الجمعة، 24 أكتوبر 2008

جوهان نوربيرغ: التحذيرات السابقة لم تمنع الازمة

التدابير التنظيمية وتداعياتها السلبية


جرت العادة بعد كل أزمة مالية أن تتعالى الأصوات المطالبة بالمزيد من المراقبة وبالمزيد من التدابير التنظيمية لتفادي تكرار الأزمة مرة أخرى.
ولكن بما إن الأزمات السابقة أنتجت ألاف الصفحات من الإجراءات و التدابير التنظيمية الجديدة، فلماذا يا ترى لم تنجح كل هذه الإجراءات والتدابير في تفادي حدوث الأزمات من جديد؟
فبغض النظر عما يقوله النقاد، فإننا بعيدين عن تطبيق المبدأ الليبرالي "دعه يعمل دعه يمر"، إذ يكفي أن تنظر إلى المؤسسات الفدرالية الأمريكية في واشنطن العاصمة، لتجد أن 12.113 موظفا يعملون بتفرغ تام لتنظيم ومراقبة الأسواق المالية. والسؤال هنا، ما الذي فعلوه بكل تلك الصلاحيات والسلطات التي يملكونها؟...ارتكبوا الأخطاء!
كان السياسيون، والبنوك المركزية، والمُنَظِمون الأمريكيون تواقون إلى توسيع فقاعة الإسكان، شأنهم في ذلك شأن المضاربين. فقد قام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بتخفيض معدلات أسعار الفائدة من 6.5 إلى 1 بالمائة بين عامي 2001 و2003، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المساكن. و ابتداءً من عام 1995، توعدت الحكومة البنوك وصناديق التوفير باتخاذ إجراءات تنظيمية وقانونية بحق من يمتنع عن تقديم المزيد من القروض للأحياء الفقيرة. حتى إن شركات حكومية كشركة "فاني ماي" استخدمت ضماناتها الرسمية لشراء المزيد من القروض الخطرة وتوسيع أسواقها الثانوية.
هل يكمن حل الأزمة فعلا في إعطاء المزيد من السلطة للأفراد وللمؤسسات التي أسهمت في حدوثها؟
مشكلة الإجراءات التنظيمية هي أنها عادة ما تكون ردة فعل على الأزمة الأخيرة. فالجنرالات يخوضون حربهم الأخيرة وهم يحاولون على الدوام تجنب الأخطاء التي ارتكبوها في الماضي. وهكذا نحصل على قواعد جديدة لتجنب الأخطاء التي يدرك الجميع أن عليهم تفاديها. أما بالنسبة للأزمات المستقبلية المحتملة، فما تزال هي ومسبباتها بعيدة عن إدراكنا. و تدابيرنا التنظيمية قد لا تجدي معها نفعا، بل ربما ستزيدها سوءا.
فعلى سبيل المثال، بعد الكشف عن عدة فضائح محاسبية في بعض الشركات كشركة اينرون، تم اتخاذ ت المزيد من التدابير التنظيمية المحاسبية الصارمة. فقد أراد الجميع تجنب اينرون جديدة. وكنتيجة لهذه الإجراءات تم اعتماد مبدأ " القيمة السوقية الحقيقية" والذي يعني أن على المؤسسات المالية أن تُقيِّم أصولها بالقيمة السوقية الحالية.
قد يبدو ذلك منطقيا، ولكن المشكلة هي انه عندما تصاب السوق بالفوضى والهلع فتضمحل السيولة ويغيب المشترين، سيكون السعر الذي يمكن الحصول عليه عند عرض الأصول في السوق منخفضا جدا. لذا فان جميع المؤسسات، وعلى نحو مفاجئ، ترى قيمة أصولها وهي تنخفض في وقت واحد. وإذا ما قامت بالبيع لأجل تعويض الخسارة، فأن الأسعار ستنخفض أكثر فأكثر، وستسمر الحسابات بإظهار الانخفاض في قيمة الأصول. والنتيجة هي إن البنك أو صندوق التوفير والذي كان يبدو مستقرا قبل أيام قليلة يمكن أن يصبح، وعلى حين غرة، مفلسا و عاجزا عن السداد.
حسب تصريح وليام آيزك، المدير السابق للشركة الفدرالية للتأمين على الودائع، انه لو كان مبدأ " القيمة السوقية الحقيقية" موجودا في ثمانيات القرن الماضي، لانهارت جميع البنوك الكبرى في الولايات المتحدة، ولأصبح الركود (القصير الأجل) كسادا.
على حد قول ستيف فوربير، فان هذه الإجراءات التنظيمية و القوانين المحاسبية هي أشبه " بمجابهة النار بالبنزين". بعبارة أخرى، فان التنظيم الذي كان يراد منه حل مشكلة الأمس يمكن أن يصبح مشكلة وشيكة كبرى.
الأمر الوحيد الذي نعلمه علم اليقين هو أننا لا نعرف من أين سـتأتي المشكلة القادمة. والطريقة المثالية للاستعداد لها تقتضي أن نتحلى بالمرونة، و أن نتأكد من أن الأفراد والمؤسسات مستعدون للتعلم والتكيف فور توفر معلومات جديدة. فالإجراءات التنظيمية التي توصد الباب بوجه حل ما، أو تمنع تبني حلولا أخرى، يمكن أن تؤدي إلى تدني القدرة على اكتساب تلك المرونة.
و قانون ساربينز- اوكسلي لعام 2002 يعتبر نتيجة أخرى للفضائح المحاسبية. فقد ألزمت بموجبه الشركات الأمريكية باعتماد سياسة مراقبة داخلية صارمة، وإرسال تقارير مالية تفصيلية منتظمة إلى السلطات الفدرالية. مما أدى إلى خلق تكاليف جديدة تكبدتها الشركات الأمريكية، وتراجع حجم الاكتتاب، وهجرة مدراء الشركات المتمرسين.
غالبا ما تتسبب التدابير التنظيمية وإجراءات المراقبة في مصاعب جديدة، وذلك حتى عندما تكون نوايا السياسيين حسنة. فالكثير من هذه الإجراءات يقدم بشكل يوهم الناس أن السياسيين قد قاموا بفعل شي ما، وبغض النظر عن فعاليتها وقدرتها على معالجة المشكلة أصلا.
وما هذا إلا إتباع للمنطق السياسي في المسلسل التلفزيوني البريطاني "نعم يا رئيس الوزراء" : (لا بد من فعل شيء ما. هذا شيء ما... إذن علينا أن نقوم به... )
إن هذا المنطق قديم قدم الأزمات، فبعد انفجار فقاعة شركة ساوث سي عام 1720، تسبب البرلمان البريطاني في تأجيل الثورة الصناعية من خلال إعاقة التشكيل الحر للشركات المساهمة لأكثر من مائة عام.
عندما يتخذ المنظمون والسياسيون التدابير التنظيمية لمواجهة آخر أزمة يواجهونها، فإنهم أيضا يجازفون، عبر تلك التدابير التنظيمية، بجعل الأزمة المقبلة أكثر قسوة وضراوة.
وبما أننا نجهل طبيعة الخطر الداهم القادم، فان التدابير التنظيمية المتخذة من أجل تفاديه يمكن أن تؤثر سلبا على الأسواق المالية وتجعلها غير قادرة على القيام بوظائفها بشكل فعال. وستكون تلك خسارة كبيرة. خسارة أسوأ بكثير من أية أزمة مالية يمكن أن تخطر ببالنا. ربما يكون شراء الأصول السيئة من المؤسسات المالية فكرة سيئة، وقد تُكلف الخزانة الأمريكية حوالي 700 مليار دولار، ولكن الأسواق المالية تُمكِّن اقتصاد العالم من خلق ضعفي هذا المبلغ كل أسبوع.
لقد أظهر المضاربون وبنوك الاستثمار على غرار السياسيين والمنظمين الاقتصاديين، اظهروا انه من الصعوبة الحفاظ على هدوئهم عندما تكون مبالغ كبيرة من المال في مهب الريح. ولكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يكون أكثر خطرا من الأزمات المالية هو طريقتنا في التعامل مع هذه الأزمات.


*: مؤلف كتاب دفاعا عن الرأسمالية العالمية، وهو زميل أقدم في معهد كيتو في واشنطن العاصمة.
هذا النص مقتبس عن المقالة الأصلية التي نشرت في صحيفة (ذي استوريليان) في 7 تشرين الأول (اكتوبر) 2008.

مشروع مصباح الحرية

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .