاً يا كاتبي. وداعاً يا قارئي. كان المنفى قبل غيابك اكثر اتساعاً مما هو عليه الآن. اليوم تكاد تتحول الامكنة كلها منفى، وتعجز المدن عن تصريف الوقت بما يجدي ويجعل العيش اكثر من مجرد مجاملات.
لقد عودتنا هذه البلاد ان نقطع العهود للشهداء. لكننا ابداً لم نقطع عهوداً لكتابنا الكبار ونفيهم حقوقهم. الكتابة تستمر ما فتئ الكلام مستمراً، هذا امر بديهي. انما يجدر بنا ان نفكر جدياً بأن نقطع عهداً لصالح بشير. ان نكمل ما بدأه ولم ينهه، كحال معظم الكتابة في كل مكان من العالم. ومعنى ان نكمل ما بدأه صالح يتصل اتصالاً مباشراً باجتراح الأفكار اللامعة، والاتسام بالنزاهة الفكرية التي جعلته دوماً واحداً من القلائل الذين يتجرأون على نقد انفسهم ومراجعة ما كانوا قد كتبوه بوصف الكتابة دوماً عمل ناقص ولا تتم إلا بانتهاء الزمان.
صالح بشير إلى جوار ربه. هذا يبعث على الحزن. لكننا ما ان ننفض الحزن عن كلماتنا وافكارنا، حتى نعاود سيرته في ما كان يكتب ونقتحم المواضع التي كان فيها يساجل ويناقش، ونجرب حياكة خيط الأفكار الذي كان قد انجز بعضه. لكننا مع هذا الجهد كله، لا احسب اننا نستطيع ان نعوض هذا الغياب.

نشرت المقالة في جردية الجريدة في الزاوية نفسها التي كان يكتبها صالح بشير

حازم صاغية: هذا المكان لصالح بشير

لم تصل المقالة، هذه المرّة، يوم الخميس. لقد انقضى معظم ذاك النهار ولم تصل. والعادة كانت قد جرت على هذا النحو منذ عقد ونصف العقد تقريباً، واظب صالح بشير خلالهما على كتابة عموده الأسبوعيّ لـ»تيّارات». وصلتني، في المقابل، مكالمة من محمّد الحدّاد الذي كان صوته الآتي من تونس مرتجّاً مضطرباً، التليفون البعيد ينهش بعض أحرفه ويؤرجح بعضها الآخر. لكن الخبر بدا مفهوماً من كلمتيه الأوليين. قال محمّد إنّه سينقل لي نبأً بالغ السوء، فعرفت أنّه صالح.ذاك أن صالح بشير عاش كأنّه متّجه إلى هناك، لا حبّاً منه بالموت ولا كرهاً بالحياة، بل لأنه هكذا. منذ اليوم الأوّل الذي تعرّفت فيه إليه بدا غير متشبّث بشيء. لا ببلد ولا بأهل ولا بمال ولا بجاه ولا بمكانة أو موقع. «كذا أنا يا دنيا»، وما من داع لتنازل أو تكيّف من أيّ نوع. فهو لم يشأ لنفسه أن يكون مثقّف هامش فحسب، بل أن يكون إنسان هامش أيضاً.لم يكتب في حياته كتاباً، وكان يضجّ بأفكار تخرج منها مجلّدات. وكان من بالغ الصعوبة أن تجده في صورة أو أن تعثر له على رسم. ومن المستحيل أن ترى صالح لابساً ربطة عنق أو محاضراً في منتدى وجهاء أو حاملاً محفظة سمسونايت. وكانت الكلمات - الألقاب مما لا يجيد نطقه، فلم يتلفّظ مرّة بـ «أستاذ» ناهيك عن الكلمات الأرفع رتبة في المقامات والأنظمة، مفضّلاً، عند الاضطرار، القفز من فوق هذه العتبة المرتفعة. وكم كان ليضحك لو عرف بأن بعضهم سيسمّيه، إثر وفاته، «مفكّراً»؟جاء صالح إلى لبنان في عداد شبّان عرب كثيرين أرادوا أن يعيشوا على مقربة من الثورة الفلسطينيّة، واستطراداً، من «المشرق»، كما لا يزال يقول أهل «المغرب»، ومن قضاياه. وكان قد مرّ على بغداد وعمّان قبل أن يحطّ في بيروت ويعمل في جريدة «السفير»، حيث التقينا، مترجماً عن الفرنسيّة ثمّ كاتباً. فكان يشبه ما كنّا نقرأه عن رحّالة جوّالين، سياسيّين أو مناضلين أو كتّاب، في زمن لم تكن حدود دوله قد ارتسمت، يضربون وتدهم في كلّ أرض ولا يطلبون سوى خيمة يؤون إليها، ما كان قبلها أتى عليه الرمل فمحاه، وما سوف يليها يُنظر فيه في حينه.وأرض صالح ما ونت مذّاك تتّسع وتكبر. فإذ أجلاه اجتياح 1982 الإسرائيليّ، في من أجلى، أقام في باريس فكتب في «اليوم السابع» وغيرها وظلّ هناك سنوات انتقل بعدها إلى روما، ثم رجع إليها فأسّس فيها موقع «الأوان» الالكترونيّ، الثقافيّ والفكريّ، قبل أن يغادرها عائداً إلى بلده تونس.لقد تمّت الدورة واكتملت بالعودة إلى الأهل، والعودات أحياناً موت وجثث تُستَردّ. وفي عداد تلك الدورة كانت تمرّ سنوات لا يملك صالح فيها شروى نقير ولا يحمل جواز سفر، وكان يموت له أخ أو أمّ في الوطن البعيد فلا يعرف بالأمر أيّ من أصدقائه إلاّ بالصدف المحضة. فصالح، ربّما خوفاً من مظهر الضعف وكرهاً منه للشفقة، وربّما خوفاً من ابتذال المشاعر واستدعاء ابتذالها من الآخرين، كان خزانة حياته الشخصيّة المقفلة بإحكام. فكان جوزف، مثلاً، يسأل ممازحاً: «هل أنتم متأكّدون من أن اسمه صالح بشير؟».لكنّه، في هذه الغضون، فقد أحد ولديه الذي اختطفه السرطان وهو في الثانية العشرين، فكان ذلك الموت الأوّل، أو أوّل الموت، ينزل بصالح الذي لم يُسمع له صراخ. فعندما يجدّ الجدّ لا يكون صالح إلاّ وحيداً، ممارساً بالكبرياء التي فيه كبرياءه، منطوياً على ألم لا ينبغي لعين أن تراه. وبقدر ما كان قاسياً على نفسه، كان خصماً سهلاً للموت، وسهلٌ استفراد الموت له، بلا أهل ولا وطن ولا عائلة ولا مال ولا معارف، أمّا في الأصدقاء فكانت حصّته منهم قليلة أيضاً. وزاد في تلك السهولة سوء العلاقة بين صالح والأطبّاء الذين آثر أن يواجه ضيق تنفّسه في الأشهر الأخيرة، من دونهم، معوّلاً على السجائر وحدها! فلم يوجد من يخبّر عن وفاته، هو المقيم وحده المزروع في عزلته زرعاً، إلاّ حنفيّة الماء التي تركها تنزّ فتزعج الجيران الذين فتحوا الباب على جثّته.وبرحيل صالح، تخسر الكلمة الدقيقة، المفكَّرة، أحد أبرز أسيادها. فقد سقط أخيراً أريستوقراطيّ التعبير، الرفيع القول، الذي لم يهبط مرّة إلى الابتذال أو الرخص أو الشعبويّة، متمسّكاً بكتابته «الصعبة»، لا يريد ان يغوي ويجتذب القرّاء وشعبيّتهم. فهو لطالما انشدّ إلى ما وراء السبب الشائع وإلى ما تحت القناعات السائدة كاشفاً عن بنية خفيّة أو صامتة تقوم عليها، سائلاً دائماً، مجيباً قليلاً، شجاعاً في إعادة النظر بقناعاته، جاعلاً اللغة ترقى إلى مصاف الأفكار والأفكار إلى مصاف اللغة، عادلاً ونزيهاً في أحكامه، دالاًّ إلى العميق في ما يتراءى بسيطاً، وإلى المركّب في ما يتبدّى شتيتاً متناثراً.وهاأنــذا أحـــذف إسـماً آخر ورقماً آخر من تليفوني ومن مفكّرتي. فقد مات صالح، ولوطأة الرمز في موته قوّة ساحقة، بعد ذكرى وفاة ميّ بثلاثة أيّام وقبل ذكرى وفاة جوزف بثلاثة أيّام أخرى. وهؤلاء يموتون من دون أن يقول لهم طبيب قلّلوا الملح أو زاولوا المشي. إنّهم هكذا يموتون كما في المعارك، أو في الملاحم، فيغيّروننا بأن يضعونا على تخوم الخرافة، ويأخذون الكثير منّا فيما نراهم يبتعدون، وهم لا يعرفون.
نشرت المقالة في الزاوية التي كان يكتبها صالح بشير في ملحق "تيارات"

آخر ما كتبه صالح بشير

مأزق آخر للعرب





يبدو أن آصرة من شبهٍ قوية، تقوم متينة بين الدولة العبرية وجيرانها، خصومها من دول العرب وشعوبهم، هي المتمثلة في أن الجموع في الحالتين وعلى الضفتين أكثر تطرفا من الحكام، تدفع باتجاه مثل ذلك التطرف أو تبجله.
قد يكون ذلك مفهوما من قبل الجموع العربية، وهي التي شهدت ولاتزال على مظلمة قصوى واستثنائية بقدر ما هي حميمة لصيقة بوجدانها، هي اغتصاب فلسطين واجتثاث شعبها، وهي لذلك لا تقر بـ«اعتدال» ترى الحكّام مقبلين عليه، فلا تحسبه غير «تفريط» و«تخاذل» و«تقاعس» أو محض «خيانة» إن اشتطّت في التوصيف، وهي كثيرا ما تفعل. خصوصا أن مسلك الاعتدال ذاك لم يرتب عدالة وإن جزئية، إن سلمنا بإمكان تجزيء العدالة أصلا.
بعض مردّ ذلك إلى قصور لدى الحاكمين ليست «الخيانة» في عداده حُكما، مُكابدةً لإكراهات، يمليها ميزان القوة واعتبارات أخرى، لا تترك من مناص غير تلك السياسات أو هكذا يُعتقد، لكن الحاكمين يُخفقون في نقلها، بمفردات واضحة وكاستراتيجيات متكاملة منسجمة إلى جموعهم، فيبدون كمن يتستر على أمر مريب، أو كمن يستجيب دواعي غير مفهومة أو صادرة عن إرادات خارجية.
يبقى مع ذلك أن ذلك «التطرف» العربي، مع أن المجال لا يتسع هنا للخوض فيه بإسهاب، ومع أن إيديولوجيات بعينها تنفخ فيه وتسعّر أواره، طارئ وعرضي وغير تكويني، على خلاف ما يقول رأي شائع، يبلغ في بعض الأوساط مبلغ اليقين. فهو تطرّف ناجم عن موجب هو، في المقام الأول، المظلمة الفلسطينية وتماديها الذي لا يبشر ببلوغها حدّا معلوما والتوقف عنده. إذ إن ما قد يكون من عوامل استفحال ذلك «التطرف» ومن بواعث تناميه أن المنحى التسووي، الذي آل إليه الجانب العربي وتوخاه، «إجماعا» لا يكاد يشذ عنه حتى الممانعون، على ما دلت وثيقة كتلك المتمثلة في «المبادرة العربية»، إنما استوى تسليما بتلك المظلمة الأصلية واستدخالا لها، فما عاد الجهد يُبذل إلا في سبيل الحد من إجحافها، بتمكين الفلسطينيين من كيان سياسي يقنع بما دون الوطن الأصلي بكثير، بل بما دون الدولة ربما، التي يُستبعد أن تكون ناجزة السيادة. التطرف العربي هو، من هنا تطرف رد فعل، لا ينبع، في صفته تلك من ذاته.
وتلك بداهةً ليست حال نظيره ومقابله، أي ذلك الإسرائيلي. فالتطرف هنا ليس أحد احتمالين، كما في أي حالة أخرى «عادية»، أي لا تبلغ من الاصطناع شأو تلك الإسرائيلية، بل هو احتمال أوحد، أو هو طبيعة وصفة تأسيسية. وهو لذلك ليس بالملمح الإيديولوجي المحض، بل يحوز تلك الصفة من حيث تفعيله ومن حيث طريقة انبعاثه للوجود. وهكذا، إذا كان بوسع الاشتراكية أو القومية أو أي اتجاه أو «فلسفة» أخرى يؤخذ بها، أن تكون متطرفة أو ألا تكون، حسب ما قد تمليه ملابسات بعينها، تاريخية أو سوسولوجية أو سواها، فإن الصهيونية لا يمكنها إلا أن تكون متطرفة، طبيعةً لا خلاص لها ولا فكاك.
سبب ذلك أن الإيديولوجيا تلك لا يمكنها أن تتفعّل في التاريخ، أن تتجسد واقعة ملموسة إلا بواسطة فعل متطرف، قاطع مع ما سبقه، متنكر للواقع الذاتي والمحيط، وما اغتصاب فلسطين إلا تطرف أقصى من ذلك القبيل، عملية اجتثاث، وانتحال لـ«حق» ليست له من أسس ومن مقدمات عينيّة، وليس من سبيل لـ«إحقاقه» إلا بمثل تلك الوسائل. مؤدى ذلك أنه إذا كان التطرف في حالات أخرى إجرائي أو وظيفي، فهو هنا، في هذه الحالة الإسرائيلية، تكويني وجودي وشرط شارط.
لا يمكن لإيديولوجيا كتلك أن تتسع للحلول الوسطى، طبيعتها ذاتها تحول دون ذلك وليس ما قد يحفل أو لا يحفل به الواقع من شروط التوصل إلى ذلك الضرب من الحلول. لذلك فإن الدولة العبرية تجد صعوبة أو امتناعا قد يبلغان مبلغ العجز عندما يتعلق الأمر بالتسوية، على ما دل ما يزيد على العقدين من التفاوض المضني وغير المجدي، كما تُقبل على الحروب، في أقصى مظاهرها فتكا، أي إبادة، بيسر بالغ، وما ذلك إلا لأن الخيار الأول، يناقض تلك الإيديولوجيا على نحو جوهري، يخاطبها بما ليس فيها ويلتمس منها ما لا قبل لها بمنحه، في حين أن الثاني منسجم مع سماتها الأساسية والتكوينية تمام الانسجام.
ولعل ذلك ما يفسر ظاهرة كتلك التي تشهدها الحملة الانتخابية الإسرائيلية هذه الأيام، حيث يبدو ليكود بنيامين نتانياهو، وهو اليميني المغالي، الأوفر حظوة بالفوز، فلا يكاد ينافسه أو يحرجه إلا من هم على يمينه، شأن حزب «إسرائيل بيتنا»، في حين يتراجع كل من حزبي «كاديما» و«العمل»، بالرغم مما اقترفاه في قطاع غزة، كأنما هناك تطلب لتطرف وللإمعان فيه يلوح الحزبان قاصرين عن تلبيته....
وتلك من خاصيات «الديموقراطية» الإسرائيلية قياسا إلى سواها، فإذا كان الإجماع، وبالتالي الفوز غالبا ما ينعقد في هذه الأخيرة على الوسط، أي على الاعتدال، فإنهما لا يتحققان في إسرائيل إلا على الغلو والتطرف، فيرتقيان في ذلك الكيان إلى منزلة الهوية.
وذلك هو التحدي العضال الذي يواجه الفلسطينيين والعرب في تعاطيهم مع الدولة العبرية، «مقاومين» كانوا أم «تسوويين».




آخر ما كتبه صالح بشير

مأزق آخر للعرب
يبدو أن آصرة من شبهٍ قوية، تقوم متينة بين الدولة العبرية وجيرانها، خصومها من دول العرب وشعوبهم، هي المتمثلة في أن الجموع في الحالتين وعلى الضفتين أكثر تطرفا من الحكام، تدفع باتجاه مثل ذلك التطرف أو تبجله.
قد يكون ذلك مفهوما من قبل الجموع العربية، وهي التي شهدت ولاتزال على مظلمة قصوى واستثنائية بقدر ما هي حميمة لصيقة بوجدانها، هي اغتصاب فلسطين واجتثاث شعبها، وهي لذلك لا تقر بـ«اعتدال» ترى الحكّام مقبلين عليه، فلا تحسبه غير «تفريط» و«تخاذل» و«تقاعس» أو محض «خيانة» إن اشتطّت في التوصيف، وهي كثيرا ما تفعل. خصوصا أن مسلك الاعتدال ذاك لم يرتب عدالة وإن جزئية، إن سلمنا بإمكان تجزيء العدالة أصلا.
بعض مردّ ذلك إلى قصور لدى الحاكمين ليست «الخيانة» في عداده حُكما، مُكابدةً لإكراهات، يمليها ميزان القوة واعتبارات أخرى، لا تترك من مناص غير تلك السياسات أو هكذا يُعتقد، لكن الحاكمين يُخفقون في نقلها، بمفردات واضحة وكاستراتيجيات متكاملة منسجمة إلى جموعهم، فيبدون كمن يتستر على أمر مريب، أو كمن يستجيب دواعي غير مفهومة أو صادرة عن إرادات خارجية.
يبقى مع ذلك أن ذلك «التطرف» العربي، مع أن المجال لا يتسع هنا للخوض فيه بإسهاب، ومع أن إيديولوجيات بعينها تنفخ فيه وتسعّر أواره، طارئ وعرضي وغير تكويني، على خلاف ما يقول رأي شائع، يبلغ في بعض الأوساط مبلغ اليقين. فهو تطرّف ناجم عن موجب هو، في المقام الأول، المظلمة الفلسطينية وتماديها الذي لا يبشر ببلوغها حدّا معلوما والتوقف عنده. إذ إن ما قد يكون من عوامل استفحال ذلك «التطرف» ومن بواعث تناميه أن المنحى التسووي، الذي آل إليه الجانب العربي وتوخاه، «إجماعا» لا يكاد يشذ عنه حتى الممانعون، على ما دلت وثيقة كتلك المتمثلة في «المبادرة العربية»، إنما استوى تسليما بتلك المظلمة الأصلية واستدخالا لها، فما عاد الجهد يُبذل إلا في سبيل الحد من إجحافها، بتمكين الفلسطينيين من كيان سياسي يقنع بما دون الوطن الأصلي بكثير، بل بما دون الدولة ربما، التي يُستبعد أن تكون ناجزة السيادة. التطرف العربي هو، من هنا تطرف رد فعل، لا ينبع، في صفته تلك من ذاته.
وتلك بداهةً ليست حال نظيره ومقابله، أي ذلك الإسرائيلي. فالتطرف هنا ليس أحد احتمالين، كما في أي حالة أخرى «عادية»، أي لا تبلغ من الاصطناع شأو تلك الإسرائيلية، بل هو احتمال أوحد، أو هو طبيعة وصفة تأسيسية. وهو لذلك ليس بالملمح الإيديولوجي المحض، بل يحوز تلك الصفة من حيث تفعيله ومن حيث طريقة انبعاثه للوجود. وهكذا، إذا كان بوسع الاشتراكية أو القومية أو أي اتجاه أو «فلسفة» أخرى يؤخذ بها، أن تكون متطرفة أو ألا تكون، حسب ما قد تمليه ملابسات بعينها، تاريخية أو سوسولوجية أو سواها، فإن الصهيونية لا يمكنها إلا أن تكون متطرفة، طبيعةً لا خلاص لها ولا فكاك.
سبب ذلك أن الإيديولوجيا تلك لا يمكنها أن تتفعّل في التاريخ، أن تتجسد واقعة ملموسة إلا بواسطة فعل متطرف، قاطع مع ما سبقه، متنكر للواقع الذاتي والمحيط، وما اغتصاب فلسطين إلا تطرف أقصى من ذلك القبيل، عملية اجتثاث، وانتحال لـ«حق» ليست له من أسس ومن مقدمات عينيّة، وليس من سبيل لـ«إحقاقه» إلا بمثل تلك الوسائل. مؤدى ذلك أنه إذا كان التطرف في حالات أخرى إجرائي أو وظيفي، فهو هنا، في هذه الحالة الإسرائيلية، تكويني وجودي وشرط شارط.
لا يمكن لإيديولوجيا كتلك أن تتسع للحلول الوسطى، طبيعتها ذاتها تحول دون ذلك وليس ما قد يحفل أو لا يحفل به الواقع من شروط التوصل إلى ذلك الضرب من الحلول. لذلك فإن الدولة العبرية تجد صعوبة أو امتناعا قد يبلغان مبلغ العجز عندما يتعلق الأمر بالتسوية، على ما دل ما يزيد على العقدين من التفاوض المضني وغير المجدي، كما تُقبل على الحروب، في أقصى مظاهرها فتكا، أي إبادة، بيسر بالغ، وما ذلك إلا لأن الخيار الأول، يناقض تلك الإيديولوجيا على نحو جوهري، يخاطبها بما ليس فيها ويلتمس منها ما لا قبل لها بمنحه، في حين أن الثاني منسجم مع سماتها الأساسية والتكوينية تمام الانسجام.
ولعل ذلك ما يفسر ظاهرة كتلك التي تشهدها الحملة الانتخابية الإسرائيلية هذه الأيام، حيث يبدو ليكود بنيامين نتانياهو، وهو اليميني المغالي، الأوفر حظوة بالفوز، فلا يكاد ينافسه أو يحرجه إلا من هم على يمينه، شأن حزب «إسرائيل بيتنا»، في حين يتراجع كل من حزبي «كاديما» و«العمل»، بالرغم مما اقترفاه في قطاع غزة، كأنما هناك تطلب لتطرف وللإمعان فيه يلوح الحزبان قاصرين عن تلبيته....
وتلك من خاصيات «الديموقراطية» الإسرائيلية قياسا إلى سواها، فإذا كان الإجماع، وبالتالي الفوز غالبا ما ينعقد في هذه الأخيرة على الوسط، أي على الاعتدال، فإنهما لا يتحققان في إسرائيل إلا على الغلو والتطرف، فيرتقيان في ذلك الكيان إلى منزلة الهوية.
وذلك هو التحدي العضال الذي يواجه الفلسطينيين والعرب في تعاطيهم مع الدولة العبرية، «مقاومين» كانوا أم «تسوويين».

حسن البطل: حانا ومانا فلسطينية جدية.. نوعاً ما!





يتعب جسد فينوس ويليامز، على ملعب التنسي الأرضي، بما يفوق تعب العقل السياسي الفلسطيني على ملعب الوفاق الوطني. إرسال وكسر إرسال طابة التنس.. وفي النتيجة نالت ويليامز كؤوس ودروع أربعين بطولة رياضية.. مفتوحة أو مغلقة.كيف نلعب نحن، الآن ومن قبل، على ملعب الوحدة الوطنية؟ من قبل حقبة السلطة (وربما حتى الآن إلى حد ما) داخت الطابة بين إرسال فلسطيني إلى ملعب النظام العربي كرة "التفريط"، وكسر إرسال عربي إلى الملعب الفلسطيني بكرة "التوريط".من بعد حقبة السلطة تطايرت كرات الإرسال وكسر الإرسال خارج الملعب (أو عَلقت على الشبكة) في لعبة أشبه بمأثور القول: "بين حانا ومانا ضاعت لحانا"، أو بين إرسال "سياسة المقاومة" وكسر إرسال "المقاومة السياسية".. وربما بالعكس.اللاعبان الفصائليان الرئيسيان (وتالياً، اللاعبون الصغار الذي يجمعون الكرات المتطايرة) يعرفان/ يعرفون أن مباراة "التفريط" و"التوريط" صارت قديمة القواعد. لماذا؟ لأن الجيوش المجيّشة لن تحارب (صدّقوا ما قاله السادات بعد حرب أكتوبر 1973: هذه آخر الحروب النظامية العربية ــ الإسرائيلية) ومن يومها صارت الفصائل الفلسطينية واللبنانية هي المحاربة، لأنه لا طاقة للجيوش على ردم الهوة الاستراتيجية النوعية ــ الكمية، ولأن كلفة إعادة التسليح باهظة جداً، ولأن مصدر التسليح الروسي يطلب الدفع المالي نقداً (مع شروط سياسية خفيفة)، ومصدر التسليح الغربي يطلب الدفع السياسي نقداً (مع شروط مالية خفيفة).. وأخيراً، وصلنا معادلة ستاتيكية غريبة: الجيش أثمن ما يملك النظام العربي؛ والجيش أثمن ما تملك إسرائيل (نظام عربي وله رئيس؛ وجيش إسرائيلي وله دولة). الغريب، أن بعض الأنظمة الخائفة من "التوريط" صارت لا تستحي من رمي بعض الفصائل "بالتفريط" وهي التي خاضت معارك وحروباً لم تنقطع منذ "آخر الحروب". النظامية الأكتوبرية. لماذا، أيضاً؟ الرئيس الأسد الكبير قالها صراحة: "القرار المستقل بدعة"، وهو يقصد الفلسطينيين بالذات، أي بعض فصائلهم بالذات، أي حركة "فتح" بالخصوص ومنظمة التحرير بالعموم.الصحافيون من جيلي لم تكن، قبل حقبة السلطة، تشغلهم حقوق الإنسان الفلسطيني تحت المظلة المنظماتية ــ الفصائلية، أو كانت تشاغلهم قليلاً. كانوا مشغولين بحق المقاومة وحق الشعب في وطن. لكن كرات الإرسال وكسر الإرسال صارت تتطاير على ملعبنا بين الأمن الوطني والأمن السياسي؛ الأمن الإداري (الكفاءة الإدارية) والأمن المالي (الفساد الإداري).. حتى وسيطرة السلطة على أرضها تشبه سيطرة الطفل على أول خطواته فوق سجادة البيت السميكة.ها نحن نذهب إلى ملعب الوحدة الوطنية كأننا نظامان، جيشان، فريقان متخاصمان حول: وقف الحملات الإعلامية. وقف اضطهاد منظمات المجتمع المدني. وقف القتل والاقتتال الداخلي. وقف الاعتقال السياسي (لأسباب نضالية) والنضالي (لأسباب سياسية).. وجميع ما سبق تحت غابة من أشواك الشروط والشروط المضادة، مع رفع خرقة خضراء مكتوب عليها: "دون شروط مسبقة".على أية ملاعب تفوز لاعبة التنس الأميركية السوداء فينوس ويليامز؟ العشبية الطبيعية، العشبية الصناعية، الرملية، الاسمنتية...؟ لكن في لعبة الحوار بكرة: سياسة المقاومة (مع/ضد) المقاومة السياسية، لا تبدو المسألة مثل علاقة الخشب بالكهرباء، بل مثل بل علاقة الزئبق بالحرارة.جيلي خرّيج فصائلي إعلامي، ويعرف أن الكادر المناضل ــ القاعدي هو صحافي مع قلم، أو مقاتل مع بارودة، مشارك في "الطوشة" ومشارك في "الصلحة" (المؤتمرات الوطنية التوحيدية ذات البرامج السياسية التي تمزج سياسة المقاومة، بالمقاومة السياسية).الخط رمادي (لا أحمر ولا أخضر) بين حق المواطن كإنسان، وحق الإنسان كمناضل من أجل الوطن.. ويقولون لك: "غزة أرض العزّة"، حتى ولقمة الخبز مجبولة بعرق خجلنا من التسوّل ودمنا المسفوح. لماذا لا؟ ألم نُعلِّم "الإخوان" أن الكرامة هي أن لا يرضخ الرضيع ولا يركع؟!.. يلّلا، إلى حوار "حانا ومانا" في القاهرة، إذا لم تفركشه دمشق الخائفة من شبح الحريري وخيال المحكمة الدولية.. ومرايا المبعوثين الأميركان إلى عاصمة الأمويين، لأن أرض العباسيين صارت ملعباً إيرانياً ــ أميركياً.. إلخ؟! سوى أن كرة الإرسال مشروع قنبلة نووية! مئذنة وصاروخ، عمامة وقنبلة.. ومايكروفون محمود أحمدي نجاد!يمكننا حمل أبو علي مقبل على الأكتاف.. وأما وليد المعلم؟!
الايام

استير دايسون: الشفافية دوت كوم


عدت للتو إلى ستار سيتي (مركز التدريب الخاص برحلات الفضاء في روسيا) بعد عطلة نهاية أسبوع طويلة في موسكو، ولقد أذهلني كيف أن حجم التغيير الذي شهدته المدينة منذ أتيت إلى هنا قبل عشرين عاماً في ربيع عام 1989 كان كبيراً للغاية، وضئيلاً للغاية في الوقت نفسه.
تذكرت حين مررت بإعلان في مترو موسكو يروِّج لمساحات إعلانية للبيع، كيف أنني كنت ذات يوم من أيام منتصف التسعينيات أندفع نازلة على واحد من هذه السلالم المتحركة الطويلة السريعة وبصحبتي رجل من رواد الإعلان المخضرمين. وأذكر أنه قال لي متعجباً: «انظري إلى كل هذه الجدران العارية! ذات يوم قد تصبح مغطاة بالإعلانات». واليوم صدقت تكهناته، وباتت الجدران نفسها مكتظة بالإعلانات، فتحققت بذلك أشد أحلامه جموحاً. قبل بضعة أعوام كنت لأشعر بالإثارة الشديدة حين أرى إعلاناً عن موقع على شبكة الإنترنت بين أيٍ من تلك الإعلانات. والآن أصبحت عناوين المواقع روتيناً معتاداً.
في الواقع، منذ بضعة أعوام، قامت شركة محرك البحث الروسي «ياندكس» (وأنا من بين أعضاء مجلس إدارتها) بإخراج إعلان يسخر برفق من نظام التعتيم القديم في روسيا. عند أسفل كل سلم متحرك في مترو موسكو هناك كشك زجاجي لمراقب السلم- يتولى المراقبة عادة امرأة شَكِسة المظهر تتلخص وظيفتها في إيقاف تشغيل السلم المتحرك في حالة الطوارئ. وهناك لافتة على الكشك تقول: «مراقب السلالم لا يجيب عن الأسئلة»، وإذا أعطينا هذه الجملة صياغة أخرى على الطراز السوفييتي القديم فنستطيع أن نقول «المراقب لا يقدم استشارات».
اشترت شركة «ياندكس» مساحات إعلانية في نصف عربات مترو الأنفاق تقريباً، ويقول إعلانها: «المشغل لا يقدم استشارات... لذا برجاء توجيه أسئلتك إلى «ياندكس». ولقد فهم الجميع ذلك التلميح على الفور. الآن ذهب إعلان «ياندكس»، ولكن من المؤسف أن تلك اللافتات مازالت في مكانها- ليس في المترو فقط، بل وأيضاً في العديد من الأماكن حيث لا يرغب موظفو الخدمة العامة في التحدث إلى الجماهير- في أقسام الشرطة، ومكاتب بيع التذاكر، والمباني العامة بأنواعها المختلفة.
كانت المعلومات في روسيا نادرة إلى درجة أن بعض المواقع على شبكة الإنترنت مثل tutu.ru (مواعيد القطارات والطائرات) وموقع banki.ru (معلومات عن البنوك للمستهلكين) تبدو وكأنها معجزة. ولكن في حين أن الحكومات قد تكون غير مستجيبة، فإن الشركات التجارية في كل مكان ترحب بتعليقات المستهلكين والمستخدمين.
وفي أماكن أخرى من العالم أصبحت الميول والاتجاهات نفسها أكثر تطوراً بالفعل. ذلك أن التشريعات وقوى المنافسة وطلب المستهلكين تدفع الشركات إلى الإفصاح عن المزيد عن منتجاتها والرد على استفسارات المستهلكين. قبل عشرة أعوام كنت لتعتبر نفسك محظوظاً إذا عثرت على رقم هاتف وعنوان الشركة المنتجة لأنبوب معجون أسنان على سبيل المثال. والآن يمكنك عادة العثور على موقع على شبكة الإنترنت يسمح لك بالحصول على المزيد من المعلومات وتوجيه الأسئلة بشأن كل المنتجات تقريباً.
بيد أن هذه المعلومات والردود على التساؤلات ستأتيك من وجهة نظر الصانع. وهناك مواقع وخدمات أكثر إثارة للاهتمام، مثل Twitter و Viewpoints(أعمل كمستشارة لهما) والعديد غيرها من المدونات وخدمات التصنيف والتسعير التي تقدم آراء مستقلة.
وهناك أيضاً «ويكيبيديا- البار كود» (http://www.sicamp.org/?page_id=21)، وهو المشروع الرائع الذي مازال ينتظر موعد انطلاقه. وتتلخص فكرة الموقع في تمكين المستخدم من مسح «البار كود» لأي منتج، والحصول على المعلومات من طرف ثالث- أين تم تصنيع المنتج، والعناصر الداخلة في تصنيعه (المكونات والمركبات ومعلومات عن العمالة) وحجم ثاني أكسيد الكربون الذي ينتجه، إلى آخر ذلك. لا شك أن هذه المعلومات لن تسلم من الخلاف بشأن مدى صحتها، تماماً كالجدال الدائر بشأن مدى دقة «ويكيبيديا». ولكن وجود موقع مركزي لمناقشة الحقائق، ويمكن ربطه بأي منتج بسهولة، يشكل خطوة هائلة نحو الأمام على طريق الشفافية العملية.
وفي الوقت نفسه، يستخدم المستهلكون نفس النوع من الفضول في التعامل مع حكوماتهم. فعلى سبيل المثال، إذا كنا نعرف كيف يتم تصنيع السجق، أفلا ينبغي لنا أيضاً أن يكون بوسعنا أن نتعرف على كيفية تصنيع القوانين وفرضها، وكيف يمضي المسؤولون الحكوميون، الذين ندفع لهم رواتبهم، وقتهم؟
الواقع أن هذا أيضاً بدأ يتحقق. فأنا من بين أعضاء مجلس إدارة Sunlight Foundation، وهي مؤسسة لا تسعى إلى الربح وتكرس جهودها لمراقبة الشفافية الحكومية في الولايات المتحدة. وكانت مبادرتنا الأولى تتلخص في حمل أعضاء كونغرس الولايات المتحدة على نشر جداول أعمالهم على شبكة الإنترنت. وإذا ما أراد أحد المشرعين أن يعلن عن ساعة معينة باعتبارها وقت خاص فلا بأس، فمن حق الناس أن يتمتعوا بالخصوصية. ولكن إن كانت تلك الساعة في واقع الأمر ساعة غداء مع أحد المنتمين إلى جماعة ضغط، فهذا يعني أن ذلك النائب (ومساعديه) سيضطرون إلى الكذب عمداً لإخفاء هذه الحقيقة.
بطبيعة الحال، لا توجد وسيلة لفرض الإفصاح الكامل، ولكن من خلال خلق عملية واضحة وتوقعات ظاهرة، فإننا نأمل في إعادة ضبط القواعد. فإذا ما التقى أحد المسؤولين مع أحد المنتمين إلى جماعة ضغط، ولا يشعر بالخجل من الكشف عن ذلك، فبوسعنا ببساطة أن نعلن عن ذلك. ويستطيع الناخبون أن يحكموا بأنفسهم في النهاية. وإن كان أحد المسؤولين لا يلتقي إلا بالمنتمين إلى جماعات الضغط في أغلب الأحيان، وعلى حساب اجتماعات ولقاءات من نوع آخر، فبوسع الناخبين أن يحكموا على ذلك أيضاً.
إن Sunlight Foundation لا تعمل وحدها، فهي تمول وتتعاون مع مجموعة متنوعة من المشاريع الناشئة المخصصة لجمع ومعالجة وتصور البيانات من أشكال السجلات العامة كافة وغير ذلك من المصادر. ويستطيع أي شخص في أي دولة أن يستخدم أدوات هذه الشركات- مادام بوسعها أن تحصل على المعلومات. وبقليل من الحظ ستعمل هذه الأدوات على تعزيز الطلب العام على المعلومات والبيانات.
نحن نريد من الناس أن يتوقعوا إمكانية الاطلاع على مثل هذه المعلومات، تماماً كما يتوقعون الآن الحصول على المعلومات عن أحد المنتجات الغذائية أو أي صنف من أصناف الملابس.
لو كان الناس العاديون حريصين على توجيه المزيد من الأسئلة وفهم الإجابات التي تقدم لهم عن تساؤلاتهم، فلربما كان بوسعنا أن نجنب أنفسنا الوقوع في الأزمة المالية التي تجتاح العالم الآن. ولو فهم الناس ما يدور من حولهم حقاً، فلربما كان بوسعهم أن يدركوا ضرورة التوقف عن اقتراض الأموال التي لا يستطيعون ردها وشراء الأشياء التي لا يمكنهم تحمل تكلفتها.
ولكن هذه الأزمة قد تؤدي إلى نتيجة واحدة طيبة: ألا وهي أن الناس سيصبحون أقل إصغاءً للسلطات وأكثر اهتماماً باستكشاف ما يدور من حولهم بأنفسهم.

* رئيسة شركة EDventure القابضة، ومستثمرة نشطة في مجموعة متنوعة من المشاريع الناشئة في أنحاء العالم المختلفة.
«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

ميشال روكار: القطب الشمالي في خطر



منذ بدأ الإنسان في رسم الخرائط للعالم، كنا نفتتن بالقطبين الشمالي والجنوبي، سواء على المستوى الشاعري أو المستوى العلمي. ولكن باستثناء قِلة من صائدي الحيتان والمستكشفين فإن أحداً منا لا يرغب في إلقاء نظرة عن كثب على القطبين. إن السكينة الهادئة التي يتسم بها القطبان الشمالي والجنوبي كانت بمنزلة النظير المثالي لعدم المبالاة التي يتسم بها البشر. ولكن ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي كانت سبباً في تغيير كل شيء.
لا شك أن عدم المبالاة لم تكن سمة عالمية. ففي نوبة نادرة من الذكاء السياسي الجماعي، ومن أجل منع أي احتمال لاندلاع صراع دولي، تم التوقيع على معاهدة دولية في عالم 1959 لتحديد وضع القارة القطبية الجنوبية. ولقد خصصت هذه المعاهدة القارة القطبية الجنوبية لأغراض سلمية بحتة. كما اعترفت المعاهدة بالمطالبات الإقليمية القائمة، ثم أعلنتها «مجمدة» وحرمت أشكال التأكيد المادي كافة للسيادة على أرض القارة القطبية الجنوبية.
كانت هذه المعاهدة دبلوماسية بحتة في طبيعتها ومضمونها. ولم تنشأ القضايا البيئية الأولى إلا بعد التصديق على هذه المعاهدة. ولقد أضيفت هذه القضايا إلى اتفاقية منقحة في عام 1972، بموجب معاهدة لحماية حيوان الفقمة، ثم تلتها اتفاقية أخرى في عام 1980 بموجب معاهدة لحماية الحياة البرية. وفي المقام الأول من الأهمية، ففي عام 1991 تم التوقيع في مدريد على بروتوكول يقضى بحماية البيئة في القطب الجنوبي.
وبصفتي رئيساً لوزراء فرنسا، إلى جانب روبرت هوك رئيس وزراء أستراليا آنذاك، كنت مسؤولاً عن اقتراح «بروتوكول مدريد»، الذي حوَّل القطب الجنوبي إلى محمية طبيعية مخصصة للسلام والعلم لمدة خمسين عاماً قابلة للتجديد بموجب اتفاق ضمني. لم يكن النجاح في هذه المهمة بالأمر اليسير، حيث كان علينا أولاً أن نرفض معاهدة خاصة باستكشاف الموارد المعدنية، وهي المعاهدة التي نوقشت ووقعت بالفعل في ويلنغتون في عام 1988، وهو الأمر الذي حمل في طياته مخاطرة عظيمة تمثلت في إعادة افتتاح مفاوضات غير مؤكدة النتائج على الإطلاق. والحقيقة أننا كنا نتحايل، ولكن محاولاتنا نجحت في النهاية.
إن بيئة منطقة القطب الجنوبي تحظى الآن بحماية فعّالة من جانب المجتمع الدولي، والذي يعتبر المالك الفعلي لهذه القارة، دون أي شكل من أشكال التفرقة الوطنية. وهي حالة منفردة في العالم. والحقيقة أن المحامين الدوليين الذين يسعون إلى تحديد الوضع القانوني للفضاء الخارجي من سيمتلك القمر؟ ومن سيمتلك الموارد التي قد تُـستخرج منه ذات يوم؟- كثيراً ما ينظرون إلى «نظام معاهدة القطب الجنوبي» باعتبارها سابقة صالحة للقياس.
ولكن القارة القطبية الجنوبية تتمتع بميزة عظيمة، مقارنة بوضع القطب الشمالي، الذي أصبح في خطر الآن: فالقارة القطبية الجنوبية تقطنها البطاريق فقط وليس الناخبين، خصوصا الناخبين من جنسيات مختلفة.
إن القارة القطبية، رغم أنها عبارة عن أرخبيل قاري ضخم، تبلغ مساحتها 24 مليون كيلومتر مربع، وتغطيها طبقة جليدية يبلغ سمكها 4-5 كيلومترات، وهي بعيدة عن أي قارة مسكونة. أما منطقة القطب الشمالي فهي عبارة عن مياه فقط، حيث يقع القطب الشمالي ذاته تحت السطح بمسافة 4200 متر. ولكن هناك خمس دول تقع بالقرب منه: النرويج، وروسيا، والولايات المتحدة، وكندا، والدنمارك (عن طريق غرينلاند، التي ستحصل على استقلالها في العام القادم).
أثناء القسم الأعظم من التاريخ البشري، كاد الجليد يمنع أنواع الملاحة كافة في البحار المحيطة بالقطب الشمالي، وكان القطب قابعاً في صمت وعدم مبالاة. بيد أن كل شيء تغير على نحو جذري أثناء السنوات الثلاث الأخيرة. لقد أكدت الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ أن الاحتباس الحراري العالمي لا يحدث على نحو متماثل: ففي حين ارتفعت درجات الحرارة بمقدار 0.6 درجة مئوية في المتوسط أثناء القرن العشرين، إلا أن الزيادة في القطب الشمالي كانت درجتين مئويتين.
تشير بعض التقديرات إلى أن ما يقرب من 20% من إجمالي الاحتياطي العالمي من النفط يقع تحت القطب الشمالي. وفي عام 2008، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، انفتح عبر حقل الجليد القطبي قناتان صالحتان للملاحة- في الشرق بمحاذاة سيبريا، وفي الغرب بمحاذاة الجزر الكندية- لمدة بضعة أشهر، الأمر الذي سمح للقوارب بالإبحار من أوروبا إلى اليابان أو كاليفورنيا عن طريق مضيق بيرينغ، بدلاً من المرور عبر قناة بنما أو القرن الإفريقي، الأمر الذي وفر بالتالي حوالي 4000 إلى 5000 كيلومتر.
ونظراً للاحتباس الحراري العالمي وارتفاع درجات حرارة الأرض، فقد يتحول هذا الأمر إلى حدث متكرر الآن: حيث من المتوقع أن تمر آلاف السفن عبر ممرات القطب الشمالي، وتفرغ خزانات وقودها هناك فتخلف بقعاً من النفط وغير ذلك من أشكال التلوث المختلفة. وهذا يشكل تهديداً حقيقياً للتجمعات السكانية من الإسكيمو والإنويت، فضلاً عن الدببة القطبية.
فضلاً عن ذلك، وبموجب المعاهدة الخاصة بقانون البحار، فإن البلدان تتمتع بالسيادة المطلقة على أقرب 12 ميلاً بحرياً (حوالي عشرين كيلومتراً) من المياه الساحلية الملاصقة لها، وسيادة شبه مطلقة، لا يحدها سوى بضع معاهدات، على مئتي ميل بحري (360 كيلومتر) بداية من سواحلها. وأي دولة تستطيع أن تثبت أن قاع البحر في أي منطقة واقعة إلى ما هو أبعد من مئتي ميل بحري من ساحلها يشكل امتداداً للجرف القاري الواقع تحت سيادتها فبوسعها أن تطالب بالسيادة على تلك المنطقة أيضاً.
إن روسيا، التي استخدمت غواصة قبل ثلاثة أعوام لزرع نسخة بلاتينية من علمها الوطني في القطب الشمالي، تطالب بالسيادة على ما يزيد على 37% من سطح المحيط القطبي الشمالي. والمناطق التي تطالب روسيا بالسيادة عليها تتضمن القطب الشمالي علاوة على حقل نفط ضخم. وإذا تم استغلال ذلك الحقل فإن مخاطر التلوث ستكون أعلى كثيراً من أي مكان آخر على ظهر الأرض. ولكن نظراً لسياسة إعادة التسليح التي تتبناها روسيا، فهل من المعقول أن تكون روسيا تخطط الآن لإقامة مواقع لإطلاق الصواريخ من تحت الماء؟
إنه لأمر في غاية الإلحاح أن يتفاوض العالم من أجل التوصل إلى معاهدة تضمن السلام وحماية البيئة في القطب الشمالي. ومن المرجح أن يكون تحقيق هذه الغاية أمراً بالغ الصعوبة، ولكن يتعين علينا أن ننظر إلى الجهود المبذولة في هذا السياق باعتبارها قضية عظيمة للبشرية جمعاء.

* رئيس وزراء فرنسا وزعيم الحزب الاشتراكي سابقاً،
وهو عضو في البرلمان الأوروبي.
«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

دلال البزري: قراءة في القراءة العربية لانتخابات الدولة العبرية

معظم القراءة العربية للانتخابات الاسرائيلية الاخيرة أصابت في تسجيل المواقف والنقاط. ولكنها لم تصبْ شيئا في معرفتنا باسرائيل. ناهيك عن محاولة تحليلها، مجرد المحاولة. بل ردّدت ما تباهى به جيل بأكمله من جهل باسرائيل وتجاهل لوجودها على الخريطة. فاستنكر بعضها «مبالغة الفضائيات في تغطية الانتخابات الاسرائيلية (...) لأنها تتجاوز حاجة المواطن العربي الى المعرفة»؛ واستشهد بأحد كبار «المفكرين الممانعين» الذي قال يوماً «لا يجوز التلهّي بقصص اسرائيل الداخلية، وخصوصا ان لا فروق كبيرة بين المتنافسين على الحكم في الفاشية الاسرائيلية».وهذا رأي يقول بفجاجة ما تروّجه هذه القراءة من أن اسرائيل بدت في هذه الانتخابت هي هي نفسها، اسرائيل اليمينية، المتطرفة، العنصرية؛ وبأن لا فرق بين يمين ويمين، وبين يسار ويمين. وبأن التصويت الكثيف لليمين «يفضح طبيعة الشعب الاسرائيلي العدوانية اليمينية المتطرفة الرافضة للسلام». ومن السخف بالتالي مناقشة اسباب «تطرف» الاسرائيليين، أو حتى مقابلته بتطرّفنا الصريح. فالعدوانية الاسرائيلية صفة جوهرانية، ذات ماهية خالدة. هم منذ الأزل عدوانيون. ولم يكوانوا يوما ضحايا (النضال من اجل إنكار المحرقة). من المهد الى اللحد: «خيبر خيبر يا يهود...» الى آخر المعزوفة المعروفة. فيتوقف بذلك السؤال ويتأكد الشعار الابدي: «اسرائيل شر مطلق». فتنتصر «حماس»: «فوز اليمين الصهيوني اثبت صحة الشعارات التي رفعتها «حماس» من ان اسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة». الذين افتعلوا الاستهجان والاستنكار من بربرية المجتمع الاسرائيلي بانتخابه يمينا متطرفا، هم انفسهم الذين ثبتت صحة نظريتهم. فغلبوا خصومهم «المعتدلين» الراغبين بالسلام على استحياء. يتأسفون من ذلك تأسف الثعالب: «»معسكر الاعتدال العربي مع الأسف انتهى»، يعلن قائد لبناني «ممانع» ردا على محاولات رسمية للحد من فساده!قارِن هذه القراءة لصعود اليمين بقراءة تقرير فينوغراد. وقد «أثبتَ» هذا الاخير وأظهر نظرية «الانتصار الالهي» على اسرائيل في تموز (يوليو) 2006 وكأنها لم تقرأه.هذه قراءة ضد القراءة... وضد السؤال. وهي تكيل بمكيالين تحليليّين: فمن جهة، هذه القراءة معروفة في مجال مشابه بدفاعها عن التطرف الديني «المقاوم»، وبتعدادها المثابر للأسباب التي جعلت المجتمع يستجيب له، ومطالبتها التي لا تقلّ مثابرة بالعمل بموجب هذه الاسباب. ولكن هذه القراءة، من جهة اخرى، تتمنّع عن الخوض في صعود التطرف الاسرائيلي الذي هو نظيره؛ مسنودة بذلك الى مفهومها الجوهراني للشر الاسرائيلي.مقارنة سريعة بين ليبرمن المرشح المتطرف الصاعد، وبين قادة مقاوماتنا. «القائد المنتظر» ليس متدينا، ولكنه يرى ان «الموضوع الفلسطيني هو حلقة صغيرة وبسيطة من الصراع الحقيقي الدائر هنا. انه صراع بين اقوام واديان (...) بين الغرب وبين الاسلام (...) حيث توجد ديانتان يجب البحث عن الفصل بينهما». فيما نحن نحتفي بالقادة اصحاب مشاريع إزالة اسرائيل باسم الامة الاسلامية، والذين لن يهنأوا قبل ان تصبح كل فلسطين دولة اسلامية. دولة يهودية صرفة سوف تكون طبعا الرد الغرائزي والأقوى على دولة اسلامية قائمة على انقاض اسرائيل.اكثر من ذلك: على ماذا لعب ليبرمان؟ ليس على الخطر الفلسطيني المباشر فحسب، والذي يأتي في المرتبة الخلفية من الخطورة بالرغم من تصدّره الحدث. بل على الخطر الايراني. فهو يرى اسرائيل «الجبهة المتقدمة للغرب ضد ايران التي تشكل خطرا على الجميع. بالنسبة لاسرائيل فهي الخطر الاكبر». فالدولة الايرانية، التي يلوّح رئيسها في كل مناسبة بازالة اسرائيل؛ والذي يدعم منظمات «حزب الله» و»حماس» وغيرها الداعية ايضا الى نفس الازالة، هي المادة الأدسم لطموح استطاع اللعب على الخوف من الصواريخ ومن الازالة... هل من عجب في ذلك، وقد اصبح اللعب على غريزة الخوف قاعدة من قواعد قادة «المقاومة» وسياسييها والمتكلمين في فضائياتها؟مرت ايام على منطقتنا كانت فيها اسرائيل أقل تطرفا. من يتذكر الاجتياح الاسرائيلي للبنان؟ يومها، الذي قاد حركة الاحتجاج ضد هذا الاجتياح لم يكن «الشارع» العربي؛ بل «الشارع» الاسرائيلي، وبقيادة حركة «السلام الآن» الصاعدة آنذاك، وبربع مليون اسرائيلي لبوا نداءها للتظاهر ضد هذا العدوان؟ ومن يتذكر كتاب الصحافي الاسرائيلي امنون كابليوك الذي كشف للقضاء الاسرائيلي عن المسؤوليات المحددة لمجازر صبرا وشاتيلا، وفي فلسطين نفسها، في اواسط الثمانينات؟. كيف كان الفلسطينيون يتنقلون ويتعلمون ويعبرون بل يناضلون... بحرية. وكيف كان الشيخ احمد ياسين يتنقل بين غزة وكفر قاسم، واسرائيل مستعدة للانسحاب من غزة ومن 97 في المئة من الضفة الغربية، وكان الاستيطان اقل. ولم يكن ثمة سور ولا حصار ولا تجويع ولا إبادة ولا كراهية بهذا القدر، على ما ذكر الكاتب الأردني ابراهيم غرايبة، مع اننا بازاء نفس الدولة ونفس المجتمع.قليل من النسبية ايها السادة. قليل من المقارنة والدقة. خاصة عند التكلم عن «أزمة اسرائيل الوجودية»، او عن السياسيين الاسرائيليين الذئاب، عن تغولهم، وعن اعلامهم المعبأ والمجنّد والمتلاعَب به. فمن كان بيته من زجاج...لكن الاهم من كل هذا هو إنعدام الندّية بين عقولنا والعقول الاسرائيلية. دائما لاهثين وراءها... منتظرين لردود افعالها. رغم «المقاومة» و»العزة» و»الانتصار». ولا مرة أتتْ على بالنا فكرة المبادرة. فكرة إختراق هذه الدائرة المغلقة من العنف والعنف المضاد. فكرة اختراق هذه السياسة بفعل يأتي من صميم حاجاتنا وقدراتنا ودقيق معرفتنا باسرائيل دولة ومجتمعاً. لماذا؟ لأننا مستمتعون بكوننا ضحايا. معتادون على نعيم الضحوية الذي يعفي من السؤال والنقد والمراجعة، ومن القراءة، خصوصا ان هذه الضحوية تقترن بالانتصارية الالهية وبتدني مفجع لنسبة القراءة نفسها.
الحياة

غسان شربل: مقدمات العاصفة


ينتظر أهل الشرق الاوسط باراك اوباما. الخائفون على آمال السلام من إطلالة بنيامين نتانياهو يأملون ان ينجح البيت الابيض في كبح سياساته المسمومة. القلقون من البرنامج النووي الايراني والتمدد الايراني في الاقليم لا يجدون غير الرهان على اوباما. والرئيس الاميركي ليس ساحرا. وضعه اصعب مما كان يعتقد. ووضع بلاده اصعب مما توقع. والأزمة المالية اعمق مما قيل. وإرث جورج بوش اكثر هولاً مما تحدثت الصحف.
للخروج من الوضع الراهن يحتاج سيد البيت الابيض الى صفقة كبرى. الى مجموعة صفقات مهمة مع اطراف مهمة. يسعفه في السعي الى الصفقة الشعور بأن الاقتصاد العالمي لن يخرج من أزمته ما لم يخرج الاقتصاد الاميركي من أزمته. وكانت هيلاري كلينتون شديدة الوضوح في مخاطبة القادة الصينيين: «نخرج معاً او نسقط معاً». وكان الرد الرغبة في الخروج معاً. وهكذا يتضح ان اميركا تحتاج الى سلسلة صفقات تشمل الصين وروسيا واوروبا والهند واليابان وغيرها. بعض هذه الصفقات لا يمكن ان يكون اقتصاديا فقط. لا بد ايضاً من التصدي لهواجس هذه الدول. معالجة الدرع الصاروخية مثلا تعتبر شرطاً لضمان تعاون روسي ثابت. وهكذا يتضح ان الصفقة الكبرى ليست سهلة وقد تستغرق وقتا غير يسير.
صبّ الناخبون الاسرائيليون الزيت على نار الشرق الاوسط. اختيار نتانياهو برفقة ليبرمان يجعل انتظار الشرق الاوسط اصعب وأشد خطورة. تصريحات زعيم الليكود بعيد تكليفه تضاعف القلق. قال ان اسرائيل تجتاز مرحلة مصيرية وعليها مواجهة تحديات هائلة. اكد ان «ايران تسعى الى امتلاك السلاح النووي وتشكل التهديد الأكبر لوجودنا منذ حرب الاستقلال. ان اذرع الارهاب الايرانية تحيط بنا من الشمال والجنوب» في اشارة الى «حزب الله» و «حماس».
يمكن ان نضيف الى كلام نتانياهو ما نشرته صحيفة «يديعوت احرونوت». قالت الصحيفة ان خطة العمل التي اعدتها هيئة الاركان الاسرائيلية للسنة الحالية تنطلق من اعتبار ايران «تهديدا لوجود اسرائيل». ونقلت عن رئيس الاركان غابي اشكنازي وصفه ايران بأنها الخطر الرقم واحد الذي يستعد الجيش الاسرائيلي لمواجهته».
اخطر ما في التصريحات الاسرائيلية محاولتها تكريس الانطباع بأن مشكلة الشرق الاوسط ليست غياب السلام واستمرار اسرائيل في احتلال اراض فلسطينية وعربية وانما هي تطلع ايران الى التحول الى دولة كبرى في الاقليم تحرسها مظلة نووية. وهذا يعني ان تضع اسرائيل حربها على لبنان وبعده على غزة في سياق الاصطدام بالأذرع الايرانية. ومثل هذه النظرة تنذر بتحويل لبنان وغزة الى ملاعب لحروب بالواسطة ومن يدري فقد تحاول اسرائيل قطع هذه الأذرع اذا تبين ان مهاجمة الاراضي الايرانية عمل يفوق طاقتها او لا قدرة لها على مواجهة تبعاته ما لم تكن اميركا شريكة في هذا الهجوم او تتولاه وحدها.
لا شك ان ايران تملك أوراقا للرد اذا تبين ان ادارة اوباما ستتخذ موقفا يساعد على تشديد العقوبات عليها. يمكن ان نشهد مثلا تصاعدا للعنف في العراق يعرقل برنامج الانسحاب الاميركي منه، وهو انسحاب تحتاجه ادارة اوباما لتعزيز قواتها في افغانستان. يمكن ان يمتد التصعيد الى جنوب لبنان او غزة. وهنا لا بد من الملاحظة ان الحوار الساخن بين واشنطن وطهران يدور على ارض عربية وان المواجهات الاسرائيلية - الايرانية ستدور على الملاعب نفسها.
عملية السلام مهددة بموت فعلي بسبب مواقف نتانياهو وحلفائه. التوتر الاسرائيلي - الأيراني يهدد بالتقدم على ما عداه. العلاقات العربية - الايرانية ليست في افضل احوالها. الادانات العربية الواسعة للتصريحات الايرانية بشأن البحرين أكدت عمق المخاوف والحساسيات. انها معركة احجام ومعركة ادوار ومعركة حجز اوراق.
اجماع الاحزاب الاسرائيلية على اعتبار ايران الحالية تهديدا لوجود الدولة العبرية ينذر بهبوب عاصفة في الاقليم وان تأخرت. والعاصفة تعني غزة ولبنان وربما سورية ومصالح العرب واستقرار دولهم وحدود دورهم ومصالحهم. العاصفة مكلفة وهي ستدور اصلاً على الملاعب العربية. والصفقة التي يمكن ان تمنع العاصفة قد تكون ايضاً على حساب العرب. والسؤال هو كيف ينتظر العرب العاصفة؟ وهل يمكن ترميم البيت العربي ليلعب العرب دوراً في منع العاصفة او حصر اضرارها؟ وهل يمكن توحيد الموقف العربي من العاصفة والصفقة معاً على رغم صعوبة الصفقة؟ البيت العربي مهدد فعلاً وقمة الدوحة تشكل امتحاناً كبيراً وخطيراً خصوصاً اذا تبين ان وضع اوباما وبلاده اصعب مما نعتقد.

الحياة

حسن البطل: شباطيات




قلها ببساطة: شباط ماطر، ودع غيرك يقولها: عاد الشتاء، شتاء مستكمل. في مثل هذه الأيام، من شباط العام الفائت، ربط المطر لسانه، ولكنه سيكون هذا العام "وداعاً هتوناً" بالاستعارة من غزارة دمع الفتاة الملتاعة بالعشق. ببساطة أبسط: لا رباط على لسان شباط الجوي.1- شباط القوميفي المرآة تبدو يمناك يسراك؛ ويسراك يمناك، أو أن "نسر صلاح الدين" صار شعار الخاتم الرسمي للسلطة الوطنية الفلسطينية. إنه يلتفت إلى يمينه، ولكنك تراه يلتفت إلى يسارك. إلى أية جهة يلتفت "النسر الأصلع" الأميركي؟ النسر الروسي يلتفت إلى يمناه ويسراه (أي إلى آسيا وأوروبا معا)، وأما "الطير الأخضر" الفلسطيني فهو في الرسم يمشي للأمام ويلتفت إلى الخلف.ما كنت أدري في 22 شباط 1958 أن نسر صلاح الدين النحاسي على قطعة نقود العشرة قروش السورية، أو الفضي على قطعة نقود ربع الليرة السورية، سوف يغادر عروة سترتي، بعد أن يحملني من بغداد إلى اليمن، ومن لبنان إلى تونس فالجزائر.. وأخيراً رام اللّه.موجز القصة: كنا ننشر قطعة القروش العشرة النحاسية، أو قطعة ربع الليرة فضية اللون، ونذهب بها مع دبوس إلى "البوابرجي" ومن ثم نَشْكُلها في ستراتنا، كناية عن معارضتنا لانقلاب 28 أيلول 1961 الذي فصم الوحدة السورية - المصرية.الناس تخلط بين الصقر والنسر وبينهما وبين الباشق والعُقاب.. ولكننا تعوّدنا التمييز بين "صقر أميّة" و"نسر صلاح الدين".يستحق يوم 22 شباط التفاتة شخصية من عمري، فقد انصرم منه نصف قرن (منذ 1958)، كنت في مطلعه فتى لاجئاً في سورية، يهتف للوحدة العربية، وصرت مواطناً كهلاً في بلادي يصلي للوحدة الوطنية الفلسطينية.2- شباط الفلسطينيفي الورقة المصرية المطروحة على فصائل تزيد عما في أصابع اليدين الاثنتين، أن هذا الحوار سيكون مثل عربة ذات خمس عجلات (عفواً: خمس لجان). لماذا ليس ست لجان أو أربع؟ ربما لأن فصائل هذا الشعب تحتاج إلى حكمة النسب القبائلية، التي تقول إن قرابة الدم لا تعود قرابة بعد حفيد الحفيد، أو الحفيد الخامس، أو ربما لأن قبضة الإنسان من خمس أصابع، وبها يمكنك التعلق بأستار الكعبة، على نحو ما فعلنا في "صلحة مكة" الناكثة أو المنكوثة.. وبها نتلاكم.. وبها نتصافح... سوى أن "الشقيقة الكبرى" المصرية تحمل في يدها تفويضاً عربياً وأوروبياً، وربما تفويضاً أميركياً أيضاً، لإقامة حكومة وفاق فلسطينية.3- شباط الإسرائيليعملها الإسرائيليون بأنفسهم (أي عملوها بنا) وجنحوا نحو اليمين، وكان الفلسطينيون قد سبقوهم قبل عامين ونيف وعملوها بأنفسهم (أي عملوها بالإسرائيليين.. والأوروبيين والأميركيين) وجنحوا نحو اليمين، أو قل نحو الأصولية، أو قل نحو يُمن وبركات الجهاد والمقاومة.ترى، أيهما أسبق: ربيع حكومة الوحدة الفصائلية الفلسطينية، أم ربيع حكومة الوحدة الحزبية الإسرائيلية؟ البعض يقول، بشيء من الخبث، إن الفلسطينيين يلزمهم "أوسلو فلسطينية" والإسرائيليين "أوسلو إسرائيلية"، وفقط بعد هذه وتلك يمكنهما الذهاب طبعة عربية - أوروبية - أميركية فريدة ومنقحة من أوسلو الفلسطينية - الإسرائيلية.سأقول لكم ماذا سيفعل السيد بيبي في طبعته الثانية. سيقول للسيدة ليفني وللسيد باراك ما يلي: هيا نتفق على ربط "معاليه أدوميم" بالقدس، واستكمال مشروع (E 1)، ومن ثم يمكن أن نقول لبروكسل وواشنطن: ها نحن جاهزون للبحث مع حكومة وحدة فلسطينية، بصفتها حكومة وحدة إسرائيلية على مفاوضات لتنفيذ أجندة أنابوليس، التي هي أجندة "خارطة الطريق" لماذا لا؟.كان بيبي قد فتح "النفق" في القدس، ثم وقع مع الفلسطينيين اتفاقية الخليل التي جعلتها مدينتين (H-1)و (H-2)، وهذه المرة ستكون الكتل الاستيطانية عبارة عن تكبير لاتفاقية الخليل.سيكون هناك صدام دون شك، كيف يفهم نتنياهو الصدام؟ قال: نحن نريد تواصلاً معمارياً أفقياً مع "معاليه أدوميم"، المطلة على البحر الميت، والفلسطينيون يريدون تواصلاً معمارياً شاقولياً من جنين إلى الخليل.كيف اصطدمت الغوّاصتان البريطانية والفرنسية؟ هل احتكّتا ببعضهما أفقياً، أم أفقياً - شاقولياً؟ وكيف سيصطدم بيبي بخارطة الطريق؟.
الايام

محمد ديبو: عن الجماهير وحريتها المفقودة




أكثر ما يثير الانتباه فيما يحصل نتيجة مجزرة غزة وتداعياتها هو حجم وسعة الغضب الشعبي واتساع رقعة التضامن العربية والعالمية التي قلّما نراها محتشدة أو مجتمعة للاعتصام أو الاحتجاج على أوضاع أخرى في العالم العربي لا تقل هولا عما يحصل في غزة. ولكن من جهة أخرى، إن الأمر نفسه يدعو للرثاء والتعجب إذا ما سألنا عن جدوى هذه التظاهرات والهتافات ونتيجتها، فليس هناك تحرّك شعبي على طول العالم العربي له هدف معين سوى الاحتجاج وإيصال الصوت، حيث يبدو الأمر وكأنه بيان شجب وتنديد ولكن بطريقة شعبية! إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الجماهير وقادة الرأي في العالم العربي دائما يعيّرون السلطات والقمم العربية بأنها تكتفي بالشجب والتنديد.منذ نكبة فلسطين والجماهير العربية تنزل الشوارع وتتظاهر، وتتوالى المشاهد والمظاهرات مع كل مجزرة و حرب و اعتداء، دون هدف معيّن أو نتيجة تذكر، ودون أن تستطيع تلك الجماهير في أي بلد عربي أن تجعل سلطة ما تتراجع عن قرارها أو تغيّر رأيها، أو تقيل ولو وزيرا !في مقابل ذلك الكرم الجماهيري الغامر في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية – وهي قضية حق وتستلزم التضامن وحشد الدعم والتأييد – نلاحظ غيابا فاجعا للجماهير عن قضايا أخرى ذات صلة بحياة المواطن المعيشية أو بواقع البلد الداخلي من حقوق إنسان وحريات عامة ومجتمع مدني تضيق رقعته يوما بعد آخر في العالم العربي، وكأن تلك الحرية الفائضة في التعامل مع القضية الفلسطينية تقابلها حرية شبه معدومة أو شحيحة في التعامل مع قضايا الداخل، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات عن هذا الازدواج والتناقض الفاضح، مما يجعلنا نحاول أن ندقق أكثر في طبيعة تلك التظاهرات العامرة، لندرسها في العمق ونحلل أسباب عدم قدرتها على الفعل وإحداث التغيير المنشود.مما يمكن ملاحظته حول هذا الأمر، أن السلطات العربية بسماحها لنزول شعوبها إلى الشارع تحقق بشكل جزئي شيئا من أهدافها المتمثلة في تخفيف الاحتقان الشعبي وتوجيهه في اتجاه آخر فهي – باستثناء مصر والسعودية حاليا- تقف في صف جماهيرها ظاهريا ليبدو الأمر وكأن مواقف السلطات متناغمة مع مواقف شعوبها، شرط أن يبقى ذلك ضمن الحد المسموح به سلطويا. إضافة إلى أن هذا الأمر يفرّغ مكبوتات الجماهير ويريحها لأنه ينفّس احتقانها المتراكم، أي أن السلطات تستخدم المأساة الفلسطينية كمنفّس لاحتقان الشعوب خوفا من وصول ذلك الاحتقان إلى نقطة لا يمكن ضبط الأمور بعدها. إن محاولة فهم لماذا تبدو آليات فعل الجماهير ضعيفة ولا تؤدي أي نتيجة عملية على أرض الواقع، تبدو معقدة ويتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حيث الشائع هنا أن السلطات التي تحكم قبضتها على مجتمعاتها هي السبب الرئيس في ذلك، ولكن هذا جزء من المشكلة، حيث هناك الكثير مما لا يرى حول هذا الأمر، منها : ضعف ثقافة المجتمع المدنية وانتشار الثقافة الطائفية، وضعف بنى وثقافة الأحزاب المعارضة والمؤيدة للسلطات معا، حيث لم تستطع هذه الأحزاب حتى اللحظة بلورة بيان عمل أو آليات فعل توصل إلى نتيجة ما فيما يتعلق على الأقل بفلسطين كقضية جامعة.تبدو لدينا آليات تفعيل تحركات الجماهير ضعيفة جدا، بسبب عدم وجود ثقافة مدنية ومواطنية تؤمن بأهمية الفرد كسيد لنفسه، فكل البنية الثقافية الموجودة في أغلب الأحزاب العربية تحل الجماعة والطليعة والنخبة والطبقة محل الفرد، ليغدو القرار النهائي بيد هذه "الجماعات" على اختلاف مسمياتها حتى لو تعلّق الأمر بقرار يتعلق بأبسط الأشياء، وهنا نجد هذه الأحزاب غير قادرة على إدارة شؤونها إلا بطريقة رثة، فكيف ستكون قادرة على تفعيل تظاهرات جماهيرها ؟نستنتج من ذلك أن أحد أسباب عدم قدرة الجماهير على فعل شيء، هو نتاج أزمة الأحزاب السياسية وآليات عملها في العالم العربي، دون أن ننسى النقابات بمختلف أشكالها الملحقة إما بالسلطة أو بالأحزاب المكوّنة لها، وهي في كلتا الحالتين تفقد مسوّغات وجودها، لأن العمل النقابي يستلزم الحرية في القرار والتحرك، وهنا نرى أن السلطات العربية نتاج هذا الوعي المأزوم الذي يقلب المفاهيم رأسا على عقب. حيث أن الشعب العاجز عن المطالبة بحقوقه الذاتية والمدنية، والعاجز عن التظاهر ضد حكومته لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، سيكون عاجزا بالتأكيد عن تحقيق أي شيء يذكر لنصرة فلسطين وأهلها، لأن المواطنين الخائفين هم رعاع ومسجونين لا يمكنهم إعطاء الحرية للآخرين، ببساطة لأنهم لا يعرفونها, وفاقد الشيء لا يعطيه ! ويبدو هذا الأمر نتاج الوعي المأزوم الذي ساد منذ نصف قرن في الوعي العربي من خلال شعار (لا صوت يعلو على صوت المعركة)، حيث كانت تغيّب كل القضايا الداخلية وتقمع باسم القضية الفلسطينية وشعارات التحرير، لنكتشف بعد نصف قرن أن فلسطين ضاعت والداخل العربي ازداد تخلّفا وبعدا عن العصر.إذا أردنا فعلا التقدم لا بد من قلب المفهوم السائد ليصبح كالتالي : ربح المعركة يبدأ من بناء الداخل العربي، وإعطاء الجماهير العربية حريتها الكاملة وحقها في محاسبة السلطات وسؤالها، كما لا بد من تفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وإطلاق قوانين عصرية للأحزاب، لتغدو الجماهير قادرة على رفع أفعالها إلى ما يليق بمستوى الحدث، بدل تلك الأصوات التي تصم الآذان وترهقها دون أثر يذكر!
منبر الحرية

الخميس، 19 فبراير 2009

بلال خبيز: محنة العيش مع الثلث المعطل

لا يخفى على السامع والمراقب اللهجة اللينة التي قابل بها امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله مواقف اقطاب 14 آذار في الرابع عشر من شباط وما تلاه وهو كثير.
لكن اللهجة اللينة التي يردها البعض إلى اسباب خارجية تتعلق بانتظار سوري - ايراني لما ستؤول إليه عملية الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة، لا تخفي اتساع الشقة بين طرفي المعادلة اللبنانية.
لنبدأ من 14 شباط وما حولها، خطف المهندس جوزيف صادر، العثور على الكابتن غسان المقداد مقتولاً في سيارته في محلة الأوزاعي، استشهاد المواطن لطفي زين الدين طعناً بالسكاكين.
هل نكتفي بهذه اللائحة؟ ربما يجدر بنا ان نضيف إليها تعليقات الجنرال ميشال عون.
في الهمس المتبادل بين اللبنانيين ثمة من يرد مقتل الكابتن في شركة طيران الشرق الأوسط إلى اعمال استخباراتية. قتل الرجل بصمت وحرفية عالية، واودع في مكان عام ليتسنى للناس العثور على جثته ودفنها. لماذا قتل؟ من قتله؟ اسئلة تبدو حتى الآن ممنوعة.
خطف المهندس صادر على طريق المطار. تعيين المكان في الخبر يشير إلى جهة معينة. من يستطيع الخطف على طريق المطار في وضح النهار؟ وما الجريمة التي يخطف المهندس صادر بجريرتها؟ الأرجح ان السؤال يكاد يكون ممنوعاً او مسكوتاً عنه في اقل تقدير. الذين يملكون مضبطة الاتهام لا يريدون الإعلان عنها. لكن الكابتن يقتل والمهندس يخطف في المنطقة التي تقع خارج عمل القانون، ووبعيداً عن سلطان الدولة واجهزتها الأمنية. المنطقة المشار إليها ليست من اعمال الجغرافيا بل من اعمال السياسة. ان يقتل مواطن لأي سبب من الأسباب، خصوصاً لسبب سياسي، فهذا ادعى لأن نسأل انفسنا كيف يستقيم هذا القتل مع دعوة القادة السياسيين إلى المشاركة الكثيفة في عمليات الاقتراع؟
لنقل ان هذا القتل تم في العتم، وان خطف المهندس صادر ايضاً ذهب إلى العتمة. لكن لطفي زين اليدن قتل في وضح النهار. حسناً، قد يحاكم بعض الأشخاص المسؤولين عن هذه الجريمة. انما السؤال يبقى على حاله. ما الذي يدفع شباناً في ريعان شبابهم إلى طعن رجل لا يعرفونه من قبل ولا يتصلون به بأي صلة، سوى انه كان من بين المشاركين في مهرجان خصومهم؟ الارجح ان الحديث هنا يقع في صلب السياسة اللبنانية وليس متعلقاً بفورات الغضب. الجنرال ميشال عون يقول القتل مستنكر، انما ايضاً يجب ان لا يعمد القتيل إلى استفزاز القاتل. هذه معادلة تعلمها الجنرال عون من السيد حسن نصرالله، يوم غزا جمهور حزب الله الإشرفية واعتدى على الناس والممتلكات احتجاجاً على حلقة في برنامج تلفزيوني. يومها خاطب السيد نصرالله اللبنانيين بالقول ان الاعتداء مستنكر، انما على الآخرين ان لا يستفزوا مشاعر الناس. القتيل هو الجاني، وليس على المستفز الغاضب حرج. هنيئاً للجنرال الذي يطالب بدولة القانون بهذه المعادلة. في دولة القانون ليس ثمة جريمة تستحق مثل هذا العقاب. في دولة الغاضبين كل اعتراض يستحق القتل جزاء له، فكيف إذا استفز المرء مشاعر الغاضبين؟
من يحق له ان يغضب ومن لا يحق له؟ هل يحق لأهل القتيل الغضب؟ ام ان القتيل ليس من القوم الغاضبين؟
هذا كله يعرفه جمهور 14 آذار وقادته. وهم الذين لا يريدون الانجرار إلى الغضب، يتحملون نتائج غضب الطرف الآخر وجمهوره. مع ذلك، اتى خطاب السيد نصرالله ليناً وهادئاً. بتنا اليوم نحاذر ان لا نغضب احداً. فعاقبة الغضب معروفة وخطيرة. لكن الهدوء لا يخفي احتكار حق الغضب وما يليه. السيد نصرالله، يطالب 14 آذار إذا خسرت الاكثرية النيابية في الانتخابات ان تشارك في الحكم مع ثلث معطل. بالنصف زائد واحد لم تستطع الموالاة ان تمنع تعطيل الاستحقاقات الدستورية. فهل تستطيع بالثلث المعطل ان تعطل حرباً او تمنع جمهوراً غاضباً من اقتحام مدن او قرى والتنكيل بأهلها؟
هذه الانتخابات استفتاء على مستقبل البلد. هذا صحيح. لكن مستقبل البلد محجوز ويحول دون التخطيط له غضب متنقل من جمهور إلى جمهور، ومن قائد وزعيم إلى قائد وزعيم. انها المرة الأولى التي يشير فيها السيد نصرالله إلى صعوبات الوضع الاقتصادي التي يواجهها البلد. هذه اشارة طيبة. اكثر من طيبة. لكنها تخفي في ما تخفي قلقاً مستجداً بعد اطمئنان. كما لو ان السيد نصرالله انتبه اليوم، بعد الأزمة الاقتصادية التي تضرب العالم شرقاً وغرباً، ان البلد لم يعد قادراً على اعمار ما ستخلفه الحرب القادمة من دمار. مما يوحي ان الحروب السابقة كانت تُستسهل لأن الخائضين فيها يعرفون ان العالم سيعيد اعمار ما تدمره الحرب. مع ذلك، لم تتوقف الحملات السياسية على هؤلاء بوصفهم قاعدين، غير مجاهدين، ومنحازين للعدو اكثر من انحيازهم للصديق. هل في وسعنا ان نفترض ان خلف كلام السيد اعترافاً بأهمية هذا الضرب من المقاومة الذي جعل البلد طوال عقدين ونصف العقد قادراً على النهوض من عثراته الكبرى بفعل صداقات سياسية تربط فريق لبناني بالعالم اجمع، ناقص دول الممانعة حصراً وتحديداً؟ هل هذا اعتراف متأخر بان ما حيّد بيروت في حرب تموز وبعض المناطق الأخرى ليس ارتباط القادة والزعماء بمشاريع مشبوهة، بل هذه العلاقات الدولية تحديداً بوصفها اكثر سبل المقاومة نجاعة؟ الأرجح ان لا. لم يقلع اصحاب الحق بالغضب عن استعمال حقهم بعد. وهم لا يزالون يحمّلون القتيل مسؤولية استفزاز قاتله. والحال، ليس ثمة سبب يدعو الطرف الآخر للمشاركة في الحكم إذا حاز فريق 8 آذار اغلبية برلمانية. فلتحكم معارضة اليوم إذا فازت في الانتخابات وحدها. ولتتحمل مسؤوليتها امام جمهورها الغاضب اولاً وامام اللبنانيين عموماً.
سؤال أخير: إذا حكم فريق 8 آذار بعد الانتخابات، هل سيقلع الجمهور الغاضب عن مطالبة الحكومة بالإسراع في دفع التعويضات، فلا يعتصم غاضباً ومعطلاً امام السراي الحكومي؟
المستقبل

ايان بريمر: اميركا حين تقول لا

في وقت سابق من هذا الشهر ذهب رئيس قرغيزستان كرمان بك باكييف صاغراً إلى موسكو طالباً المساعدة المالية. ولكي يزيد من فرص قبول طلبه أعلن باكييف أنه يطالب الولايات المتحدة بإغلاق قاعدتها الجوية في قرغيزستان، والتي تعيد إمداد قوات حلف شمال الأطلنطي (الناتو) في أفغانستان المجاورة. وعلى نحو مماثل، طلبت حكومة آيسلندا من روسيا في أواخر العام الماضي أن تساعدها في إنقاذ نظامها المصرفي، بينما زار الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري الصين على أمل الحصول على معونة مالية طارئة.
يستشهد بعض المراقبين بهذه الأحداث باعتبارها دليلاً على تراجع نفوذ الولايات المتحدة على المستوى الدولي. ولكن هناك مسألة أعظم أهمية: ألا وهي أن روسيا والصين لم تعرضا قدراً يُـذكر من المساعدة باستثناء المبالغ الضئيلة نسبياً التي حصلت عليها قرغيزستان.
وفي خِـضَم الأحاديث المستفيضة عن «عالم ما بعد أميركا»، يرى العديد من المراقبين تحولاً عن النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة نحو نظام جديد متعدد الأقطاب، حيث تتنافس دول مثل الصين وروسيا والعديد من الدول الأخرى لفرض زعامتها العالمية على نطاق من التحديات والمخاطر المشتركة.
قبل ما يزيد على الخمسة أعوام أعلن رئيس الصين هيو جينتاو أن الاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب بات يشكل توجها غالباً لا رجعة فيه. وحين أعرب فلاديمير بوتين عن تذمره أثناء مؤتمر انعقد في ميونيخ في العام الماضي إزاء النـزعة الأحادية الأميركية التي تعمل على تأجيج الصراع في أنحاء العالم المختلفة، سارع السيناتور الأميركي جون ماكين الذي شعر بالإهانة إلى الرد بأن المواجهة ليست ضرورية في «عالم اليوم المتعدد الأقطاب». وحين استقبل بوتين رئيس فنزويلا هوغو شافيز بالترحاب في روسيا في شهر سبتمبر الماضي قال: «لقد أصبحت أميركا اللاتينية تشكل حلقة متميزة في سلسلة العالم المتعدد الأقطاب الذي يتشَكَّل الآن. وأمَّن شافيز على كلامه قائلاً: «لقد أصبح العالم المتعدد الأقطاب واقعاً».
الواقع أنهم جميعاً على خطأ. فمن الواضح أن هيمنة الولايات المتحدة في اضمحلال، ولكن النظام المتعدد الأقطاب يقتضي ضمناً تبني العديد من القوى الناشئة لوجهات نظر متنافسة بشأن كيفية إدارة العالم، واستعداد هذه القوى للعمل في سبيل تحقيق مصالحها العالمية. ولكن الحال ليست هكذا.
بل إننا نشهد الآن ميلاد نظام لا قطبي، حيث يظل منافسو أميركا الرئيسيون مشغولين بمشاكلهم في الداخل ونزاعاتهم مع جيرانهم إلى الحد الذي يجعلهم عاجزين عن تحمل أثقل الأعباء الدولية. ولم تبدأ حتى أي من القوى الناشئة في استغلال ثِقَلها السياسي والاقتصاد المتنامي لتحقيق طموحات عالمية حقيقية- أو لتحمل المسؤوليات التي لم تعد واشنطن قادرة على تحملها.
ولنبدأ بروسيا. على الرغم من علاقات الكرملين المتنامية مع فنزويلا وجهوده الرامية إلى تنسيق سياسات الطاقة مع البلدان الغنية بالغاز الطبيعي في شمال إفريقيا، فإنه لا يطمح إلى إعادة بناء نفوذ بحجم النفوذ السوفييتي السابق في أميركا اللاتينية، أو إفريقيا، أو جنوب شرق آسيا. ولم يعد الكريملين أيضاً يتمتع بالجاذبية الإيديولوجية التي كان الاتحاد السوفييتي يتمتع بها. وبدلاً من ذلك سنجد أن قادة روسيا منشغلون بحماية الأسواق والبنوك والشركات الروسية من أسوأ آثار الأزمة المالية العالمية، وتعزيز سطوة الدولة على القطاعات الاقتصادية الداخلية، وتوسيع نطاق نفوذهم على صعيد السياسة الخارجية في أنحاء الإمبراطورية السوفييتية القديمة المختلفة.
أما الصين فإن حاجتها إلى إشباع نهمها إلى النفط المستورد وغير ذلك من السلع الأساسية تمنحها قدراً من الوجود الدولي. بيد أن نفوذ الصين تجاري أكثر من كونه سياسياً. ويتعين على قادة الصين أن يكرسوا اهتمامهم لمجموعة مروعة من المشاكل الملحة في الداخل: تجنب التباطؤ الاقتصادي الذي قد يحرم الملايين من وظائفهم ويدفع بهم إلى الشوارع، وتداعيات الإصلاح الزراعي، والجهود المبذولة للتعامل مع كم هائل من المشاكل البيئية والمشاكل المرتبطة بالصحة العامة.
والهند يتعين عليها أن تحافظ على وجودها في ظل وجود الصين المتعاظم. وفي انتظار انتخابات العام المقبل، ينفق حزب «المؤتمر» الحاكم وقت الحكومة وأموالها على توفير إعانات الدعم للمستهلكين، ورفع أجور موظفي الدولة، وتخفيف أعباء الديون عن كاهل المزارعين.
والبرازيل مشغولة بهموم مماثلة، ويبدو أن أعظم طموحاتها في الأمد القريب تتلخص في تعزيز الاستقرار في أميركا اللاتينية، والتعامل مع الآثار المترتبة على الأزمة المالية العالمية، وإلهام الآخرين في بلدان العالم النامي.
باختصار، هناك فراغ في الزعامة العالمية في اللحظة التي باتت فيها الحاجة ماسة إلى هذه الزعامة. والآن يتركز اهتمام الرئيس باراك أوباما على تحفيز اقتصاد الولايات المتحدة الهزيل، وصياغة التخفيضات الضريبية، وإصلاح سياسات الطاقة والرعاية الصحية، واستعادة الثقة في المؤسسات المالية الأميركية. ويواصل الاتحاد الأوروبي حواره الداخلي بشأن الكيفية الأفضل لإنقاذ بنوكه الـمُعسِرة وصناعاته المتعثرة، والتعامل مع التداعيات المترتبة على توسع الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، وإدارة العلاقات المتوترة مع روسيا.
مَن إذن يستطيع أن يتولى زمام الجهود الرامية إلى تأسيس بنية مالية عالمية جديدة تعكس التعقيدات التجارية في القرن الحادي والعشرين؟ ومَن يستطيع دفع العالم نحو الإجماع على استجابة تعددية في التعامل مع قضية تغير المناخ؟ ومَن يستبدل نظام منع الانتشار النووي العتيق، ويوفر الأمن الجماعي في المناطق المشتعلة الناشئة على مستوى العالم، ويبني الزخم اللازم لدفع محادثات السلام في الشرق الأوسط إلى الأمام.
نجح اجتماع القمة الدولي الذي انعقد في واشنطن في نوفمبر 2008 في تسليط الضوء على هذه المشكلة. فقد ضمت أغنى بلدان العالم (مجموعة الدول السبع) جهودها إلى جهود القوى الناشئة في مجموعة العشرين للمساعدة في التنسيق للاستجابة للتباطؤ المالي العالمي. وإذا ما تصورنا مدى صعوبة اتفاق سبع دول على أي شيء، فما بلك بالتحدي المتمثل في بناء الثقة بين عشرين دولة؟
ويتعين علينا هنا أن نضع في حسباننا وجهات النظر المتضاربة داخل هذه المجموعة فيما يتصل بالديمقراطية، والشفافية، والدور الاقتصادي اللائق بالحكومة، وقواعد الطريق الجديدة التي لابد أن تلتزم بها الأسواق المالية والتجارة، وأفضل السُـبل لضمان تجسيد الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتوازن القوى العالمي القائم اليوم.
في غضون السنوات العديدة المقبلة، وحين يلجأ المأزومون إلى الولايات المتحدة طلباً للمساعدة، فمن المرجح على نحو متزايد أن تردهم خائبي الرجاء. وليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كانت أي جهة أخرى لديها الرغبة والقدرة على تلبية طلبات المساعدة.

* رئيس مجموعة أوراسيا وكبير زملاء معهد السياسات العالمية.
«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

الوف بن: الرهان على عارضات الأزياء


تسيبي ليفني هي اشهر اسرائيلية في العالم وفقا لوتيرة ذكر اسمها في "غوغل" ومن بعدها تأتي بار رفائيلي التي وقع الاختيار عليها لغلاف مجلة "سبورتس ايلوسترايتد" لملابس البحر. هذا الشرف يوازي حصول عارضة ازياء على جائزة اوسكار. رفائيلي ظهرت على غلاف هذه المجلة الشهيرة وهي في ملابس البحر فوق طائرة البوينغ، ووسائل الاعلام في بلادنا فرحت لأن واحدة "منا" قد "فعلتها" في الخارج.رفائيلي تطرح نفسها على انها اسرائيلية في كل مكان بل وعبرت عن دعمها لتسيبي ليفني عشية الانتخابات. ظهورها بهذا الشكل يثير التساؤل ان كانت تفعل ذلك لمساعدة الاعلام الاسرائيلي في الخارج وتهدف الى تخفيف وقع المشاهد التي نقلت عن احداث غزة الاخيرة في العالم.في وزارة الخارجية يقولون: ان ذلك يساعدهم في مساعيهم: مشروع "تسويق اسرائيل" الذي تبلور في فترة ليفني يسعى لتغيير صورة اسرائيل الطاغية الجبروتية والدينية من خلال الوسائل المتبعة والشائعة في التسويق التجاري. ان كانت اسرائيل تعتبر مكانا غير لطيف يذكر بالقرية الانجليكانية المتعصبة في تكساس يجدر عرض جوانبها اللطيفة للجمهور في الغرب. قبل سنة ونصف بادرت وزارة الخارجية لنشر مقالة مرفقة بالصور في مجلة الرجال "ساحر" التي عرضت اسرائيليات في ملابس البحر لمجندات سابقات. استطلاع تم تنظيمه بعد هذه المقالة اظهر ان القراء قد التقطوا الرسالة ونظروا لاسرائيل كدولة اكثر ليبرالية واشبه بالولايات المتحدة بالمقارنة مع الصورة التي كانت لديهم سابقا.مشروع "تسويق اسرائيل" لا يهدف للتأثير على تصويت اعضاء الكونغرس على المساعدة المقدمة لاسرائيل او على موقف باراك اوباما من المستوطنات وانما يرمي الى تغيير الصورة الشائعة على المدى الزمني، هو يواجه المشكلة الاشد صعوبة في العالم: الفجوة في النظرة.الاسرائيليون اعتادوا النظر لدولتهم كجزء من الغرب وتشبيهها بالولايات المتحدة وبريطانيا. المشكلة هي ان الغرب لا يتحمس كثيرا من هذه المقارنة ويعتبر اسرائيل دولة شاذة تعيش في صراع مزمن مع جيرانها وتستخدم قوة مفرطة. في اوروبا وفي اميركا بدرجة متزايدة يعتبر الاستخدام المفرط للقوة العسكرية تعبيرا عن التخلف والبدائية وشيئا ينتمي للقرن السابق ولا يمكن للناس النزيهين الراقين ان يقدموا عليه. ايضا عندما يستخدم الاوروبيون القوة في افغانستان او كوسوفو فلا يتفاخرون في ذلك مثلما يفعل قادة اسرائيل الذين يفرحون ويشعرون بالاثارة من قصف غزة.الاعلام الاسرائيلي يحاول منذ سنوات عديدة تسويق اسرائيل باعتبارها فيلا في غابة، ونوعا من واجهت العرض المتقدمة للغرب بمواجهة الاسلام المتطرف. نحن نتلقى الصواريخ في سديروت ونقصف غزة، حتى ننقذ باريس ولندن. قادة اسرائيل يشتكون من عدم احساس الغرب بخطر الاسلام، وبدلا من مواجهة هذا الخطر يقومون بمضايقة اسرائيل التي تدافع عن نفسها. ولكن الرأي العام ووسائل الاعلام في الغرب يتجاهلون الرسالة ويصرون على ان اسرائيل لا تقل عنف عن اعدائها.من المفترض ان تبرهن بار رفائيلي ان اسرائيل شبيهة بالغرب. شابات ايران وحزب الله و"حماس" لا يظهرن في ملابس البحر. ولا المصريات او السعوديات ايضا اذاً، هذه نقطة تميز تبرز انتماءنا الثقافي للنادي الغربي. صورة رفائيلي فوق الطائرة وهي في ملابس البحر تحولنا من وجهة نظرنا الى اميركيين وغربيين اكثر من غيرنا.لكن هناك شك ان كان الطرف الآخر قد التقط الرسالة بهذه الصورة: ليس بامكان اية عارضة ازياء من روسيا ان تخفف الصورة الجبروتية التي يظهر عليها نظام بوتن في الغرب، ولا يمكن لاية ملكة جمال من فنزويلا ان تحول هوغو شافيز الى ليبرالي وديمقراطي. رفائيلي تستحق الثناء على نجاحها الشخصي، ومشروع تسويق اسرائيل يجب ان يتواصل، ولكن ذلك لن يحل مشاكل اسرائيل الاعلامية والدعاوية في الغرب. من يريد الانتماء للغرب ملزم بالتصرف وفقا لذلك، او دفع الثمن.
عن "هآرتس"

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .