الاثنين، 8 سبتمبر 2008

حسين يعقوب، موت الشاعر قصيدة للحياة

موت الشاعر قصيدة للحياة
حسين يعقوب

في لحظات توجس الذات، تتجه مجسات العقل لفتح باب يطل على الطمأنينة او البراءة بهدف الوصول الى السكينة والتمكن من القلق وتقشير خشونة العالم. قد يكون الموت احد اوجه تلك البراءة ومكمن الطمأنينة المنشودة، لكن محمود درويش بأبعاد ثوريته الثلاث، الشاعر - العاشق – السياسي، اقتنصها بحكمة شيخ مدمن الوجود، مختارا قرار الاستمرار قبل الحياة وبعد الموت، في مناهضة صارمة - لكنها تتميز بالهدوء ايضا - للموت الزاحف نحوه في أعقاب عملية مفتوحة على القلب، لم يدخل على إثرها لا في غيبوبة مستدامة، ولا ذاق حر مرض عضال، منهك للأجساد والأبدان، ولا تضرع بالفراش جراء شيخوخة طالت، بعد جلد وعنفوان. يقول درويش: "أيها الموت انتظرني خارج الأرض، انتظرني في بلادك، ريثما أنهي حديثا عابرا، مع ما تبقّى من حياتي قرب خيمتك، انتظرني ريثما أنهي قراءة طرفة بن العبد. يغريني الوجوديون باستنزاف كل هنيئة، حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة، فيا موت انتظرني ريثما أنهي تدابير الجنازة في الربيع الهش، حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين".في توجسات الشعر والشعراء المتشابهين في شعرهم وحياتهم وقصائدهم من حيث المعنى المجازي للتعبير، يخاطب الشعراء بعضهم بعضاً بشعرهم وعذاباتهم، ليشكلوا حالة واحدة من المعاناة ومرارة القهر والنفي والثورة. تَخاطَب محمود درويش ونيرودا بجسديهما المريضين، درويش بقلبه ونيرودا بدمه السرطاني، اختزل نيرودا مرضه بجملة قاطعة، لكنها ذات افاق متعددة: "ماذا يقول عن شعري الذين لم يلمسوا دمي؟!". وتواصل محمود درويش مع لوركا في قصيدة "بقية حياة" و"بكائية إغناثيو سانجيث ميخياس". يقول محمود درويش: "إذا قيل لي: ستموت هنا في المساء/ فماذا ستفعل في ما تبقّى من الوقتِ؟ـ أنظرُ في ساعة اليد/ أشربُ كأسَ عصيرٍ، وأَقضم تفّاحةً، وأطيل التأمّلَ في نملةٍ وجدتْ رزقها، ثم أنظر في ساعة اليدِ/ ما زال ثمّة وقتٌ لأحلق ذقني وأَغطس في الماء/ أهجس: "لا بدّ من زينة للكتابة/ فليكن الثوبُ أزرق"/ أجلس حتى الظهيرة حيّاً إلى مكتبي/ لا أرى أَثر اللون في الكلمات، بياضٌ، بياضٌ، بياضٌ... أُعدُّ غدائي الأخير أَصبّ النبيذ بكأسين: لي/ ولمن سوف يأتي بلا موعد، ثم آخذ قيلولةً بين حلمينْ/ لكنّ صوت شخيري سيوقظني... ثم أَنظر في ساعة اليد: ما زال ثمّة وقت لأقرأ/ أقرأ فصلاً لدانتي ونصف معلّقةٍ وأرى كيف تذهب مني حياتي/ إلى الآخرين، ولا أتساءل عمّنْ سيملأ نقصانها. - هكذا؟ - هكذا، هكذا ـ ثم ماذا؟ - أمشّط شعري، وأرمي القصيدة... هذي القصيدة في سلة المهملات/ وألبس أحدث قمصان إيطاليا، وأُشيّع نفسي بحاشية من كمنجات إسبانيا/ ثم أمشي إلى المقبرة!".ويقول لوركا بعد موت صديقه إغناثيو سانجيث ميخياس في احدى المطولات اللوركية اللافتة التي جسّد فيها الشاعر صراعاً بين الحياة والموت: "وعرفت أنني قتلت /وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس / فتحوا البراميل والخزائن / سرقوا ثلاث جثثٍ / ونزعوا أسنانها الذهبية / ولكنهم لم يعثروا عليّ / ألم يعثروا عليّ؟ / نعم لم يعثروا عليّ".وفي ما يشبه التكامل بين محمود درويش وناظم حكمت يقول درويش "... أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل فلست لي أنا لست لي أنا لست لي...". ويقول حكمت في الموت "لقد انتهى الضحك والبكاء يا ولدي/ وستعاود الحياة التي لا ترى ولا تتكلم ولا تفكر دورتها اللامحدودة".ما اجترحه الشعراء الثائرون في تطلعاتهم الممتدة تحت اغشية الحياة ليس سوى استهداف للمتكدس على غلاف العالم الذي يراه الآخرون على السطح ولا يفهمون ما يتكاثر تحته من استفسارات وتناقضات. ولا اجوبة. لم تكن تلك الاجتراحات المنسابة في تدويناتهم إلا أداة لقهر الموت، أداة الفكرة التي، إن كانت صادقة، لا تفنى، حتى وإن كان قدر الجسد، الضيق والفناء: "وكلانا أنا، وأنا شاعر، وملك، وحكيم على حافة البئر، ولا أحد عشر كوكبا على معبدي، ضاق بي جسدي، ضاق بي أبدي، وغدي جالس مثل تاج الغبار على مقعدي". الشعر هنا فكرة "مجردة"، لكنه في الآن ذاته تأمل صوفي، يتجاوز به المرء ذاته وجسده ودنياه، الى أفق عالم أرحب حيث "كل شيء أبيض": "أرى السماء هناك في متناول الأيدي، ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى. ولم أحلم بأني كنت أحلم. كل شيء واقعي. كنت أعلم أنني ألقي بنفسي جانبا وأطير. سوف أكون ما سأصير في الفلك الأخير، وكل شيء أبيض". محمود درويش كما نيرودا ولوركا وحكمت، لا يعير كبير اهمية للزمن والمكان. إنه ينفيهما كي يسبح في "أفلاك" لا يحسها إلا هو، ولربما يدركها، حتى وإن تجاوزته: "لا شيء يوجعني على باب القيامة، لا الزمان ولا العواطف. لا أحس بخفة الأشياء أو ثقل الهواجس. لم أجد أحدا لأسأل أين "أيني" الآن؟ أين مدينة الموتى، وأين أنا؟ فلا عدم هنا في اللا هنا… في اللا زمان، ولا وجود...". ويتابع متسائلا عن الما بعد، منبهرا بما يخفيه: "كأنني مت قبل الآن، أعرف هذه الرؤيا، وأعرف أنني أمضي إلى ما لست أعرف. ربما ما زلت حيا في مكان ما، وأعرف ما أريد...". ثم يصرخ، كما لو أنه يناجي الموت المقبل من "هناك": "أيها الموت، انتظرني خارج الأرض... يا موت انتظرني، يا ظلي... يا ثالث الإثنين... يا لون التردد، كن أسمى من الحشرات... لا تجلس على العتبات كالشحاذ، أو جابي الضرائب... لا تكن شرطي سير... كن قويا... إخلع عنك أقنعة الثعالب...". يهزأ الشاعر هنا بالموت، لكنه يستعطفه الانتظار الى حين انتهائه من صياغة القصيد. "إن في الكتابة وجوده. إن في الفكرة بقاءه. إن في الموت بذرة من حياة هنا أو هناك". يقول درويش: "مثلما سار المسيح علي البحيرة،/ سرت في رؤياي، لكني نزلت عن الصليب/ لأنني أخشي العلو، ولا ابشر بالقيامة / لم اغيّر غير ايقاعي لأسمع صوت قلبي واضحا/ للملحميين النسور ولي انا: طوق الحمامة / نجمة مهجورة فوق السطوح" .
عن ملحق النهار اللبنانية

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .