الأربعاء، 22 أكتوبر 2008

بلال خبيز: الخوف من شيطان الرأي العام

الديموقراطية تولد في المرض وتحيا في علاجه
يرى المفكر الفرنسي الان تورين ان الفارق الجوهري بين الديموقراطيات الرأسمالية والانظمة التوتاليتارية الاشتراكية يكمن في محاولة الانظمة التوتاليتارية الدؤوبة في نفي الامراض من الاجتماع والاقتصاد والادارة، ومحاولة الظهور بمظهر الصحيح النقي الخالي من كل شائبة، بينما درجت الديموقراطيات على اعلان امراضها علناً ومحاولة معالجتها. بل ان المرء إذا شاء التدقيق ملياً في طبيعة الديموقراطيات يكتشف انها اصلاً تقوم على اعلان المرض. فلطالما كانت الديموقراطيات مجتمعات مريضة، ولطالما جهدت وبذلت ما وسعها في محاولة التغلب على المرض لا نفي اعراضه.
لكن ذلك لا يمنع بعض المفكرين والكتاب اثر كل ازمة تواجه الانظمة الديموقراطية الرأسمالية، في الاقتصاد او السياسة او الحروب، من الإعلان الواضح والصريح ان الديموقراطيات الرأسمالية تحتضر وعلى الثوريين في العالم تجهيز الاكفان والصولجانات. إذ ما ان يتم دفن الديموقراطيات الرأسمالية حتى يبزغ فجر الثورات الاشتراكية. واليوم ثمة من يضيف إلى الثورات الاشتراكية بعض الثورات الإسلامية، باعتبار ان المصارف الإسلامية لم تتأثر بالازمة الحالية، متناسين انها لم تكن مؤثرة في الازدهار الذي سبق الازمة.
الديموقراطيات الرأسمالية تولد اصلاً مترنحة، تولد وامراضها في صدرها. وديدنها على الدوام ان تعالج اعراض المرض وتحاول اجتثاث اصوله. لكن المرض يتلوه مرض والعارض يتلوه عارض، والأزمة تخلفها ازمة.
والارجح ان الديموقراطيات على ما يوضح الكسي دو توكفيل منذ اكثر من قرن ونصف القرن، لا تنبني إلا على قواعد جغرافية واقتصادية. اي قواعد تتعلق بالحدود واحتمالات الحرب والسلم مع الجيران، مثلما تتعلق ايضاً بالمقدرات والثروات البشرية منها والمادية على حد سواء. ولأنها على هذا القدر من التماسك تستطيع العيش في ظل نظام ديموقراطي يعيق اتخاذ القرارات السريعة، ويمنع على اي كان التفرد بالقرار مهما بلغت حظوته وعظمة شأنه. وبمعنى آخر، تولد الديموقراطيات مريضة، ومرضها احيانأً يشل حركتها. وحين تتحرك تتحرك بتثاقل وبطء ملحوظين. لكن الهشاشة التي تطبع الديموقراطيات عموماً لا تمنعها من ان تتوسل اسباب القوة والمنعة من مصادر متعددة ومتنوعة. هكذا في وسع المرء ان يلاحظ ان الجيش الاميركي، وهو اقوى جيش في العالم، لا ينتشر انتشاراً عدائياً على حدود جيران اميركا في المكسيك وكندا، بل انه جيش يجتاز البحار والأجواء ليقاتل في اماكن بعيدة كل البعد عن اميركا نفسها. والقول ان الولايات المتحدة الاميركية تدفع جيشها للمحافظة على مصالحها البعيدة المدى في منابع النفط الشرق اوسطية مثلاً لا ينفي، بل يؤكد واقع ان الديموقراطية الاميركية تخشى اكثر ما تخشى شعب اميركا نفسه. ذلك ان الجيش المنتشر في الخليج يريد ان يمنع حدوث نقص في المحروقات المعدة للاستهلاك اليومي في الولايات المتحدة بعد سنوات قليلة او كثيرة العدد. ذلك ان الديموقراطية الاميركية ورغم الجبروت الذي يبدو عليه جيشها تخشى اكثر ما تخشى من اندلاع ازمة محروقات مثلاً. واندلاع مثل هذه الازمة له اثاره الخطيرة على النظام العام في الولايات المتحدة التي تفوق باضعاف مضاعفة خطورة انهيار مصرف ليمان براذرز. الخلاصة ثمة من يقول ان الديموقراطيات المتعدية على نحو ما تبدو عليه الديموقراطية الاميركية بعيدة النظر، وهذا صحيح، ذلك ان التعايش مع الأزمات والعمل على علاج الامراض يجعل الإدارات السياسية والاقتصادية في الأنظمة الديموقراطية ابعد نظراً واكثر اهتماما بالمستقبل. بل ان الأزمة الحالية التي انفجرت في وجه العالم منذ انهيار مصرف ليمان براذرز، كانت في صلب ما يحذر منه اقتصاديو اميركا وصانعو سياساتها النقدية والاقتصادية منذ التسعينات. ولطالما ردد الان غينسبرغ على مسامع المسؤولين في البيت الابيض: إلى متى سنظل ننعم بهذا الازدهار؟ الكساد قادم، ولا نعرف متى تنفجر الفقاعة وكيف. هذا وكثير غيره يؤكد ان الأزمة الحالية كانت متوقعة، بل ان وزارة الخزانة الاميركية تحسباً لانفجار الأزمة المبكر فرضت على بعض شركات التأمين المرتبطة بها شراء الاصول الهالكة.
الديموقراطيات تخشى الازمات فعلاً، لكنها ايضاً تستطيع تجاوزها. ولطالما نجحت في تجاوز الازمات الكبرى والتغلب عليها. لا تحتمل اميركا او فرنسا ان يعاني الشعب الاميركي او الفرنسي نقصاً في القمح او الذرة، مثلما تستطيع ايران ان تحتمل نقصاً مماثلاً. لكن هذا الامر لا يعني ان ايران قادرة على الصمود وصلبة العود بخلاف فرنسا واميركا القابلتين للكسر، بل المؤكد ان العكس هو الصحيح. فالازمات التي تمر على ايران نقصاً في البنزين وتردياً في الخدمات ستؤدي في المقبل من الايام إلى انهيار الدولة برمتها، وليس انهيار مصرف او مصرفين. فالديموقراطيات تعالج ازماتها واحدة اثر اخرى، اما الانظمة التوتاليتارية فتغلبها ازماتها المتكاثرة وتدفعها إلى الانهيار. وبين انهيار مصرف وانهيار دولة الارجح ان المرء يفضل العيش في بلد قد تنهار فيه المصارف وتبقى الدولة، لا ان يعيش في بلد قد تنهار فيه الدولة وتبقى خطابات الرئيس الحماسية.

عن الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .