الجمعة، 17 أكتوبر 2008

بلال خبيز غسان شربل يدون اسرار الصندوق الاسود


النضال العربي بين حدي المسالك والمبادئ



يقدم غسان شربل لكتابه الجديد "اسرار الصندوق الاسود" بالقول لي اصدقاء قساة. هؤلاء الاصدقاء هم انفسهم الذين تتبع شربل اثارهم طوال زمن وحاول جاهداً الوقوف عند اسرارهم. ومرد الصداقة هذه، اغلب الظن، باعثان: الاول يقع في متن مفهوم الصداقات حيث يكون السر وحفظه احد اوثق اسبابها، والثاني يقع في سر المهنة حيث لا يستطيع صحافي ان يقاوم اغراء الوقوف على اسرار لا يعرفها إلا اصحابها. هكذا يبدأ الكتاب من مفارقة باذخة: انه كتاب في قلب المهنة وليس على ضفافها، لكنه ايضاً وبالقدر نفسه كتاب في معارضة المهنة وذم اصولها. فالصحافي الذي هو غسان شربل يعرف ان بعض مهمته ان يكتب الاحداث ومصائر الناس كما لو انها خبر عن احوال الطقس اليومية، وهو يحب ويصادق الشخصيات التي تتناولها كتاباته مثلما يألف ويحب المرء طقس بلاده بسبب ملازمته له طوال العمر والفة جسمه مع احواله. لكن الصحافي في هذا الكتاب يفسح المجال كثيراً لحلول الصداقات، باعتبار ان المسؤولين عما يتضمنه الكتاب افشوا بعض اسرارهم واسفروا عن وجوههم امام الصحافي، لكنه آثر ان يحفظ للسر مكاناً يقيم اود الصداقات فلم تنحسر الوجوه ولا تناثرت الاسماء.
المفارقة الانفعالية هذه تلفح المسؤولين في كتاب غسان شربل بالهواء العاصف نفسه. هم ابطال حقبات وازمان، وبطولاتهم تأتت من مصادر كثيرة، لكن احداً لا يغفل ان بعض اسبابها المقررة كان قدرتهم على حفظ اسرارهم واخفاء وجوههم، وهم في الراهن من الايام منسيون ومهمشون كقضية وتضحيات. بحيث لا يمكنهم حيال هذا النسيان المؤلم إلا معاودة استعمال السر، ليذكروا انفسهم والناس من حولهم ان ترهبنهم ونضالهم من اجل القضية التي دافعوا عنها لم يذهبا سدى.
لهذه الاسباب تدور حوادث الكتاب على محورين مقررين ومتشابكين، اولهما ان الشخصيات التي قابلها شربل على الملأ، مسفرة عن وجوهها، هي الشخصيات التي باتت وجوهها معروفة ولم يتبق منها سوى بعض اسرارها. وديع حداد، كارلوس، انيس النقاش، خليل الوزير وجورج حبش. وهي الشخصيات التي افصحت عن اسرارها، او بعضها، واختارت ان تضمن سيرها بعض ارائها في السياسة والافكار اليوم. اما الشخصيات المغفلة التي لم يفصح الكتاب عن اسمائها، من رفاق وديع حداد وكارلوس، فآثرت ان تتبع خيط الحوادث موضوع الكتاب من دون تعليقات سياسية راهنة.
على هذا، لا يجد القارئ مفراً من ملاحظة الفجوة التي تقع بين ماركسية كارلوس الستينات والسبعينات واسلامه اليوم. ليس تشككاً في صدق اسلامه، بل تفكراً في الزمن الذي قضاه كارلوس قبل ان يتحول عن ماركسيته ويشهر اسلامه. وعلى النحو نفسه لا يبدو انيس النقاش غريباً عن هذا المصير. فهو السني الفتحاوي الذي خاطر بنفسه ليكشف بعض اسرار تنظيم لم يكن في واقع الامر معادياً لحركة فتح، بل حليفاً لها على طول خط النضال، يعود ليخاطر بنفسه مرة اخرى من اجل تنفيذ عملية اغتيال شهبور بختيار، التي يشرح الكتاب ظروف فشلها، خدمة للثورة الإيرانية، التي وان كانت تربط السني اللبناني المنتمي لحركة فتح وشائج قربى معها، إلا ان وشائج القربى لا تدفع المرء للمخاطرة بنفسه من اجل انتصار قضيتها. ذلك ان النقاش اصلاً ابن قضية اخرى، تظل اخرى بصرف النظر عن مدى قرابتها مع قضية الثورة الإسلامية في ايران.
لا يملك المرء ان يقرر الصواب من الخطأ في سيرة هؤلاء الرجال. ذلك انهم آمنوا بما فعلوه ودفعوا ثمناً مفحماً لكل مشكك او متسائل. لذلك لا يبدو اسلام كارلوس مستغلقاً على الأفهام، فهو الذي لا يلفظ اسم اسامة بن لادن إلا مسبوقاً بلقب الشيخ، لا يستطيع ان يتجاهل في سيرته وجوه القرابة مع اعضاء القاعدة لجهة ايثارهم الموت على الحياة. اي ان الانتماء يتصل هنا بالسلوك الثوري، على ما يدعوه كارلوس، وليس بالآراء والافكار وطبيعة القضايا وخصوصياتها. وإذا كان المرء لا يستطيع في قرارة نفسه ان يأخذ على كارلوس تقلبه هذا، فإنه لا بد قادر على مناقشة جورج حبش في التقلب والتلون. فهو القومي العربي الثائر، ثأراً وثورة، والماركسي اللينيني الرافض لكل الحلول المجتزأة، في ما بعد، لا يرى غضاضة في افتراض ان من يكمل مسيرة الثورة اليوم، اقرب إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي من قرابتهم إلى حركة فتح التي تزعمت نضال الشعب الفلسطيني طوال عقود. المسألة لا تتعلق ايضاً بالأفكار، بل بالسلوك. والمعنى من السلوك انه يوثق السالك والمناضل، على نحو لا فكاك منه، إلى وسائل الثورة ومسالكها اكثر مما يوثقه إلى افكارها وبرامجها السياسية. لكن الفارق بين جورج حبش القائد السياسي المخول بالتصريح والتلميح، ووديع حداد القائد الامني المخول بالكتمان، بيّن الاتساع، ولا يمكن لأي كان وضع الرجلين في سلة واحدة. ذلك ان الكتاب نفسه يوضح ان خلافاً في التوجهات وقع بين الرجلين المؤسسين لحركة القوميين العرب، على قاعدة ان جورج حبش كقائد سياسي كان يرى ان الارهاب وخطف الطائرات وسيلة وليس غاية، وما ان تتحق الغاية منهما حتى يرميا خلف ظهر القضية، فيما استمر وديع حداد في مسلكه، بوصف المسلك الثوري هو المقصود وهو الغاية على وجه من الوجوه.
في هذا المعنى يقع الرجلان ومن وراء كل منهما في خانة من خانتي التاريخ: واحدهما ينتمي لتاريخ الاحداث والآخر ينتمي لتاريخ المواقف. والواقف اليوم على عتبة مرحلة مختلفة من الصراعات في المنطقة والعالم، في وسعه ان يلوم جورج حبش على مواقفه او يناقش افكاره، لكنه لا يستطيع ان يلوم وديع حداد على ما بدر منه. ذلك ان الاخير يدخل دائماً في خانة تاريخ الاحداث. هو مبتكر خطف الطائرات، التي تحولت سلوكاً عالمياً، وهو مبتكر التفجيرات الانتحارية، التي تحولت ايضاً سلوكاً عالمياً، وهو ما كان عليه من عقل امني فذ، لا يملك المرء إلا ان يجله، ويعيد تنسيبه إلى موقعه في هذا التاريخ. لكن جورج حبش، وبعض كارلوس وانيس النقاش يبدون كما لو انهم يأتون جزئياً من خانة اخرى، هي خانة الغايات التي تبرر الوسائل. وفي هذا التطلب ما يدفع المرء إلى الشك عميقاً في ما يدّعونه اليوم من افكار ومواقف، ومن نافل القول ان هذا الشك الراهن يصيب بسهامه المواقف والأفكار التي بررت افعالهم في السابق.
كتاب غسان شربل، ليس ممتعاً ومهماً لأنه يكشف اسرار خقبة من حقبات تاريخنا المعاصر فحسب. انه ممتع ومهم وشيق لأنه ايضاً يكشف ومن دون لبس بعض الأسباب العميقة التي تسمح باستمرار هذه السلوكات المسماة اليوم ارهابية في المنطقة. فالوتد الذي يشق الكتاب من اوله إلى آخره، يبدو واضحاً منذ الصفحات الأولى: كان وديع حداد يرى ان النضال الفلسطيني يواجه ظروفاً غاية في الصعوبة من النواحي كافة. ولطالما ردد ان الحصار المفروض على النضال الفلسطيني يبيح للفلسطينيين استخدام الوسائل كافة، فالعدو الذي يسحق خصمه ولا يترك له فرصة للتنفس، يجب الا يفاجأ بأن يلجأ الخصم لابتكار اكثر الاساليب عنفاً وبعداً عن مألوف الصراعات. وهو ما فعله وديع حداد بالضبط. وواقع الامر ان القسوة الساحقة التي تواجه الفلسطينيين والعرب لم تتغير كثيراً عما كانت عليه يوم كان وديع حداد حياً، ولا يجدر بالمرء ان يستهجن ولادة سلوكات عنيفة لم تكن تخطر لأحد ببال. هل يستطيع احد ان يدعي اليوم ان سلوك منفذي عمليات دهس الاسرائيليين بالجرافات في القدس كانت لتحصل لو ان ظروف النضال الفلسطيني اكثر رحابة مما كانت عليه وما زالت حتى اليوم؟ وهل يمكن لأي كان ان يدعي ان هؤلاء الشبان لا يمتون بصلة وثيقة إلى وديع حداد؟

عن ايلاف

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .