السبت، 11 أكتوبر 2008

عبد الاله بلقزيز امام لبنان شوط طويل ليصبح وطناً

بيروت التي تمسح أصباغها



ما كان يسع الحكومة اللبنانية أن تتخذ قراراً بنزع الصور والملصقات الحزبية والشعارات والرموز الطائفية من جدران العاصمة بيروت وأعمدتها الكهربائية من دون اتفاق وطني على ذلك. في كل بلاد الدنيا تستطيع بلدية أن تفعل ذلك بيُسر على جَري عادة يُسندها القانون ويحمل عليها حملاً إلا في لبنان حيث القانون عاطل على العمل ومدعوٌ الى احترام مُومة القوانين الأهلية. وفي كل بلاد الدنيا تأخذ المدن بعض «زينتها» الحزبية من الصور والشعارات في مواسم الاقتراع في أيام معدودات وفي أماكن وحيزات محددة يعينها القانون، إلا في لبنان حيث المنافسة والتنابذ والمناقرات قاعدة قادة في اليوميات والعادات، وحيث زائرها يخالها - ما إن يخرج من منطقة المطار - على موعد مع انتخابات. حتى أن وجه المدينة الجميل يضيع أو يكاد في المعرض المفتوح للصور ولتعاليم الزعماء المكتوبة صباغة على ألواح الحجر والشجر والعربات السيارة وقمصان الشباب والصبايا، ويوحي لك بأنك تتجول في أروقة معرض سياسي يعرض فيه كل بضاعته وما ملكت أيمانه.ما كانت إزالة الصور والشعارات من جدران بيروت أمراً ممكناً، فذلك يشبه تحطيم الأوثان في مكة قبل الفتح: حُرم لا يُنتهك أو يُخدش! وكان لا بد من اتفاق وطني يسلّم فيه الجميع بأنهم سواسية في القيمة لا يعلو سهم بعضهم على سهم الآخر، وأن إنزال صورة زعيم من مدخل شارع أو زاروب أو على ملتقى طُرق لا يهبط به من علياء المقام الى أسفل لأن صورة خصمه وغريمه على مبعدة أمتار أو أشبار تلقى المعاملة نفسها. ولعل هذه واحدة من حسنات وفاق وطني بدأ في الدوحة - غداة اشتباكات بيروت والجبل قبل شهور خمسة - واستكمل بتأليف حكومة وطنية وإقرار قانون انتخابي في المجلس النيابي، وإن كان من غير شك أن النجاح أو الإخفاق في التنفيذ الكامل لقرار النزع، وشموله مناطق بيروت الإدارية كافة، هو الترمومتر الذي ستقاس به درجة حرارة الوفاق الوطني الجاري.يُستدل بامتناع الدولة اللبنانية في الماضي عن تحرير الفضاء المديني من سلطان الرموز السياسية (الصور والملصقات والشعارات) على عجز مكين لديها عن أن تكون دولة. وفي وسع أي كان من خارج لبنان أن يتساءل عن جدوى حديث اللبنانيين جميعاً عن وجوب نهوض دولتهم ببسط سيادتها على كامل حوزتها الترابية في حيّزها الجغرافي الضيق، الذي لا يزيد عن الـ10452 كلم مربع، إذا لم يكن في مُكنها أن تفرض تلك السيادة رمزياً على أحياء مدينة بيروت وشوارعها! هذه قرينة مؤسفة على أن الدولة في لبنان لم تبرح بعد مكانها من الوعي كفكرة عند من يبغون قيامَها أو كطوبى عند من يستصعبون مثل ذلك القيام أو لا يرغبون فيه. فالدولة في هذا البلد ما زالت طرية العود حتى لا نقول فكرة سديمية هشة في الرؤوس والنفوس. وعلى رغم أخلاق جيشها وأمنها العالية وحضارية سلوكهما، التي توحي لك بأنها من مناقبية دولة عريقة في حكم القانون وحاكميته، تكتشف كم إن ذلك السلوك مصدود داخل بيئات اجتماعية لا ترى في رموز الدولة ورمزيتها غير شكل من أشكال الانتقاص من «سيادة» الجماعة الاجتماعية الصغرى على حيّزها «الخاص» الذي اقتطعته لنفسها!يُقرف المـــرء أشد القـــرف أن يرى صور رؤساء الدول، فـــي الأعــمّ الأغلب من بلاد عرب اليوم، تغزو الفضاءات المدينية وتحتل أكثر حيزها المكاني: في الجدران، وعلى الأعمــــدة المنصوبة وفي الساحات العامة، وفي مفارق الطرفان، وعـــلى واجهات المحلات، وفي كل مكان يمّمت وجهك شطره، في مشهد من التعالي والتقديس السياسي يتواضع المقدّس الديني أمامه! أما الأغاني والأناشيد، المبثوثة إذاعياً في كل وقــت، عن الحاكم الملهم فأكثر بما لا يقاس من المدائح النبويــــة نفسها تلك حالتنا في بلاد عرب اليوم الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. أما في لبنان، فيُحزن المرء - ربما للمرة الأولى في حياته - أن لا يرى إلا لماماً صورة لرئيس الدولة معلقة. وهي فضيلة من دون شك، وقد يخال المرء نفسه في مكان خارج نطاق الجغرافيا العربية. لكن سرعان ما يكتشف، أمام زخّ الصور المنهمرة على الرؤوس والمشاعر لعشرات زعماء السياسة والعصبيات، أنها ليست من الفضائل والشمائل في شيء، وأنها إنما هي الإيذان المشؤوم بغياب الدولة وخلوّ الشعور الجمعي من مكانها الرمزي فيه.يتحول المشهد من مأساة الى ملهاة حين تتجاوز صور رمــوز سياسية من خارج لبنان مع صور من يتخذونهم حِرزاً يُحمـــَل وعلامـــة تُشهر. وحينها لا أحد ممّن يتبطّنون معنى ولو مُبهماً، ولو خديجاً، للدولة وللسيادة وللكيانية الوطنية يمكن أن يبلع الواقعة أو يلتمس لها الأعذار. لا تكون العلامة، في هذه الحال، في مقام إشهار الولاء وإشهاد الخلق عليه، وإنما تبوح بإيمان وانتساب لا تلحظ فيه مكاناً للوطن أو للدولة أو للكيانية الجامعة. يصبح الوطن حينها موطناً فحسب، مكاناً تؤثثه علاقات مستعارة من خارج الحيز العلائقي المشترك أو المفترض أنه مشترك. يتجاور اللبنانيون في المكان من دون أن يتجاوزوا علاقة الجوار. يشهد على ذلك فسيفساء الرموز والعلامات الدالة على وشائج لهم تربطهم بخارج الديار. لا، يشهد على ذلك إجماعهم -الذي يكاد يكون وحيداً - على مفردة تسديده الدلالة على أحوالهم: «العيش المشترك». مفردة تقف على حدود التقاطع بين معنى التجاور ومعنى الغيرية، وتؤسس نصاباً يتوسط بين الجماعات الطبيعية والشعب.سيكون أمام لبنان، حكماً، شوط طويل يقطعه على طريق قيمومته كوطن. لكن طريق الألف ميل تبدأ بخطوة على قول المأثور الصيني. والخطوة الأولى تحرير بيروت من وطأة رمزياتها الأهلية الثقيلة على صدرها والمانعة لوحدتها الرمزية ولسلطان الدولة والقانون عليها. إن حل ذلك استُكمِل، ستكون بيروت الجميلة أجمل وأدعى الى الشعور بملكيتها لجسدها الذي صادرته شهوات احتكار الجسد من «عشاق» لها تكاثروا وعليها تخاصموا واشتجروا حتى فاض «حبهم» عن طاقة التحمل... ومن الحب ما قتل.


عن الحياة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .