الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

الياس خوري الامر لصاحب الامر

سيرك اللغة

يحار المرء في احوال هذه الأيام، فبعدما نجحت الطوائف في تتفيه انتفاضة الاستقلال، وفي تحويل المقاومة الى مسألة طائفية مذهبية، ترتبط بالصراع على تقاسم السلطة، اذا بها تضع اللبنانين امام سيرك قانون الانتخاب.مجلس النواب اقر قانون 1960، وهو ليس بالطبع قانون غازي كنعان، لكن فقدان الذاكرة اللبنانية لا يريد ان يسمّي قانون الستّين باسمه. انه قانون المكتب الثاني، حين احكمت الأجهزة في العهد الشهابي قبضتها على السلطة. اي ان المشترع اللبناني استبدل قانونا وضعته المخابرات، بقانون وضعته المخابرات! وفي هذا ذروة الديموقراطية التي صنعتها الدوحة القطرية.قال الناس هذا حسن، فاذا كان قانون الستين يرضي الطبقة السياسية، او يشكل نقطة توازن بين امراء الحرب وفقهائها، فليكن. المهم ان يحلّوا عنا، ويتوقفوا عن لعبة الحرب والدم.لكن لعبة الدم لم تتوقف، لا لأن امراء الحرب يريدونها، بل لأن الأمر هو لصاحب الأمر، وللفوضى الناجمة عن صراع الأصوليات المنشبكة على المخابرات الإقليمبة والدولية. فجاءت جريمة طرابلس ضد الجيش اللبناني، عشية عيد الفطر، لتذكّرنا بأن المسألة في مكان آخر، وتحتاج الى ما هو مختلف جذريا عن توازنات الخوف بين الامراء والفقهاء.المسألة التي تثير حيرتي وحيرة الناس، ليست عجز الطبقة السياسية والدينية الحاكمة عن الحكم، فهذا صار جزءا من حياتنا اللبنانية. المسألة لها اسم واحد هو السماجة وثقل الدم.تتجسد السماجة في هذا الدلع الكلامي حول قانون الانتخاب. كلهم وافقوا على قانون الستين، لكنهم اعلنوا جميعا انه ليس قانونا ملائما. وافقوا وانتقدوا! كأنهم يريدون احتكار الخطابين في الآن نفسه. انهم السلطة والمعارضة! الطائفية والدعوة الى الغائها! وهنا يكمن سر الاعجوبة اللبنانية التي تتجدد باستمرار.لا نستطيع ان نسأل لماذا وافقتم اذا كنتم معترضين، فهذا ليس سؤالا سياسيا في القاموس اللبناني، لأنه قاموس عشائري بدويّ. ولمن لا يعرف، فإن سمة قاموس الاعراب ان تقول ما لا تفعل، وتعلن ما لا تضمر. تعلّمتُ هذا الدرس البليغ من التجربة، ومن الأيام التي تجعل نصاب الكلام اضحوكة او ما يشبهها. وهذا ما يعقّد مهمة المثقفين الذين يتعاطون الشأن السياسي، ويحوّل من التحق منهم بالقوى الطائفية اللبنانية الى مسخرة.اذكر الضجة التي اثيرت حول كتاب "نقد فكر المقاومة" لصادق جلال العظم والذي صدر عام 1972. فيه قام صاحب "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، بقراءة تناقضات الخطاب السياسي للمقاومة الفلسطينية، مركّزا على خطاب قادة "فتح". كان جواب صلاح خلف (ابو اياد)، الذي زار مركز الابحاث الفلسطيني غاضبا، أن المفكر السوري اخطأ، لأن التصريحات السياسية لا تقول الحقيقة، بل توائم نفسها مع الظروف السياسية. يومذاك فهمت اننا لا نزال نحمل اعراض الأعراب، ونتبنى طريقتهم في جعل الكلام احجية.كنت اعتقد ان الحرب الأهلية التي مزقت المجتمع اللبناني قد شفتنا من اللغة الكاذبة، وحررتنا من ايديولوجيا الزعبرة. لكن يبدو ان الحرب لم تحرر سوى الأدب من جماليات الوهم، اما اللغة السياسية فازدادت خبثا وكذبا وغموضا، وانغرست في بارانويا الطوائف والمذاهب والقبائل.نستطيع ان نجد تفسيرا لهذه اللغة المزدوجة في حكاية رفع الأيدي الشهيرة التي طلبها غازي كنعان من نواب الشمال من اجل التمديد للياس الهراوي في رئاسة الجمهورية. يومذاك لم يجد النواب المحترمون غضاضة في الصمت حين تكلمت ايديهم المرتفعة بالموافقة في مجلس النواب. مرّ التمديد بهدوء ولم يعكّره سوى احد الزملاء، الذي نشر خبر تهديد غازي كتعان للنواب وقوله انهم سيصوّتون برفع الأيدي. الصحافي صنع سبقا مهنيا، لكن الأمر لم يرق لصاحب الأمر فهدّد بتحويل الكاتب الى همبرغر!لا ادري لماذا جرى استخدام قاموس "الفاست فود"، في تهديد الصحافي، وتمّ التخلي عن المطبخ المحلي المليء بأصناف الفرم، من الكفتا الى الشاورما. ربما نجد الجواب في فيلم اسامة محمد الرائع "نجوم النهار"، حيث يحتل "البروستد" حيزا لا يحتله "الكانتاكي"، في مسقطه الأميركي.قصة "الهمبرغر" سوِّيت على الطريقة اللبنانية، ولم يصب الصحافي بأذى، اما الطبقة السياسية فقد ابتلعت الاهانة، كأن شيئا لم يكن، وعاد النواب الى ممارسة دورهم الرقابي والتشريعي، في ظل الخوف من احتمالات "الهمبرغر".لا احد هدّد النواب المحترمين هنا، الا اذا افترضنا ان "اتفاق الدوحة" جاء محصلة لـ"الشر المستطير"، الذي تنبأ به رئيس مجلس النواب. علما ان رئيس المجلس شارك في انتقاد قانون الستين هو ايضا! هل خاف النواب من استفحال الشر المستطير الذي غزا بيروت وبعض الجبل، ام انهم كانوا في اعماقهم سعداء، لأن قانون الستين يسمح للانقسامات الطائفية والمذهبية بأن تتبلور على المستوى السياسي، بحيث تنتخب كل طائفة نوابها، ويدخل لبنان في افق الحرب الأهلية النائمة؟قامت فلسفة قانون الستين على قاعدتين:القاعدة الأولى هي الدوائر الصغرى التي تحدّ من نفوذ الاقطاع السياسي، الذي كان فؤاد شهاب يكرهه. والقاعدة الثانية هي استثمار الانقسام الطائفي من اجل تأكيد هيمنة موقع الرئاسة وملحقه الأمني المخابراتي.هكذا ركّب الرئيس شهاب "سيبة" حكمه على معادلة ثلاثية ثابتة، رئيس حكومة ثابت يحظى برضا مصر، وجناحان يمثلان اليمين واليسار. الكتائب على اليمين، والحزب الاشتراكي على اليسار. وعندما انفجرت الشهابية بعد هزيمة حزيران وولادة الحلف الشهابي، لعب جناحا النظام دورا رئيسيا في اشعال الحرب الأهلية.لكن جمهورية ما بعد الدوحة لا تملك فلسفة حكم. فلسفتها تنظيم الانقسام في انتظار حدوث شيء ما في الخارج يقرر المصير اللبناني. لذا جاء قانون الستين لا لكي يعيدنا نصف قرن الى الوراء فقط، بل ليحول لبنان الى محطة انتظار ثابتة، وليبني النظام السياسي على معادلة التوازن الهش داخل الصراع السياسي والمذهبي المحتدم في المنطقة.طبقة الامراء والفقهاء الحاكمة، لا تملك تصورا للوطن، او مشروعا للانقاذ. تمتلك فقط غريزة البقاء، وشهوة السلطة. لذا اختارت الانتظار وقنعت بالماضي كمخرج لعجز الطوائف عن بناء وطن لا تستحقه.لكن ما يثير ليس النتيجة. قانون الستين جاء ليشرّع واقعا ممزقا، محوّلا الانتخابات الى احدى حلبات الحرب الأهلية نصف النائمة. ما يثير هو وقاحة وقلة ذوق من صوّت مع القانون وانتقده في اللحظة نفسها.الرجاء الصمت. ارفعوا ايديكم واسكتوا. وكفى لغتنا بهدلة وامتهانا.
عن ملحق النهار

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .