دخول سياسي من الشباك العسكري؟
خريف السنة الماضية عقدت في لندن سلسلة ندوات اقتصادية - تجارية أشرفت على تنظيمها الجمعيات السورية في بريطانيا بالتعاون مع السفارة. وتحدث خلالها ديبلوماسيون بريطانيون ممن خدموا في دمشق، وتوقعوا حدوث متغيرات سياسية تنشط العلاقات الاقتصادية بين البلدين. وألقى في نهاية الندوات عبدالله الدردري، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، محاضرة مسهبة تطرق فيها الى مختلف الجوانب القانونية المتعلقة بتحديث عمل المصارف والشركات التجارية. بينما تولى الحديث عن الوضع السياسي، نائب وزير الخارجية فيصل المقداد. ولما سئل المقداد عن مستقبل العلاقات السورية - اللبنانية، أجاب بأن الوضع السياسي لم يتغير، بانتظار ظهور عهد جديد مع الرئيس الجديد. ثم شدد على القول بأن سورية انسحبت من لبنان، وإنها لن تعود اليه عسكرياً. وفتحت هذه العبارة مجالاً للتساؤل حول أبعاد حديثه ومضمونه، وما إذا كان الوجود السياسي الممثل بحلفاء سورية يغني عن الوجود العسكري! وعلى رغم الاختلاف حول تفسيرات كلام المقداد، إلا ان الانطباع الذي تركه في القاعة أثبت انه صادر عن مسؤول موثوق ومؤتمن على سياسة النظام. عقب الزيارة التي قام بها الرئيس اللبناني ميشال سليمان لدمشق في 13 آب (اغسطس) الماضي، أعلن الرئيس الأسد ان التبادل الديبلوماسي تقرر خلال لقائهما. وقال إن تحقيقه سيتم قبل نهاية السنة، بانتظار استكمال بعض الاجراءات القانونية. بعد مرور فترة وجيزة على تلك القمة، برز اسم فيصل المقداد كمرشح زكّاه القصر والخارجية لتسلم منصب أول سفير سوري في بيروت. واعتبر هذا الخيار بمثابة تقدير للموقع الديبلوماسي المستحدث، خصوصاً ان المقداد هو المرشح الأكثر حظاً لخلافة الوزير وليد المعلم. ومع ان مستشاري القصر طرحوا اسماء أربع شخصيات مسيحية بحجة ان اختيارها سيطمئن المسيحيين القلقين، إلا ان أصحاب الحل والربط ظلوا متشبثين بفيصل المقداد لكونه يمثل خط النظام ويتقن اسلوب ممارسته، علماً بأن الأجواء المتوترة خلال الاسبوعين الأخيرين ارجأت قرار البت في هذا الموضوع، على رغم مظاهر التفاؤل التي أشاعها الوزير المعلم من ان السفير السوري الجديد سيقدم أوراق اعتماده الى الرئيس ميشال سليمان قبل نهاية السنة. وقد تحدد هذا الموعد كي يكون في استقبال الرئيس بشار الأسد في بيروت خلال شهر كانون الثاني (يناير) من سنة 2009. بين القضايا التي بحثها الرئيسان السوري واللبناني في قمة دمشق، كان موضوع الاقتتال في طرابلس، وما قد ينتج عنه من امتدادات صراع مذهبي تعكر صفو الهدوء في لبنان، وتردد في حينه ان الرئيس الاسد حذر من خطورة «رشحان» عمليات العنف باتجاه حدود بلاده، الأمر الذي قد يضطره الى إدخال قواته بصورة موقتة من أجل تنظيف شمال لبنان من السلفيين. ولما تزامن هذا الكلام مع ظهور حشد عسكري مؤلف من عشرة آلاف جندي سوري، ارتفعت صيحات قوى لبنانية وخارجية تستنكر احتمال تكرار «الدخول الموقت» على صورة سنة 1976. وعندما استوضح الرئيس ساركوزي - باعتباره عراب ضبط العلاقة السورية - اللبنانية - عن أسباب انتشار القوات السورية على الحدود الشمالية، قيل له ان التحرك المفاجئ على صلة بمسائل التهريب والارهاب. ويبدو ان تعزيز الوضع الأمني في الشمال لم يردع مستهدفي الجيش من القيام باعتداء ثان خلال مدة لا تزيد على شهرين. ومع ان هذا الحادث أثار سخطاً واسعاً لدى الرأي العام، إلا ان ذلك لا يبرر تقاعس الاستخبارات العسكرية التي فشلت في رصد عمليات العنف قبل قتال مخيم نهر البارد وبعده. ورأى عدد من نواب الأكثرية ان الحاجة الأمنية تقضي بضرورة انشاء أجهزة جديدة لأن الاجهزة السابقة كانت مرتبطة بمركز «عنجر» لا بوزارة الدفاع اللبنانية. قبل ان يضمد لبنان جراحات جنوده في الشمال، فجر ارهابيون في دمشق سيارة مفخخة أودت بحياة 17 شخصاً بينهم عميد في الجيش هو جورج ابراهيم الغربي ونجله. وكان من الطبيعي ان يثير هذا الحادث الأمني موجة من الاستنكار والإدانات شاركت فيها دول عربية وأجنبية كثيرة بينها الولايات المتحدة. وسارعت اسرائيل الى التنصل من المسؤولية، مدعية انها تتفاوض مع سورية سراً، وان اي اعتداء من هذا النوع سينسف مسيرة المحادثات. كذلك استبعدت دمشق بدورها هذا الاحتمال، واتهمت تنظيماً تكفيرياً قالت ان أحد عناصره نفذ العملية بعد دخول سيارته عبر حدود دولة عربية مجاورة. ومع استبعاد تركيا واسرائيل، انحصرت الشكوك بلبنان والعراق والاردن، ثم أُعلن تفسير آخر أكثر تحديداً يشير بأصابع الاتهام الى تنظيمات أصولية بينها تنظيم «جند الشام» و «غرباء الشام».
من الصعب المقارنة بين التحديات التي واجهها حزب البعث السوري في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد... وبين التحديات التي يواجهها نجله حالياً. ففي الفترة الممتدة من 1979 حتى منتصف 1980 كان النظام يقاتل «الاخوان المسلمين» في حلب وحماه، حتى انتصر عليهم وأقفل مكاتبهم. ثم تعرض آخر التسعينات لمواجهة لا تقل خطورة عن المواجهات التي تعرض لها مع إسرائيل، أي مواجهة تركيا التي اتهمته باحتضان عبدالله أوجلان والحزب الكردي الذي رعاه من منطقة البقاع ووسط دمشق. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يغذي أوجلان بالسلاح، انهارت حصانته السورية عقب تهديد تركيا بالحرب. وهكذا انتهى سجيناً في أنقرة، بعدما انتهت مرحلة التوتر والمطالبة باسترجاع اللواء السليب. دمشق هذه المرة تنظر إلى لبنان كخاصرة أمنية ضعيفة تصعب وقايتها من دون تدخلها المباشر. وهي ترى أنها محصنة داخلياً وحدودياً ما عدا الجهات التي تنطلق منها التنظيمات الاصولية الإرهابية في لبنان والعراق والأردن. صحيح أنها تعرضت لانتقادات إعلامية قاسية بعد اغتيال عماد مغنية والعميد محمد سليمان... ولكن الصحيح أيضاً أن هاتين الحادثتين خضعتا لتحقيقات سرية مرتبطة بنظام الأجهزة الأمنية. في حين ظهرت عملية الانفجار الأخير في دمشق كمؤشر على احتمال تكرارها في مواقع أخرى ما لم تبادر الدولتان إلى خلق مناخ محصن ضد الإرهاب وعناصره. والحصانة المطلوبة في نظر سورية، لا تتكامل إلا عبر التنسيق الأمني الذي سبق أن وقع عليه البلدان في عهد الرئيس أميل لحود. وبسبب وجود مكتب «عنجر» تسلمت الأجهزة السورية كل الملفات المتعلقة بسلامة الوجود السوري. واليوم تطالب دمشق بضرورة إرساء قواعد جديدة للتعاون تأخذ في الاعتبار سيادة لبنان وحماية بعثتها الديبلوماسية. ومثل هذا التنسيق المتكامل يشمل المؤسسات الرسمية ومجالات تبادل المعلومات. واشنطن حذرت دمشق من استغلال الاعتداءات الإرهابية للتدخل في الشؤون اللبنانية. وهي متخوفة من استخدام الاتفاق الأمني الجديد لإقصاء كل مجموعة أو كل فرد أو حتى كل ديبلوماسي لا ترضى عنه الأجهزة السورية. وبما أن مناخات الحرية اللبنانية لا تحتمل هذا الضغط أو هذه المراقبة الشديدة، فإن الاتفاق الأمني قد يحول لبنان تدريجاً إلى صورة أخرى عن النظام السوري المنغلق.
في حديثه إلى نقيب المحررين اللبنانيين ملحم كرم، حذر الرئيس السوري من الإرهاب، معتبراً أن السياسات الخاطئة حيال المنطقة، هي التي تخلق التربة الخصبة للإرهاب. ويرى الاسد أن انتخاب ميشال سليمان فتح لسورية صفحة جديدة مع لبنان... وان اقامة علاقات منفتحة على بعض القوى اللبنانية، ليس معناه التدخل في شؤون لبنان الداخلية. وهذا يعني أن لسورية أصدقاء في لبنان مثلما للدول العربية الأخرى، وأن التعاطي معهم يبقى تحت المظلة التي يحددها الرئيس سليمان. غير أن المشككين بموضوعية هذه العلاقة يعتبرون الجماعات المؤيدة لسياسة سورية في لبنان والخارج، هي المعيار الصحيح الذي يلزم الدولة اللبنانية بضرورة اعتماد سياسة التبعية. وفي رأيهم أن القرارين الدوليين 1559 و1701 قد ساعدا سورية على الاعتراف بسيادة لبنان، وان الاتفاق الأمني المطلوب قد ينزع عن لبنان مكاسب هذا الاعتراف.
بقي السؤال المتعلق بالتفجير الأخير في دمشق، ومن هي الجهة المتورطة في تنفيذه.غالبية الصحف الكبرى - أميركية منها وفرنسية - ربطت بين الاتفاق الذي عقده الرئيس ساركوزي مع الرئيس بشار الأسد حول مستقبل العراق. وهو اتفاق أوقف تسلل المقاتلين من الحدود السورية، الأمر الذي أربك «القاعدة» واصدقاءها من امثال جماعة تنظيم «غرباء الشام». أي التنظيم الاصولي الذي قتل زعيمه في حلب الدكتور محمود آغاسي الملقب بـ «أبو القعقاع». وبما أن كل أسماء المتسللين إلى العراق كانت تنزل في دفاتر هذا التنظيم، فإن قيادته تتهم سورية بأنها تخلت عنها كي تكسب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تماماً مثلما تخلت عن عبدالله أوجلان كي تكسب تركيا. ومن هذا الافتراض يطرح المراقبون السؤال المحير: لماذا استعجلت كوندوليزا رايس إلى إعلان استنكارها لعملية تفجير دمشق؟!
* كاتب وصحافي لبناني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق