الخميس، 9 أكتوبر 2008

خالد حاج بكري نصنع وثناً ولا نلبث ان نحطمه لنصنع غيره


قوّة الترميز ومسكونيةُ التوثين وشبقُ العبادة




خارج التراصف والرمز لا ميزة للغة، وفيهما ملامح سرّ الإنسانية الأكبر، وعلى الرغم من أنّ التوليد العبقري للكلمات أهم منجزات البشر، فإنّ القول بكون اللغة برهانا على سموّ مقام الإنسان يظلّ مرتبكا وسطحيّا يفتقر إلى التعيين الصارم، لأنّ الصوت تطلقه الكائنات جميعا، والتحويلُ العبقريُّ للتأتأة إلى رموز، فرادةٌ لا تسوّغ الاستقواء وإعلان السموّ.
أمّا الفكرُ فلم يثبت لنفسه، ولا لنا، بعدُ، إلا قدرتنا على صنع الغواية والشعبوية والأبطال الميامين والمخلّصين، ولم يستطع أن يبوح بأسرارنا لغيرنا؛ ليلفتَ انتباه الغرباء إلى نجاحاته المذهلة في تقسيم البشر إلى عبيد ومارقين، فمثلُ هذه اللفتة كان يمكنها أن تسفر عن تخصيب كونيّ، وبقي رخّاً يتيما يطير في هواء الأرض وأهوائها، وسفينة وحيدة تمخرُ في عباب البشر وحدهم، لا جواب لعناد صوتها، ولا سفن في الجوار تنتشل مَن يتساقط منها، ولم يحقق قفزة تؤهله ليكونَ هوّية ومعنى؛ فعلى مستوى الخير المطلق، لم ننتقل بعدُ إلى لحظة تسمو بنا حقّا على كائنات الطبيعة الأخرى، ومازلنا نميل إلى حذف خصومنا بالعنف، ولم نتوقف عن إدارة صراعاتنا وفق قواعد الغابة، وعلى المستوى الوجوديّ فإنّ الفكرَ الإنسانيّ أخفق في وعي الضحك الجذل، وأدار رحى الحروب، وتمنطق به الطغاة، ومازالوا يفعلون، ولم يُنتج سوى ابتسامتين، إحداهما: مفعمةٌ بالشماتة، والأخرى: مشبعةٌ بالذلّ والصُفرة، ولذلك، فإنّ انفرادنا بصناعته اختلافٌ، لا تميّزٌ، فالحيوان يصل إلى ساحات الوغى بغريزته، ونحن تحملنا إليها عينها: المعاني المفخخة باكتمالها ونهائيتها.
ومادام الفكرُ مشدودا إلى الإيديولوجيا، ولا يتمخّض إلا عنها، وقد أعيد طلاؤها بألوان جديدة تعجزعن إخفاء جوهرها، فإنني أخشى القول، أننا لا يحسنُ بنا انتظار منظومة جديدة تؤول إلى نهائية تخليصية أخرى، ولعلّنا في غير حاجة أيضا إلى تركيب توليفات دوائية، تعدُ بتطهير الإيديولوجيات السالفة من تشويهاتها، انسجاما مع إشاعات براءتها من "الدنس "؛ لأننا سنخسرُ بتبرئة الفكر وتجريم البشر ذواتَنا المتحركة، وسيربحُ التجريدُ ويشمخُ مجددا بقداسته التي نتحلق حولها مطأطئي الرؤوس.

تجدر الإشارة أنّ بعض الفلاسفة هَجَسَهم فكُّ الارتباط بين الفكر والإيديولوجيا، فقد عمل "سارتر " على تخليص مفهوم الحرية من عوالقه الوجودية المسكونة بالتمجيد، وحاول "هيدغر" اصطحاب الفكر بعيدا عن الحتمية؛ عبر تحرير مفهوم "الديزاين " من المطلقات والنهائيات، وأوغلت الفسحةُ النيتشويّةُ التي اتهمها " المتعقلنون " غير مرة بالتطرف والخبال، في مخاصمة الأفكار التي تعلن كمالها وقدرتها على تسيير شؤون البشر في كلّ زمان ومكان.
ولكنّ الحسرة كانت بالمرصاد، فقد تحول السارتريون في غمضة عين إلى " كهنة "، والهيدغريون إلى " واعظين " يحذّرون من تجاوز مضبوطية مفهوم " الديزاين "، وأحرق النيتشويون البخور في هياكل رَجُلهم، حتى إنّ الأكاديميّ الرصين السيد " سلوتردايك" ذهب إلى أنّ كلمات " زرادشت " نيتشة تعادل إنجيلا خامسا! ولم ينجح نقدُه القداسةَ من حيث كونها احتمالا مفتوحا وزلّة قدم خطرة بتفادي الشَرَك.
وهكذا، وقبل ذلك بكثير، وبعده، فقد استعرت حميّةُ الدفاع حتى الموت عن صحة الأفكار وطهرانيتها، واستحالت نمطا من " الإيمان " تنافى مع الحرية والنسبية والتعددية، فلم يقزّم هذا النمطُ الديموقراطيةَ فحسب، بل عصف بمسيرة الفكر نفسها أيضا، وتبيّن أنّ للتطهيرية ذات المنشأ الغيبيّ كوارثَها على صفقة التمايز عن الوحوش؛ وإمكانيات صياغة الدساتير التعايشيّة.
ونجح الحضورُ الضاغطُ لهذا " الإيمان "، بما طواه في أعطافه من انقياد إلى النظريات النهائية وتهميش للذات، في صرف الأنظار عن النسبية، وأولوية الحرية، وحيوية مفهوم الديموقراطية، وحوّل هذه القيم إلى ألعاب تداولها السياسيون، وباعها رهطٌ من المفكرين في أسواق مصالحهم، الأمر الذي جعلها مثارا للسخرية والتهكم في قرى الصفيح الجنوبية، وعقبات يمكن تجاوزها في مدائن الرفاه الشمالية، ونظرتان متفحصتان يلقيهما مشاكسٌ مشكك على مسار ممارستين ديموقراطيتين، كافيتان للكشف عن مهزلة صندوق الاقتراع هنا، وانضباطه إلى جانب رؤوس الأموال والقوى هناك.
ومع ذلك، فإنّ الإقرار بإخفاق الفكر في عراكه الصامت مع الأدلجة، ونجاحه في نفي الإنسان إلى الهامش، يمكنُه أن يشكّل مدخلا لنقد الآليات التي عمل عليها الفلاسفة والدعاة والسياسيون، وقد يلعب صعود " البراغماتية المحدَّثة " على أنقاض الحطام الماركسيّ الذي شكّل بداية تقويضية تعسَّر على المجتمعات هضمُها، دورا محوريّا في التأسيس لعمليات نقد بوسعها أن تطال ارتباط الفكر الرحميّ المفزع بالإيديولوجيا.
والبراغماتية التي يصبّ المثاليون لعناتهم بلا حساب على تبسيطيتها وافتقارها إلى الاستراتيجيتين الأخلاقية والوجودية، قد تمثّل مستقبلا الخصمَ الأوحدَ للفكر الذي ينقلب في ساعة ذئبية إلى قضبان وهياكل وطقوس، وإذا كان ثمة فرصةٌ توفّرُها بعد طول تغوّر أمام قيم النبالة والفروسية، فهي إمكانيةُ النيل من الطهرانية التي أسقَطَت على امتداد السنين الإنسانَ المتحوّل، ومجّدت المعنى الثابتَ بجلافة.
أليس غريبا الزعمُ أنّ العلمانيةَ احتجزت المقدس، في الوقت الذي تبحث فيه الشفاهُ عن أيدي الكهنة؟؟ أيمارس البشر الحرية، ويأوون إلى معابدهم عند العشية باكين معتذرين عن كمّها المفرط؛ ليومئوا أنّ الروح تحتاج إلى المسكنة والسكينة أضعاف احتياجها إلى الهواء؟ وحتّامَ يجادل الباكون الغارقون في الذنوب الدنيا بأسرها، أنّ نذورَهم وبخورَهم يمكنها أن تشاغلَ المقدَّس؟ فلنسأل أسطورة الحداثة: أيهما أجدى لتوطين الطهرانية المنعزلات الباردة: إنزالُها إلى مستوى الآدمية؟ أم السيرُ حفاة في ظلالها المباركة، وإضاءةُ الشموع حول هياكلها النحاسيّة؟
وإلى أن يترنّح يأسُ البشر من الإيديولوجيات على تنوّعها وتعدد مصادرها، وننجحَ في تخطي حالات البلبلة التي تسم بميسمها الاضطرابات السياسية والمآزق الاقتصادية الدراماتيكية، وجحيم سقوط الهياكل الاجتماعية التي شيّدها الإنسانُ بالطغيان تارة، وبعُقَد الذنب تارة أخرى، فإنّ الأصوبَ أن نرطنَ بالقول: إننا تُميُّزُنا قوّة "الترميز"، ومسكونيةُ " التوثين" وشبقُ "العبادة"، ولا شيء سواها، تلك التي نرثها ونوّرثها، تلتهمُ طفولتنا، وتهضمُ يفاعَنا، وينحلُّ فيها نضجُنا، وتشرئبُّ " ملعونة " بحكمة كهولتنا، والأحرى أن نجهرَ بأنّنا نصنعُ وثنَنا، ولا نلبث أن نحطّمه، ونبتدعَ غيرَه، لتبقى طاقةُ التوثين فينا ماءَنا الذي لا يجفّ، ونيرانَنا التي لاتترمّد.

عن الحياة








ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .