الاثنين، 13 أكتوبر 2008

هاني درويش حين مات صائد دبابات 73 بالتليف الكبدي

عبء أساطير النصر كما حملها الغفير "الصلاة على النبي زكريا"


النصر والهزيمة مفهومان تحتاجهما أي أمة لإعادة تعريف هويتها. في مصر التي تحيا على خرافات اللغة وأساطير التقادم على شاكلة "حضارة سبعة آلاف سنة" تبدو المفاهيم مستهلكة إلى درجة تنسخها للمستوى الذي يمحي فيه الأصل لصالح الصورة. فلا معنى حقيقياً للنصر والهزيمة في وطن كانت علامتاه الفارقتان أقسى من الإدراك، أو تناسلت فيه الهزائم والانتصارت بصورها المضخمة لدرجة عدم استيعاب الوعي الجمعي لجذورها الأولى، أي نصرها الأول النموذجي وهزيمتها الأصلية. وفي هذه الأيام التي يتجدد فيها الحديث عن نصر أكتوبر تبدو ملامح الأمة وكأنها تشحذ ذاكرتها الانتصارية، فـ6 أكتوبر 2008 يبدو بعيدا ومنفصلا وغير ذي صفة على ما كانته مصر في أكتوبر 1973، خاصة وأن المشروعية السياسية للنظام المصري استهلكته، المرة تلو الأخرى، في مشهد أقرب لمن يضحك كل مرة أمام مسرحية كوميدية قديمة بالأبيض والأسود.35 عاما تبدو كافية حتى لاستهلاك أعمق الأساطير الجمعية رسوخا، فما بالنا وقد جرى التشكيك طويلا في حقيقة النصر الذي تحقق. وما بالنا وقد تآكلت مكتسبات هذا النصر(المشكوك فيه) عاما تلو الآخر. نعم، فبفضل صدمة الوعي الجمعي في هزيمة العام 67 جرى تسفيه قدرة المؤسسة العسكرية لنحو سبع سنوات، أنتجت المخيلة نكاتا للانتقام ممن أستولوا على السلطة من صغار الضباط فنسوا الجندية. وحين جاءت المعركة خلعوا ملابسهم في صحراء سيناء. لذا يبدو نصر 1973 نصرا مزدوجا، نصرا على إسرائيل ونصرا على الداخل الشامت، وهو مايفسر تعامل المؤسسة العسكرية بما يشبه بلطجة المنتصر بعد الحرب مع كل الحركات الاحتجاجية الشعبية. أصبح نزول أبطال أكتوبر لضرب الناس في الشوارع مشهدا عاديا، مشهدا لتشف متأخر من الجماهير وقد أسكتتهم للأبد بشارة النصر الساطع، وخلقت بروباغندا النصر أوهامها. فهزيمة الستة أيام في 1967 محتها معركة عبور خط برليف في ست ساعات أول أيام حرب1973. خلقت البروباغندا مصطلح رجل الحرب والسلام كناية عن الرئيس المؤمن، مثلما خلقت أسطورة عبد العاطي صائد الدبابات، ولنرَ كيف التهم الحاضر أساطير الأمس .ظل عبد العاطي المجند المصري حامل الأر بي جيه موضوعا مفضلا في إمتحانات مادة التعبير في المدارس المصرية لسنوات طويلة، كما أطل وجهه مئات المرات تلفزيونيا ليحكي كيف اصطاد وحده 17 دبابة إسرائيلية في إحدي معارك 73. وصنعت أفلام وثاقبة عنه، كما كتبت رويات ـ معظمها تافه ـ وخطت قصص قصيرة مستوحاة من بطولاته. ظلت حال عبد العاطي هكذا حتى توارى إسمه تقريبا من تيترات مسلسل النصر السنوي منتصف التسعينيات، وتحديدا عندما تم إختصار الحرب في "الطلعة الجوية" و"النسر المصري شق السما ..ورسم وخلق أعظم ملحمة" كناية عن الرئيس مبارك، ظهر عبد العاطي من صندوق الحكايات منذ عامين مريضا بفيروس سي ، متليف الكبد يتسول دخول ابنه للكلية الحربية تكريما لتاريخه في أحد الحوارات بجريدة ناصرية. ما هي الا أشهر ومات عبد العاطي دون سطر واحد في نفس الجريدة أو مقعد لابنه في الكلية الحربية، لم ينتبه لخبر وفاته إلا أحد مفكري جيل السبعينيات اليساريين الذي قال فيما يرتشف نبيذه الفاخر: ما لا يعرفه الكثيرون أن نسبة لابأس بها من شهداء الحرب دفنوا في صحراء سيناء (تتحدث المصادر عن نحو 25 ألف جندي) ممهورين بطلقات الظهر، أما طلقات الصدر فكان معظمها لأسلحة مصرية، وأيا كانت دقة هذا التصريح فإن تصديق المصريين لنقاء النصر في 73 ظل محل تشكيك. ليس فقط عبر الجدل السنوي حول ثغرة الديفرسوار الشهيرة التي سمحت لغولدا مائير أن تلتقط صورا قرب مدينة الإسماعيلية على شاطئ القناه، بل جرى التكتم وحماية المسؤولين عنها ومعاقبة القيادات التي قدمت حلا ناجعا لها كي لا تفسد فرحة الانتصار. فصمت للأبد قائد بحجم اللواء أحمد إسماعيل بموت مفاجئ في طائرة بعد الحرب بسنوات وتم إلزام الفريق سعد الشاذلي والفريق الجمسي القادة الحقيقيين للنصر بالصمت، ثم كانت وفاة المشير أبو غزالة آخر أكبر القيادات في الحرب منذ أسابيع ختما نهائيا لأسرار الحرب. لكن، قبل ذلك أيضا، لازال الدفرسوار كابوسا لمن عاينوه في الواقع. فوالدي الذي عمل طوال حرب الإستنزاف في بناء حائط الصواريخ على القناة وتكبدت شركته المدنية الإنشائية خسائر فادحة في عمالتها نتيجة القصف الإسرائيلي لمواقع الشركة يتحدث مؤخرا عنها قائلا: "كان عندنا فرد أمن اسمه الصلاة علي النبي زكريا، نعم اسمه المركب الصلاة علي النبي واسم أبيه زكريا، كان عملاقا شرقاويا ـ من أبناء محافظة الشرقية شرق الدلتا ـ كان رجلا بحق، وكنا نبني عام 1976مساكن شعبية لأهالي المنطقة في إطار إعادة توطين أبناء مدن القناة. كان ذلك شرطا في إتفاقية السلام مع إسرائيل، أن يكون الجيش علي الضفة الأخرى محاطا برهائن بشرية سهلة قابلة للتفاوض في حالة قيام الحرب مرة أخرى، صحونا في يوم علي أحد خفراء الموقع مضروبا ومحطم الرأس فنقلناه إلى المستشفى، كان الجيش قريبا من مواقعنا وكانوا معتادين أن أن ينزلوا بسياراتهم لسرقة مواد البناء من مخازن الشركة، كانوا منتصرين يتعاملون بتعال وكأن البلد أصبحت بالفعل بلدهم، إستوقفهم الغفير الصعيدي ورفض أن يمرر سرقتهم، فضربوه حتي الإغماء، جمعت غفراء الشركة وكانوا نحو 60 غفيرا من محافظة قنا، شباب أقوياء شرفاء سرحوا حديثا من الجيش وتم تعيينهم حديثا، قلت لهم: "أنتو مش رجالة، ولو ما خدتوش حقكم حنزلكوم كلكم مصر تلبسوا طرح أحسن"، كمن غفيران لأربعة عساكر كانوا يتجولون على مقربة من الموقع الذي نعمل فيه وضربوهم ضربا مبرحا، نقلوا علي أثره إلي المستشفي، عرفنا أن الانتقام قادم لا محالة، أشعلنا نارا في الليل وقسمنا الخفراء في نوبات حراسة، وحصل الهجوم صباحا كما توقعنا، عربة محملة بالجنود وثلاثة ضباط إقتحموا الموقع بأسلحتهم، جمعوا الخفراء بتهديد السلاح ، خرجت من مكتبي لأشاهد رجالي في طابور فيما ضابط برتبة نقيب يسأل أحد مصابي معركة الأمس أن يتأمل طابور الأسري ليخرج له من قام بالاعتداء عليه، كنا علي المحك، كان "الصلاة على النبي" رغم جسده الضخم جبانا للغاية، تحدثت للضابط قائلا: أنت البعيد معندش ذوق ولا أخلاق، المكان فيه ناس ولو ليك حق تعلى كلمنا "فرد الضابط" أنت مين بدين....مك7-7-، عند هذا المستوى البذيء كان لابد من رد حاسم، قلت له: أنتو مفكرين نفسكو إيه؟ أنتو صدقتوا أنكم كسبانين...نص العمال دول كنوا هنا وفاكرين اللي حصل في الدفرسوار ...فوق يا حضرة الضابط وإحترم نفسك" في هذه اللحظة قفز "الصلاة علي النبي" على الضابط ومزق له بضربة واحدة إشارة الرتبة على كتفه صائحا وقد لف يده حول عنقه مشهرا سكينا: علي الطلاق بالتلاتة لو ما نزلتوا سلاحكم لاأدبحه "..تكهرب الموقف أكثر واستغربت موقف "الصلاة" كما كنا نناديه، إرتبك الجنود وأطلق "الصلاة" سراح الضابط وخرجوا يلملمون خيبتهم، كان لزاما علينا إبلاغ قيادات الشركة فورا، لأن الأمر سيترتب عليه مذبحة لامحالة، أرسلت "الصلاة على النبي" إلى موقع آخر خارج الإسماعيلية ، جرت إتصالات عديدة بين الشركة في القاهرة وقيادات الجيش ، عشنا يومين في رعب، لكننا هددناهم بالإنسحاب فورا من مشروعات التعمير كلها مالم تتوقف التحرشات بنا، لقد كان عملنا مدنياً لكن ذو طابع شبه عسكري، اللواء الجمسي كان حاضرا في عنابر الشركة خلال صب خرسانات حوائط الصواريخ، كانت الطائرات الإسرائيلية تضرب عمال الشركة في المصنع نفسه أحيانا، وعلى الجبهة كنا نعمل ليلا في صب الخرسانة التي تقصفها صباحا إسرائيل، كثيرا ما قصفت إسرائيل العمال أنفسهم علي الجبهة، كنا لانملك وقتا، نردم على الجثث ونحن نبكي، ونصب فوقهم بعد ساعات الخرسانة الجديدة...."الجيل الذي عاصر الحرب في مصر هو نفسه الجيل الذي ذاق الهزيمة، الآن وبعد 35 عاما يدخلون شيخوخة الهزائم والانتصارات وكأنها جرت في بلد آخر، أو لأن مصر منذ لحظة تعادل النصر بالهزيمة قد اكتفت بالتعادل، وعاما تلو الآخر إنكفأ الجميع علي متابعة إرتفاع أسعارالسلع ومشكلات التوظيف، وكأن السلم الذي أتت به الحرب قد تحول إلي لعنة. يقول شاب في الـ18 من عمره لجريدة المصري اليوم في إستطلاع حول التاريخ المصري ردا على سؤل :متى جرت حرب 6 أكتوبر؟ أنها جرت عام 1976، ويقول آخر بجدية لبرنامج "إشتغلات" على فضائية أو تي في أن سعد زغلول قد مات في حادث سيارة، ويقول صاحبي: البلد دي مش حينصلح حالها إلا لما يموت آخر عامل مطار حط بنزين لآخر طيارة طلعت في 73 "وشقت السما ...وضربت أعظم ملحمة".

عن نوافذ


ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .