الاثنين، 27 أكتوبر 2008

حسن عليق: لا زئبق احمر ولا ارجواني


الصحافة تضلّل نفسها ثم تضلّل الآخرين




كان أحد التقنيين المقرّبين من تنظيم «القاعدة» في لبنان يجلس في مكتبه يطالع الصحف ويبتسم بسخرية. كان يومها خبر «الزئبق الأحمر» يتصدّر العناوين، والرجل، الذي يعمل طبيعياً في مكتبه، يتحدث لمن يريد عن القصص البوليسية، والأفلام الأميركية، ويتحدث بخبرة العارف عن مواد إشعاعية يمكنها أن تكون مفيدة في أعمال التخريب وصناعة القنابل الملوّثة، لا يدخل من ضمنها شيء اسمه «زئبق أحمر».يوم 9/10/2008 «أوقفت دورية من مكتب مكافحة جرائم السرقات الدولية، في قسم المباحث الجنائية الخاصة، في الشرطة القضائية، التي يترأسها العميد أنور يحيى، ثلاثة أشخاص في بلدة غزة البقاعية بجرم حيازة مواد ممنوعة وأسلحة وذخائر». هذا الخبر الذي أوردته ملخّصات تقارير أمنية رسمية، لم يكن ليثير أي ضجيج في الأروقة الأمنية والقضائية، لو لم تتعامل معه وسائل إعلامية بأسلوب تضخيمي، محوّلة إياه من القبض على 3 مشتبه فيهم بجرم الاحتيال إلى توقيف الشرطة القضائية لـ«شبكة إرهابية» كان في حوزتها «مواد شديدة الخطورة». الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. فبعد يومين من تسريب الخبر الأول عن «الشبكة»، برز خبر جديد عن الموقوفين ذاتهم، لكن هذه المرة تحت مسمّى «شبكة كفرشوبا» (الاسم أطلقته الزميلة «السفير»، متحدّثة عن توقيفات ومداهمات في بلدة كفرشوبا، الأمر الذي لم يحصل منه شيء) لينسب إلى الموقوفين ارتباطاً بمجموعات أصولية وإعداداً لعمليات ضد قوات اليونيفيل، فيما لم تكن البلاد قد استفاقت بعد من صدمة تفجيرات الشمال وبيصور.وفي مقابل ذلك، واظب مرجع أمني رسمي رفيع على وصف توقيف «الشبكة» في حينه بالقول: «أقلّ من عادي، ولا يستحق نشره في الصفحة العاشرة من أي صحيفة». فما هي حقيقة الأمر إذاً؟يجيب المسؤول الأمني ذاته بأن الموقوفين الثلاثة ادّعوا أمام أحد مخبري الشرطة القضائية أن في حوزتهم أنابيب من «الزئبق الأحمر». ولهذا السبب، أرسلت الشرطة القضائية أحد أفرادها، منتحلاً صفة تاجر إيراني، على أن في ذلك ما يغري هؤلاء باعتبار أنّ إيران دولة مهتمة بهذا النوع من المواد، ليتقرّب من الشبان الثلاثة. وبعد وثوقهم به، طلب منهم توفير كمية من السائل المذكور. ولمّا انطلت الحيلة الأمنية على الشبان الثلاثة، عرضوا 3 أنابيب من «الزئبق» مقابل مليون دولار أميركي. فاوضهم «التاجر»، وتمكّن من خفض السعر إلى 100 ألف دولار.الموقوفون الثلاثة، مصطفى ب. من بلدة بقرصونا في المنية، والمفتش الأول في الأمن العام محمد ع. من بلدة الصويري في البقاع الغربي، ورفعت ق. من كفرشوبا الجنوبية، كانوا في منزل الأخير في بلدة غزة البقاعية. وفي الموعد المحدد للتسليم، دهمت قوة من الشرطة القضائية المنزل، فأوقفتهم وضبطت أسلحة فردية خفيفة، و3 أنابيب تحوي سائلاً مجهولاً.مع بداية التحقيق، نفى أحد الموقوفون أن يكون في الأنابيب زئبق أحمر، مشيراً إلى أن كلّ ما أراد فعله هو تحقيق مكسب مادي على حساب «التاجر الإيراني».خبراء الشرطة القضائية الذين كشفوا على المضبوطات لم يتمكنوا من فحص محتواها مخبرياً بسبب تعطّل مختبر المباحث العلمية، ولأن المختبرات اللبنانية لم يقبل أيّ منها فحص المواد خشية وجود مواد جرثومية فيها. إلا أن المعاينة الأوّلية أكّدت أن المادة المضبوطة غير متفجرة، ولا تمتّ بصلة إلى معدن الزئبق. كان يمكن السلطات الأمنية والقضائية الاستمرار بعملها من دون أي ضجيج، إلا أن الزميلة «الديار» نشرت يوم 16/10/2008 على صفحتها الأولى وثيقة صادرة عن الشرطة القضائية تتعلّق بتوقيف الشبان الثلاثة. وذكرت الصحيفة ـــــ التي نشرت صورة لأنبوبين، أكّد الأمنيون المعنيون أنهما ليسا من المضبوطات ـــــ أن التوقيف حصل في بلدة كفرشوبا (وهو أمر لم يحصل)، وأن المواد المضبوطة شديدة الخطورة، وأنها أرسلَت إلى فرنسا للكشف عليها.قيادة قوى الأمن الداخلي فوجئت بالتضخيم، وفتحت تحقيقاً لمحاولة تحديد من سرّب الوثيقة إلى «الديار». وذكر ضابط رفيع في المديرية لـ«الأخبار» أن التحقيقات لم تكن قد أشارت إلى أي علاقة للموقوفين بأعمال إرهابية، كما أن المواد المضبوطة لم تكن قد أُرسلت إلى فرنسا.مراجع أمنية رفيعة تقاطعت آراؤها المتعلقة بدوافع نشر الخبر عند أمرين: الأول هو «الخبر الذي كانت «الديار» قد نشرته قبل نحو 3 أسابيع من توقيف «الشبكة»، والذي تحدّث عن توافق القيادات السياسية الدرزية على إقالة قائد الشرطة القضائية العميد أنور يحيى. وعندما أرادت الصحيفة تصحيح ما رأت أنه خطأ ارتكبته بحق يحيى، نسبت إلى الشرطة القضائية تحقيق إنجاز كبير لم تحققه». مع الإشارة إلى أن ضابطاً رفيعاً في قوى الأمن أكّد أن يحيى «لم يكن في صدد إظهار العملية الأمنية التي نفّذتها قطعات الوحدة التي يرأسها على أنها في سياق مكافحة الإرهاب». أما الأمر الثاني الذي رجّح مسؤولون أمنيون في أحاديثهم مع «الأخبار» أنه ربما كان دافعاً لتسريب الخبر، فهو «التنافس بين ضباط أمنيين، الذي دفع بعضهم إلى محاولة سرقة الاهتمام الإعلامي من توقيف فرع المعلومات ومديرية استخبارات الجيش لشبكة عبد الغني جوهر في الشمال، وهو ما كان قد أُعلن قبل 4 أيام من نشر «الديار» للخبر عن المجموعة التي ادّعت أنها تملك الزئبق الاحمر.
■ السبق الصحافي
القضية لم تنتهِ عند هذا الحد. فخلال التحقيق مع الموقوفين، ذكر مصطفى ب. أنه كان يتردّد إلى مخيم نهر البارد قبل معارك أيار 2007 التي وقعت بين الجيش و«فتح الإسلام». وادّعى أنه عثر على الأنابيب المشبوهة على شاطئ البحر في العبدة، قرب المخيّم المذكور. وللتوسع في التحقيق مع مصطفى، أشار مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد بإحالة الموقوفين إلى مديرية استخبارات الجيش. وهذه المرة أيضاً، أكّدت التحقيقات التي أجراها محققو الاستخبارات غياب أي علاقة للموقوفين بأي عمل إرهابي أو جرمي خارج إطار محاولة الاحتيال. وتبيّن أن تردّد مصطفى ب. إلى مخيم نهر البارد كان في السياق الطبيعي لتردّد العدد الأكبر من سكان الشمال إلى المخيم. وبعد إحالة الموقوفين على القضاء العسكري، نشرت «السفير» يوم 18/9/2008، على رأس صفحتها الأولى، خبراً أطلقت فيه على الموقوفين الثلاثة تسمية «شبكة كفرشوبا»، لافتة إلى أن معطيات التحقيق الأولي أشارت إلى أن «الشبكة» كانت «تحضر لعمل أمني كبير ضد القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان».وأضافت الصحيفة أن «الشبكة» مرتبطة بمجموعات أصولية، متحدّثة عن أن استخبارات الجيش هي من أوقفت الشبان الثلاثة. وأوردت «السفير» أن توقيفها تزامن مع توقيف شخصين في منطقة العرقوب، على خلفية تفكيك عبوة ناسفة كانت مزروعة في صور (نفت كل المصادر الامنية والعسكرية وجود أمر من هذا النوع). وأشار الخبر ذاته إلى أن فحص المواد المضبوطة مع «شبكة كفرشوبا» أظهر أنها «تستخدم كمواد متفجرة وهي من النوع الخطر جداً، وقد أُرسلت عينات منها إلى أحد المختبرات الفرنسية، ويبدو أن الفرنسيين أصيبوا بصدمة كبيرة ومعهم عدد من دول الاتحاد الأوروبي، عندما أدركوا طبيعة المواد وخطورتها، ربطاً بوجود قوات فرنسية وأوروبية ضمن قوات اليونيفيل».مراجع أمنية وقضائية استغربت ما أوردته الصحيفة، مشيرة إلى عدد من الثغر في الخبر، أبرزها:1ـــــ أن الشرطة القضائية هي التي أوقفت المجموعة لا استخبارات الجيش. 2ـــــ لم ترسل السلطات اللبنانية عينات من المواد المضبوطة إلى فرنسا، فضلاً عن أنها لم تكن قد فحصتها في لبنان بعد. 3ـــــ لم يتبيّن للأجهزة الأمنية أي علاقات مشبوهة بين الموقوفين وأيّ تنظيمات أصولية. 4ـــــ الموقوفون دُهِموا في بلدة غزة البقاعية لا في بلدة كفرشوبا الجنوبية.من ناحية أخرى، كان القضاء العسكري قد ادعى على الموقوفين الثلاثة بجرم الإعداد للقيام بأعمال إرهابية. وبالجرم ذاته، أصدر قاضي التحقيق العسكري الأول رشيد مزهر مذكرات توقيف وجاهية بحق الشبان الثلاثة. وربما كان الادعاء ومذكرات التوقيف قد أدّت إلى التباس الأمر على المتابعين. لكن مسؤولاً قضائياً أكّد أن ادعاء النيابة العامة العسكرية على الموقوفين كان من باب تشدد الادعاء العام الذي توجب عليه مهماته الأخذ بالشبهة، من أجل تمكين الضابطة العدلية من التوسع في التحقيق مع الموقوفين. وأعاد المسؤول التذكير بحوادث سابقة «كان القاضي فهد قد رفع فيها سقف ادعاءاته، كما جرى مع أحد رجال الأمن الداخلي في سجن رومية، الذي اتهم بإدخال جهاز خلوي إلى السجن نهاية عام 2007. وحينها، ادعى عليه القاضي فهد بالجرم ذاته، ثم ما لبث قاضي التحقيق أن خفف الجرم إلى مستواه الطبيعي».استغراب ما نُشر عن الموقوفين لم يقتصر على مسؤولين أمنيين وقضائيين. فقد اعترض أهالي بلدة كفرشوبا على الأمر، مشيرين بعد اجتماع عقدوه يوم 19 تشرين الأول إلى أن ابن البلدة، الموقوف رفعت ق.، كان قد هُجّر منها مع عائلته إلى البقاع قبل نحو 20 عاماً، مؤكدين أن أي عملية دهم لم تحصل في بلدتهم.في الوقت ذاته، كانت التحقيقات التي يجريها القاضي مزهر مع الموقوفين قد أكّدت الاستنتاج الأولي للشرطة القضائية واستخبارات الجيش، والتي تشير إلى عدم وجود أي صلة لهم بمنظمات إرهابية. وتزامن ذلك مع تأكيد خبراء الشرطة القضائية ترجيحهم الأولي، الذي يقطع بأن المواد المضبوطة ليست زئبقاً أحمر ولا مادة متفجرة. ويوم الأربعاء الفائت، قطع خبراء من الأمن الداخلي الشك باليقين، واكتشفوا حقيقة المواد المضبوطة: إنها أنابيب يستخدمها صيادو السمك، إذ يكسرونها فتنتج ضوءاً فوسفورياً يجذب الأسماك. ولما كان الموقوفان البقاعيان يعيشان بعيداً عن موانئ الصيادين، ظنّا أنهما يملكان مواد تساوي ملايين الدولارات، فيما سعر المضبوطات لا يزيد على دولارين للأنبوب الواحد. وبناءً على النتائج المذكورة، أخلى القاضي مزهر يوم الخميس الفائت سبيل الموقوفين الثلاثة بكفالة مالية قدرها 200 ألف ليرة لكل منهم، مسدلاً الستارة على فصول أسطورة «شبكة كفرشوبا الإرهابية، المرتبطة بتنظيمات أصولية، والتي كانت تعد بواسطة مواد شديدة الخطورة، لتنفيذ عمل أمني ضد قوات اليونيفيل».حقيقة «الشبكة» بانت للأجهزة القضائية. ويتجه القضاء العسكري إلى متابعة التحقيق مع الموقوفين بجرم حيازة أسلحة فردية خفيفة غير مرخصة، وهو ما يحال به عشرات الموقوفين شهرياً إلى المحكمة العسكرية.


عن الاخبار

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .