التنسيق... إشكالية متعددة الأبعاد
بشارة شربل
لم يشكل طلب الوزير وليد المعلم من لبنان التنسيق الأمني مع بلاده مفاجأة، فهذا المطلب القديم الجديد بدأ بالتسريبات ثم باح به قبل سنتين السيد فاروق الشرع، وشاءت الأقدار واللعبة الارهابية على طريق البحصاص وفي دمشق ان تجعلاه عنوانا للمرحلة المقبلة في العلاقات اللبنانية - السورية يوحي بالقلق أكثر من الاطمئنان ويطغى حتما على التبادل الدبلوماسي وترسيم الحدود واعادة النظر في الاتفاقات.
عنوان التنسيق الأمني الذي طرحه وزير الخارجية السوري عريض ومبهم في آن، ولا نعرف أين يبدأ الأمن فيه وأين تبدأ السياسة، ولا ندرك حدود التداخل بين التقني الصرف والسياسي المتشعب. فالعلاقات المنتكسة بين البلدين منذ اغتيال الرئيس الحريري لم تستعد عافيتها لتتيح وضوح المطلب، مثلما ان البداية المقبولة التي أرستها زيارة الرئيس سليمان إلى دمشق تتطلب جهدا دؤوبا وتطورات مناسبة لتترجم تعاونا بين دولتين مستقلتين تتعاملان على قاعدة المصالح والاحترام.
لا أمن في لبنان بلا تنسيق مع سورية. هذا واقع يفرض الاستفاقة من وَهْم القدرة على تحقيق أمن لبناني محض يضمن مصالح لبنان. فقد كانت تجربة 14 آذار على مدى ثلاث سنوات لرسم سياسة أمنية "استقلالية" محاولة يائسة أفشلتها الاغتيالات والتفجيرات، بقدر ما افشلها العجز عن الامساك بالاجهزة الامنية التي بقيت بمعظمها ممانعة ضد الولاء، محمية بالانقسام الداخلي الحاد، ومشبوبة الرغبة للعودة الى النمط الذي ساد طيلة عقد ونصف العقد من الاعوام وجلب معه لعدد غير قليل من الأفراد والفئات السلطة وصرف النفوذ والثروات. لذا تبرز حاليا الحاجة الى مقاربة جديدة للعلاقات الأمنية مع سورية تأخذ التجربة المريرة في الاعتبار وتتعاطى بواقعية مع التطورات.
ما يجب ان يعمق القناعة المبدئية بوجوب التنسيق الأمني مع سورية، هو ما برهنته التجربة والأيام وتتوج بأحداث 7 أيار التي لم تأتِ لتفرض معادلة امنية سياسية داخلية جديدة فحسب، بل لتعيد دمشق لاعبا حاضرا بقوة في اليوميات اللبنانية، بعدما كرست "حرب تموز" 2006 طهران وصيا استراتيجيا كامل الاوصاف. ولم يكن ما تلى من صدامات، خصوصا بين بعل محسن وباب التبانة، الا تأكيداً على عودة باتت تمتلك عناوين صريحة ومتداخلة اسمها حكومة الثلث المعطل، والانتخابات في ظل السلاح، وخطر "التكفير الطرابلسي" على الأمن السوري. وهي عناوين تظهّرت بعدما هضمت قوى 8 آذار وسورية وايران مفاعيل القرارين 1559 و1701 على السواء. وهي العناوين نفسها التي تفرض على الدولة اللبنانية التعاون مع دمشق لرسم حدود التنسيق بما يحصّن الحدود من اي رغبة سورية مستجدة في معاودة عبورها تحت شعار محاربة الارهاب في "قندهار لبنان".
لا تطرق دمشق باب لبنان مجددا من الباب الأمني وبعشرة آلاف جندي انتشروا على حدود الشمال استنادا الى معطيات الداخل اللبناني فقط. فالتطورات الدولية أحيت طموحات قديمة وغذت أوهاما متجددة. ولعل الدخول القيصري الروسي الى جورجيا كان أبرز دافع الى استعجال المقارنات. أما انعدام الوزن الاميركي قبل الانتخابات والازمة المالية فقد ظللا الوهم بعباءة القناعة بأن زمن القطبية الأحادية ولّى، وبأن أنياب واشنطن ما بعد 11 ايلول تسوست وآيلة الى السقوط في كابول وبغداد... وإذ لم تخطئ سورية في قراءة زيارة ساركوزي على انها تحول نوعي، فانها لم ترَ ضرورة لفرملة شعورها بالقدرة على امساك اوراق، بينها احتمال عبور حدود لبنان او التأثير على الاقل في انتخابات الشمال، رغم تلقيها جوابا قاطعا كان: لا، رداً على طلبها من باريس وأنقرة تحويل اللقاء الرباعي الذي جمعهما مع قطر في دمشق الى لقاء دوري أو قابل للتكرار.
مطلب التنسيق مع لبنان محرج لأنه يخلط الأمن بالسياسة في ظل الاصطفاف السياسي وفي مرحلة رمادية تسبق الانتخابات. لكن من الضروري ألا يتحول مطلب التنسيق الأمني الى سجال يعيد العلاقات بين سورية ولبنان الى مرحلة ما قبل اتفاق الدوحة وانتخاب ميشال سليمان، هكذا يفترض بقوى 14 اذار منح الرئيس فرصة استكشاف طبيعة التنسيق مثلما يفترض بها خفض مستوى الأحلام التي تتراوح بين توسيع القرار 1701 ليشمل حدود لبنان مع سوريا وبين انتظار تقرير مدوٍ يعلنه بلمار عن جريمة اغتيال الحريري ويحمل مفاجآت تقلب الطاولة وتجدد شباب "ثورة الارز" قبل الانتخابات.
بين الأوهام والأوهام المضادة، تبقى الحاجة الى التنسيق الأمني بين لبنان وسوريا ماسّة، خصوصا مع استمرار التفجيرات وتسخين الاجواء... لكن التنسيق مثلما هو حل منطقي لمواجهة الاختراقات والارهاب، فانه يمكن ان يشكل بحد ذاته موضوع خلاف يتناول الشكل والمضمون والتوقيت والاهداف، لاسيما ان التشاور في هذا الموضوع لا يسلك قنوات طبيعية وغير محصن بالثقة حتى الآن، بل يجري في ظل مصالحات تبقي الجمر تحت الرماد وحشود حدودية تلوح بالاختراق ونشاط ارهابي يفتح الباب امام كل نظريات المؤامرة والاحتمالات، من غير ان ننسى تصاعد التجاذب السوري - السعودي واستسلام الجامعة العربية امام هذا الخلاف.
مطلب الوزير المعلم من لبنان ليس سهلا على الاطلاق، ذلك ان رئيس الجمهورية المؤهل لرعاية التنسيق ومنعه من الانفلاش يحتاج الى وقت لتحصين قراراته بحالة وسطية سياسية وامنية متماسكة تطمئن كل الاطراف وتلعب دور صمام الامان، مثلما تحتاج دمشق الى وقت لتقتنع بان اللبنانيين لن يتراجعوا عن مسيرة الاستقلال.
عن موقع ناو ليبانون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق