الأربعاء، 15 أكتوبر 2008

داني رودريك انفجار النظام المالي

مَـن قَـتَل وول ستريت؟


ليس عليك أن تبذل قدراً كبيراً من الجهد في أيامنا هذه لكي تصبح واحداً من المتشككين في المال. لذا فلنذكر أنفسنا كيف كان منطق الإبداع المالي الذي قادنا إلى ورطتنا الحالية يبدو قوياً ومقنعاً منذ وقت ليس بالبعيد.
من منا لا يرغب في تسخير أسواق الائتمان لخدمة قضية ملكية المساكن؟ فلنبدأ إذن بإضفاء مسحة من المنافسة الحقيقة على تجارة قروض الرهن العقاري. ولنسمح لمؤسسات غير مصرفية بالعمل في مجال قروض الرهن العقاري ولنسمح لها بتقديم قروض مبتكرة وفي متناول مالكي المساكن الذين لا تخدمهم مؤسسات الإقراض التقليدية على النحو الأمثل.
ثم لنسمح بعد ذلك لهذه القروض بأن تتجمع في حزمة واحدة من الأوراق المالية التي يمكن بيعها للمستثمرين، على النحو الذي يقلص من عامل المجازفة. ثم نعمل على تشعيب دفعات أقساط هذه القروض إلى مسارات متنوعة من المجازفة، وتعويض حاملي النوع الأكثر عُرضة للمجازفة من القروض بأسعار فائدة أعلى. ثم ندعو وكالات تسعير الائتمان إلى التصديق على أن النوع الأقل عُرضة للمجازفة من هذه الأوراق المالية المعتمدة على قروض الرهن العقاري آمن إلى الحد الذي يجعل صناديق معاشات التقاعد وشركات التأمين قادرة على الاستثمار فيه. وإذا ما استمر بعض الناس على تشككهم بعد كل ذلك، فلنعمل على إنشاء مشتقات مالية تسمح للمستثمرين بشراء وثائق التأمين ضد التخلف عن سداد الدين من جانب الجهات التي تصدر مثل هذه الأوراق المالية.
ولو أردت أن تستعرض الفوائد المترتبة على الإبداع المالي فما كنت لتجد ترتيبات أفضل من هذه الترتيبات. فبفضلها أصبح الملايين من الفقراء والأسر المستبعدة من مالكي المنازل. ولربما كان ذلك الحلم الجميل ليستمر طويلاً- قبل عام ونصف العام تقريباً كان العديد من خبراء المال والاقتصاد وصناع القرار السياسي يعتقدون أن الحلم الجميل سوف يستمر.
ثم انهار كل شيء. لقد تسببت الأزمة التي أحاطت بالأسواق المالية أثناء الأشهر الأخيرة في انهيار وول ستريت وإذلال الولايات المتحدة. والحقيقة أن خطة إنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة التي اضطرت وزارة خزانة الولايات المتحدة إلى تنفيذها، والتي اقتربت تكاليفها من تريليون دولار، تجعل الأزمات التي تعرضت لها الأسواق الناشئة- مثل أزمة «البيزو» التي ضربت المكسيك في عام 1994، أو الأزمة المالية التي ألمت بآسيا أثناء عامي 1997 و1998- تبدو بالمقارنة وكأنها هامش ضئيل في كتاب الأزمات المالية.
ولكن أين حدث الخطأ الذي أطاح بهذه الآمال والأحلام؟ إن حماسنا الجديد فيما يتصل بضرورة العودة إلى فرض التنظيمات قد يودي بنا إلى قتل أشكال مفيدة من الإبداع المالي إلى جانب الأشكال السامة إذا لم نكن حريصين على توجيه علاجاتنا نحو المصادر الأساسية الحقيقية لهذه الأزمة.
المشكلة هنا أن المشتبه بهم كُـثُر. هل كانت المشكلة في مؤسسات الإقراض الجشعة معدومة الضمير التي ابتكرت شروط الائتمان الجديدة- مثل أسعار الفائدة المتغيرة والجزاءات المترتبة على سداد القرض مقدماً- التي قادت المقترضين غير المرتابين إلى الوقوع في فخ الدين؟ ربما، ولكن هذه الاستراتيجيات ما كانت لتبدو منطقية في نظر الجهات المقرضة لو لم تكن على اقتناع تام بأن أسعار المساكن سوف تستمر في الارتفاع.
ربما نستطيع إذن أن نوجه أصابع الاتهام إلى فقاعة الإسكان التي نشأت في أواخر تسعينيات القرن العشرين، وتقاعس أو امتناع آلان غرينسبان رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي آنذاك عن تفريغ هذه الفقاعة. ولكن حتى إن كان الأمر كذلك فإن العدد الهائل من التزامات الدين الإضافية والأوراق المالية المماثلة ذهب إلى ما هو أبعد من الحاجة إلى دعم عملية منح قروض الرهن العقاري. ويصدق القول نفسة على مقايضات التخلف عن سداد قروض الائتمان، التي تحولت إلى أداة للمضاربة بدلاً من التأمين، والتي بلغ حجمها 62 تريليون دولار.
هذا يعني أن هذه الأزمة ما كانت لتبلغ هذا الحجم الذي بلغته لولا حرص المؤسسات المالية بأشكالها كافة على الاستعانة بالروافع المالية سعياً إلى جني عائدات أعلى. ولكن ماذا إذن كانت تفعل وكالات تسعير الائتمان طيلة ذلك الوقت؟ لو كانت هذه الوكالات قد قامت بواجبها على النحو اللائق فأطلقت التحذيرات في الوقت المناسب بشأن المجازفات والمخاطر، فلما كانت هذه الأسواق لتنجح في اجتذاب هذا العدد الهائل من المستثمرين. أليس هذا هو جوهر المشكلة؟
أو ربما كان الفاعل الحقيقي قابعاً في الجهة الأخرى من العالم. فقد أسفر إفراط الأسر الآسيوية في الادخار، وحرص البنوك المركزية الأجنبية على تكديس الاحتياطيات من الدولار، عن «تخمة» ادخار عالمية، الأمر الذي دفع بأسعار الفائدة الحقيقة إلى منطقة سلبية، وأدى بالتالي إلى تضخم فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة، ودفع الممولين إلى خوض مغامرات متعاظمة الخطورة بأموال مقترضة. ولربما كان بوسع صناع القرار السياسي المسؤولين عن الاقتصاد الشامل أن يستجمعوا قواهم وأن يبادروا في الوقت المناسب إلى علاج هذا الخلل الهائل في توازن الحسابات الجارية. ولما كانت السيولة النقدية لتتكاثر إلى هذا الحد الذي بلغته في انتظار الكارثة.
ولكن ربما كان السبب الرئيسي الذي أوقعنا في هذه الفوضى هو أن وزارة الخزانة في الولايات المتحدة لم تُـحْسِن الاضطلاع بدورها بينما كانت الأزمة تتكشف. ورغم ما آلت إليه الأمور من سوء فإن السبب المباشر وراء توقف أسواق الائتمان عن العمل كان امتناع وزير خزانة الولايات المتحدة هنري بولسون عن إنقاذ «ليمان براذرز». فبعد ذلك القرار مباشرة، انهار التمويل قصير الأمد حتى بالنسبة لأقوى الشركات مالياً، وتعطل النظام المالي بالكامل عن العمل.
في ضوء ما كان على وشك أن يحدث فلربما كان لزاماً على بولسون أن يضغط على نفسه وأن يفعل مع «ليمان» ما فعله بالفعل مع «بير ستيرنز»، وما اضطر إلى فعله مع «AIG» بعد بضعة أيام فقط: ألا وهو أن ينقذها بأموال دافعي الضرائب. لو حدث ذلك فلربما كان بوسع وول ستريت أن تتمكن من النجاة، ولربما لم يكن دافعو الضرائب في الولايات المتحدة ليضطرون إلى تحمل فاتورة أضخم.
قد لا يكون من المجدي أن نبحث عن السبب المنفرد الذي لولا حدوثه لما كان النظام المالي لينفجر في وجوهنا. وإنها في الحقيقة لفكرة مريحة- إن كنت مازلت راغباً في وضع ثقتك في عقلانية النظام المالي- أن نعزو ما حدث إلى توفر عناصر «العاصفة الكاملة»، وهو ذلك النوع من الإخفاق الذي يستلزم توفر عناصر سوء الحظ كافة في الوقت نفسه.
ماذا سيتبين لنا إذن بعد تشريح جثة وول ستريت؟ هل كانت حالة انتحار؟ هل كانت جريمة قتل؟ أم هل كانت الوفاة عَـرَضية؟ قد لا نتوصل إلى سبب الوفاة على الإطلاق. وهذا يعني أن التنظيمات والاحتياطات التي سيستنها المشرعون لمنع تكرار ما حدث سوف تظل كليلة ولن تخلف تأثيراً حاسماً.
هذا هو السبب الذي يجعلنا على يقين من أننا سوف نتعرض لأزمة مالية كبرى أخرى في وقت ما من المستقبل، بمجرد أن تتراجع الأزمة الحالية إلى أعماق ذاكرتنا. ولربما كان بوسعك أن تراهن على هذا بمدخرات حياتك. والحقيقة أنني أعتقد أنك سوف تفعل ذلك في أغلب الظن.

* أستاذ الاقتصاد السياسي بكلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد
«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .