الجمعة، 28 نوفمبر 2008

بلال خبيز: البياض

لقطة الحسد


يلتقط الان ساكولا صوراً لأشخاص وكائنات واشياء، ثم يكبرها ويعرضها في امكنة عامة، ولايلبث ان يلتقط صورة جديدة للصورة المعروضة في المكان الذي عرضت فيه.
من نافل القول ان ساكولا يعتني جيداً بالموقع الذي يريد عرض صوره فيه. عناية تتصل بالهندسة والألوان والنسب والتناظر. كما لو ان الصورة لا تصبح عملاً متكاملاً بالنسبة له إلا حين تنزع من سياقاتها الأليفة، وتوضع في سياقات مغايرة. مثلاً: ان تصور فيلاً افريقياً ثم تضعه على واجهة الكابيتول هيل، او ان تصور حمالاً افغانياً في سوق من اسواق كابول، ثم تعرض صورته على نافورة لوس فيليز في لوس انجلس. عمل يستحق التأمل ولا شك.
لكن المرء وهو يشاهد هذه الاعمال تحدوه رغبة في استكمالها: ماذا لو وضعنا صورة مبنى الكابيتول هيل حين تكون صورة الفيل متوضعة امامه، امام مبنى الكرملين، ثم عرضنا صورة مبنى الكرملين المعروضة امامه صورة الكالبيتول هيل وقت عرض صورة الفيل امامه، امام مسلة الشانزليزيه، ثم عرضنا صورة مسلة الشانزليزيه بكل ما فيها، من الفيل حتى مبنى الكرملين امام مبنى البوندستاغ، وهكذا إلى ان يختفي الفيل تماماً ولا يعود ممكناً للمرء ان يراه. هل يبقى ثمة معنى اصلاً لتصوير الفيل؟
التجربة مسلية بعض الشيء. لكنني وانا اشاهد اعمال ساكولا، كنت افكر في من قد يكون الفيل في هذه الحال؟ وهل يتوجب علينا لإخفائه ان ننقل العرض كل مرة إلى موقع جديد؟ ام انه اختفى فعلاً بعد التقاط صورته بثانيتين او ثلاث؟ الارجح انني فكرت في هذه المناسبة، وانا الذي انتمي إلى بلاد بعيدة كثيراً عن هذا الحس الفكه، بأنني انا نفسي هو الفيل في هذه الصورة. الفيل الذي يراد له دائماً ان يكون موديلاً لعمل فني. وما ان ينتهي المصور من التقاط صوره حتى يختفي ولا يعود احد ليهتم بمصيره. كما لو ان بعض الفن يدافع مستميتاً عن اللوحة التي تعرض في المتحف لكنه قليلاً ما يهتم لمصير موضوع الفن. على الحرب في افغانستان ان تتوقف قليلاً ليتسنى للمصورين تصوير الناس والجبال والكهوف قبل ان تأكلها نيران الطائرات والأحزمة الناسفة. وما ان يفرغ الفنانون من عملهم حتى تستعاد الحرب بكامل القها وجبروتها. فبعد ان تم التقاط الصور وصنع الافلام اصبح في الامكان مشاهدة افغانستان في المتاحف، لمن يرغب في الاستزادة. ولم يعد مهماً ان تبقى البلاد التي كانت، اي افغانستان، كما كانت. بل الارجح انها ستصبح مرة اخرى موضوعاً للتصوير، بعد استكمال دمارها.
هذه ملاحظة مرة ولا شك. والمرارة في هذا العالم معروفة المصدر. المرارة تمت للجغرافيا بصلات وثيقة. حتى المحظوظين من ابناء الشرق الاوسط اليوم. والحظ نسبي طبعاً، كما هي حال الإسرائيليين الذين تدافع عنهم سارة بالين، بافتراض ان دفاعها عنهم يجعل حظوظهم تدوم. حتى هؤلاء هم ابناء مرارات حريفة. كل هذه الجغرافيا الشاسعة ليست سوى استديو ضخم للتصوير الفني. ما ان تؤخذ الصور حتى يطلب إلينا مرة اخرى ان نتوضع لاجل التقاط صورة اخرى، انما هذه المرة بجروح جديدة ودماء اكثر حرارة وسيلاناًالصفحة الدولية في الصحف الاميركية، تماماً مثلما هي الصفحة الدولية في اي صحيفة بعيدة عن مسرح الاحداث، لا تذكر بيروت إلا حين يكون الدم فيها مراقاً. ولا تذكر بغداد إلا لإحصاء عدد القتلى. نادراً ما نسمع هنا عن انعقاد مجلس النواب العراقي، ونادراً ما تصلنا اخبار عن زيادة الاجور في لبنان. الخبر هو الموت، وعلينا ان نتذكر اننا يجب ان نموت ليتسنى لنا ان نصبح موضوعاً للصور.
لم احمل معي من بلادي تلك صوراً. لم اكن هناك افكر ان ثمة ما يستحق التصوير. وعلى العكس من ذلك، كنت اود ان احمل الكاميراً واصور كل ما تقع عليه عيناي هنا. لكنني لم افلح إلا بتصوير البياض. البياض الذي يعني شيئاً ولا يعني اي شيء. البياض الذي يستعد لاستقبال الفيل ومبنى الكابيتول هيل وسوق كابول على صفحته. وعلى صفحة هذا البياض اتخيل انني استطعت ان احول لوس انجلس إلى مادة للتصوير. تماماً مثل بيروت. لكن ما يمنعني من اقتراف هذه المعصية ان الصور، كل الصور، ما زالت تحب الدم.
هل من شيء يمكن لكاميراتنا ان تلتقطه في هذه المدينة؟ ربما، لقطة الحسد. لقطة الحسد التي تجعل الناس مرئيين وغير مصورين. لقطة الحسد التي تجعل من صورنا في تلك البلاد التي لم تتحملنا، مادة مناسبة للتمرن على الحزن. وإلا ما الذي يبقى من المشاعر الإنسانية إذا حذفنا تمرين الحزن منها؟
في غرفتي هنا، ثلاث كراس، واحدة للعزلة واثنان للصداقات. اجلس على كرسي العزلة ردحاً، ثم ادرك انني اعيش في بياض الأعمى. البياض الذي يجعل كل شيء غير مرئي، والبياض الذي يجعل العالم خفيفاً كضباب، ورطباً كمغطس.

مجلة نفس

صالح بشير: بين اوباما الرمز والرئيس فارق يجب ان نحتسبه

اعاد إلى العالم تعدداً وإلى اليسار شرعية مستجدة
هناك أوباما السياسي وهناك أوباما الرمز. أما الأول فقد يخيب آمالاً عُقدت عليه، بل هو على الأرجح، رجحاناً يداني اليقين، سيفعل، وأما الثاني، فقد أضحى ما أنجزه أو ما أُنجز بواسطته فعلاً ماضياً، متحققاً تامّاً، تحولاً تاريخي الكنه، عمقاً ومدى. الأول مجاله التوقّع، والمحاسبة والمساءلة، من منطلق يومي، دانٍ قريب، يتعلق بآني المصالح وبملحّ المشاغل، والثاني مضماره التاريخ الأوسع، تاريخ المدى الطويل، كذلك الذي تعنيه مدرسة «الحوليات» الفرنسية على سبيل المثال، وهذا لا يخضع لذات المنطق الذي يخضع له سابقه.هما إذن مستويان متباينان تمام التباين أو يكادان، لا يجوز الخلط بينهما ولا يستقيم. أوباما الرئيس، سيكون رئيساً لكل الأميركيين، ولن يكون رئيس فئة بعينها، عرقية كتلك التي ينتمــي إليها، ما كان يمكنها بمفردها إيصاله إلى الموقع الذي بلغه، أو «إيديولوجية»، وفق المقاييس المعتادة. ولم يتفوه الرجل، طوال حملتـــه الانتخابية المديدة، بما يفيد شيئاً من هذا أو من ذاك، وهو لو فعل لما حظي بالفوز الذي نال، لعلمه بأن الانتخابات، في الديموقراطيات، مجترحـــة إجمـــاع أم معبرة عنه، لا تقـــوم إلا به، تعيد إرساءه ما إن يضع التنافس (وهذا كثيراً ما يتوسل مفردات عسكرية، من قبيل «المعركة» وما إليها) أوزاره، وهو (أي ذلك التنافس) يظل شاخصاً نحو ذلك الإجماع الذي لا يتأسس سلطان إلا عليه. لكل ذلك، ربما كان أوباما، على رغم فوزه الساحق المعلوم، أحوج رؤساء أميركا إلى مثل ذلك الإجماع، نراه يسعى إليه حتى بعد أن قال الناخب كلمته، يحيط نفسه بالكلنتونيين، استئناساً بلحظة نجاعة سابقة، وقد يحتفظ بروبيرت غيتس، وزيراً لديه للدفاع، كما سارع إلى ملاقاة خصمه في الاقتراع الأخير، جون ماكين، والتوافق معه على «العمل معاً»...ثم أن الرئيس الأميركي المنتخب محكوم بطبيعة دولته، بموقعها وبمنزلتها بين الأمم. كانت الولايات المتحدة إمبراطورية، ممتدة الوجود والوظائف والتجليات قبل انتخاب أوباما وستظل كذلك بعد أن يتسنم ذروة الحكم على رأسها. والحال أن الإمبراطوريات إمبراطوريات فحسب، فلا هي بـ «الخيِّرة» ولا هي بـ «الشريرة». قد تتفاوت اعتدالاً أو تطرفاً في تعبيراتها عن سطوتها أو عما تحسبه اضطلاعاً بمسؤولياتٍ لها كونية، وهي لذلك قد تقدم على إصلاح النظام الدولي في بعض أوجهه واختلالاته ولكنها لن تقبل على تثويره، وهي التي تحتل منه موقع القلب، بل لا قبل لها بذلك على الأرجح، حتى إن أرادت. وفي ما يخص كل ذلك، أي كل ما هو سياسي مباشر إن جازت العبارة، لا يعدو أوباما أن يكون كسائر الرؤساء، ويتعين، تبعاً لذلك، أن يُقابل بما يتوجب من مساءلة ومن تحفظ، كذلك الجاري أصلاً والذي سيجري حتماً في المجتمع الديموقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد، بل ومن عدم استبشار بانتخابه ومن تبخيس لذلك الانتخاب وإنكار لأهميته، على ما فعل بعض المعلقين وعلى ما صرحت «فنانة عربية» تزعم لنفسها باعاً في «المقاومة» و «الممانعة» وما شاكلهما، لكن كل ذلك لا يلغي ولا يبطل ما حققه ذلك الانتخاب على الصعيد الرمزي، ولا ينال في شيء من الحماسة التي استُقبل بها، من قبل من تنبهوا إلى عناصر الجدة فيه، وطابعها المؤسس، من دون أن تعمى بصيرتهم عما عداه، فإذا هي حماسة متبصرة. والحماسة متعددة المستويات، فهي لا تتوقف حصراً عند سابقة انتخاب أول رئيس أسود، متأت من عنصرٍ سيم استرقاقاً، ثم تمييزاً مديداً مجحفاً لا إنسانياً، وهو ما تناولته الأقلام وأسهبت في تناوله، بل تتعدى ذلك إلى أمري أساسي، هو الذي مفاده أن حملة أوباما، على فقرها البرنامجي، ثم انتخابه، أضفيا شرعية على خطاب «يساري» (بالمعنى الأوسع لكلمة «يسار»، أي غير المرتبط بإيديولوجيا بعينها) كان قد افتقدها حتى أدت إلى تلاشيه أو أنه لم يبق إلا على هيئة «مقولات» نال منها الفوات وما عادت قادرة على مخاطبة الواقع والإحاطة به. أنهت تلك الحملة وذلك الانتخاب استفراد الخطاب اليميني بالعالم، إيديولوجيا نيو-ليبرالية مغالية، استوت أفقاً وحيداً أوحد لا مخرج منه ولا مناص، أضحت تقول به حتى أحزاب «اشتراكية ديموقراطية» كانت تتصور أنها اهتدت إلى إكسير المواءمة بين متطلبات الحرية ومقتضيات العدالة الاجتماعية تتولاها «دولة الرعاية»، أو إيديولوجيات أخرى، تعارض من منطلق الهوية، تمعن في الانغلاق وفي التزمت، تمثل بعض أجلاها، وأفدحها، في الحركات المتعصبة التي قامت، واستحوذت على المبادرة، في العالم الإسلامي. بهذا المعنى، تكون الانتخابات الأميركية الأخيرة، قد أعادت إلى العالم تعدداً، في الرأي وفي الخيارات، كان قد افتقده وأضحى منه محروماً، وأعاد إلى السجال السياسي، وإلى الشأن العام على نحو أعم، المحلي والكوني، مضامين وجوهراً، بعد أن كانا مجالاً لمجرد تراشق بـ «الصور»، وأحل النسبية محل الإطلاق. للمرة الأولى، منذ أن استتب الأمر للخطاب النيو - ليبرالي، وهذا قد لا نبالغ إن قلنا في شأنه أنه كان منتج بضائع (بما فيها البضاعة السياسية) أكثر مما كان منتج أفكار، أضحى الخطاب السياسي متنوعاً، لا يتوقف عند تبرير ما هو قائم بل يسعى إلى تجاوزه، ويرتفع بالديموقراطية، من وظائفها الإجرائية البحت، وسيلة لتداول الأطقم الحاكمة على السلطة، إلى أداة لاجتراح التحولات المجتمعية الكبرى، أي فرصة للاختيار، متاحاً للإنسان المواطن، كائناً حراً، تُقاس حريته بتلك القدرة على الاختيار، كما قدم الدليل على أن فوق التشرذم الفئوي، يعصف بالمجتمعات، وحدة يمكن بلوغها. والأمر هذا بالغ الأهمية، بصرف النظر عن تفاصيل السياسة التي سيسلكها أوباما، بصرف النظر عن تنصيبه صديقاً له إسرائيلياً كبيراً لموظفي البيت الأبيض، وبصرف النظر عن كون وصوله إلى البيت الأبيض لن يفضي حتماً وفي المستقبل المنظور، إلى تغيير موقع الفئة العرقية التي ينتمي إليها في السلم الاجتماعي...إذ من المفروغ منه، أن أوباما القطاعي، المتعلق بمختلف أوجه مزاولته لمهامه رئيساً، لن يكون بحال من الأحوال في مستوى أوباما الرمز.

عن الحياة

ساطع نور الدين: التحذير الأول لأوباما

ابعد من افغانستان واوسع من آسيا


هي مجرد عينة أوّلية بسيطة عما هو آت من فصول تلك الحرب العالمية التي لا يعرف احد متى وكيف بدأت، او متى وكيف تنتهي... لكنها تحصد كل يوم المزيد من الضحايا الأبرياء، وتهز استقرار المزيد من الدول التي كانت تظن انها بمنأى عن جبهات المعارك، فإذا هي تتحول فجأة الى خط امامي، وإذا العالم كله يقف مضطرباً. الهجوم الإسلامي الواسع النطاق على مدينة مومباي العاصمة الاقتصادية والمالية والثقافية للهند، لا يدع مجالاً للشك في أن طوراً جديداً من الحرب العالمية مع الإرهاب قد انطلق وجبهة جديدة قد فتحت وهدفاً جديداً قد حدد: توسيع المعركة الدائرة في أفغانستان وباكستان الى شبه القارة الهندية كله، بهدف التخفيف عن شبكات تنظيم القاعدة وحركة طالبان التي تستعد لحملة عسكرية أميركية قد تكون اعنف من جميع الحملات التي استهدفتهما على مدى السنوات الثماني الماضية. لا يمكن الافتراض أن الإسلاميين الذين شنوا ذلك الهجوم المروع لتحقيق أهداف داخلية، مثل الرد على اعتقال او اضطهاد رفاق لهم من قبل السلطات الهندية، او حتى تفجير العلاقات العرقية والطائفية المتوترة أصلاً بين الغالبية الهندوسية وبين الأقلية المسلمة، لأن الهند بلد هائل الحجم والرسوخ، يستطيع سكانه البالغ عددهم مليار وثلاثمئة مليون نسمة، ان يستوعبوا مثل هذه الصدمة الدامية، مثلما سبق لهم ان استوعبوا الكثير من الصدمات المشابهة، والتي كان ضحاياها يسقطون بالآلاف... ثم يتوصل ذووهم الى المصالحة او على الأقل الى المساكنة الضرورية. هي عملية استعراضية متقنة، غايتها خارجية أكثر منها داخلية، وهو ما يمكن التثبت منه في التركيز على السياح والزوار الأجانب، الأميركيين والبريطانيين خصوصاً، للمدينة المنكوبة، وهي تتصل بإيقاعات الحرب الدائرة على الجبهة الأفغانية الباكستانية، أكثر مما ترتبط مثلا بالصراع الهندي الباكستاني على إقليم كشمير، الذي انضم اليه مؤخراً الإسلاميون من جانبي الحدود، واتخذوه ذريعة إضافية لإعلان الجهاد على الدولة الهندية، ذات التشكيل الهندوسي الذي يبتعد شيئاً فشيئاً عن تراثه المعتدل والقادر على احتواء العصبيات العرقية والطائفية الأخرى في بلد المليار وثلاثمئة مليون إنسان. الصدام حتمي بين هذه العصبيات كرد فعل عفوي على مجزرة مومباي، لكن الدولة الهندية مؤهلة للفصل مرة اخرى بين الهندوس والمسلمين وتوجيه التوتر المتبادل نحو القنوات السياسية الطبيعية، التي أتاحت ارتقاء الهند الى مراتب البلدان المتقدمة... وهو ما لا يبدو متوافراً في بقية الدول والمؤسسات المتورطة في تلك الحرب الضارية مع إرهاب ليس له في هذه المرحلة أي جدول أعمال سياسي. لم يكن الهجوم على مومباي عبثاً: لعله التحذير الأول من جانب تنظيم القاعدة وشبكاته وخلاياه إلى إدارة الرئيس الأميركي المقبل باراك اوباما، الذي يفيد بأن حملته العسكرية المرتقبة على الجبهة الأفغانية الباكستانية لن تكون نزهة عابرة، ولن تظل محصورة بتلك البقعة الجغرافية التي تغرق يوماً بعد يوم بالمزيد من دماء سكانها...
عن السفير

بلال خبيز: اوباما وسياسة الصدمات الايجابية

اول ديموقراطي في البيت الابيض يجمع بين البراغماتية والتقدمية



فاجأ باراك اوباما الجميع باختياره تيموثي غوثنير وزيراً للخزانة. فالرئيس المنتخب لم يعرف غيثنر عن قرب ابداً، وقد تم اللقاء الاول بينهما في الأسابيع الأخيرة التي سبقت الانتخابات الرئاسية. لكن اوباما خرج من الاجتماع مع غيثنر ليسرّ لبعض اقرب معاوينه، انه اعجب بغيثنر، وان شخصيته ملهمة مثل افكاره. الوزير الجديد لم يكن باحثاً عن المنصب، بل انه صرح لاوباما انه يفضل البقاء في منصبه حيث يمكنه المساعدة الفعلية في استعادة الثقة بالنظام المالي الأميركي. والأرجح ان غيثنر كان يفكر بالعلاقة الوثيقة التي تربط لورنس سامرز بالرئيس المنتخب، وهو الذي عمل تحت ادارته حين كان سامرز وزيراً للخزانة. فضلاً عن ان سامرز يعتبر من المع العقول الأميركية في مجاله، وهو الذي وصل إلى مرتبة استاذ في هارفرد ولم يكن قد تجاوز ال28 من عمره. مما جعل التوقعات بتوليه منصب وزير الخزانة عالية، خصوصاً ان اسمه ما زال يوحي بالثقة في الاوساط الاقتصادية الأميركية، بخلاف الكثيرين ممن عمل معهم في ظل ادارة كلينتون، كبن برنانكي والان غرينسبان، اللذين لمع اسميهما في العالم كله، ثم اتت الازمة المالية الحالية لتنال من صورتيهما.
لكن مصادر مقربة من الرئيس المنتخب، تشير إلى ان الامال التي يعلقها اوباما على سامرز تتجاوز الاقتصاد والنظام المالي لتطاول على نحو مباشر الوضع التعليمي في الولايات المتحدة، والذي تشير الدراسات إلى ترديه عما كان عليه لعقد خلا، حيث باتت الجامعات الأميركية تصنف في مرتبة متأخرة عن الجامعات المتقدمة في العالم، بعدما كانت تحتل المراتب الأولى في الثمانينات والتسعينات، فضلاً عن اهتمام سامرز بالأمان الاجتماعي الاميركي، وهو الأمر المتعلق بصورة مباشرة بالقروض السكنية ونسبة البطالة ومستوى الدخل الفردي، وهذه امور تختلف اختلافاً بيناً عن ادارة الوضع الاقتصادي والمالي المباشرين، لتصل إلى ملامسة كافة نواحي الاقتصاد والسياسة والثقافة الاجتماعية. لهذه الأسباب يقول المقربون من اوباما انه احتفظ لسامرز بمنصب رجراج، يستطيع من خلاله التدخل في رسم السياسات العامة على اكثر من صعيد، بما يتجاوز الاهتمام المباشر والمحصور بسلامة النظام النقدي والمالية العامة.
مفاجأة اوباما لم تواجه بردود فعل سلبية، وهذا امر يحرص فريقه على تجنبه، خصوصاً في كل ما يتعلق بالاقتصاد. ليس لخوف من الانتقاد، وهذا امر لا يمكن تجنبه في الولايات المتحدة الاميركية، بل لأن الموضوع الاقتصادي شديد الحساسية وكثيراً ما يتأثر سلباً وايجاباً بالمزاج العام. فالاقتصاد يعتمد على المشاعر والتوقعات، ويرتبط ارتباطاً مباشراً بأمور لا تمت إلى الدقة بأي صلة، من قبيل التفاؤل والتشاؤم، بالدرجة نفسها التي يعتمد فيها على الأرقام والدراسات التفصيلية، وهذا ما يغيب غالباً عن اذهان بعض المحللين الاقتصاديين. ويشير المقربون من الرئيس المنتخب، إلى حرصه على ايلاء امر المعالجات الاقتصادية المستحقة والمستعجلة اقصى اهتمامه، من دون ان يهمل مخططاته المستقبلية. اي انه يعمل لتحقيق برنامجه الاقتصادي الذي اعلن عنه في حملته الانتخابية، خصوصاً لجهة العمل الجاد على ايجاد مصادر بديلة للطاقة، تتيح تأمين اعداد كبيرة من الوظائف الجديدة، والتي لا يمكن تصديرها إلى خارج الولايات المتحدة، على ما اوضح اكثر من مرة. فضلاً عن بذل الجهود الآيلة إلى وقف التداعيات المالية التي تكبر مثل كرة الثلج منذ انهيار ليمان براذرز، ومحاولة حصرها في الحد الأدنى الممكن، او تجاوزها ان امكن بأسرع وقت. وفي هذا يصح فيه وصف معلق الواشنطن بوست، أي جي ديون، الذي قال: "غالباً ما كنا نصنف الديموقراطيين في البيت الأبيض إلى نوعين: البراغماتيون والتقدميون. لكن اوباما يبدو انه يجمع الصفتين في شخصه". والاعلان عن فريقه الاقتصادي جاء ليثبت هذا الجمع بصورة واضحة، حيث لا تخفي اختياراته على من يعرف نزراً يسيراً في الشؤون الأميركية انه يستعين بألمع العقول الاميركية لمعالجة الازمة الراهنة، لكنه في الوقت نفسه لا يهمل التخطيط للمستقبل الاقتصادي البديل.

عن ايلاف

دلال البزري: لحظة تأسيسية لعصر مقبل

كان الامل غائباً واحياه
نحن، مواطني العالم غير الاميركيين، اشدّ ما يحيي خيالنا السياسي في إنتخاب أوباما، ليس سياسته المحدّدة فحسب، والمقبلة على «مقاومات» او مساومات مريرة... قد تؤدي الى عرقلة تجسيدها، أو حتى الى فشلها. ما يحيي خيالنا ايضا هو ذلك الجانب الرمزي من هذا الانتخاب، والمنطوي على معان ودلالات. كانت البشرية عشية هذا الحدث تتمرّغ في الاجندات البائسة اليائسة، في الفوضى العارمة ووسط إنسدادات الافق. كان الامل غائباً، ووحدها الهويات القاتلة عاملة على الارض. أحيا اوباما الامل. وقياس درجة الاحياء تتمّ، من بين ما تتمّ، بتخيُّل الحال لو فاز خصمه ماكين. فقط تخَّيل: بعدما رفَعنا اوباما المرشح نحو افق محتمل... اليأس الاضافي الذي كان سوف ينتابنا، نحن مواطني العالم غير الاميركي.كانت الكراهية العرقية والدينية والاثنية، فانكسر حاجزها رمزيا وباتَ ممكنا توسّل عولمة لا تتسبّب بتعميم العصبيات الدموية العنيفة. عولمة الهويات الوثّابة حيال بعضها، التواقة للغة اخرى. لو فشل اوباما وفاز ماكين، لكنا عزّينا انفسنا بفكرة الاديب الروسي ماكسيم غوركي، والقائلة بأن الامور سوف تبقى سيئة بما يكفي كي لا ينطفىء في قلب الانسان الامل بحياة افضل.لا نتوقف عن التكرار لأنفسنا وفي سريرتنا: «رئيس اقوى دولة في العالم مكوَّن من نصف كل شيء: اسود وابيض، مسلم ومسيحي، اميركي وكيني... تكرار يُنْبت في مكان ما من مخيلتنا فكرة ان العولمة البدلية التي لطالما نودي بها... قد بدأت ثقافيا، ودشنها اوباما... امل بان نلتقي نحن البشر متحرّرين، قدر ما يفسح الامل، من أوهام القوة وإبتزاز الضعف... وعلى غير الأخروية الكارهة، والمناضلة من اجل القوة او الحقوق.نحن مواطني الدولة العربية، اشد ما يحيي خيالنا السياسي وينعش آمالنا الرمزية الضربة التي وجهها فوز اوباما للديماغوجيا الدينية الممانعة والجهادية الارهابية، وقد بنتْ هذه الاخيرة عزّها بيننا بخيرات سياسة العهد البوشي الهوجاء والصلفة. فالولايات المتحدة ليست ارض الشر المطلق. الاميركيون مثلنا: يختلط فيهم الشر بالخير. طغى الشر البوشي وتغوّل، فردّه الاميركيون على اعقابه. وذلك بفضل نظام يسمح لهم بتصحيح اتجاه سفينتهم الجانحة، ومعها سفننا، نحو اليأس والكراهية والخراب. نظام قام تاريخيا على الابادة والعبودية والعنصرية وها هو يأتي بمن ينقضهم بعد نضال مرير وطويل وتتالي اصلاحات وتحقيق مطالب. ولا ننسى ان الادارة البوشية نفسها كان من بين اركانها كولين باول وكوندوليسا رايس «الملوّنَان» (والاخيرة نعبّر عن عدائنا السياسي لها بتسميتها «رايس السيريلنكية». وفي حالات المغالاة في العداء نقول «رايس العبْدة»!). اما العنيف من هذه المسيرة، فلم يثمر غير الضحايا والقليل من الحقوق.لنذكر ان اولى الحركات المعادية للعنصرية اندلعت بعد رفض امرأة سوداء، روزا وايت، الخضوع لعرف الباصات العنصري والقاضي بالتخلي عن كرسييها ومنحه لأبيض، عام 1955. ومذ ذاك انطلق النضال المؤسساتي والتراكمي والسلمي ونجح. الفرق بين «محورهم» و»محورنا» واضح: اننا نغرق سفننا في «المكْلمات» ونعتزّ بتشبّثنا بـ «الثوابت» وبمبايعة قياداتنا «بالروح... بالدم».اميركا مثل كل قوة متفوقة في التاريخ. تاريخ هيمنتها هو تاريخ هيمنة الرؤساء الذين طبعوا العالم بطابعهم، بالسلب كما بالايجاب. روزفلت وريغان وكلينتون، وبوش مؤخراً. كم من الرؤساء غير الاميركيين، كم من التوجهات العامة قامت على التشبّه ببوش أومناقضته... بالاحرى «ممانعة» سياسته بنفس درجة عنفه ونوعية صلافته. الى حدّ ان «رأس حربة مجابهة المشروع الاميركي في المنطقة...» هي بقيادة احمدي نجاد، توأم بوش، روحا وشكلا ومضمونا. نسخة عالمثالثية عنه. ما يمكن ان ينتجه عالمنا المتخلف من ابطال في مواجهة «محور الشر» أشخاص هم في الواقع من اشباهه. والآن علينا ان نتصور ما سوف تصنعه الهيمنة الثقافية الاميركية قبل الفكرية، من اشباه لأوباما، من تصورات واتجاهات ورؤساء او مسؤولين.الولايات المتحدة استرجعت الهيمنة بمجرد ان ازالت عن جلدها قشرة الكراهية تجاهها. والامل الجديد في هذه الهيمنة انها ضخّت في شرايينها طاقات الاعتدال الخلاقة. وهذه هيمنة، علينا، نحن العرب، ان نفكرها، ان نأخذ بها عبر التثاقف. اي ان لا نقلدها مثلما نقلد برامجها التلفزيونية في غمرة الكراهية لها... بل بالاخذ ايضا من انفسنا، مما نمتلكه من تجارب حية.الاعتدال الذي يبثّه اوباما ويتغذى به خيالنا، لا يتعلق ببرنامجه السياسي الوسطي عموما؛ في التعليم والصحة والمثلية والاجهاض الخ. ولا بالطرق التفاوضية السلمية المؤسساتية التي اعتمدها لبلوغ المنصب الاعلى. لا هذا ولا تلك فحسب. بل ايضا بعطشنا للاعتدال بعد تفاقم التطرف، الديني والزمني؛ التطرف اينما نظرت. وبحاجتنا الملحة لثورة إعتدال. وهذه عبارة مفارِقة، ذات معنى عبثي... على ما اعتدْنا من تطرف للثورات وعنفها الاقصى، حتى في احلامها وفي أحلى ايامها.يفتتح اوباما عصرا جديدا، سوف يعمّ البشرية، كما عمّها سابقا عصر الخراب واليأس. اوباما عصر القوة المحمولة على الاعتدال. ما سوف يعالج مرضنا المزمن: مرض حب كراهية اميركا. كراهية اميركا بالثوابت والغريزة والتطرف. كراهية اميركا بالفشل. فأهلا بهذا العصر.

عن الحياة

عباس بيضون: الآن الكتابة كاغتيال

الاختراع الدنيء بلا موضوع



لا اعرف إذا كان هذا تقليداً، فبالاصل لم نكن واعين له ولم نشعر به الا حين بدأ يزول. نحن شعب عنيف لكننا لا نعرف ذلك ولا نريد ان نعرفه. مثقفونا بالطبع ليسوا حمائم وكذلك كتابنا فهنا تلعب بدون ان نحس، عوامل في ثقافتنا وتربيتنا، الاحادية: التبسيط، النعرات غير الواعية الايمان، وبدون ان نعلم، نعاند ونتهم ونرتاب. مع ذلك فإن جملتنا لم تعد مسمومة تماماً كما هي اليوم. تصارعنا دائما لكن مع بعض الحرص، افكر احيانا في ان تداول الأجيال تم عندنا بدون قساوة او اجحاف او قتل رمزي. لم يشعر الجدل بأن للأمر يحتاج الى حملة وانتقاص وتبخيس، تأخروا غالباً عن ان يصلوا ووجدوا الاماكن محتلة ومع ذلك لم يشكوا في مشروعية ذلك ولم يفكروا في الانقلاب. تم ذلك بكثير من الاحترام والسلم ولا ازال اتعجب من أننا لم نصرخ كثيراً اثناء ذلك، شأن شعوب كثيرة جنبنا، لم نصرخ أبداً. أتعجب من ان تهذيبا كهذا لم نجده في مكان آخر. لقد اقتلعت عيون وآذان وقتل كثيرون او خطفوا على الاسم وعذبوا بلا رحمة وصفوا فوراً، ولا تزال هناك مقابر جماعية، ولا يزال هناك أسرار فظيعة لم تكشف، بل لا تزال المسألة كلها اسراراً. لا سبب عندنا لنعتد إذاً بتهذيبنا، مع ذلك فإننا نتداول مقاعدنا بدون صراخ، نتجادل في العادة بصرامة ولكن بحرص، »بحرص« هل هي الكلمة ام ليس هناك اساساً من كلمة لذلك، ما من كلمة لشيء لم ننتبه له الا الآن. لقد تجادلنا في الغالب، اتكلم عن الجدال فحسب، بدون اذى شخصي. لم يكن التشهير الشخصي مادتنا على الاقل، لم تكن الخيانة تهمتنا المفضلة. اتكلم لا تنسوا عن الكتاب والسجال الكتابي. لم تكن الرشوة والمال هما المشكلة، أفكار الخصم وانتماؤه كانت لتهمنا اكثر ثم ان احداً لم يكن يقارع الآخر في شرفه، ولم تكن الحياة الشخصية، المزورة او الحقيقية، هي الميزان. لم يكن يحصل ان يتناول احد الزوجة او الأخت او الأم، لا اعرف إذا كان هذا تقليداً فنحن تلك الفترة لم ننتبه. لا اذكر ان أحداً اتهم بالعمالة للبوليس او بالتزوير او.. او.. رغم ان شيئا كهذا ليس مستحيلاً. اذكر ان سجلات كهذه ما ان تفتح حتى يجري اغلاقها بحذر. فالجو ليس جاهزاً لاستقبالها. لا بد اننا كنا نشعر ان أمراً كهذا فوق احتمالنا وان اتاحته سيهدد حياتنا كلها. لا بد اننا، حتى في أوقات الصراع الأهلي، حاذرنا ان نصل الى ذلك، كان لدينا الكثير الذي نختلف عليه، ولا نحتاج الى مزيد. او ربما كنا احرص على ابقاء خلافاتنا في موضعها بدون ان نشتتها في ما لا صلة له بها. لم يكن هذا تقليداً لكننا الان نعرف انه كان لنا ما نلتزم به، الان نتذكر ان الفضيحة كان لها غالبا محل شفاهي واننا تجنبنا آنذاك ان نكتبها. اننا كنا نجعل للكتابة مقاماً لا يسمح بهذا التلطيخ. لقد حسبنا بينها ان فظاعاتنا يمكن ان تقال او تروى او تسير لكنها لا تكتب. كانت الحرب ملأى بالفطاعات لكن معظمها بقي مطويا، قليلة هي الكتابات عنها بالنظر الى كثرتها، حتى هذا القليل تنزه عن ذكر اسوأ ما حصل. هذا بالطبع لا يفيد التاريخ واكثر من ذلك لا يفيد المصالحة وربما يعني ان الحرب لم تنته. لا بد ان اعلان ما جرى مقدمة ضرورية لوعيه وتخطيه، لكن ما اعنيه هنا ليس البتة الكتابة عن الفظاعات بل كتابة الفظاعات، ليست هذه بالطبع رواية وقائع، ان لم ترو لن تدخل في التاريخ وستبقى مكانها ذاكرة سوداء وجوف مليء بالضغائن وروايات واحدة ومنحازة. ما اعنيه هنا هو التشهير الحر بلا أي سند، الكذب والتعويل على الاخرين، الاشاعة الطليقة، الاختراع الدنيء بلا موضوع. ما اعنيه هنا هو الفظاعة المكتوبة التي هي هذه المرة حرب بالكتابة، انها في البداية قتل على الاسم. يكفي ان يكون الآخر خصما ليباح كل شيء، أي تهمة، أي تلفيق، أي اكذوبة، أي تشهير، أي شائعة، ولا حساب هنا من أي نوع. وقائع بلا وقائع مواقف لا اصل لها، تشهير يتعدى الخصم الى أهله، كل شيء يغدو مباحاً. هذه المرة ثمة صفحات مكتوبة تبدو بديلاً عن اغتيال لم يقع، انه اغتيال بالتشهير والكذب. ما من دم هذه المرة لكن الكاتب الذي لا يحمل اسما شأنه شأن اللص او القاتل لا يقتل فحسب بل يمثل، انه يشوه، يعمل تمزيقاً في الجثة الرمزية، يقطع اعضاء ويستأصل اعضاء. يقلع العين التي رأت، اليد التي كتبت، القلب الذي شعر. لا يقول له احد من لدنه توقف، هذه المأثرة زالت من زمن. ان يملك احد النزاهة ليحتج على ما يقترفه واحد من لداته. على سلوك تتدهور إليه جماعته. منذ بدأ الكبار والصغار يشهرون بات هذا قانوناً وقاعدة. لا يقول احد توقفوا كرمى المستقبل، كرمى القواعد. كان غوبلز يقول اكذب، اكذب، الآن نعرف ان الشائعة سلاح لكنه سلاح يدل الى صاحبه ايضا. ما رأيكم في سياسة تتغذى من الأكاذيب، حكم يقوم على الشائعات. الآن تدخل الحرب بإباحتها في كل مكان، في التصريح والخطاب والشاشة والصحيفة والموقع. الآن هناك مقاتلون اكثر منهم كتاباً. الآن هي الحرب والقــتل حر والمهم ان تصيب، الآن لا يربأ احد بالكتابة عن شيء. الآن التلطيخ بكل الوسائل، الآن لا قواعد مهنة ولا قواعد من أي نوع. الآن لا يسأل احد عن رأي او موقف، يسالون عن الشخص والمــهم ان يقتل ويمثل به. الآن، مباراة في الكذب... ومصداقية ايضا للكذب. لا يسأل اليوم احد عن القول، يسألون عما وراءه. الكــره الآن هو المشروع والكره الآن هو الحق، والكره شعبي ومحــبّذ و»مــقدس« احياناً، ستكون الثقافة سعيدة بهذه القيم.

عن السفير


Bilal Khbeiz: Whitness

Snapshot of ENvy
When artist Allan Sekula photographs, enlarges and exhibits images of people, animals and things in public places, it is so that before long, these same images can be photographed once more, while they are on display. To photograph an African elephant, or an Afghani porter in one of Kabul’s markets, and place them, respectively, on the façade of the Capitol Hill or at the Los Feliz Fountain in Los Angeles, is without a doubt an act worthy of some scrutiny. Indeed, simply mentioning Sekula’s careful deliberation over architecture, color, vegetation and symmetry at the site where the images are to be displayed seems superfluous in light of what appears to be an evaluation of the image as incomplete before it is supplanted from its familiar context and implanted in a dissonant one.
The viewer also is confronted with a desire to complete the works, asking - what if we were to place the photograph of Capitol Hill with the exhibited elephant image in front of the Kremlin? What if we then placed the image of the Kremlin with the Capitol Hill-elephant sequence at the Obelisk on the Champs-Élysées? What if we displayed the Champs-Élysées with its ensuing image sequences – from elephant to Kremlin – at the Bundestag? The viewer can continue in this manner until the elephant disappears completely, leaving behind only a question as to whether there was any real significance in photographing the elephant in the first place.
The experience is somewhat amusing, yet as I reflected upon the images, I began to wonder about who the elephant might be in such a scenario. Is the disappearance of the elephant necessary in order for the exhibition to move from place to place, or is it rather, that the elephant vanished a few moments after the image was captured? Coming from a place not given to such amusement, I probably began to think of myself as the elephant at that moment. This elephant is always in demand as a model for art, yet as soon as his image is captured by the photographer, he is quickly forgotten and left to his fate. Indeed, the art world seems willing to fight to the death over the rights of a work of art to be exhibited, but not over the fate of its subject. Here we might understand that the imperative is on the war in Afghanistan to pause a little so that photographers can capture images of people, mountains and caves before they are completely devoured by airplane fire and suicide bombers. When the cameras stop filming, Afghanistan is everywhere for all to see and the war can resume once more in its tyrannical luminosity. Once Afghanistan is safely exhibited in a museum, it is not so important that the country Afghanistan remain as it was. It is more likely, that only when it is destroyed completely, will it be once more an object of photographic interest.
This is indeed a bitter realisation with a known origin. The extension of bitterness to geography is germane since even those in the Middle East who providence has blessed, like the Israelis Sarah Palin defends in the belief that her support strengthens their luck, are only relatively auspicious. This vast geography is nothing more than a large studio for the production of art, and they too are the progeny of an acrid bitterness. No sooner are our images captured than we are asked to pose once more, but this time with new wounds and more blood.
In the international news pages of the American press, like international news in any place far from the theatre of events, Beirut only gets a mention when there is bloodshed involved while Baghdad is only discussed in relation to statistical information about the number of victims. We rarely hear about the Iraqi Parliament convening or wage rises in Lebanon. Death is news, and we would do well to remember that we must die in order to capture the attention of the camera.
I do not carry images from my country with me, since when I am there I never see anything worth photographing. To the contrary, it is here in Los Angeles that I have wanted to carry a camera and capture everything that catches my eye. Yet I have been unable to capture anything but a whiteness that means something, and means nothing. This whiteness prepares to welcome the elephant, Capitol Hill, and the markets of Kabul on its pages. On its pages I imagine that I have been able to render Los Angeles, like Beirut, material for photography. What always stops me from perpetrating this crime is that images, all images, continue to adore blood.
Is there anything that our cameras might capture of this city? Perhaps, a snapshot of envy – an image that makes the city’s inhabitants visible but not photographable. This snapshot of envy makes our photos of this place that barely tolerates us, appropriate for cultivating melancholy. What would remain of human emotion if the apprenticeship of melancholy were removed?
In my room here, there are three chairs – one for solitude, and two for company. In solitude I sit until I realise that I live in a blinding whiteness where nothing is visible. This whiteness makes the world appear weightless, like fog, and damp like a bathtub.
nafas Magazine

Paul Krugman: Lest We Forget

Preventing the next crisis now
A few months ago I found myself at a meeting of economists and finance officials, discussing — what else? — the crisis. There was a lot of soul-searching going on. One senior policy maker asked, “Why didn’t we see this coming?”
There was, of course, only one thing to say in reply, so I said it: “What do you mean ‘we,’ white man?”
Seriously, though, the official had a point. Some people say that the current crisis is unprecedented, but the truth is that there were plenty of precedents, some of them of very recent vintage. Yet these precedents were ignored. And the story of how “we” failed to see this coming has a clear policy implication — namely, that financial market reform should be pressed quickly, that it shouldn’t wait until the crisis is resolved.
About those precedents: Why did so many observers dismiss the obvious signs of a housing bubble, even though the 1990s dot-com bubble was fresh in our memories?
Why did so many people insist that our financial system was “resilient,” as Alan Greenspan put it, when in 1998 the collapse of a single hedge fund, Long-Term Capital Management, temporarily paralyzed credit markets around the world?
Why did almost everyone believe in the omnipotence of the Federal Reserve when its counterpart, the Bank of Japan, spent a decade trying and failing to jump-start a stalled economy?
One answer to these questions is that nobody likes a party pooper. While the housing bubble was still inflating, lenders were making lots of money issuing mortgages to anyone who walked in the door; investment banks were making even more money repackaging those mortgages into shiny new securities; and money managers who booked big paper profits by buying those securities with borrowed funds looked like geniuses, and were paid accordingly. Who wanted to hear from dismal economists warning that the whole thing was, in effect, a giant Ponzi scheme?
There’s also another reason the economic policy establishment failed to see the current crisis coming. The crises of the 1990s and the early years of this decade should have been seen as dire omens, as intimations of still worse troubles to come. But everyone was too busy celebrating our success in getting through those crises to notice.
Consider, in particular, what happened after the crisis of 1997-98. This crisis showed that the modern financial system, with its deregulated markets, highly leveraged players and global capital flows, was becoming dangerously fragile. But when the crisis abated, the order of the day was triumphalism, not soul-searching.
Time magazine famously named Mr. Greenspan, Robert Rubin and Lawrence Summers “The Committee to Save the World” — the “Three Marketeers” who “prevented a global meltdown.” In effect, everyone declared a victory party over our pullback from the brink, while forgetting to ask how we got so close to the brink in the first place.
In fact, both the crisis of 1997-98 and the bursting of the dot-com bubble probably had the perverse effect of making both investors and public officials more, not less, complacent. Because neither crisis quite lived up to our worst fears, because neither brought about another Great Depression, investors came to believe that Mr. Greenspan had the magical power to solve all problems — and so, one suspects, did Mr. Greenspan himself, who opposed all proposals for prudential regulation of the financial system.
Now we’re in the midst of another crisis, the worst since the 1930s. For the moment, all eyes are on the immediate response to that crisis. Will the Fed’s ever more aggressive efforts to unfreeze the credit markets finally start getting somewhere? Will the Obama administration’s fiscal stimulus turn output and employment around? (I’m still not sure, by the way, whether the economic team is thinking big enough.)
And because we’re all so worried about the current crisis, it’s hard to focus on the longer-term issues — on reining in our out-of-control financial system, so as to prevent or at least limit the next crisis. Yet the experience of the last decade suggests that we should be worrying about financial reform, above all regulating the “shadow banking system” at the heart of the current mess, sooner rather than later.
For once the economy is on the road to recovery, the wheeler-dealers will be making easy money again — and will lobby hard against anyone who tries to limit their bottom lines. Moreover, the success of recovery efforts will come to seem preordained, even though it wasn’t, and the urgency of action will be lost.
So here’s my plea: even though the incoming administration’s agenda is already very full, it should not put off financial reform. The time to start preventing the next crisis is now.
new york times

Micheal Hirsh: The Truf Wars Ahead

Can Obama's economic team work well together?

There's a Mutt-and-Jeff quality to the relationship between Tim Geithner and Larry Summers. They are good friends who play tennis together (Summers, despite his bulk, is a surprisingly agile competitor who gives the lean and fit Geithner all he can handle). Each is aware that they bring complementary abilities to the table. "Tim admires Larry's intellectual candlepower, and Larry admires Tim's knowledge of government," says one close associate of both. By several accounts, their personalities mesh very well, too. Whereas Summers is known for his intellectual assertiveness ("arrogance" was the term freely used in his younger days) and penchant for the spotlight, Geithner is widely praised for his self-effacing willingness to credit others for the success of his policies. During the late 1990s, both men were admiring acolytes of Treasury Secretary Robert Rubin; according to their own testimony, they learned a great deal from his cool and competent handling of the Asian financial contagion.
Now Geithner and Summers will supply the one-two punch behind President-elect Osama's efforts to raise the U.S. economy out of the worst financial crisis since the Great Depression. In the early months of the administration, with so much on the line, we can expect that Treasury Secretary-designate Geithner and National Economic Council director Summers will act quickly and congenially to implement Obama's plans for a vast fiscal stimulus.
The question is, how long will all this good fellowship last? Turf wars at high levels are an almost inevitable consequence of crisis management in Washington. And there is reason to think that Summers—passed over for the Treasury secretary job he had wanted to reclaim in favor of his onetime subordinate, Geithner—is not going to be shy about seeking to dominate the new administration's economic policy, including the Treasury Department. Obama all but conceded this role to Summers at the news conference on Monday at which he announced their appointments. The president-elect called him "one of the great economic minds of our time" and said that Summers' ideas on income inequality and boosting the middle class "will be the foundation of all my economic policies." "I will rely heavily on his advice as we navigate the uncharted waters of this economic crisis," Obama added.
If all goes according to plan, Summers will supply the big think while Geithner, who earned his chops as a market interventionist in the mold of Rubin, will be the point man implementing policy in the clinches. That should work fine until the financial system stabilizes. But then the Obama administration will have even bigger challenges to tackle: How big and targeted should the fiscal stimulus be? How should the team deal with the long-term deficit? And above all, how should it remake the global financial system? That's where Geithner may start to feel like a Summers subordinate again. "The risk for Tim is that he's viewed as being No. 2," says a former New York Fed official who knows both men well. "He's going to have to develop views on fiscal policy that aren't necessarily his strong suit, where Larry is going to be dominant." If Summers is increasingly perceived that way, this former official says, "he will be undercutting Tim, whose effectiveness will be reduced. That's when the heads of Wall Street firms start calling Larry instead of Tim. That's the issue, that's the tension. How do they manage that?"
And then there is the question of Ben Bernanke, whose term as Fed chairman expires a little over a year from now, in January 2010. It's no secret that Summers covets Bernanke's job, and recently the Obama camp made him even more jittery by leaking the suggestion that he would not be reappointed next year to make way for Summers. Bernanke and Summers are longtime academic colleagues, but if the Fed chairman—like Geithner, no egotist—comes to perceive every Summers suggestion as a potential threat, then the perceived friction between them could begin to roil the markets.
Finally, on Wednesday, Obama created a whole new sphere of influence in the potential fight for economic turf. He named former Fed chairman Paul Volcker as head of his "Economic Recovery Advisory Board," with Obama's longtime campaign advisor, University of Chicago economist Austan Goolsbee, as the top staff official. This will create another power center that could come to rival what the National Economic Council became when Bill Clinton first created it in 1993. At the time the NEC was seen as fairly innocuous, a place to roost for Bob Rubin while Lloyd Bentsen was Treasury secretary. Guess who quickly became the dominant voice in the administration?
Though all of these men are, to differing degrees, centrist Democrats, there is little evidence that they agree on policy. One pleasant myth out there is that all these new players—especially Summers and Rubin—will simply be devoted practitioners of "Rubinomics,"or the idea that fiscal discipline is a panacea. Both clearly do look up to their former boss, who is now keeping a low profile over the near-implosion of Citigroup, which has been his home since he left Washington. After Summers took over as Treasury secretary in 1999, the formerly rough-edged academic gave emotional thanks to Rubin for teaching him how to manage people and crises. "I can't begin to describe how much I have learned" from him, Summers said at his swearing-in. Geithner, who worked as a relatively junior staffer under Rubin, also became his disciple after watching him herd banks into place during the Korea crisis in December 1997. On one critical day, when Seoul had just $4 billion in reserves left and was losing $1 billion a day, Rubin got on the phone from his vacation home in the Caribbean and told every major banking head around the world that they'd better extend their credit—or else. "They all said it was an amazing performance," recalls one former associate of Geithner's. As a crisis manager, Rubin is indeed the model, as well he should be. But in other areas, Rubin's influence is greatly overstated. First, the economic environment is completely different from the early '90s, when Rubin persuaded the Clinton administration of the need to appease the bond market with fiscal discipline. "I think you can throw most of those notions out the door," says the former Fed official. "At that point, interest rates were high, and bringing down the deficit was a way to bring interest rates down. In this case you've got a deflationary specter out there. Interest rates are low and it's actually a problem if they go lower." Summers, in fact, was one of the first economists with Obama's ear to propose a massive fiscal stimulus—the deficit be damned.
And in general both he and Geithner are much leerier of letting markets run free than was Rubin, who made his bones as a Goldman Sachs currency trader. Geithner "is one of the more interventionist people you'll come across in government circles," says the former official. He is known as one of the strongest voices for bailing out Korea and the Mexican peso, as well as intervening in the dollar market when both Rubin and Summers were wary. Summers, for his part, has long been a closet advocate of far greater regulation than Rubin would ever embrace. His old academic work often focused on market imperfections; in the 1980s, he even proposed a transaction tax on short-term trading (at a time when Rubin was doing it for a living).
Summers also became a quiet advocate of the views of liberal Harvard economist Dani Rodrik,-who believes in more measured globalization and tougher market regulation. Another key member of the Obama team, Office of Management and Budget director-designate Peter Orszag, once worked under Rubin as well. But Orszag was mentored before then by Joseph Stiglitz and Alan Blinder, whose work also stresses the government's role in preventing market failure. Even so, long-term fiscal sanity—the essence of Rubinomics—will no doubt be at the back of all their minds once the crisis passes, if only to rescue the dollar from another slide.
So, yes, the Obama economic crew is firmly a team of friends, not rivals. But don't expect them to operate like one for long. And don't hold your breath waiting for the return of Rubinomics.

newsweek

الأربعاء، 26 نوفمبر 2008

بلال خبيز: كساد الموقع الجغرافي وضمور الريع السوري

حرب ولا سلم
من محاسن الصدف التي يمكن للمرء ان يسجلها، ان الابواق اللبنانية التي تغزل على نول نجاح النظام السوري في فك عزلته منذ شهور، لم تخرج علينا اليوم بالقول ان زيارة ميليباند إلى دمشق علامة اضافية وضيئة على هذا النجاح. مثل هذا التحوط استر لما تبقى من مصداقية لدى بعض وسائل الإعلام اللبنانية التي تغذت على مثل هذه الأقاويل منذ شهور. مع ذلك، ليس في هذه الاقاويل والتحاليل ما يضير، فكل امرئ يسعه ان يحلل بحسب ما يتمنى، رغم ان الاعتذار واجب، اقله ممَن سمتهم بعض الصحافة اللبنانية على صدر صفحتها الاولى، "اعضاء شبكة كفرشوبا الإرهابية"، احقاقاً لحق هؤلاء، اهلاً ومواطنين، من دون ان نجنح إلى محاسبة صحافيين على بث اخبار لا تمت إلى الحقيقة بصلة وتضخيم احداث لا تتصل بواقع الحال من اي وجه. ولو كان من اتهمتهم بعض الصحافة اللبنانية بحيازة الزئبق الأحمر في مقام الجنرال ميشال عون الرفيع، لكان الجنرال اقام دنيا القضاء والرأي العام ولم يقعدها تحصيلاً لنقاء سمعته. لكن الناس مقامات!
مصداقية الصحف والسياسيين لم تعد قضية ذات شأن في لبنان، والامر تبعاً لذلك، لا يستحق من أي كان ان يصر عليه. ففي مثل هذا الإصرار ما يقبض الصدر ويخرب المزاج. تماماً كما تكون الحال عليه حين يكون التفاوض السوري مع اسرائيل نصراً سورياً مؤزراً ودليلاً ساطعاً على نجاح سوريا في فك عزلتها من الباب الإسرائيلي. في وقت لا ينفك النظام السوري يخضع لامتحانات في حسن السلوك، يسميها هو نفسه انتصارات دبلوماسية. مع ذلك، ليس ثمة في العزلة السورية ما يسر عدو ولا صديق. لكن الامر يتعدى السرور الحزن إلى ما هو ابعد منهما. ويتعلق تعلقاً مباشراً بالمعنى الذي تكشفت عنه مسألة التفاوض السوري مع اسرائيل على تحقيق سلام دائم يدعى إليه لبنان، بحسب مطلب الرئيس الأسد في احدى لحظات تفاؤله في تحقيق اختراق على المسار التفاوضي.
ولئن كان انعقاد المفاوضات غير المباشرة بين سوريا واسرائيل برعاية تركية احد ابرز انجازات النظام السوري الدبلوماسية في السنوات الثلاث الأخيرة، فإن اعتراض النظام نفسه على مندرجات مؤتمر حوار الأديان الذي انعقد في نيويورك، يبدو كما لو انه ينم عن رغبة سورية عميقة في تعطيل اي سلام. ليس لرغبة سورية في استمرار الصراع ضد اسرائيل حتى زوالها، على ما يصرح الرئيس الإيراني، بل لأن انفتاح اي كوة في جدار الصمم الإسرائيلي قد يجعل النظام السوري يخسر زبونه الوحيد: اسرائيل.
راهن النظام السوري على استعادة تفعيل ريع موقع سوريا الجغرافي بإقامة مفاوضات مع اسرائيل بافتراض انه يملك مفاتيح المشاكسة العربية كلها، من حزب الله في جنوب لبنان إلى حماس في قطاع غزة. وبافتراض ان زمن الممانعة العربية الفاعلة، وقدرة النظام العربي على تفعيل ممانعته واثبات انه رقم صعب في هذا العالم لم يعد راهناً. لكن ما تكشفت عنه وقائع الأسبايع الاخيرة من دور سعودي دولي بارز، ودور مصري مماثل، اثبت ان الممانعة العربية الفعلية لا تقع في دمشق بل في الرياض والقاهرة وربما ايضاً في عمان. لقد اثبت معسكر الاعتدال العربي انه بات رقماً صعباً وان اسرائيل قد تستسهل إدارة ظهرها لمطالبه ردحاً لكنها من دون شك باتت تستصعب إعلان الحرب عليه، إن لم يكن قد اصبح ذلك مستحيلاً عليها. فالدول العربية الكبرى، او ما يسمى بمعسكر الاعتدال العربي، اثبتت انها تملك مفتاحاً في الصراع لطالما كان غائباً عن الذهنية السورية. منذ ان اطلق الرئيس الراحل حافظ الأسد لا حرب من دون مصر ولا سلم من دون سوريا شعاراً، نامت الدبلوماسية السورية على وقعه الرنان من دون تغيير. باعتبار ان النظام السوري ما زال قادراً على المشاكسة، لو لم يكن قادراً على الحرب. لكن معادلة الحرب والسلم تحتاج إلى طرفين يحاربان ويسالمان، وهو ما غاب عن الذهنية الدبلوماسية السورية غياباً فاقعاً، حيث لم تفطن الإدارة السورية إلى ان ما حققته دول الاعتدال العربي من انجازات يعني في المقام الأول ان اسرائيل باتت شبه عاجزة عن اعلان الحرب على دوله، وان مصالح هذه الدول ومكانتها في العالم اصبحت راسخة بحيث باتت ممرات الحروب لإخضاعها شبه مقفلة ان لم تكن مقفلة تماماً. وحدها سوريا بين الدول العربية ما زالت من غير حصانات من هذا القبيل، وكانت مثل هذه الحصانة ممكنة التحقق لو انها انتظمت في الإطار العربي الأعم، والذي مثلته مبادرة الملك عبدالله للسلام التي اطلقها من قمة بيروت.
سوريا ليست محصنة ضد حرب اسرائيلية عليها، هذا امر يجب ان لا نستهين به، ذلك انها على مدى العقود الأخيرة لم تكف عن التصرف كما لو انها قرصان بري، يتوسل السلام ابتزازاً ويتوسل المكانة الإقليمية بقطع طريق الاستقرار على من تطاوله اذرعته المتعددة. وحين لا يكون ثمة ما يردع اسرائيل عن الحرب ضد سوريا او يران إلا موازين القوى العسكرية، وحساب الكلفة والأخطار فذلك يعني ان الحرب واقعة لا محالة، إلا إذا اثبت النظام انه جاد في الخضوع إلى امتحانات حسن السلوك. وان يكون النظام السوري اليوم مدعواً لتحسين سلوكه تحت وطأة التهديد بالحرب او العزلة الخانقة، فمعنى ذلك ان سياسة القرصنة والابتزاز باتت في يد الطرف الآخر، ولم تعد طوع بنانه. هكذا يُفهم اعلان رئيس الدولة العبرية شيمون بيريس من لندن: ان على سوريا ان تختار بين الحرب والسلام، بوصف اسرائيل من يبتز سوريا وليس العكس.
ذات يوم قال برلماني كويتي عريق، ان المقاومة الأنجع لا تكون بالسلاح بل بحسن استثمار العلاقات الدبلوماسية. واليوم في وسع المرء ان يكرر ان الاستراتيجيات الدفاعية لا تتلخص فقط بتكديس الصورايخ.

عن موقع المستقبل

ايمن جزيني: المقاومة حضناً للتوتر وليس للحوار


كيف ملتقى حوار اديان في بلد يحاور اهله بالدم بعضهم بعضاً؟

يقوم رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان منذ فترة بدور سياسي لافت ومميّز لم يُعطَ ربما لأحد ممن تربع على كرسي الرئاسة الأولى أن سبقه إليه. وهو يضطلع بدور جعله مقصد الأنظار والزيارات والوفود. وتحوّل موضوعاً للمدائح، ونقطة للآراء الساعية إلى التقارب. وقد يكون اجماع القيادات السياسية، موالاة ومعارضة، على التطوع لمؤازرة كتلة نيابية "وسطية" دعا إليها الرئيس، قرينة قوية وجليّة على أهمية حركته السياسية، بينما لا ينفك البلد يتردى ويزداد وهناً وتراجعاً.إلا أن ما طرحه سليمان في مؤتمر "حوار الأديان" قد يحمل المراقب على طرح الاسئلة. فالرئيس لم يتردد في الطلب إلى المجتمع الدولي جعل لبنان مركزاً للقاء الثقافات والأديان، مغفلاً إطباق الميليشيات المسلحة على البلد من كل جهة، وأن وصوله إلى سدة الرئاسة الأولى سبقه فراغ في الأبنية الدستورية لم يسبق لدولة ما أن شهدت مثله إلا في حالي التوتر والحرب.يسع المرء أن يسأل القائمين على أمور البلد سؤالاً ملحاً: كيف لبنان مركزاً للقاء الثقافات والأديان وحيزاً لحوار يهجس العالم قلقاً لإجرائه، فيما حال "حزب الله" ورهطه دون إجراء انتخابات رئاسية، ودون مباشرة مالكين لأرزاقهم في وسط بيروت التجاري؟ وكيف يكون البلد دولة، فيما جماعات فيه تهذر صبح مساء بـ"مقاومة" تسعى في مسالك حروب لا ترهص بنهاية لها؟ عاش لبنان خلال العامين الماضيين سجالاً متمادياً حول "قرار الحرب والسلم" ومدى ملاءمة "الاستراتيجيا الدفاعية" لطبيعة الوضع الداخلي. وهو واقع كان يعكس الصلة الوثيقة بين التهديدات الإسرائيلية ولبوس "حزب الله" لها، والحياة السياسية ومصير الديموقراطية عموماً، الأمر الذي تجلى بأوضح صوره في 7 أيار تحت عنوان "السلاح لحماية السلاح". ومهما تكن ملابسات الحزب الشيعي في نزوله المسلح إلى شوارع العاصمة، وقبل ذلك عراضاته العسكرية، فهو لم ينفك منذ اناطته بنفسه "التحرير" والحرب على إسرائيل، يربط ربطاً وثيقاً بين أجندته وخضوع اللبنانيين، فجعل النزول عند إرادته شرطاً شارطاً لثبات السلم الأهلي الهش، كما جعل من خضوع التنوع اللبناني إلى مقاومته طريقاً معبّداً إلى مزارع شبعا الموقوفة على توقيع سوري يؤكد لبنانيتها. فالتحرير مشجب يعلّق عليه الحزب الإيراني النشأة والرعاية، سياساته وبرامجه ونوازعه كلها. ويتوسل بهذا المشجب إلى تعريف نفسه. ويزعم لنفسه علناً ضلعاً في الأحوال الدولية، سياسة وثقافة واقتصاداً، من دون أن يكون للآخرين مساءلته، فيضطلع بتسويغ نهج حربي قاطع يصلي جماعات الداخل، ويسعى في تسلط جامح إلى فرض هواجسه، على ما يؤكد نوابه المنوهون في معرض تصريحاتهم عن "الاستراتيجيا الدفاعية".يغفل الداعون إلى "التهدئة" إفساحاً في المجال للتوصل إلى إقرار "استراتيجيا دفاعية"، أن جذور "المقاومة" منذ كانت، نهضت على أنقاض الدولة وأبنيتها الدستورية والسياسية، فضلاً عن ان نسختها الحزب الهية فرضتها الهيمنة السورية المديدة على البلد من طريق استثناء الحزب الخميني من حل الميليشيات، ومنعت بينه وبين الدولة وحقوقها، فاقتطع حيزه وجماعته من الاجتماع اللبناني العام.فالمقاومة تسعى في كل ما ينقض الدولة ويذرر اجتماعها شيعاً، ويُعلن الحرب ومنطقتها على ثقافة السياسة وعمليتها لفائدة الانتساب إلى العصبيات والانضواء تحت رايتها الخفاقة. وهذا ما يناقض الحوار والأديان والثقافات ويناكفها مناكفة العقل الاحادي لمثيله. وهي (المقاومة) لا تني ترسي سلطتها على القهر والقمع لإرساء ما تسمّيه "حقها" في أن تكون مقاومة، وتستثني نفسها من مبادئ الحق والقانون الدولي، وتنصّب نفسها بديلاً من الجميع شاؤوا أم أبوا. وتنفي الأبنية السياسية والقانونية والدستورية نفياً لا تمييز فيه، لينهض في جنباتها التوتر سياقا عاماً لا أمن بعده لأيّ فرد.ثمة عيب أعمق وأفدح مصدره نزوع الغالبية - قوى 14 آذار - نزوعاً ثابتاً إلى مناقشة "الاستراتيجيا الدفاعية"، فيما يفترض منطق الدولة، كل دولة، أن الوطن له دائماً سياسة دفاعية. وإذا كان المتوخى من المناقشة أو ما يسمّى "الحوار الوطني" التهيؤ لمواجهة عدوانية إسرائيلية محتملة في كل لحظة، فالسؤال كيف السبيل إلى مواجهة مع دولة تعهّد المجتمع الدولي بتفوقها الاستراتيجي حرباً وسلماً؟ فما يحصل في هذا السياق يعكس لوناً صارخاً من ألوان التلاعب السياسي بمصير البلد.لا يمكن الموافقة في معرض الجواب عن السؤال السابق، على ما يروّجه سياسيون كثر من قول مفاده أن وقائع السنتين السابقتين تؤيد حصول حوار حول "الاستراتيجيا" والنزوع إلى التهدئة وفقاً لسياق "عشائري" لتثبيت استقلال لبنان وحياته السياسية وإرث تقاليده الديموقراطية. فمثل هذا القول ينطوي على تضخيم لا يملك حظوظاً من الصواب. وينبغي التعرف إلى الحد الفاصل بين ما ينتمي منه إلى دائرة الاختيار، وما يقع منه في دائرة الاضطرار. فاللبنانيون امام حدّين من الخيارات القاسية والمتوترة اللذين فرضتهما ميليشيا المقاومة في شوارع بيروت وعند حدود بعض المناطق في الجبل: إما التوتر و"السلاح لحماية السلاح"، وإما الانقياد والنزول عند رغبة الحزب الخميني الشيعي نزولاً لا مكان للعودة عن مساره الانحداري.يعرف اللبنانيون ان رئيسهم يتميز من بين آخرين بصفتيه العسكرية والسياسة، فهو على ما نعلم من تجربته كان قائداً للجيش وحال دون اهتزاز المؤسسة العسكرية في ظل ظروف شديدة التعقيد، وهو حالياً رئيس لجمهورية يزداد فيها التوتر. وهذا جمعٌ مصدر قوة سليمان ونوازعه السياسية. وما طلبه من مؤتمر "حوار الأديان" يقع في عين الصواب ولا جدل فيه. وليس ثمة من يريد عكس ذلك. لكن ما يسير البلد في مسالكه يفرض علينا البحث في إمكان تحقق المساعي والأماني. وكيف للبنانيين، وهم من المغلوب على أمرهم بإزاء أسلحة الميليشيات، أن يمنعوا ما يجب منعه من سطوة المقاومة وترهيبها لهم، وتجويز ما ينبغي تجويزه لجهة قيام الدولة؟ وكيف يكون لبنان مركزاً لحوار الاديان والثقافات، وفيه من لا يعرف إلى الحياة سبيلاً سوى الحرب وهذرها؟ أم أن الرئيس يعتبر ان الاجابة عن هذه الاسئلة سابقة لأوانها، وأنه، بوصفه أدرى بشعاب مكة وبمتن الاجتماع السياسي اللبناني، يذهب في ما ذهب إليه؟
ملحق النهار

علي زراقط: بلاد الآمال الواسعة والواقع الضيق


الدولة التي تبحث عن شعبها والشعب الذي يبحث عن دولته
فلننظر ملياً إلى الصور العالقة في أذهاننا، عندما نستعيد كلمة لبنان. قد يخطر للكثيرين صورة البحر القريب من الجبل، ويرى بعضهم الآخر الشروال والمازة والعرق البلدي، وآخرون يرون رجال الله في الميدان، أو الفتيات المغناجات وهنّ يتمايلن بأردافهن، أو الكنيسة قرب الجامع، أو فيروز، إلى ما هنالك من صور، هي التي تعرّف نظرتنا إلى أنفسنا، وهي التي تصنع من كلمة لبنان ذاكرة جمعية على أساسها قد تتكون الهوية. يتلخص انتماؤنا ورؤيتنا إلى البلاد عبر مجموعة من الإشارات البصرية قد تشكل مجتمعةً هويتنا العامة. إلا أن ما قد يصيب البلاد هو اجتماع عدد من الناس حول الانتماء الحصري إلى إحدى هذه الصور، ورغبتهم في الدفاع عن هذه الصورة حتى الموت. وهذه ظاهرة عامة في الانتماء الحصري إلى جزئيات الصورة المكوّنة للهوية. اختلف مع الكثيرين ممن يقولون بعدم وجود هوية لهذه البلاد، حيث أنني أجزم بأن هناك هوية منجزة لهذا الوطن، تتكون صورتها عبر مجموعة من العلاقات المتشابكة بين رموز وإشارات سوسيولوجية. إلا أن عدم القدرة على استيعاب الصورة مجتمعة، وفهم هذه العلاقات وماهيتها، لا يلغي وجود هذه الصورة. أعود إلى مفهوم كنت قد بيّنته في مقال سابق في "الملحق"، ألا وهو مفهوم كولاج الصور المشكِّلة للوعي الجمعي لهذه البلاد. إذا وضعنا هذه الصورة تحت التشريح رأينا أن هذه البلاد هي مزيج من جغرافيا سياسية متميزة عن المحيط، وهذا ما يعطيها استقلالية ووحدة موضوعية غير قابلتين للمناقشة. ومن ناحية أخرى يضفي عليها مجموعة من التناقضات السوسيو-ديموغرافية المرتبطة مباشرة بعامل الخوف بين المجموعات المكونة للسكان، وهذا ما يضعها على خط القلق وإعادة إنتاج الازمات بشكل مستمر.

الاستعارة السياسية

تلفتنا في هذا المكان عبارة "زوم آوت" التي استخدمت في محط الإشارة إلى الصورة التي رسمتها حركة 8 آذار ومن ثم حركة 14 آذار من بعدها. وهي عبارة مطلقة، أي أنها شعار مطلق غير مرتبط موضوعياً بالحاجة إلى استخدامه في تلك اللحظة، إلا أن قيمته الفعلية تأتي من المكان الذي أطلق منه، أي من المنصة التي وقف عليها الأمين العام لـ"حزب الله" ليخاطب جمهوره، ومن ثم وقف عليها زعماء 14 آذار ليخاطبوا جمهورهم. هذه العبارة تكتسب صيغة الرمز (أي الإشارة التي تحتاج إلى تأويل كي تصبح ذات معنى)، وهي تستعيد معناها من خلال الوعي المسبق لماهيتها لدى الجماهير المجتمعة في 8 و14 آذار. كما أن هذه العبارة بما أنها مطلقة في محتواها الرمزي المباشر (زوم آوت)، وبما هي عبارة قياسية، أي بما أنها تنطلق فعلياً من المكان الذي تم تثبيت الكاميرا فيه كي تقوم بـ"الزوم آوت"، فهي تحتمل تناقضاً واضحاً ينحاز إلى إشهار صفة المطلق على ما هو محدود. نأتي في هذا المكان على ذكر هذه الرمزية، في محاولة لتبيان الواقع السياسي الإجتماعي اللبناني، الذي ينحاز لكي يكون واسعاً ومطلقاً (كونياً عبر ارتباطه المباشر بالصراعات العالمية) فيما هو في طبيعته محدود وضيق. فلو أردنا أن ندخل في باب صراع الأحجام وطلبنا أن تقوم الكاميرا بـ"زوم آوت" أكبر لنرى حجم لبنان من العالم، لرأينا أن الشعارات التي تريد تغيير العالم نحو الممانعة وإسقاط النظام العالمي، أو التي تريد نشر الديموقراطية في بلدان العالم الثالث انطلاقاً من هذا البلد الضيق، ما هي إلا آمال فضفاضة لا يسع الشعب اللبناني أن يرتديها، وإن ارتداها تعثّر في مشيته. وهذا بالفعل ما يحدث في لبنان. من ناحية أخرى، ومن باب الاستمرار في ملاحظة ظاهرتي 8 و14 آذار، نعرّج على هاتين الحركتين من باب الانتماء اليهما. إن الانتماء إلى تسميات من مثال 14 آذار أو 8 آذار، إذا أردنا وصفه ثقافياً، هو انتماء دوغمائي إلى إشارة ذات محتوى تأويلي (أي غير دوغمائي). بمعنى آخر، إن الانتماء إلى إحدى هاتين الإشارتين على مستوى الفرد أو الجماعة، هو انتماء إلى تفصيل من تفاصيل محتوى الإشارة، أي أنه انتماء إلى تأويل من التأويلات المتعددة التي قد تحملها إشارة 14 أو 8 آذار. وقد يكون هذا التأويل صحيحاً أو غير صحيح، إلا أنه لا يمكن أن يكون انتماءً إلى كامل معنى الإشارتين. إذ أن الإشارتين لا تحتملان معنى محدداً ولا هما قادرتان على صنع معادلة ربط بين مجموعة من المعاني. هما إشارتان مفتوحتان على التأويل، حيث أن لكل فرد القدرة على ربط إشارة 8 أو 14 آذار بالمعنى الذي يريده تبعاً لرغباته السوسيو-سياسية. تتحول الحركتان السياسيتان اللبنانيتان الأبرز إلى نوع من الترويج لسلعة غير موجودة، أو غير معدّة مسبقاً، هي سلعة رمزية وقياسية يرتبط بها كل فرد من طريق ارتباط مجازي، ويربط بها رغباته بشكل مجازي. إن العلاقة بين الحركات السياسية اللبنانية والفرد اللبناني، هي علاقة ذات جانب واحد من الالتزام. بمعنى أن الفرد مرتبط بالحركة السياسية على قدر آمال لا تعده هذه الحركة بها، إنما هو من يقدّر أنها تعده بها. لذا فإن كلمتي 8 و 14 آذار تتحولان إلى نوع من الاستعارة السياسية، فتتحول السياسة اللبنانية إلى حالة شعرية بالكامل تستطيع أن تفبرك أبطالها وأشرارها، وهذا ما يجعلها قادرة على جذب جمهور واسع من المتابعين (والمشجعين كما في كرة القدم) للفرق اللبنانية، من خارج لبنان أيضاً. تدخل اللعبة السياسية اللبنانية هنا في حالة من الفوق واقعية (hyperreality)، حيث أن محتويات حركة 14 آذار (مثالاً) بنيت على غضب مجموعة كبيرة من اللبنانيين ورفضهم للوجود السوري في لبنان. على أن انتفاء المحتوى لم ينف الإشارة. أي أن انتفاء الوجود السوري في لبنان، لم ينف رمزية كلمة 14 آذار والانتماء إليها على قواعد وتأويلات جديدة ومتعددة. كذلك هي الحال بالنسبة إلى حركة 8 آذار. اللافت في الأمر أننا لو نظرنا إلى المشهد البصري، أي الى الصورتين اللتين صنعتهما الحركتان، لوجدنا القليل القليل من التعارض، أو التناقض في المشهدين.
نعود إلى صورة لبنان الصانعة لهويته. فلنقل إن هوية لبنان الحالية هي هوية مجازية، عبارة استعارية قابلة للتأويل. هذه الاستعارة قادرة على فتح أبواب كبيرة لآمال واسعة، إلا أن الواقع الذي يؤدي إلى حصر الانتماء الجماعي المجتزأ (أي نسبةً إلى إحدى الجماعات اللبنانية المتعددة)، بجزئية واحدة من الصورة المتعددة، يجعل هذا البلد بلداً للواقع الضيق. "بلاد الآمال الواسعة والواقع الضيق": هذه هي المفارقة الرئيسية (التناقض الرئيسي) التي تنتج منها صورة الهوية الضبابية، وإعادة صناعة الأزمات. هذه هي المفارقة التي تصعّب على اللبنانيين إعادة فهم علاقتهم بصورتهم، أي بواقعهم. وهي التي لا تمكّن اللبنانيين من إعادة إنتاج التسويات والعلاقات بين أجزاء الصورة المتعددة.
العلاقة مع الواقع

تحتاج مؤسسة الهوية اللبنانية إلى إعادة إنتاج علاقتها مع الواقع، وذلك من خلال التخلي عن الإشارات ذات التأويل المتعدد إلى الإشارات ذات الدلالات الواضحة. إن قدرة هذه البلاد على إيهام أبنائها بصناعة المستحيل، وجعلهم يسعون خلف هذا المستحيل هي المسبب الأساسي لليأس من البلاد وقدراتها. إلا أن إعادة بناء الآمال والأحلام على قدر الواقع، أي على قدر الواقع اللبناني على التحمل، هي السبيل الوحيد لإعادة إنتاج الانتماء والوعي اللبنانيين على درجة من ضمان الاستمرارية عبر ضمان نجاح هذه الآمال أو إمكان نجاحها. إن العلاقة مع الواقع هي من حيث تعريفها علاقة مع الحاضر بصفتيه الزمنية والمكانية. أي أنها إعادة تصالح مع المكان (الجغرافيا السوسيو-ديموغرافية) ومع الزمن الحاضر الذي نعيش فيه. من عناصر الخطاب السياسي والشعبي والثقافي اللبناني أنه مبني إما على الماضي وإما على المستقبل، أي على الحنين أو الوعد، بشكل منفصل عن الحاضر والمكان. يحن اللبنانيون إلى الماضي الذي كان أفضل من الآن، وإلى المكان الذي كان لهم، غير معترفين بالمكان الذي هم يعيشون فيه الآن، وغير متصالحين مع الزمن الذي يعيشون فيه الآن. وهم يعدون أنفسهم بأن المستقبل سيكون أهم وأفضل من الحاضر. فلسفة الحياة هذه هي فلسفة مستمرة، حيث أن حاضر اللبنانيين هو سيىء في نظرهم، وحيث أن ماضيهم لطالما كان أفضل، ويعدون أنفسهم بأن المستقبل سوف يكون أفضل. إلا أن الأزمة الحقيقية هي أن الحاضر هو مستقبل البارحة، وأنه ماضي الغد. لذا فإن هذه الفلسفة هي فلسفة الانتظار الدائم لأشياء لن تحصل، وفلسفة الحنين الدائم إلى أشياء لم تحصل. هي فلسفة عدم الرضا، أو بحسب العبارة "النفس تحليلية" عدم التصالح مع الحاضر والمكان الذي يشغلونه.

التصالح مع الحاضر

إن التصالح مع الحاضر يشترط القدرة على وعي الحاضر، وعلى وعي مكاننا، وعلى تحديد مساحتنا الحيوية. إن التصالح مع الحاضر، يشترط فهم المكان والزمان الحاضرين والقدرة على رؤيتهما معاً، ورؤية أنفسنا وأدوارنا من خلالهما. أي بمعنى آخر رؤية الصورة مجتمعةً، لا بجزئيتها. إن عدم وعينا لقيمة الحاضر أضاع علينا كلبنانيين في الأعوام القليلة الفائتة فرصاً تاريخية لإنجاز التمرحل التاريخي من حالة "بلاد إعادة إنتاج نزاعات الأقليات" (التي نحن فيها الآن) إلى حالة "بلاد ضمان حماية الأقليات" وهي الحالة التي كنا على مشارفها من سنتين لكننا ابتعدنا عنها. إن محاولة وعي الصورة مجتمعة ليست بالعمل السهل، بل هي حاجة تتطلب الكثير من العمل الجدي النظري والبحثي في كل المجالات لتحديد مواقعنا من حركة العالم التي تمر مفاهيمه فوقنا بشكل أفقي. تماماً كما الغيوم، فإن أمطرت لا ننال من مطرها إلا القليل. علينا أن نعي الحاضر لنستطيع تحديد موقعنا من الحداثة ودورنا فيها، ولتحديد موقعنا ودورنا في هذا العالم، لكي نصنع حاجة العالم إلينا وإلى استقرارنا. هذه هي الأمور الوحيدة التي تستطيع أن تضمن حماية هذه البلاد وحريتها واستقلالها.
دورنا في العالم

قد يستسهل البعض الإجابة عن دور لبنان في العالم فيقول إنه الوطن الرسالة، حيث تجتمع الديانات بسلام. إلا أننا نعود لنقول إن هذا الدور - "لبنان الرسالة"، ما هو إلا إعادة إنتاج لصيغة الرمز الذي لا معنى واضحاً له، بل هو رمز خاضع للتأويل. ذاك أن دور البلاد لا يكون برمزيتها بل بحاجة العالم اليها. فماذا الذي يجعل دول العالم تقبل باستقرار بلاد تؤمّن لها "ساحة" صراع إختبارية، إن لم ترتبط أجزاء من مصالح هذا النظام العالمي بشكل من الأشكال باستقرار هذه البلاد؟ لا يمكن أن يكون لدولة هدف رسالي، فهدف الدولة هو ازدهارها، ورفاهية مواطنيها وحماية مصالحهم. لذا فإننا نستطيع أن نجزم بأن دور لبنان لا يمكن أن يكتفي بكونه رسالة، بل عليه أن يكون فاعلاً ومؤثراً في حاضر بلاد هذا العالم وشعوبه. لذا يمكننا القول إن دورنا بالنسبة إلى العالم، هو إنتاجنا، اي هو ما نستطيع أن نقدمه الى هذا العالم. أما وقد برهنّا في مقال سابق أن المنتج الحقيقي الوحيد لهذا البلد (في الوقت الراهن) هو الصراعات السياسية، فإن الواقع الراهن يضعنا في دور مختبر الصراعات السياسية.
قد يفترض البعض أن لبنان هو بلد فقير وليس له مقوّمات اقتصادية قوية وأنه بلد هش ولا إمكان لتكوين دور إنتاجي مختلف، الى ما هنالك من كلام مطاط ونقّ سياسي أحمق. إلا أن الواقع يقول إننا لم ندرس إمكانات بلادنا جيداً، لذلك نحن لا نثق بإمكاناتها. الواقع ليس ملائماً للآمال العظمى والمغامرة في تغيير العالم، إلا أنه أوسع بكثير من الضيق الذي نراه عليه الآن. أحد أكبر أخطاء الواقع اللبناني الضيق أنه لا يستطيع أن يرى لبنان بصورته الواسعة. عملياً هذا يعني اننا لا نملك إحصاءات جدية عن الواقع اللبناني وعن تركيبه الديموغرافي والاجتماعي. لا نملك إحصاءات دقيقة عن قدرة السوق اللبنانية على الانتاج والتسويق، ولا نملك معلومات دقيقة عن قدرة اللبنانيين على التأثير في الخارج، ولا عن أعداد اللبنانيين، والمتحدرين من أصل لبناني في الخارج وعن مدى ارتباطهم بلبنان. هذا جزء من الواقع اللبناني الواسع، إلا أننا لا نرى إلا حدود الطوائف، والرموز المجازية التي تصنع لكل فرد منا أحلاماً غير قابلة للتحقق ببساطة لأنها غير مبنية على الواقع والحاضر. إن هذه الأحلام غير القابلة للتحقق، تجعل من الشعب اللبناني شعباً غير قادر على الانتاج، لأنه ببساطة لا يعي ما هي قدرته على الانتاج. لأنه لا يمتلك المعلومات الكافية التي تجعله يثق بقدرته على الانتاج. فعلى سبيل المقارنة، المرأة التي لا تمتلك مرآة، لا تستطيع أن تقارن جمالها بجمال النساء اللواتي حولها. تأمل أن تكون أجمل الجميلات، قد تكون كذلك، وقد لا تكون.

إهدار الزمن

قد يكون الزمن هو العامل الأهم في ثقافة المجتمعات الحديثة. لا مكان هنا للإستفاضة في الحديث عن دور الزمن وقيمته في إنتاج المجتمعات الحديثة، إلا أننا يمكننا أن نجزم بأنه العامل الأهم في هذه المجتمعات. هو الذي يحدد القيمة الإقتصادية، والثقافية، والإجتماعية لإنتاجات هذه الأمم. فلو تأخر الأخوان لوميير الفرنسيان سنة واحدة في إخراج إختراعهما السينمائي إلى العالم لكان سبقهما إليه توماس أديسون الأميركي الذي كان توصل إلى الاختراع إلا أنه لم يطلقه، ولاستتبعت ذلك تغييرات جذرية على ماهية هذا الفن الناشئ وقدراته. نعود إلى بلادنا لنرى أننا لا نولي الزمن أي أهمية، فلو استمر حفر الأسفلت سنة أو سنتين فلا يشكل ذلك أي فارق، ولو استمر بناء الجسر عشر سنين فهذا أمر طبيعي، ولو تأخر المرء عن موعده ساعات فهذا غير مستغرب، وإلى ما هنالك من أمثلة بسيطة. وكذلك على الصعيد السياسي، فلو استمر الفراغ السياسي سنوات لما كان اهتز جفن أيٍّ من السياسيين، ولما شعر اللبنانيون بالرغبة في تسريع العملية السياسية. إن هذا الإهدار في الزمن يجعلنا يوماً بعد يوم أكثر ابتعاداً عن فرصنا في اللحاق بمكاننا الذي ننشده بين الامم.
على أبواب عيد الاستقلال الخامس والستين، نرى أننا أهدرنا إثنين وثلاثين عاماً في النزاع على هوية لبنان العربية (من 1943 إلى 1975)، وخمسة عشر عاماً في الإقتتال العبثي، الذي بدأ لأسباب محددة واستمر لأسباب مغايرة، وانتهى لأسباب ثالثة. وأهدرنا خمسة عشر عاماً في تأجيل بناء الدولة، وثلاث سنوات في مماحكات إثبات القوة والعنجهية الفارغة. لقد أهدرنا خمسة وستين عاماً من عمر وطننا ولم ننجز بعد هويته، ولم ننجز بعد إقتراح هويته، ولم ننجز بعد مسح أراضيه، ولم ننجز بعد التعرف الى ثرواته، حتى أننا لم ننجز بعد إحصاء سكانه. ثم يأتي أحدهم (متسرع) ليقول إن هذا البلد لا يمتلك المقومات ليكون له اقتصاد حقيقي، ومجتمع حقيقي. إلا أن السؤال الحقيقي هو الآتي: هل جرّبنا أن نتعرف إلى هذا البلد كاملاً قبل أن نطلق عليه أحكاماً؟ لا، لم نجرّب. لطالما كانت أحكامنا جاهزة، ومعدّة سلفاً، وغير مبنية على أي أرقام أو معطيات علمية. لطالما كانت مقاربتنا للسياسة في هذا البلد مقاربة هوائية، رمزية، لذلك كانت مقاربةً لتضييع الوقت. نحن نحكم على أنفسنا بأننا جنوبيون أو بعلبكيون، أو كسروانيون، أو عكاريون، لمجرد أن أجداداً لنا ولدوا في هذه البلاد، إلا أننا متى ذهبنا إلى باريس فإن الواحد منا يقول عندما يعود: "عنا بباريس". لقد أصبح لبنانياً باريسياً لمجرد الزيارة. أذكر هذا، أولاً من باب التندر، وثانياً من باب حسن التخلص إلى موضوع الإهدار في المقدرات والثروات.

إهدار الطاقات والثروات

إذا نظرنا إلى لبنان من أقصاه إلى أقصاه، لرأينا أن هذا البلد ممتلئ بالعمارات والعقارات. ننظر أكثر متفحصين فنجد أن أكثر من خمسين في المئة من هذه العقارات غير مستخدمة. هي أبنية فارغة، أو أراضٍ بور، إلا أن أصحابها لا يزالون يصرون على أن يمتلكوها وأن يبنوا إلى جانبها. يندر أن نجد عائلة لبنانية لا تمتلك منزلين على الأقل، واحدا في المدينة، وآخر في القرية. وننظر إلى حالة هذه العائلات فنرى أنها متوسطة المستوى. فلنختصر ونخلص إلى الأسئلة الآتية: أليس هذا إهداراً لثروات البلاد العقارية؟! ألا يمكن استغلال هذه العقارات واستثمارها؟ ألا يمكن زراعة هذه الأرض واستثمار مزروعاتها. من الصعب أن يكون لدى أي كان إجابةً عن هذه الاسئلة لأننا لا نمتلك أي معلومات حقيقية عن جدوى الاستثمار في هذه العقارات. مثال آخر على الإهدار: ألا يمكننا أن نعتبر إهمال قدرة المغتربين اللبنانيين على التأثير، إهداراً لثروة وطنية؟ هل هناك بحث جدي عن قدرة تثمير قدرات هؤلاء في الإقتصاد، والمجتمع، والسياسة، والرياضة والفنون اللبنانية؟ هل من خطة لإحصاء أعدادهم الدقيقة؟

أن نكون شعباً منتجاً

تشيع في الثقافة الشعبية اللبنانية عبارة "وين الدولة؟!"، إلا أني أتساءل هنا عن مفهومنا للدولة. لا أقف موقف المدافع عن السياسات الحكومية المتعاقبة، إلا أنني أرى في الدولة نظاماً وقانوناً ينظم العلاقات ومصالح الشعب الذي يتبنى هذا النظام. أنا أسأل بالإضافة إلى السؤال الشعبي الأول: "وين الشعب؟".إنها كوميديا الشعب الذي يبحث عن دولته، وكوميديا الدولة التي تبحث عن شعبها، وهما يدوران في دائرة مفرغة. الشعب هو الذي يصنع دولته، فعندما يكون الشعب منتجاً وله مصالح جدية في وجود دولة حامية لمصالحه، تتولد الحاجة إلى بناء دولة جدية ومنتجة تحافظ على مصالح شعبها بقدرات شعبها. التحدي الحقيقي في هذا المكان، أن نتحول من شعبٍ متفرج إلى شعب منتج، منتج لحضارة ولإقتصاد ولثقافة خاصة متأسسة على وعي فعلي لصورة هذا الشعب. لسنا البلد الوحيد الذي عاش في أتون الحرب، والأمثلة على الشعوب التي نجحت في الخروج منها قوية ومنتجة كثيرة، وهي لا تبدأ بالمانيا، ولا تنتهي بالبوسنة. لسنا الشعب الوحيد الذي فيه تعدد طائفي وعرقي وديني، والأمثلة على نجاح الامم المتعددة في صناعة دورها في العالم حاضرة أمامنا في ماليزيا. لسنا البلد الوحيد الذي لم ينجز هويته بعد، إلا أن الشعوب تنجز هويتها عبر التعرف اليها من خلال إنجازاتها وتراكم فهمها لواقعها مع الزمن، والمثال على ذلك في هونغ كونغ وغيرها... الأزمة الحقيقية، ولكي نكون أكثر إيجابية، فلنقل إن التحدي الحقيقي أمامنا هو في قدرتنا على فهم ماهيتنا، وعلى رؤية صورتنا غير المجتزأة، من خلال إنتاجنا لأنواع جديدة من العلاقات بين الصور المتعددة تبدأ بالاجتماع، تمر بالإقتصاد ولا تنتهي في الانتاج الثقافي. التحدي الفعلي على أبواب السنة الخامسة والستين لولادة وطننا هو أن نتحول إلى شعب منتج، منتج لثقافته الخاصة، ولتنظيم مجتمعه الخاص ولبنية اقتصادية كلها مبنية على أسس واقعية عبر الدراسة والتخطيط. نعم إن أحلامنا وآمالنا الواسعة والمتهورة (الحالية) لدى الكثيرين هي غير قابلة للتحقق، إلا أن الواقع أوسع بكثير مما كنا نعتقد

ملحق النهار

رفيق خوري: تطمينات بالجملة

البحث المتكرر عن الاستقلال
لبنان يحتفل بعيد الاستقلال وسط مزيج من التطمينات والمخاوف والتحديات. رئيس الجمهورية ميشال سليمان يطمئن اللبنانيين الى أن وطنهم الصغير استعاد موقعه على الجغرافية - السياسية، وبات قادراً على تحديد موقفه في الخيارات الأساسية والتمسك به وممارسة التوازن في العلاقات الداخلية والخارجية. رئيس الحكومة فؤاد السنيورة يكرر التطمين الى سلامة الوضع المصرفي وعدم التأثر بأزمة الأسواق المالية والاقتصادية في العالم. قائد الجيش العماد جان قهوجي يطمئن الى أن الأمن ممسوك والجيش يحمي وحدة الوطن ويواجه الارهاب باقتدار. وكل زائر أجنبي، وآخرهم رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فيون، يطمئن اللبنانيين الى أنه لا صفقة على حساب لبنان في الانفتاح الخارجي على أية دولة. وان اقامة العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا هي من ثمار الانفتاح الذي من أهدافه تعزيز الاستقلال اللبناني. لكن من الصعب تجاهل المخاوف والتحديات. فلولا المخاوف والتحديات لما احتاج أحد الى تطمينات. وقدر لبنان يبدو أقسى من أقدار البلدان الصغيرة في المنطقة والعالم. أليس المطلوب منه أن يقدم يومياً امتحاناً لتبرير حقه في الوجود والاستقلال، خلافاً لأي بلد صغير? أليس واحداً من القلة التي تبحث عن الاستقلال أكثر من مرة، بحيث ضيع (الاستقلال الأول) الذي ساهمت لندن وموسكو في الحصول عليه، ويجهد اليوم للحفاظ على (الاستقلال الثاني) الذي بدأ بتفاهم اميركي - فرنسي؟المفارقة أكبر. فالاستقلال اللبناني هو الوحيد الذي تحتاج رعايته الى أوسع تدخل عربي ودولي. والوفاق الوطني هو الوحيد الذي يصعب أن يكتمل من دون وفاق عربي وآخر إقليمي - دولي. وإذا كان النظام الطائفي المأزوم هو الذي منع ولا يزال بناء مشروع الدولة، فإن الصراعات الخارجية التي تفرض نفسها بمقدار ما يستدعيها أمراء النظام الطائفي هي التي توظف (الساحة) في خدمتها. وليس من السهل ضمان استقلال وبناء دولة في (ساحة) صراعات مفتوحة على مصالح أكبر من لبنان. حتى الانتخابات النيابية المقبلة التي يجب أن تبعث الأمل والثقة في النفس كخطوة على الطريق الى بناء الدولة، فإنها تثير من المخاوف ما يصل الى القلق على جوهر لبنان قبل استقلاله. فالصراع الذي يبدو على السلطة في حد ذاتها هو صراع بالأصالة بين محورين في الداخل وبالوكالة بين محورين في الخارج. والوطن الصغير الباحث عن دولة محكوم بأن يتأثر أي شيء فيه باللعبة بين دول تبحث عن النفوذ والأدوار والأحجام في المنطقة. والأمل الوحيد، وسط التطمينات والمخاوف والتحديات، هو القدرة على تغيير هذا الواقع عبر العمل بالخيار والاضطرار معاً للخروج من سلطة الطوائف والمذاهب الى الدولة المدنية التي تضمن الاستقلال
عن الانوار

رفيق خوري: تطمينات بالجملة

البحث المتكرر عن الاستقلال
لبنان يحتفل بعيد الاستقلال وسط مزيج من التطمينات والمخاوف والتحديات. رئيس الجمهورية ميشال سليمان يطمئن اللبنانيين الى أن وطنهم الصغير استعاد موقعه على الجغرافية - السياسية، وبات قادراً على تحديد موقفه في الخيارات الأساسية والتمسك به وممارسة التوازن في العلاقات الداخلية والخارجية. رئيس الحكومة فؤاد السنيورة يكرر التطمين الى سلامة الوضع المصرفي وعدم التأثر بأزمة الأسواق المالية والاقتصادية في العالم. قائد الجيش العماد جان قهوجي يطمئن الى أن الأمن ممسوك والجيش يحمي وحدة الوطن ويواجه الارهاب باقتدار. وكل زائر أجنبي، وآخرهم رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا فيون، يطمئن اللبنانيين الى أنه لا صفقة على حساب لبنان في الانفتاح الخارجي على أية دولة. وان اقامة العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وسوريا هي من ثمار الانفتاح الذي من أهدافه تعزيز الاستقلال اللبناني. لكن من الصعب تجاهل المخاوف والتحديات. فلولا المخاوف والتحديات لما احتاج أحد الى تطمينات. وقدر لبنان يبدو أقسى من أقدار البلدان الصغيرة في المنطقة والعالم. أليس المطلوب منه أن يقدم يومياً امتحاناً لتبرير حقه في الوجود والاستقلال، خلافاً لأي بلد صغير? أليس واحداً من القلة التي تبحث عن الاستقلال أكثر من مرة، بحيث ضيع (الاستقلال الأول) الذي ساهمت لندن وموسكو في الحصول عليه، ويجهد اليوم للحفاظ على (الاستقلال الثاني) الذي بدأ بتفاهم اميركي - فرنسي؟المفارقة أكبر. فالاستقلال اللبناني هو الوحيد الذي تحتاج رعايته الى أوسع تدخل عربي ودولي. والوفاق الوطني هو الوحيد الذي يصعب أن يكتمل من دون وفاق عربي وآخر إقليمي - دولي. وإذا كان النظام الطائفي المأزوم هو الذي منع ولا يزال بناء مشروع الدولة، فإن الصراعات الخارجية التي تفرض نفسها بمقدار ما يستدعيها أمراء النظام الطائفي هي التي توظف (الساحة) في خدمتها. وليس من السهل ضمان استقلال وبناء دولة في (ساحة) صراعات مفتوحة على مصالح أكبر من لبنان. حتى الانتخابات النيابية المقبلة التي يجب أن تبعث الأمل والثقة في النفس كخطوة على الطريق الى بناء الدولة، فإنها تثير من المخاوف ما يصل الى القلق على جوهر لبنان قبل استقلاله. فالصراع الذي يبدو على السلطة في حد ذاتها هو صراع بالأصالة بين محورين في الداخل وبالوكالة بين محورين في الخارج. والوطن الصغير الباحث عن دولة محكوم بأن يتأثر أي شيء فيه باللعبة بين دول تبحث عن النفوذ والأدوار والأحجام في المنطقة. والأمل الوحيد، وسط التطمينات والمخاوف والتحديات، هو القدرة على تغيير هذا الواقع عبر العمل بالخيار والاضطرار معاً للخروج من سلطة الطوائف والمذاهب الى الدولة المدنية التي تضمن الاستقلال
عن الانوار

بلال خبيز: الاستقلال المنبوذ

حين يكون التاريخ مخجلاً لأهله
اصبح عمر الاستقلال اللبناني 65 عاماً. اللبنانيون اليوم يتحدثون عن الاستقلال الثاني الذي انجز منذ ثلاث سنوات. واحتفل لبنان الرسمي بهذه المناسبة في ساحة الشهداء، تلك الساحة التي نصب فيها تمثال شهداء الاستقلال، والتي شهدت تظاهرات اللبنانيين جميعاً واعتصاماتهم طوال السنوات الثلاث الماضية. شهداء الاستقلال هم اولئك الشبان الذين علقهم الجنرال التركي جمال باشا على اعواد المشانق في السادس من ايار عام 1916، اي قبل ان ينال لبنان استقلاله بما ينوف على العقدين والنصف. لكن الاستقلال تم عن فرنسا المنتدبة وليس عن السلطنة العثمانية. مفارقة اخرى من المفارقات اللبنانية. يستشهد الشهداء من اجل الاستقلال قبل نيله بأكثر من عقدين، ثم ينال البلد استقلاله عن سلطة اخرى غير تلك التي علقت المشانق لشهدائه.
لبنان بلد المفارقات. والمفارقات لا تكون على هذا القدر من الغرابة إلا حين يكون تاريخ البلد مخجلاً لأهله. اللبنانيون لا يحبون تاريخهم، وغالباً ما يفضلون الوقوع في موقع ضحايا المؤامرات، ولا يستسيغون فكرة ان يكونوا هم المتآمرين. مع ذلك حديث التآمر في لبنان على كل شفة ولسان. بل ان المعارضة اللبنانية، والتسمية من مفارقات لبنان ايضاً، تقسم البلد قسمين، متساويين: الشرفاء والمناضلون، وعملاء اميركا والاستكبار. بالنسبة للمعارضة نصف لبنان متآمر على نصفه الآخر، والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة للموالاة. انه البلد الذي تحتاج كل يوم فيه ان تعلن في اي جهة انت. ليس ثمة رابطة مواطنة في لبنان تسمح للمرء ان ينصرف عن شؤون السياسة وشجونها. اللبنانيون منذورون للانحيازات، وعليهم كل يوم تغذية هذه الانحيازات بدم جديد، وغالباً ما يكون دماً حارقاً ومراً على حد سواء.
لهذه الأسباب لا يجمع اللبنانيون إلا على الموت. الموت هو القاسم المشترك بين اللبنانيين. وحين يعلو الصراخ على المنابر من كل الجهات، يكون المستهدف بهذا الصراخ غائباً عن السمع، ويكون العدو ميتاً. هكذا لم نجمع على شهداء الاستقلال، ونرفع لهم نصباً تكريمياً، لولا ان السلطنة العثمانية قد ماتت قبل تحقق الاستقلال، ولم يعد ثمة لتركيا الحديثة مطامع من اي نوع في لبنان. وحين نجمع على رفض توطين الفلسطينيين في لبنان، فلأن الثورة الفلسطينية لم تعد تقيم دولتها على اراضي لبنان ولم تعد لها مطامح من هذا القبيل. وحين نجمع على عداوة اسرائيل فلأن اسرائيل هي من قرر الخروج من المستنقع اللبناني، وليس لأن اللبنانيين قرروا طردها من متن السياسة اللبنانية وهوامشها. لكننا على العكس من هذه الإجماعات كلها، نختلف على كل ما عدا ذلك: بعض اللبنانيين، ولنقل نصفهم، يريد عودة الجيش السوري إلى لبنان، ويعلن ذلك جهراً ومواربة، وبعضهم الآخر يستميت في محاولة التخلص من آثار اليد السورية الثقيلة. بعض اللبنانيين يشكر المملكة العربية السعودية على ما قدمته من مساعدات للبنان، وهو والحق يقال كثير، لكن بعضهم الآخر يهدد وزرائها وسفرائها بالعقاب. بعض اللبنانيين يثمن عالياً الدور المصري في محاولة رأب الصدع بين اللبنانيين، وبعضهم الآخر، يشتبه بهذا الدور. وأخيراً بعضهم يعتبر ان لبنان حقق استقلاله الناجز في العام 2005، اي لحظة خروج الجيش السوري من لبنان، وبعضهم الآخر يعتبر ان هذا التاريخ هو تاريخ بداية الالتحاق بالمشروع الأميركي وتطلب هيمنة سعودية.
لكن لبنان لم يستقلّ بعد. اقله معنوياً. ما زال البلد محتلاً كما لم يكن من قبل. بل ان الاحتفال بعيد الاستقلال كان في السنوات الثلاث السابقة متعذراً، لأسباب امنية في المقام الأول وسياسية في المقام الثاني والأهم. اما امر تيسير الاحتفال بالاستقلال هذا العام، ولو بغياب وزراء حزب الله عن الاحتفال، فمرده إلى الهدنة اللبنانية الناجمة عن وقت ضائع اقليمياً ودولياً. ففي الوقت الذي كانت قطع الجيش اللبناني تؤدي عرضاً عسكرياً احتفالاً بالمناسبة، تسربت معلومات عن قيام حزب الله بمناورات عسكرية واسعة جنوب وشمال نهر الليطاني، وبادر ايهود باراك وزير دفاع اسرائيل إلى تهديد لبنان بالتدمير الشامل إذا ما حدثت اي مواجهة بين حزب الله وجيش اسرائيل. اما سوريا فما زالت تحشد قطعها العسكرية على الحدود الشرقية والشمالية انتظاراً للحظة مؤاتية.
الاطراف تجري مناوراتها وتدرس خطواتها المقبلة. وفي هذا الوقت المستقطع يستطيع لبنان ان يحتفل باستقلاله. وإلى ان يفرغ هؤلاء من اعداد خططهم يجدر باللبنانيين جميعاً ان يتفقدوا بعضهم بعضاً من دون اهمال النظر في ساعاتهم لئلا يسرقهم الوقت.

عن الجريدة

فادي العبدالله: حكاية تانغو

كيف تبعث رنيناً في هذه النوتة العالقة؟
على غرار فيلم فندرز الشهير Buena vista social club، فيلمان على الأقل، في زمن باريسي متقارب، يلقيان الضوء على الموسيقى التي تحولت إلى رمز لبلد آخر من أميركا اللاتينية، التانغو الأرجنتيني. يأتي "مقهى الاساتذة" (اخراج ميغال كوهان) و"حكاية تانغو: لو كنت ساحراً" (اخراج كارولين نيل)، على تفاوت المستوى السينمائي الكبير لصالح الثاني ايقاعاً وتوليفاً واخراجاً، ليتكاملا في رسم صورة عن حال التانغو اليوم، ومحاولات استعادة شيء من روحه، وفي ذلك عبر لمن شاء أن يعتبر ويرى بعين كتبت عليها هذه الحكاية إلى حال موسيقانا المشرقية.

ارث تحمله أنفاس قليلة

يروي "مقهى الأساتذة" التحضيرات لاقامة حفلة، قد تكون الأخيرة لعدد من المشاركين، وهم من اساطين تانغو الخمسينات وما قبلها، الذين يكادون يكونون منسيين اليوم، وذلك في مسرح ضخم اوبرالي الطابع، بما يشبه الوداع والتكريس معاً لهذا الفن ولهؤلاء الفنانين. أثناء هذه التحضيرات، تمرّ نماذج، يبترها المونتاج بخرقٍ، لأنماط التانغو نفسه وتعددها، فضلاً عن شخصيات العازفين والمغنين بأصوات خفت ألقها ربما إلا أن حماستها والعنفوان والشجن لا تزال تشحنها بقوة لافتة. أما "حكاية تانغو: لو كنت ساحراً" فمزيج ما بين الوثائقي والروائي، حيث يروي تشكيل فرقة تانغو من مجموعة من الاساتذة، شاهدنا غالبيتهم في الفيلم الأول، هدفها لا يقتصر على احياء أصوات الماضي ولا على تقديم الحفلات، بل غايتها الأولى تشكيل مدرسة لتوريث العازفين الجدد اساليب اسلافهم وتقنياتهم ومنحهم أسرار الفرق الكبيرة، التي اندثرت بعد حقبة الخمسينات على أبعد تقدير، والفروق الدقيقة التي كانت تميز نبرة كل واحدة منها عن الأخريات. إنها أوركسترا ـ مدرسة، يمتلك الشباب عبرها وبالاحتكاك والخبرة والعزف أسرار الفن الذي يكاد يضمحل. في هذه المدرسة، يلعب اميليو بلكارسيه دور المدير والشخصية الرئيسية، علماً أنه لم يكن مؤلفاً أو عازفاً متفوقاً على الآخرين في زمنه، إلا أنه كان، بحسب ما علمنا من الفيلم السابق ايضاً، المعدّ والموزع لدى العديد من الفرق. بحكم هذه الخبرة "من الداخل" في أسرار عمل الفرق المختلفة، يصبح بلكارسيه الدليل النموذجي للولوج إلى عوالم هي على عتبة الامحاء، لا يمنعها عنه إلا بضعة انفاس تتردد في بعض الصدور. ذلك أن حقبة فرق التانغو الكبيرة الذهبية (تروليو، بوغلييزي وغيرهما)، في فترة الازدهار الأرجنتيني، عقب الحرب العالمية الثانية، سرعان ما خبت في الخمسينات. ما بين ذلك وبين الاعتراف بموسيقى استور بيازولا بوصفها تنتمي إلى التانغو، على رغم تشربها الجاز والباروك والكلاسيك وصولاً إلى سترافنسكي وبارتوك، واعتبارها "تانغو نويفو" (التانغو الجديد) قادراً على انعاش الاهتمام بهذه الموسيقى الارجنتينية التي استطاعت لاحقاً استيعاب مؤثرات عدة وصولاً إلى الموسيقى الالكترونية، مر التانغو بصحراء النسيان، وتضاءل حضور كثير من أساطينه، على رغم اعتباره دوماً من أبرز مقومات الهوية الأرجنتينية، والقول إنه "هدية الأرجنتين إلى العالم". في هذه الأثناء، انتشرت معاهد الموسيقى، من طراز الكونسرفاتوار، وتراجع امكان التعلم والتمرس من خلال العمل في الفرق نفسها. صحيح إن التانغو التقليدي مكتوب ومدوّن إلا أن عزفه، ككل عزف حقيقي، لا يسعه الاقتصار على تنفيذ النوتة المكتوبة. في هذا الاطار، يعرض الفيلمان مشاهد أخاذة لحوارات الموسيقيين: كيف تبعث رنيناً في هذه النوتة العالقة، كيف يغنّي الكمان، أو كيف يصبح العزف على الباندونيون (آلة ألمانية الأصل، تشبه الأكورديون قليلاً، وتعتبر روح التانغو) عملية لا تتمايز عن التنفس. فصوت الباندونيون، كما الناي، إنما هو نفس أو هواء، ينبغي تدبيره واقتصاده. في جو هذا التانغو التقليدي المكتوب أيضاً، يقول عازف آخر إن المرء حين يعزف يغيب عن ادراك نفسه، إلا أنه حين يعيد الاستماع إلى عزفه يدرك قيمتها. لذا لم يكن البحث عن نبرات فرق العصر الذهبي المختلفة أمراً باليسير. فهو لا يقتصر على احياء التوزيعات القديمة، والعثور أحياناً على ما تمت كتابته والاحتفاظ به في انتظار عودة عصر الفرق. بل لا بد له من التغلغل في جانبين أساسيين، هما في الحقيقة لا ينفصلان: مهارة العازف الفرد واستفادته من تقنيات تم ابتكارها في السابق لانتاج أصوات وايقاعات معينة، وتشربه روح الموسيقى التي يعزف من خلال مشاركة أهلها حياتهم ونظرتهم ورؤيتهم إليها وإلى المدينة والحياة اللتين انتجتاها.

تانغو بوينس آيرس

انتشر التانغو في أرجاء العالم سريعاً، بعد ولادته من اختلاط المهاجرين القادمين إلى العاصمة الأرجنتينية، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ويمكن الباحث أن يعثر على ارث ضخم من التانغو في ألمانيا وبولونيا وروسيا في حقبة ما بين الحربين، كما انه استوطن بشكل راسخ في مناطق اسكندينافيا وفنلندا. كما استعاره العرب أيضاً، مع عبد الوهاب وفريد الأطرش وحقبة الخمسينات، قبل أن يعود فينحسر أمام موجات من ايقاع أعلى واسرع. إلا أن هذا التانغو العالمي يظل يبرز منسوخاً وأوفر صقلاً بالمقارنة مع أصله الأرجنيتيني (والأوروغواياني). في حين يشير بيازولا إلى أن في التانغو احساساً انطوائياً موروثاً من الهجرة الأوروبية المتوسطية، بخلاف الحيوية البرازيلية الموروثة عن افريقيا، فإن بلكارسيه يعلمنا إن التانغو الأرجنتيني إنما اتى على صورة المدينة ورجالها في منطقة الريو بلاتا، قرب النهر، حيث كان على الرجل أن يكون فخوراً وخشناً معاً، لذا فإن صوت الفرق القديمة لم يكن يسعى إلى الصقل الفائض، بل كان يتيح المجال لـ"خربشة" أو "خشخشة" مقصودة تعزفها الآلات، كما لتنافرات، تم تطويرها لاحقاً بشكل كبير مع اتساع حجم الفرق ومن ثم مع شغل بيازولا. أما بورخيس فيرى أن انتاج التانغو مستحيل من دون أماسي بوينس آيرس ولياليها. التانغو اذاً حس بالمكان وزمنه، وليس مجرد اتباع لقواعد موسيقية في عينها. هذا أيضاً ما يدعو إليه بلكارسيه حيث يشير إلى مؤلف شاب قائلاً إنه لا يريد منعه من تأليف موسيقى تشبه زمنه وما يعيشه، إلا أنه، في سبيل ذلك، على المرء أن يستطيع أولاً تذوق تلك الموسيقى التقليدية، أي الشعور بما كانت تعبّر عنه وبالمدينة التي كانت تنتجها وتغيرت اليوم.
نحن والتانغو

ليس المقصد، في هذه العجالة، العودة إلى ارث الأطرش وعبد الوهاب وغيرهما في تناول الايقاعات الغربية واللاتينية، فذلك كان يسعه، لو تعاملنا مع الموسيقى بوجه أقل ايديولوجية وأكثر حرصاً، أن يكون تنويعاً لطيفاً على هامش سير الموسيقى المشرقية، لا أن يصير تمهيداً لنسيان ما كان بقي منها واللهاث وراء أطياف أحلام لا معنى لها. كما ليس المقصد أيضاً التعرض لعمل سمية بعلبكي الأخير حول "التانغو العربي" بالتفصيل، وإن كان في الإمكان إيراد إشارة عابرة، قد تكون كافية، إلى غياب أي مشروع لتطوير نبرة خاصة في صوت الفرقة العاملة معها، بدل الاكتفاء باستنساخ توزيعات معتادة ومتكررة، وصولاً إلى الابتذال السائد والشائع في منطقتنا في بعض الأغاني، وهو ما لا يستطيع صوت سمية بعلبكي، على جماله، انقاذه. كما أن اعادة توزيع أغنيات لم توضع ألحانها على ايقاع التانغو في الأصل، بحجة لاتينية ايقاعها، دلّت عبر الخلخلة الفادحة التي تحدثها على أن الايقاعات ليست مما يلصق من الخارج على الميلودي، بل هي من صلبها وفيه. بدل ذلك، لنقارن قليلاً. مع الخمسينات، اختفت، أو كادت، تقنيات اداء، عزفي وغنائي، في عينها، وحل بدلاً منها عازفون مؤدون ومغنون خاضغون لمنطق الأغنية الأميركية والغربية عموماً وسطوة ايقاعاتها، وما عاد الموسيقي يتعلم من خبرة العزف مع الفرق وتشرّب أسرار مهنته بل من خلال التعليم الممنهج في المعاهد. ثم فجأة، مع نهاية التسعينات من القرن الماضي، يعود شعور بالقلق من فقد هذه الخبرات والتقنيات، لأنه أيضاً شعور بالخوف من خسارة ما عبّرت عنه في حياة الشعب. هنا كان لا بد من اللجوء إلى عجائز شبه منسيين فضلاً عن أدوات المعلوماتية الحديثة، التي تنتجها العولمة نفسها، من أجل دراسة ما كان قد أنتج، وتبويبه وتفصيله، كي يتم البناء لاحقاً عليه والتعبير عن الزمن الحاضر، سعياً الى خلخلته مثلما تفعل الموسيقى دوماً. العودة اذاً إلى الأجداد، بالمعنى الحرفي، لأن جيلاً من الآباء كان اضاع البوصلة والاتجاه، لسبب ما (ايديولوجيا التقليد للتقدم الغربي الأميركي وسطوة السوق التجارية في مطلع العولمة الموسيقية السابقة للعولمات الآخرى).أليست هذه تقريباً حالنا مع الموسيقى المشرقية؟ لقد بدأت منذ بضعة أعوام منتديات موسيقية على الانترنت تستشعر الخوف من هذا الفقد، وتسعى، كل على طريقته وبحسب قدراته، إلى مثل هذه الدراسة والتجميع. إلا أن ما يظل ينقصنا، فضلاً عن طموح وتمويل من المجتمع نفسه، وجود موسيقيين يستشعرون هذا الفقد ويتجاوزون الثقافة السائدة التي تنصّب عدداً من الملحنين والمغنين أنصاباً وأعلاماً لا تمس. يمكن المرء أن يعود إلى الاستماع إلى البيروتي محيي الدين بعيون، أو إلى أساطين القاهرة القدامى، كيوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وسواهم، أو للتسجيلات النادرة للملا عثمان الموصلي وتلامذته، وكذلك لعازفي تلك الفترة كلاشوا والعقاد ومحمد القصبجي (الذي لم نعد نتخيله كأكثر من عاشق حزين) ليدرك كم أن الغناء والموسيقى لاحقاً تعرضا لعملية "تصفية" (بالمعنيين): لقد جرت عملية "تصفية" ايديولوجية لموسيقانا مما تم افتراض أنه مؤثرات عثمانية بحتة، كما تمت "تصفية" تراث كامل من تقنيات الأداء الارتجالي بحجة عدم تهذيبها وانضباطها تحت سيطرة الملحن، وحتى في أسلوب الغناء فقد أنجز انتصار عبد الوهاب وأم كلثوم (وإن كانت هذه الأخيرة حافظت أكثر على تقنيات أدائية متنوعة) على مجايليهم امر القضاء على اساليب في الغناء وانتاج الصوت وعلى خامات لا تدين للميكروفون بكل وجودها. بذلك تم انتاج صوت شبه موحد، في الفرق ولدى المغنين، ومسطح تقريباً، وتم وضع قوانين جديدة لتذوق جمال الخامة وتهذيبها وصفائها وعذوبتها. صمدت مثل هذه الأساليب لفترة أطول في العراق، إلا أننا نعلم ما قد حل به لاحقاً. اما في لبنان وحتى في سوريا فقد تراجعت بسرعة، وما انطواء نور الهدى في الفترة الفيروزية سوى دليل آخر على ذلك، وكذلك الأمر في مصر، حين حل عبد الوهاب وفريد الأطرش ومن ثم عبد الحليم وسواه محل المشايخ في الغناء كالشيخ محمود صبح وابرهيم الفران وغيرهما. في معنى ما، يشكل هؤلاء آباءنا، ولا يسعنا التملص من ارثهم ولو شئنا، إلا أننا، حين نسعى إلى الاتصال بما كان وراء ذلك لا نجد أمامنا إلا القليل. صحيح إن ارث التجويد القرآني سمح بإطالة أمد هذه التقنيات والاساليب الغنائية قليلاً، إلا أن التجويد اليوم، على جمال بعض الأصوات، يلوح شديد التأثر لدى الجيل الشاب بموسيقى الأربعينات الوهابية وما تلاها، حتى المرحوم الشيخ محمد عمران كان أيضاً، في مخيلته الموسيقية، وليداً لها. في هذا المجال، فإن مخيلة المقرئ الطرابلسي الشيخ صلاح الدين كبارة رحمه الله كانت فريدة ومميزة كتمكنه الصوتي والنغمي. نتلفت إلى اجداد لنا فلا نكاد نجد إلا فقداً وخسارات، ونتلفت إلى حواضر كانت فلا نجد إلا تأكلاً وضموراً. كيف نمس روح طرابلس وصيدا والقاهرة ودمشق والموصل وبغداد دون موسيقاها ودون تكريم ثرائها التعددي المنسجم في نسيج موسيقى عرفت كيف تضمهم في حضنها؟ كيف نعيد الاتصال بإرث لم يعد يسعنا من دونه سوى الاصطدام بحواجز السوق والتكرار والابتذال؟ ربما كان مجال العزف الآلي المنفرد افضل حالاً بقليل، إلا أن على موسيقيينا ومغنّينا العودة إلى اكتشاف كنوز الأساليب وانتاج النغم، التي لم يبق منها سوى أسطوانات قديمة متهالكة وتسجيلات اتلفت الاذاعات بإهمالها معظمها. ما يثير قلقاً مضاعفاً هو ان جهود من يقفون وراء المنتديات الموسيقية العربية، على رغم ضخامتها بالنسبة الى أفراد، لا تطاول الموسيقيين المحترفين بل تكاد تقتصر على جمع من الهواة المهتمين والذواقة، خلاف ما جرى للتانغو الأرجنتيني التقليدي الذي نبعت محاولات احيائه من حاجة الموسيقيين أنفسهم. من دون الشعور بمسيس هذه الحاجة كيف يسعنا أن نأمل، في الموسيقى، تجديداً لا يكون افقاراً، وفي المجتمع، تعبيراً لا يكون اجتراراً ولا غربة؟
ملحق النهار

Bilal Khbeiz: Portrait Of Los Angeles

The Invention of Public Weather

As will be obvious to the reader, the writer of this portrait for the city of Los Angeles is a stranger, a recent addition to this city. The many ideas and remarks which follow, notwithstanding their accuracy, should be regarded first as the nodes along a line of thinking particular to newcomers, one which is best described as an education in anger which besets newcomers persistently hailed by the new city with the question: who are you?
Crawford Macpherson notes that the rights of private property are founded on the twin activities of permitting and prohibiting: parking here is prohibited, do not block this entryway, no dogs allowed, so on and so forth.1 Accordingly, the assumption is that ownership provides one with the right to withhold service and prohibit use. A guest may be invited to rest on a couch or be asked not to do so. These same twin activities apply to what are generally known as public spaces. Macpherson adds that in their struggle to win their civil rights, blacks had to argue long and hard against the owners of whites-only establishments, who countered that they had the right, as private owners, to withhold service from anyone. Equally relevant are women’s struggles against the many exclusive men’s clubs in England. Yet it is noticeable that such struggles are no longer occurring today. An exclusive men’s club or a whites-only establishment is not targeted as long as they do not threaten the already-acquired civic rights of women and blacks. In fact, opening a club for white men that caters to the sexual fantasies of non-white women would be a perfectly acceptable business endeavor. Today, exclusive clubs are prevalent: some are tailored for black women, others for Latinas, the elderly, or the obese.
These preceding remarks on the spirit and letter of the law are directly tied to the significance of building and sustaining public spaces at a time when such spaces are unavoidably governed by the laws of private property. In Los Angeles, the deciding factors which direct the use of public spaces are born of the general temperament of the residents, of their moral and political inclinations and, more importantly, of their racial or ethnic backgrounds—factors which narrow the function of public spaces and direct them away from promoting open-ended conversations. For if a conversation were to take place in such a space, it would inevitably be preoccupied by a number of fixed givens—national, racial, ethnic or other more reductive bonds. This is of course not particular to any one city. In Beirut, where once I lived, a conversation is always determined by various axioms. Yet what is worth pursuing is whether the construction of little cities within the administrative space of the larger city is unavoidable. Matters of tourism aside, a Little Italy or Little India, found in almost every major metropolis, is indicative of the limited paths open to conversation between the different races and ethnicities.

The Freedom to Be

Relations between the central authority and these little ethnic cities are defined by a simple but dangerous equation: the former resides in a well-guarded and closed fortress while the inhabitants of the latter attempt, on a daily basis, to avoid any encounter with the apparatus of authority. It is an equation by which one is allowed to live freely under the law. But upon whom is this freedom bestowed? In America, one can live as an Armenian, an Iranian, an Arab, or a Jew without ever rubbing against the American way of life, which is kept hidden well within official quarters. Accordingly, civil rights activists have not accomplished the integration they fought so hard for. Even if any one person has now the right to live in the Mexican neighborhoods of Los Angeles, he or she must bow to and observe a number of rules and constraints ranging from conditions born of deep-seated interethnic fears to basic issues such as finding alternative foods to those prevalent for the dominant ethnicity. In consequence, this offers the police an immense moral authority to exact punishment. In itself, that exceeds the tasks and role of the law, or at least transposes the law onto the forcefulness of the police. It is common to find that the brutal repression of one particular ethnicity by the police is looked upon favorably by other ethnicities. Accordingly, the police are always admired and defended by one ethnicity or another, but never at any one moment by all. The social make-up of the city effectively turns into a spread of horizontal segregation tied together only by the brute force of the police.2
At this level, Los Angeles is not unique among metropolises. Yet unlike other cities, it is expansive, stretching over large superficies. Although many consider it a car city, residents spend much of their time at home and leave only to go to work. Moreover, if we note that companies, banks, and department stores prefer to employ locals, Los Angeles then appears as a stretched city composed of smaller localities, separated by invisible borders and inhabited by one dominant ethnicity and/or race. To speak of leaving the privately owned space for the American public space, for work or leisure, is in fact meaningless. One lives with one’s own and marries within established ethnic or racial bounds. In traveling between localities, the car becomes an extension of one’s privately owned space and renders any encounter with others unlikely.
Los Angeles is not a city of coincidences. Even Pierre Bourdieu’s theory of social domains which delimit the circles in which residents live and define the attributes which distinguish them from one another is not applicable to Los Angeles.3 Judges here do not live with other members of the legal profession, nor do doctors, intellectuals, or university professors. Only film stars have gathered on one side of the city. But that is a fact which does not challenge the general make-up and subdivision of the city. Again, what is foregrounded in Los Angeles is ethnicity—most obviously through the proliferation of languages and dialects on storefronts and road signs in parallel with English, which is still assumed to be the language of all definitive remarks. In such a forest of signs, the strangeness a newcomer experiences is twofold: first as a tourist with a legal passport and visa in his pocket, and second as an illegal visitor without either visa or passport entering the enclave of ethnicities. In looking at these many other languages, one feels that to become American, English and naturalized status are insufficient. In fact, one has to belong to a single ethnic group and live below the state and to the side of the English language in which policies are argued and decided.

A City for the Memories of Cities

In Los Angeles, people often say that their city dreams of emulating New York and that New York dreams of Paris. It may be no more than a current saying, but something said nonetheless, and it invites one to discover Los Angeles’ purloined letter. This city, for both outsiders and inhabitants, is the city of American cinema par excellence, a cinema which is already an economy on its own producing unprecedented profits. Yet the significance of cinema lies elsewhere: it is as if Los Angeles is a late city. It was founded, built, and then inhabited when other American cities had already established a history and a collective memory, and when they had already become material for stories and novels. Los Angeles lived major events on screen in order to know what happened “once upon a time in America.” 4 Events occurred in Detroit, Chicago, and New York and then were reenacted here in Los Angeles. Roland Barthes is known for having stated that events in Racine’s theatre do not happen onstage.5 In Los Angeles, events also happen in a cinematic aside. Moreover, and in contrast with Racine’s theatre, events here leave no traces. Events watched here happen elsewhere. And so Los Angeles sleeps assured because the traces and consequences of events will always fall on other cities. All it has to do is tell the story during one of its many leisurely afternoons. It is in accordance with this that the question of public spaces in Los Angeles gains its urgency. For when events do not stamp a city, they become merely transient. In other words, events here end with the conclusion of their reenactment, and as such, are always belated with respect to the actual consequences, which occurred elsewhere and long ago. These transient reenactments take place after mourning concludes elsewhere and long after emotions of anger or elation have subsided. Simply said, Los Angeles will never punish a murder in Chicago, for what happened in Chicago is bygone, and further, no law allows for a culprit be punished twice. What takes place after these reenactments is similar to a conversation between an American and an Australian concerning which driving regulations are best. Regardless of the conclusion of such a conversation, the laws will remain the same, and the whole matter turns into an inconsequential pastime.6
It is common knowledge that television is material for conversation. Also common is the inclusion of science fiction novels and films in our personal imagination. Yet we cannot deny that it is all a sort of play with time and that talk of love and death in films is unreliable. A murder takes place in the Chicago of the 1920s and in the 1990s we are moved by it! What does Drew Barrymore have to tell us about the killings in Chicago? Probably nothing. Once done with acting in the violent scenes, she returns to what she was. She has nothing to say about Iraq or the current financial crisis. This is in no way an attempt at insult. Rather, as an actress, she has never been exposed to events, never been scorched by the sun of Baghdad. What of death, hunger, thirst, fatigue, and arousal she conveys is nothing short of poor imagining. Yet it must be said that such are the kinds of imaginings that nourish the cinematic imagination: extreme—even excessive—and quite unlike those that govern the living, whether it be the coincidence of birth or the inevitability of death. Rather, cinema always lives in what can be termed the Shakespearean literary moment, namely that which aims to rearticulate and redefine all of what makes a human life. Everything that rots in cinema will smell of Denmark as every lover is a Romeo or a Juliette.

Dreaming of Water

It happens that the sun in Los Angeles is bright, like that of Baghdad and Rio de Janeiro all wrapped in one. And yet it isn’t quite the same. Nature here is still, tempered, and unlike harsh and uncaring virgin nature. Here one can find myriad gardens and forested lands that exceed some of those in Europe in their superficies. And yet all of it remains a garden and no one thinks of calling it a forest.
Obsessed with water, with trees aplenty standing for unmistakable symptoms, Los Angeles expands laterally. Unlike the spread of Baghdad which scans the desert in search of food and water, Los Angeles stretches to colonize the sand with water networks and well-tended trees. It must be a desert-phobia which prods the city to manufacture what can be termed a shared and public weather. To say that the city plants trees in the desert is incorrect. Los Angeles was never a desert, but it holds the desert as its resident nightmare. Still, with such a threatening other, residents are rarely willing to settle here. One stays in wait, ever-ready for the onslaught of the nightmare. In its diligent lateral spread, it abandons its center and turns it into a place for taking pictures worthy of postcards. Life here is not to be found in the center, rather it occurs on the edges where residents resemble frontier guards.
What is coherent in Los Angeles is the weather. It is as shared as the obsession with water, and is most probably a substitute for public space. But in being the only thing that is shared, one notices the diversity in languages and dialects. Conversation is thus difficult. In fact, this city is for families, and it isolates individuals like the mad once were on ships of fools. 7 To seem normal here, one ought to shop in large department stores and act as if he or she is in a hurry to be home with the children.

Death in Public Spaces

This resident desert-nightmare spreads in the folds of the city as a fear of desiccation. People here are afraid for their bodies and faces. They fear dry skin. All that is sold in this city speaks of softness. Skin here is besieged and avoids all that could intimate dryness. And so people buy soft sheets, soft clothes, soft furniture. Life here is performed with soft untarnished skins. A life acted, without an inside, like an emptied mummy with nothing to show but a soft, un-textured skin. For cinema leaves no traces on the body and insides of the city. Cinema happens in the open air and is a maker of voyeurs. It takes place where everyone can see and anyone can reenact. Life under cinema becomes spectacle. This is why residents here act as if streets are extensions of their private bedrooms. Streets are used as one uses a private space. The city accordingly appears like a yawning retiree. There is little contact on the streets, and consequently little violence. Yet when violence does happen, it appears as if it is made for the camera—soft, calculated, and certainly not deadly.
Death here is weighty, probably because cinema so arrogantly appropriates all of life. If conversations do begin, they do so from tale-bearing and tattling: Janet Jackson has gained a few pounds, pictures inside! Such are the covers of magazines, and this is how conversations are initiated. Where did Cameron Diaz dine? Are Brad and Angelina still in love? This is a sample of what is talked about by retirees—those who are mostly concerned with waiting for death and leaving it for another day. Tattling for them is how they spend their time, even if all agree that what is happening in Iraq is more important than the love lives of film stars. But the former, unlike the latter, is inadequate for tattling. Right now, this city has no solutions to offer Iraq. Better to talk of what is topical in cinema until Hollywood decides to tell the story of Iraq, that is, after the warm blood of war cools and dries. Only then will cinema tell the story and archive it on the shelves of memory.
Public spaces in Los Angeles seem reserved for what will happen outside the city. Once finished, those events will be acted out here: here a stage set for the battle of Tora Bora, there another for the swamps of Al Ahwaz and over there a little Wall Street. But not until the event has passed will it be ready to be filmed and unpacked. Because it is reserved, all that happens now in public spaces is a reenactment of past events without any suggestion that people can use these spaces. Events are malleable because of the past, while the living are not. Only cinema can recall the past, but in order to do so, the living must be cast aside. The stage set must not be disturbed by the contingencies brought along by the living. No living being is allowed to have contact with a star, in whose presence one must act as if one is invisible. This is how this city, built as it is on the memories of other places, succeeds in pre-empting public space. For what could there be in such a space, if the city lives daily on recounting the stories of other cities? Public spaces thrive on the present without which only brute and excessive death remains—death which could have been avoided had the city tried to live in the present.
There are no public spaces in Los Angeles. People share little. The city does not meet around its open spaces as Athena once did. Rather, the city is regulated through its highways. There, residents meet at a precise hour and have their daily event. To know these highways is to know the city well. Moreover, there the law becomes less stringent and sometimes nonexistent—no traffic lights, no speed limits, and no pedestrians. Once on a highway, a driver feels liberated from innumerable regulations, but only to enter another set of rules. Cars seem careful not to transgress the distances separating one from another. This is not done out of courtesy, but rather from fear of death. On the highway, people live in their defensive cocoons, avoiding all contact. To not maintain that distance would lead to a death caused by one of three states: distraction, daydreaming, or inattention—three states which are cinema's main axioms, without which it cannot survive.
E-Flux Magazine
New York

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .