الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

بلال خبيز: ازمات اميركا المعولمة

انهيار السمعة
يستشري بين المتابعين للأزمة المالية الراهنة التي تعصف بالعالم وصف هذه الأزمة من حيث حدتها وخطورتها بأزمة العام 1929. او ما سمي يوذاك بالركود الكبير، حين لم تعد المخازن والمستودعات تكفي لتخزين البضائع الكاسدة، واصبحت بدلات التخزين تتعاظم وتفوق الارباح في ظل الكساد. وكان من شأن هذه الازمة ان جعلت مبدأ الصناعي الكبير هنري فورد مبدأً عاماً للصناعات في جميع انحاء العالم. يومها اعتبر هنري فورد ان تحسين مستوى دخول العمال يسمح لهم باقتناء السلع التي تنتجها المصانع، والتي يمكن الاستغناء عنها او العيش من دون استعمالها.
سرعان ما تحولت سياسة هنري فورد الاقتصادية هذه عنواناً لعهد رأسمالي جديد، تزعمته الولايات المتحدة الاميركية واستمر حتى يومنا هذا، اقله في الولايات المتحدة الاميركية، ساري المفعول. يومذاك ايضاً كانت الولايات المتحدة الاميركية هي موطن الحجر الاول الذي تساقط من عمارة الاقتصاد القديم. ذلك ان ما كان غائباً عن تلك العمارة يتصل اتصالاً مباشراً بأهمية المستهلك ووزنه في المعادلة الاقتصادية. ومنذ ذلك التحول اصبح بالإمكان التأريخ لبدايات صناعة المستهلك بوصفه الركيزة الاساسية لأي اقتصاد حديث.
الازمة الحالية بدأت ايضاً في الولايات المتحدة. وفي التحليل الاخير لمسارها، تبدو مشابهة للأزمة السابقة في بعض الوجوه. ثمة سلع مستجدة طرحت في السوق، وثمة مستهلكون صنعتهم سياسات التسليف الاميركية لهذه السلعة. لكن حرية السوق المطلقة جعلت هذه السلع بعيداً عن متناول الكثيرين، مما جعل الركود امراً لا راد له. والحق ان المدقق في ما جرى في الاسابيع الاخيرة يدرك ان سياسة التسليف التي اعتمدتها المصارف الاميركية، وحضت عليها اعلى دوائر القرار النقدي في الولايات المتحدة جعلت من حجم الفوائد على القروض تصل إلى ارقام فلكية. فتلك المبالغ المتراكمة الناتجة عن الفوائد المالية لم تكن تجد ما يعادلها في الاصول التي قام الاقتراض على اساس قيمتها الفعلية. ويمكن القول ان الخسارات التي شهدتها الأسواق المالية لم تتجاوز حدود الارباح المحققة من فوائد القروض. وبكلام آخر، كانت الثروات تتراكم والارباح تتزايد من تلقاء نفسها، ومع تراكم الأرباح بات مفهوماً ان ترتفع اسعار العقارات التي كانت الهدف الاول للمسلفين، مما جعلها بعد حين ابعد منالاً من قدرة معظم الاميركيين على تحمل نفقاتها.
ما ان اخذت الازمة طريقها الفعلي نحو التبلور، حتى بات بديهياً ان يعاد تنظيم السوق المالية واسواق الأسهم وفق قواعد جديدة ما ان تنتهي الازمة. والارجح ان القواعد الجديدة التي ستشهد النور في المقبل من الايام تتصل اتصالاً مباشراً بفصل السوق المالية واسواق الاسهم عن سلة الاستهلاك العادية. بحيث لا تعود الحاجات الاساسية المربطة بعيش المواطنين وامنهم الاقتصادي والاجتماعي مرتبطة ارتباطاً مباشراً بسوق الأسهم الرجراجة. وهذا يفترض في مطلق الاحوال ان يعاد تقييم الأسهم وفق جدواها الفعلية وتالياً قيمتها الحقيقية. فلا ترتفع اسعار الاسهم بناء على اقبال المشترين بل بناء على اهمية المنتوج وضرورته وجدواه. مما يعني ان السياسات الاقتصادية المتوقعة على المدى القريب ستعيد تنظيم السوق المالية على نحو يتصل بحاجات المستهلك المباشرة.
لا شك ان مثل هذا التنظيم يواجه معوقات عدة. وقد يكون ابرز هذه المعوقات هو حجم الكتلة النقدية المتبخرة في الاسابيع الماضية. فهذه الكتلة التي تبخرت، وتلك المرشحة للتبخر، رغم انها صانعة ثروات ومقامات وسلطات، إلا انها تتصل مباشرة بالنظام النقدي، لكن اتصالها بالسلعة المستهلكة ما زال حتى الآن موارباً وغير مباشر. إذ ليس ثمة من يمنع اي كان ان يقتني جهاز تسجيل من ماركة غير معروفة. في هذه الحال يتدنى سعر المنتوج بسبب افتقار الماركة للسمعة الحسنة. مما يعني ان المستهلك حين يشتري سلعة من مصدر موثوق ومعروف وحسن السمعة، فإنه يدفع ثمن السلعة وثمن السمعة في آن واحد. فضلاً عن نظام الكفالات التي تجعل المستهلك اكثر ثقة بالسلعة التي يشتريها، لكنه من جهة أخرى يدفع ثمنها مقدماً عبر ارتفاع سعر السلعة المكفولة بحسب قيمة كفالتها وسمعة الشركة الضامنة. وحيث ان الأمر لا يبدو شديد التأثير في صناعات ومنتوجات معينة، ويبدو بالغ الاهمية في منتوجات أخرى، فإن التفاوت بين اهمية السلع وضروراتها واسعارها سوف يؤدي في القريب العاجل إلى انهيارات كبيرة لبعض الاسماء اللامعة في عالم الصناعة والتجارة على حد سواء. مما يضع شطراً واسعاً من الأعمال التي كانت حتى الامس القريب تدر ارباحاً خيالية على حافة الانهيار، وهذا مما يعيد خلط الانقسامات الاجتماعية والطبقية على نحو غير مسبوق، وقد ينتج عنه صراعات اجتماعية شديدة التعقيد، ولا يندر في بعض الاحيان ان تكون عنيفة ودموية حتى في اكثر البلاد تقدماً وتحضراً ورسوخاً في الديموقراطية.

عن الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .