الثلاثاء، 21 أكتوبر 2008

هاني درويش: المتحرش الجوال

طفل خطيئة الأجساد المنهكة



"ولا أن أهل منطقتي قد يسببون مشاكل لعائلتي لوضعت صليباً على صدري" هكذا قالت لي القاصة والمترجمة المصرية "المسلمة" وهي تعدد كيف أن مجرد عدم وضع حجاب على رأسها يجعلها هدفا للتحرش الجنسي. بالطبع لا تدرك الصديقة أستاذة الجامعة أن التحرش البصري بالمسيحيات من قبل الشباب المسلم هو رصيد ضخم من الأحقاد التي تتراكم ثم تنفجر لاحقا في تحرش بالمسلمات. التدّين الإكسسواري للطبقات الشعبية والغنية في مصر خلق هذا النوع من إزاحة الضغينة ضد الأنثي المسيحية ليصب في "حلال" التحرش بالمسلمات. فهن "منا وعلينا" كما يقول المثل المصري الدارج، ومقام الفتاة المسيحية المحتفية بشعرها وجسدها المنطلق في الفضاء العام هو صراع ضد دخول الجنة تحت أقدامهن. في المناطق الشعبية يبدو حلم الفتى المسلم بـ"إسلام" فتاة مسيحية مفتتحا لجواز مرور ذهبي إلى الجنة، لذا لا يبدو غريبا مشهد الآلاف التي خرجت الجمعة الماضية في تشييع جنازة شاب مسلم قتله نسيبه المسيحي بعد تهديدات بضرورة إعادة أخته لأحضان أسرتها المسيحية. حدث هذا في منطقة الفردوس بحيّ الأميرية شرق القاهرة. في مشهد مافياوي مستنسخ من زمن "العراب" قام الأخ المسيحي المكلوم في شرفه الديني بقطع الكهرباء عن المنطقة السكنية ثم اقتحم منزل أخته الزوجي، وبعد حوار وتصميم من جانب زوجها على عدم تسليمها، أخرج الأخ رشاشا وقتل الزوج واصاب زوجته وإبنهما، بالطبع تم القبض على الجاني في وقت قياسي فالعرف المؤسسي للشرطة المصرية هي نصرة الإسلام غالبا أو مغلوبا. وبالتزامن مع هذا الحدث كان موسم أعياد التحرش ينصب كرنفاله الجوال بشارع جامعة الدول العربية في منطفة المهندسين البرجوازية، فبعد عامين من واقعة التحرش في وسط البلد، هاهو عيد فطر المتسكعين في شارع الجاليات العربية على فتيات قيل أنهن ارتدين ملابس مغرية ـ وفقا لأقوال أربعة متهمين تم القبض عليهم ـ . المدهش في الأمر أن حفلات التحرش الجوالة تلك غالبا ما يتوفر لها مناخ إستثنائي، إذ تتزامن مع مناسبة للفرح العام، يتحرك جسد واحد من عصبة ذكورية متكاتفة تحت هوس الملامسة الجنسية العنيفة. أعداد غفيرة تحتمي بعددها الكبير في مواجهة أي إعتراض فردي، وغالبا أيضا ما يصاحب ذلك غياب الأمن أو على أقصى تقدير ترحيب عناصره المتعالي على التورط في مشاجرات جماهير مجتمعة. ينقسم المشهد كما توضح الفتيات اللاتي أدلين بأقولهن في حادثة المهندسين الأخيرة إلى متحرشين غاضبين منفعلين يصرخون وأقلية تشاهد صامتة ومندهشة ولاعنة. لايختلط هؤلاء بهؤلاء. تتحرك كتلة الكبت الجنسي أيضا بلا بصيرة إنتقائية، أيّ جسد أنثوي يتصادف وجوده، محجبات أو كبيرات في السن، منفردات أو بصحبة رجالهن. غالبا ما يكون متوسط أعمار المتحرشين بين الثانية عشرة والعشرين، أقرب لقطاع طرق مكتظة يفاجئون السائرات بطابور يجري كالقطار، يلتف سريعا حول مجموعة من الفتيات أو ثنائيات وتبدأ حفلة الملامسة فيما يتبادل المتحرشون الشتائم بمرح مجنون. غالبا ما تجري الضحية إلى أقرب المحلات المفتوحة أو تحتمي بجدار. المشهد لا يستمر إلا نحو عشر ثوان، ثوان قاتلة وكابوسية على الضحية وربما لاينتبه إليها المارون في هذا الزحام. يختفي المتحرشون في طرق متفرقة قبل أن يتجمعوا مرة اخرى في نقطة متقدمة من الطريق أو الشارع بحثا عن ضحية جديدة. هذا التكنيك الخاطف الذي يترك الضحية في فضيحتها وحيدة مستنبطٌ من طريقة تحرش تاريخية موجودة في الموالد الشعبية: طابور المراهقين الذي يجري في الطرقات الضيقة حول مقام السيدة زينب والحسين بالقاهرة القديمة. أي أن الحالة الكرنفالية لغرباء يجمعهم حيز ضيق هي البيئة المواتية لظهور عصابة التحرش المتكاتفة والتي يصعب مواجهتها بشكل فردي، كما أن الملامسة العنيفة السريعة في أي جزء من جسد الضحية تؤكد حالة العصاب الجمعي التي تصيب مجموعة بشكل متفق عليه. لكن من هو المتحرش المصري الذي بني بسمعته الدولية وفضائحه المتتالية أسطورة قاهرية جديدة تتحدث عنها كتب الإرشاد السياحي إلى جوار الأهرامات وأم كلثوم والمقاهي، أو بمعنى أدق، كيف يفكر المتحرش؟
المتحرش غالبا لايملك اي ثقافة جنسية نظرية أو عملية. ووفقا للتشريح العمري السابق يتضح كيف تنتج مراهقة الألفية الثالثة مع الفقر الشديد وماكينات إنتاج الإثارة الجنسية في الميديا وإكسسوارية التدين ذلك الغموض الذي يكتنف وحش الأنوثة الكامن في المخيلة الذكورية. فهذا الجيل المقموع من كافة المؤسسات التي تتعامل معه يتعامل بفصل شديد بين الإحتياج الجنسي ومفهوم الأنثى المتعدد الأطياف من حوله (أما أو أختا أو قريبة)، وكأن قيمة الجنس متبلورة غالبا في أنثى مجهلة. لذا في معظم الأحوال لا ينظر المتحرش في عين فريسته، يشحن فقط بتوتر بالغ جسده في لحظة الملامسة العنيفة وكأنها كائن أخر، جسد يخاله غريزيا في حالته الخام، وكأن الملامسة العنيفة تلك ستطلق إغواءه الصامت فيلين. المتحرش أيضا يمتص تلك اللحظة بذروتها القصيرة اللاهثة لتصلح معينا له بشكل إستعادي لاحق، في لحظات ممارسة العادة السرية أو التفاخر الذكوري الجمعي لاحقا. المتحرش لا يعتبر هذا السلوك إغتصابا لجسد آخر، إنها مجرد إهانة سريعة لذلك الوحش الذي يهين ذكورته بإهمالها أو التقليل منها. وبهذا الميكانيزم يتحمل ذلك الجسد المجهول تفريغ شحنة القمع المنبثة في تفاصيل الحياة اليومية وخرافات الخيال الجنسي عن الأنثى، ونادرا ما يترتب على ذلك الإعتداء أي ندم. فالمتحرش قادر على تشغيل ماكينة التبريرات وإن كان في غير إحتياج لها أصلا، هو يفصل بين ما قام به(جسده) ونسقه القيمي "النفسي" المحافظ والمستقر. هو غيور على اخوته البنات وتغذي أمه غالبا سلطته الذكورية على من حوله، ربما تنتقم به من قسوة زوج، هي تصنع قسوة موجهة بشكل لا شعوري على جنسها المستقبلي(أخت أو زوجة الأبن لاحقا)، وكأنها تنتقم بشكل مباشر من ضعفها. والأب يتعامل مع ذكورة ابنه على أنها إمتداد طبيعي لذكورته. تحكي مذيعة تلفزيونية إستضافها برنامج 90 دقيقة الذي تبثه فضائية المحور أن المتحرش بها أحد جيرانها، وعندما عاتبت أمها أمه على إعتدائه في عرض الشارع على إبنتها، ردت الأم: "ابني أولى من الغريب"، في حين كان رد والده في إعتداء لاحق على أخت المذيعة: دا راجل ...وحقه يعمل كدا" وعندما سألته الأم :"أترضى أن يحصل هذا لبنتك؟"، كان رده: "مالكيش دعوة ...إحنا ما عندناش بنات".دهشة المذيع معتز الدمرداش تلك الليلة فيما يستمع إلى شهادات فتاتين تم التحرش بهما هي الدهشة نفسها التي يتعامل بها مشاهد واقعة التحرش، دهشة من لايصدق أو يتعمد عدم تصديق أن "رجولتنا" يقلل منها ذلك السلوك الإستثنائي. فالـ"الرجولة المصرية" تستمد تعريفها من مركب "الشهامة" و"الجدعنة" اللذين يعنيان غالبا: نصرة الحق، إغاثة المظلوم، الغيرة على الأخلاق. تحكي مخرجة شابة -في نفس الحلقة- كيف "زنقها" سائق عربة نقل على الرصيف وقام بـ"هرس" صدرها، كيف صرخت فاجتمع نحو 100 رجل في الشارع كانت وظيفتهم الوحيدة تخليصه من يديها ومحاولة إقناعها بعدم "تكبير الموضوع"، ثم كيف تطوع بعضهم للدفاع عن المتحرش مدعيا أن ملابسها "إستفزت الرجل وخلت أعصابه تفلت". تحكي أيضا كيف تملص رجال الشرطة من فتح محضر بالواقعة، وعندما اصطحبته إلى هناك، كانت عيون الجميع تتهمها بالفضائحية، ولولا حضور والدها ربما لتم إطلاق سراحه دون توجيه تهمة. قسم الشرطة ـ الواقع في منطقة برجوازية بضاحية مصر الجديدة ـ تعلل بعدم وجود عربة لترحيل المتهم فنقله والد المخرجة في سيارته إلى النيابة، حيث أنكر إعترافه الخجول في محضر القسم. تشرح الفتاة المهانة التي شعرت بها والمتحرش يتمدد على المقعد الخلفي مع جندي الترحيل في سيارة والدها بينما إنحشرت هي وصديقة لها في المقعد الأمامي بجوار والدها الذي تحول لسائق، في النيابة تبرع محامي- بنصرة أبناء الجنس الواحد- للدفاع عن المتحرش وهو من أقنعه "أن يرفع رأسه" وينكر التهمة، بل ويتهم المعتدى عليها بضربه، محرر الواقعة في قسم الشرطة رفض تضمين أقوال شهود الواقعة ومن ثم أصبحت "القضية مضروبة" أمام النيابة، وأمام محضرها الذي بدون إثبات او دليل شهد مجهولون- حضروا من الشركة التي يعمل بها المتحرش- بأنها إعتدت عليه بالضرب. محضر أمام محضر و"خالصين". خرجت الفتاة من النيابة وإلى جوارها المتحرش متباهيا. قانون العقوبات المصرية كما تقول خبيرة قانونية- لايعرف مصطلح "تحرش جنسي"، وتندرج قضايا التحرش تحت طائلة ثلاث مواد خاصة بجريمة هتك العرض. إلا ان تطبيق تلك المواد واقعيا على حالة التحرش يحتاج إلى معجزة، فيتطلب تطبيقها إجراءات عديدة في محضر الإثبات الأول للحالة، كذلك توافر شهود، وربما يطلب القاضي عرض الضحية على الطبيب الشرعي! أما في القوانين الغربية فتعد أي ملامسة لأي جزء من جسد المرأة تحرشا فيما عدا منطقة مفرق الذراع (الكوع) والتي تنعدم فيها الإثارة الجنسية كما رأى العلماء، ناهيك عن المواد القانونية التي تضم النظرة الجارحة واللفظ البذئ إلى قائمة التحرش. تقول الإحصاءات الرسمية لدراسات أجراها المجلس القومي للمرأة- مجلس حكومي ترأسه السيدة سوزان مبارك- بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني، أن 72% من المتحرش بهن محجبات، وأن 90% من الذكورلا يبدون رد فعل حين يشاهدون واقعة تحرش، فيما تؤكد 95% من النساء تعرضهن للتحرش في أماكن العمل، ونحو 65% منهن تعرضهن لملامسة منطقة حساسة في أجسادهن، وتتوالى الأرقام المرعبة عندما تؤكد 75% من نسبة المنقبات داخل العينة(25%) تعرضهن للتحرش.الأرقام السابقة رغم كارثيتها إلا أنها مخففة، تبعا لحساسية سؤال الإستبيان، وعدم معرفة النساء التصنيف الدقيق لكلمة تحرش، بالإضافة للإنكار المتوقع الذي تواجه به النساء ذلك/ تلك العار/الجريمة.الإغواء. هكذا ترد الذكورة الجمعية المهانة. إغواء لايخفي حجاب أو نقاب شراسته الإفتراضية، إغواء تلعب عليه حداثة الأزياء، فملابس المحجبات في فاترينات المحلات يحركها نفس الخيال الإغوائي لغير المحجبات، بنطال ضيق على تي شيرت أضيق ينتهي أعلى السرة. واسفل كل هذا الخيال "بدي" ضيق لايمنع التفاصيل بل يرواغ على أشباحها، ثم أعلى كل هذا حجاب أو إيشارب مربوط كما أتفق على الإسبانية ممهور بمكياج ثقيل للوجه، وان المحجبات أنفسهن يناطحن الموضة العالمية بتلفيق واضح، يقول إعلان لشركة باديهات "كارينا" تعرضه الفضائيات المصرية: إن منتجات الشركة حلت أزمة الأناقة وقدمت حلولاً "عصرية" للجسد المصري المحافظ منذ أوائل التسعينيات. الإعلان لم يقدم محجبة واحدة رغم أن ماركة "كارينا" هي المفضلة لديهن (كما أردفت زوجتي)، كانت الفتيات في الإعلان منطلقات إحداهن "تهشك" طفلها ببنطال ضيق، وثانية ترتدي "البدي" تحت فستان خطوبة!، وثالثة تتأنق به على ممشى عرض أزياء. الإعلان يؤرخ للأزمة التي دخلها خيال الجسد الأنثوي المصري وهو ممزق بين إحتياجات الإندماج في سوق الموضة وضرورة الحفاظ على الجسد. خيال يلعب على ذهنية المشاهد المشتهي المزدوج. على الجانب الآخر تزيد خنوسة ملابس الرجال، تميل إلى الضيق والمادة اللماعة والإكسسوار الحديدي والبلاستيكي، وكأن الرجال يؤممون مشاهد الذكورة والأنوثة معا. المشهد على كورنيش نيل القاهرة حيث مراهقون من الجنسين متشابكو الأيدي يقدم بانوراما أزياء مغوية وقشرية تحت ذهنيات محافظة من الجنسين، إستسلام أنثوي شكلاني لذكورة متفاخرة كاذبة، مشهد تنطلق فيه شهوات الجسد على أريحيته ويستمد الحوار الجسدي قانونه من علاقة قهرية، فقد اصبح عاديا للغاية أن ترى مشهد شاب يضرب فتاة بمنتهي العنف في الشارع، أو زوجاً يقذف بزوجته داخل عربة، أوطفلاً مراهقاً ينهال رفسا على أمه، هناك إحتدام قمعي للغة الجسدية بين الجنسين، فيما يزداد حصار أجساد الجنس الواحد: فتيات يتمايلن هامسات مريحات الأذرع على خواصر بعضهن البعض، شباب متشابكو الأيدي في وضعية مثلية، إنتهاك عام لخصوصية الجسد بعد أن اصبح عاديا تعذيب أقسام الشرطة وكليباتها الشهيرة، في تواز مدهش وربما منطقي مع حالة ترهيب ديني عامة. المتحرش في قلب هذا الإحتدام الجسدي هو طفل الخطيئة الذي لا تعترف به كل الأجساد المنهكة.

عن نوافذ

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .