الخميس، 2 أكتوبر 2008

إعادة تموضع الاستعمار

بلال خبيز

المعارضون لسياسة جورج دبليو بوش اليوم يتناسون دائماً، ان الرئيس الأميركي الحالي فاز بالانتخابات الاميركية على اساس من تفضيله الانسحاب من المجتمع الدولي وعزل اميركا ما امكنه ذلك. كانت نقاط القوة في الحملة التي خاضها جورج دبليو بوش على ما يذكر الجميع تتركز في واقع الامر على اتجاه نحو العزلة الأميركية. بافتراض ان الانفتاح الاميركي على العالم والتدخل في شؤونه على النحو الذي كانت تتبعه ادارة الرئيس السابق بيل كلينتون ادى إلى ازمات اقتصادية واجتماعية في الولايات المتحدة، يعتقد كثير من الاميركيين انهم كانوا في غنى عنها اصلاً.

الديموقراطيون والجمهوريون يتناوبون على حصان واحد

ثمة في المزاج الاميركي رأي عام وكاسح يعتقد ان كل تدخل اميركي خارج الحدود القومية هو عبارة عن خسارة صافية. فأن تتحالف الولايات المتحدة مع اي دولة عبر المحيطين، فذلك يعني، بالنسبة لهذا الرأي العام، ان الولايات المتحدة ستجد نفسها ذات يوم، مجبرة على مساعدة هذه الدولة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ان اقتضى الأمر. فيما لا يرى الاميركيون، نخباً وعامة، ان مثل هذه الاتفاقيات والتحالفات تعود عليهم بالفائدة على اي وجه من الوجوه. والحال، كان من شأن مستشاري الرئيس الحالي، اثناء حملته الانتخابية الاولى ان اعترضوا على ضخ الاموال الفيدرالية في هوة الاقتصاد المكسيكي المنهار في اواخر النصف الاول من تسعينات القرن الماضي، كما اعترضوا وساجلوا ضد التدخل الاميركي في يوغوسلافيا لحساب اوروبا العجوز، بحسب ما وصف دونالد رامسفيلد وزير دفاع جورج بوش السابق الشطر الغربي من القارة الاوروبية. وكذا الأمر بالنسبة لحملة الانقاذ المالية الضخمة التي اضطلعت بها ادارة كلينتون حيال التخبط الروسي الهائل الذي كان ينذر بكارثة عالمية لا يمكن تفاديها.
من محاسن الصدف او ربما من مثالبها، ان يراهن المرشح الديموقراطي للرئاسة الاميركية باراك اوباما على الحصان نفسه الذي كان بوش قد راهن عليه من قبل. وهو في ما يبدو حصان رابح، إذا لم تحل في الافق العالمي كارثة هائلة تدمر المضمار الذي يرمح فيه هذا الحصان. مرة اخرى يستعيد الديموقراطيون خطاباً كان لسنوات خلت جمهورياً. ويراهنون على حسن وقع هذا الخطاب في اذن الناخب الأميركي. ذلك ان ادارة بوش لا تستطيع، ولو ارادت، التنصل من موجبات الحكم، التي تعني في ما تعنيه علاقات دولية ومصالح متشابكة وجهد حثيث للمحافظة على استقرار الوضع القائم، شأنها في ذلك شأن أي ادارة اخرى. وجل ما تستطيعه في هذا الصدد لا يتعدى صناعة فلسفة لهذه السياسة، او وجهة ثقافية، على وجه اكثر دقة، تعيد وصلها، اي السياسة، بحاجات ومتطلبات الناخب الاميركي المباشرة.
من نافل القول ان الحملة الاميركية على العراق طفحت بخطيئات واخطاء تكاد تكون مميتة. اقله بالنسبة للشعب العراقي نفسه. فلا يندر اليوم ان نجد من يترحم على النظام العراقي السابق رغم كل مآثره في المغامرات التي لا طائل منها والتي كلفت الشعب العراقي ملايين المنفيين ومئات الوف القتلى. لكن الخطأ الأميركي لم يكن في التدخل نفسه بل في سياقاته المظلمة. وكثيراً ما ردد المرشح الرئاسي الديموقراطي السابق جون كيري مثل هذا الرأي في مواجهة المشاعر الوطنية - الشوفينية الاميركية التي كان يغذيها جورج بوش الابن في ولايات اميركا الوسطى والداخلية خصوصاً. بل ان حملة جورج بوش الابن، مثلها مثل حملة جون ماكين اليوم، بررت تدخلها العسكري في العراق وافغانستان باعتبارها حملة في الدفاع عن النفس. ولا زالت ادارة بوش حتى اليوم تعتبر ان خسائرها في العراق وافغانستان ليست اكثر من ثمن لا بد منه لاستهدافها الباهظ التكلفة من قبل الارهاب. وبتدخلها هذا ومحاربة الارهاب في عقر داره جنبت الشعب الاميركي كوارث مفجعة، كالتي حاقت به في 11 ايلول من العام 2001. فالجندي الاميركي يقوم بمهمته على خير وجه، وهو يدافع خارج الحدود ويقاتل عدواً يريد ان ينتهك الحدود وحرماتها، انه بحسب رؤية بوش لهذا التدخل، يقاتل ويموت لئلا يتعرض الاطفال الاميركيون لأي اذى.
في المقابل كان جون كيري يعتبر ان التدخل امر مفروغ منه، لذا يفترض بالولايات المتحدة ان تستبدل سياسة الانتقام والثأر لمقتل مواطنيها في 11 ايلول بسياسة عاقلة تفترض ان همها الاول المحافظة على المصالح الاميركية الحيوية للشعب الاميركي وحماية مستقبل البشرية المهدد.
على المنوال نفسه يعتقد جون ماكين ان الولايات المتحدة معرضة لتهديدات كبرى، وانه قادر على حماية الشعب الاميركي من هذه التهديدات. اي ان جون ماكين سيرسل جيوشاً لقتال اعداء اميركا حيث يقتضي الامر، دفاعاً عن الشعب الاميركي الذي في قد يتعرض لافدح الاخطار في حال الاستكانة واعتماد سياسة الانتظار الانسحابية التي يريد اوباما اعتمادها. والحق ان مثل هذا الخطاب الاسبرطي ليس جديداً على صناع السياسة الاميركيين، يميناً ويساراً. ذلك ان فحوى هذا الخطاب العميق يفيد ان افضل سبل مواجهة الاخطار الداهمة التي تنجم من حسد العالم اجمع حيال اميركا يتلخص بالاستعداد الاسبرطي العدواني سحقاً لاي اعتداء او تهديد.

علاقات الضرورات القصوى
والحق ان المرشح الديموقراطي باراك اوباما الذي يبدي اعتراضات شتى على هذا الخطاب الذي يحكم ويقرر في طبيعة التدخل الاميركي في العراق وافغانستان لا يدعو إلى الانسحاب الفوري من هذين البلدين، ذلك انه يعرف ان السياسات لا تدار بالمواقف الحاسمة والقاطعة. فحتى لو قررت الولايات المتحدة الامتناع عن اي تدخل خارجي فإن مثل هذا الأمر يحتاج وقتاً طويلاً لترتيب مندرجاته المتشعبة. لكن اوباما ينطلق في حملته الرئاسية من فكرة لطالما بدا اليمين الاميركي ضنيناً بها. إذ يعتقد ان امر تنطح اميركا للعب دور قيادي في العالم على مستوى السياسات العامة امر لا طاقة للشعب الاميركي على احتماله، وان الدور المفضل الذي يمكن للحكومات الاميركية ان تقوم به هو ترك العالم وشأنه والالتفات إلى تنمية القدرات الأميركية الداخلية على مستوى الاقتصاد والحريات والتعليم والثقافة والاندماج الاجتماعي. بل ان بعض ما ادلى به اوباما في خطاب قبول الترشيح في دنفر، يبدو للمدقق بالغ الدلالة من نواح متعددة. إذ دعا إلى العمل على تأمين مصادر طاقة بديلة عن النفط الشرق اوسطي، وشرح وجهة نظره المفحمة، بالقول ان مثل هذا الجهد سيتيح فرص عمل لملايين من الاميركيين لكن الاهم من ذلك ان هذه الطاقة البديلة لا يمكن تصنيعها في الصين او ماليزيا، ذلك انها من وجه اول تعتمد على الجغرافيا الأميركية، مما يعني وقوعها تحت صولجان الادارة الاميركية حكماً. ومن الوجه الثاني اعتبر اوباما ان التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وبعض الشرق الاوسط المضطرب في مجال الصناعات والمشتقات النفطية يجعل الولايات المتحدة اقل قدرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي - الا يذكرنا هذا بلينين؟ - وتالياً تستغني اميركا عن حاجتها للنفط الذي يحدث احياناً ان تجد نفسها مضطرة، لضمان حسن تدفقه في الانابيب، إلى حماية مصادر النفط بالسلاح. مما يعني ان الفكرة العميقة التي تحرك طرح اوباما في هذا المجال تتصل اتصالاً مباشراً برغبة ديموقراطية اميركية في قطع اي علاقة مع الخارج لا تحتمها الضرورة القصوى. والحال، نحن امام خطين متوازيين يؤديان إلى النتيجة نفسها: الخط الاول يرتسم عبر خط بيان حماية العمالة الاميركية والعمل من اجل وقف هجرة المصانع من اميركا إلى الصين، بسبب رخص اليد العاملة، والخط الثاني يقضي بأن تجهد اميركا في محاولة الاستغناء عن المواد الاولية الخام التي تستوردها من الشرق الاوسط. اي بمعنى اكثر دقة، يريد اوباما ان يكافح ضد نمطين من العلاقات الخارجية: العلاقة مع الدول المتخلفة صناعياً والتي لا تملك غير المادة الخام تعتمد عليها في نهوضها باعباء التحديات الاقتصادية، والعلاقة مع الدول المتقدمة صناعياً والتي تعتمد في شكل اساسي على السوق الاميركية للنهوض باقتصادها وتحقيق النمو المرتفع الوتيرة الذي يبدو سبباً للشعور الاميركي بنكران الجميل مما ينتج خطاب ترفع ونميمة لا مثيل لهما، وان كانت لهما سوابق.
الدولة والسوق
من حق العمال الاميركيين المحافظة على وظائفهم. مع ان هذا الخطاب يبدو غريباً بعض الشيء، لجهة ان الان غرينسبان، الذي شغل منصب رئيس مجلس ادارة مصرف الاحتياط الفدرالي الاميركي منذ 1987، في عهد جورج بوش الأب وحتى 2007 في نهاية عهد جورج بوش الابن، يرد بعض اسباب التردي في ريادة الاقتصاد الياباني إلى ضرب من الحماية المقفلة للعمال، ويعتقد ان السياسة الحمائية الهندية، المتعلقة ايضاً بحماية الموظفين من الصرف التعسفي، هي التي تحول دون النمو الفعلي للاقتصاد الهندي مثلما يحدث في الصين. والحق ان غرينسبان الذي يبدو مؤمناً بقدرة السوق الحرة على تحقيق النمو، يعود فينتبه إلى ان بعض اسباب تخوفه من حدوث ازمة اقتصادية، كتلك التي حدثت منذ اسابيع، اثر انهيار مصرف ليمان براذرز، يتصل اتصالاً مؤكداً، وان يكن غير مباشر، بعجز الاقتصاد الاميركي عن تثبيت الوظائف في الأرض الاميركية. كما يبدي تخوفاً من هجرة التصنيع الاميركي نحو بلدان متخلفة بوصفه يهدد شبكة الامان الاجتماعي ويصيبها بأفدح الاضرار.
لكن الاقتصاد الاميركي لا ينمو نموه المذهل والمثير للاعجاب إلا لأن الدولة الاميركية نفسها هي رب العمل الافعل. هذا ما اثبتته الحكومة الاميركية حين سارعت إلى منع حدوث الانهيار في الاسواق العالمية عبر ضخ كمية هائلة من الاموال النقدية في السوق بغية الحؤول دون انهيار حبات الدومينو في بورصات العالم اجمع. وذهب ارنولد شوارزينغر، حاكم كاليفورنيا، إلى ما هو اوضح من ذلك في ما يتعلق برؤيته إلى دور الحكومات المحلية والحكومة الفدرالية في تنمية الاقتصاد وخلق فرص العمل. وكان ان نشرت لوس انجلس تايمز تحقيقاً مفصلاً عن الدور البالغ الاهمية الذي تؤديه الحكومات المحلية في تنمية الاقتصاد وحماية شبكة الامان الاجتماعية، تعليقاً على خطاب شوارزينغر الذي اعتبر ان انشاء طرقات جديدة ينقذ بعض الشركات المتعثرة ويخلق مئات الالوف من الوظائف الجديدة في غضون شهور قليلة من بدء العمل، وهذا ما وافقه عليه اصحاب الشركات انفسهم والمعلقون الصحافيون. لذلك قرر حاكم كاليفورنيا ان يلزّم شركات الانشاءات الكبيرة مشاريع انشاء طرق سريعة في الولاية لا تبدو الحاجة إلى انشائها ملحة. والأرجح ان الأزمة الاخيرة ستعقل السنة الذين يمدحون قدرة السوق على التعافي من الامراض لبعض الوقت، بدليل ان دولة احترام قواعد السوق باتت تحاول تنظيم فوضاه.
بهذا المعنى يتفق اوباما وشوارزينغر وادارة جورج بوش الحالية على مركزية واهمية دور الدولة في تنمية الاقتصاد والمحافظة على النمو. لكن ذلك لا ينعكس طرداً في خطاب اوباما الانتخابي، فضلاً عن ان خطاب ماكين لا يولي هذه النقطة اية اهمية. فخطاب اوباما يعتبر ان العلة في الاقتصاد تتصل باعتماد المستهلك الاميركي كلياً على المنتج المستورد من الصين واندونيسيا والهند، وان خلق وظائف جديدة في سوق العمل الاميركية سيبقى مهدداً بالضياع ما دام في وسع الصين ان تصدر للاميركيين سلعاً مماثلة باسعار لا يمكن منافستها. وهذا والحق يقال ينطلق من الاعتقاد الشائع في اميركا الذي يفترض ان علاقات الولايات المتحدة بالعالم لا تفيدها بشيء، وان اميركا، كرماً واريحية، تساعد العالم النامي على تجاوز محنه، وهي لتحقيق رفاه العالم تبذل من جهدها وعرق عمالها ومستوى معيشتها ودمها احياناً مثلما يحدث في العراق وافغانستان. لكن العالم جاحد ولا يحسن ان يقابل الاحسان الاميركي بغير الجحود.
يتفق الاميركيون جميعاً، نخباً وعامة، حيال هذا الرأي. وهذا بالضبط ما كررته حاكمة الاسكا المرشحة لمنصب نائب رئيس الجمهورية عن الحزب الجمهوري حين اعادت تقسيم العالم إلى دول خيرة وشريرة، واعتبرت اميركا دولة خيرة بامتياز. بل ان المغالين منهم في موالاتهم لدول العالم الثالث، والذين يدعون بالحاح إلى ترك هذه الدول تدبر شؤونها على النحو الذي تراه مناسباً، لا يشذون عن هذا الرأي قيد انملة. بل الارجح انهم يثبتون هذا الرأي بوصفه معطى غير قابل للأخذ والرد. ذلك ان خلاصة ما يراه المتطرفون من اليسار الاميركي عموماً، يريد الإيحاء بأن الانحياز الاميركي الواضح في مسائل الشرق الاوسط لصالح اسرائيل هو سبب المشكلات كلها. فلو ان اميركا غيرت انحيازها لبات تدخلها اكثر من مطلوب. والحال، يبدو الامر في حالة اليسار الهامشي كما في حالة اليسار الديموقراطي واليمين الجمهوري، إذا صحت التفرقة على هذا النحو، ان ثمة اتفاقاً عاماً على حسن النوايا الاميركية رغم سوء الإدارات المتعاقبة. وهذا الرأي عينه هو ما يراه المتنورون العرب والإسرائيليون، حين يحسبون ان التأثير على الرأي العام الأميركي واقناعه بعدالة القضية التي ينافح كل طرف لأجلها، يجعل قضيته رابحة من دون شك. والأرجح ان بعض اسباب نفوذ اللوبيات المنعقدة الأواصر في الولايات المتحدة يعود إلى هذا الاعتقاد الراسخ. مما يغذي على نحو فاقع ما يمكن تسميته بالهويات الثانوية للشعوب والاثنيات الاميركية عموماً.
علم الاقتصاد العاجز
كتب ستيف اتش. هانكي استاذ علم الاقتصاد التطبيقي في جامعة بلتيمور، والذي كان مستشاراً اقتصادياً لعدة حكومات منذ عهد رونالد ريغان معترضاً على توجهات وزير الخزانة الاميركي هنري بولسون وتخبط سياساته:
أعرب، مارتن فلدستاين، بروفيسور الاقتصاد في جامعة هارفرد، عن وجهة نظره بأن ميزان التجارة الثنائي بين الولايات المتحدة والصين يتقرر نتيجة لسعر تبادل العملة بين اليوان والدولار. ولذلك، وحتى يمكن تخفيض فائض التجارة لصالح الصين مع الولايات المتحدة فإنه يدعو إلى رفع قيمة اليوان.هذه النصيحة كلام فارغ. فالموازين التجارية تتقرر نتيجة لقدرات التوفير الوطنية، وليس نتيجة لأسعار الصرف. إن فائض التوفير الصيني وعجز التوفير الأميركي يقرران إلى حد كبير اختلال التوازن التجاري بيننا وبين الصين. يتوجب على وزارة الخزانة الأميركية أن تكون قد تعلّمت هذا الدرس بعد سنوات من إرغام اليابانيين على رفع قيمة الين الأمر الذي أدى إلى النيل من استقرار الاقتصاد الياباني وبدون إعطاء أية فائدة للتوازنات التجارية.وإلى أن يتخلى مجلس الاحتياط الفيدرالي عن تحديد التضخم وتتخلى الولايات المتحدة عن سياستها القائمة على ضعف الدولار، فإن التضخم سوف يبقى سيد الموقف.
مثل هذا الرأي في مجال النظريات الاقتصادية الاميركية شائع ومتداول. بالقدر نفسه الذي يبدو شائعاً ومتداولاً الرأي المخالف، او المناقض إذا شئنا التدقيق. والحق ان هذه الآراء رغم ثقلها الوازن في دوائر القرار الاميركية، إلا انها لا تتحول إلى سياسات معتمدة لمجرد وجاهتها ونسب حظوظها العالية من الدقة، إلا في الاوقات التي تعقب الكوارث الكبرى، كتلك التي هزت الاسواق العالمية في نهاية النصف الاول من شهر ايلول – سبتمبر عام 2008. فعلماء الاقتصاد يعلمون علم اليقين، ان الاقتصاد عموماً لا يحبذ السياسات والمخططات. وان اي لجوء إلى لجم حركة السوق من ناحية من النواحي، عبر تخطيط واستصدار قوانين، او تغيير سياسات نقدية او اقتصادية، قد يؤدي إلى كوراث لا تحمد عقباها كما يلاحظ الان غرينسبان محقاً. والحال، في اميركا خصوصاً، حيث التلاعب بالسياسات الاقتصادية له نتائج كارثية لا يمكن للعالم ان يتحمل تبعاتها، بسبب من ضخامة هذا الاقتصاد، يبدو علماء الاقتصاد اشبه ما يكونون بعلماء الجيولوجيا الذين تنحصر مهتمهم في مراقبة حركة الزلازل والهزات الارضية والاعاصير، وهم لا يمكلون لتفادي حدوثها اي وسيلة ناجعة. فقط يحاولون ما امكنهم تقليل عدد ضحايا القنبلة الموقوتة التي بين ايديهم عند انفجارها. لكن ما يعنينا في هذا المقام ليس هذا الرأي او ذاك المناقض له، الذي استمر قيد التداول كأساس لسياسات اميركا النقدية والمالية والاقتصادية عموماً، منذ عهد رونالد ريغان على وجه التقريب. بل ما يعنيني الإشارة إليه في هذا المقام، ما هو مطلق وبديهي في هذه السياسة على ضفتيها المتعارضتين.
واقع الامر، ان الطرفين المتعارضين حيال السياسات الاقتصادية الاميركية ينطلقان من مسلمة واحدة. هانكي يدعو عملياً إلى عدم الضغط على الصين لرفع قيمة اليوان. ذلك ان حدوث مثل هذا الامر قد يؤدي إلى توجيه ضربة إلى الاقتصاد الصيني لن يتعافى منها على مدى عقود. لكن التجارة الأميركية الحرة ستجد موردين آخرين من اماكن اخرى في العالم. فمثلما حلت الصين محل اليابان في تلبية حاجات المستهلك الأميركي، قد تحل الهند او البرازيل محل الصين في حال رفع قيمة اليوان الصيني امام الدولار. مما يعيد الأزمة المشكو منها إلى ما كانت عليه من دون اي تغيير، سوى في القصاصات التي تدل على بلد المنشأ التي تلصق على المنتوجات التي تباع في اميركا. وهذا يخفي افتراضاً عاماً يقول ان الولايات المتحدة الأميركية، حتى لو تغيرت سياساتها النقدية، ولا امل لها ان تتغير إلا بحدوث كارثة عامة كتلك التي حدثت في الاسواق المالية الاميركية مؤخراً، ستبقى مجبرة على تنمية العالم النامي كما حدث مع الصين واليابان على حساب رفاه شعبها. وهي لعمري، لو صحت، تضحية جلى لا مثيل لها.
الاستهلاك كقيمة فائضة
غالباً ما يتجاهل المحللون الاميركيون في الاقتصاد واقعة واضحة كعين الشمس. انها حاجة العالم إلى تمويل المستهلك الأميركي. مما يجعل هذا المستهلك اكبر قوة اقتصادية على مدار العالم، واكثر السلطات قدرة على احداث التغيير. لنتحدث في السياسة قليلاً: ماذا لو قرر المستهلك الأميركي، بسبب من ضغوط اليسار في اميركا مقاطعة البضائع الصينية، بسبب تجاهل الصين للحريات الأساسية للفرد مثلاً؟ هل يبقى للصين منفذاً إلى النمو؟ الأرجح ان مثل هذا الأمر لو حدث، سيكون له نتائج كارثية على الصين من دون شك، لكن الله وحده يعلم مدى اثره السيء على الاقتصاد العالمي، ذلك ان علم التحولات الاقتصادية هو علم الهي مثلما اشرنا من قبل، تماماً مثل علم الجيولوجيا.
الاسباب التي تدفع العالم إلى تمويل المستهلك الاميركي كثيرة. انما يجدر بنا ان نعدد اهمها لجهة القدرة على احداث التأثير:
- قوة العملة الاميركية. ذلك ان ورقة النقد الاميركية منتشرة في اصقاع العالم كله، وهي العملة الأولى التي تلجأ المصارف المركزية في العالم إلى تخزينها في احتياطيها النقدي. مما يعني ان التلاعب بسعر الفائدة الذي قد يقرره رئيس مصرف الاحتياط الفيدرالي الاميركي لسبب من الاسباب قد يجعل دولاً كثيرة، وبعضها من بين الدول الكبرى، تواجه صعوبات جمة في المحافظة على توازن اقتصادها. اما ملاحظات غرينسبان عن احتمال لجوء الدول التي تشتري سندات الخزينة الاميركية إلى التخلي عنها فجأة، فهو احتما صحيح نظرياً لكن مندرجاته العملية بالغة التعقيد، فضلاً عن كون الظروف السياسية التي تسمح بحدوثه غير متوافرة اصلاً.
- اتساع السوق الاميركية نوعاً وكماً. مما يعني ان انهيار معدل الاستهلاك الاميركي سيؤثر حكماً على الصين والهند وفرنسا وبريطانيا واليابان، وسيجعل هذه الدول تعاني مصاعب جمة امام حركة التصدير إلى السوق الاميركية. مما يعني ان هذه الدول تجد نفسها مضطرة كل حين إلى تمويل المستهلك الاميركي من دون حساب. ولهذا السبب يبدو الدين الاميركي الخارجي معضلاً على كل ذي حجة. فلو قررت اميركا سداد الدين، لوجدت الدول الاخرى نفسها غارقة في ازمات تضخم في الانتاج والسيولة في آن معاً، ولو قررت الاستدانة ستجد الدول الاخرى نفسها مضطرة لتلبية الطلب، لأن وقوع الحكومة الاميركية تحت حد العجز عن تلبية الاحتياجات الداخلية الاميركية قد يضر بالمصالح الاقتصادية لهذه الدول ضرراً فادحاً. والحال نحن امام دين اميركي عام، مرموز، ولا يمكن فك رموزه او التخلص منه. انه يشبه مرضاً غير مميت ويتوجب على العالم التعايش معه دائماً.
- طبيعة الريادة الاقتصادية الاميركية. وهي ريادة تتأتى اصلاً من التحول في قيمة الاستهلاك من التراكم الكمي إلى النوعي. مجدداً علينا ان نتذكر ان الصين التي يشكو منها الاقتصاديون الاميركيون تصدر إلى اميركا ما يمكن اعتباره مواداً خاماً، تماماً مثل الجبن البلغاري واللحم الهولندي. فالتلفزيون الذي تصنعه الصين هو الوسيلة التي يستطيع الصيني والفرنسي من خلالها مشاهدة حفل جوائز الاوسكار واعلانات كوكا كولا، في الوقت نفسه. اي ان المادة التي يصنع التلفزيون لاجل تداولها في السوق، هي اميركية المنشأ في الغالب. والحال، لطالما لاحظ الاقتصاديون الاميركيون ان حجم التقدم يقاس في اي بلد من البلاد بطبيعة البنى التحتية ومدى ملاءمتها للمستجدات التكنولوجية. لكن احداً على حد علمي لم يلاحظ، ان الاتصال بالحداثة في الصين مكلف على الصينيين، فيما هو جزء من عجلة الانتاج في الولايات المتحدة. بل يكاد يكون المنتج الأميركي الأهم على الإطلاق. ولنتذكر ان غوغل وياهو احتلا حيزاً واسعاً من خدمات البريد الوطنية في كل مكان من العالم. ثورة الاتصالات في اميركا ثروة وطنية، لكنها في الصين تشكل عبئاً مضافاً وكلفة اضافية من اكلاف الاتصال بالحداثة، ويورد جيريمي ريفكين في كتابه " عصر المداخل" ارقاماً مذهلة في هذا الصدد، حول النسب المئوية التي تستفيد من ثورة الاتصالات في الصين والهند، مقارنة بمثيلاتها في الولايات المتحدة الاميركية. وبصرف النظر عن ايراد النسب التي لا بد وان تكون تغيرت ارقامها منذ نشر كتاب ريفكين السالف الذكر حتى اليوم، فإن النسبة من دون ادنى شك تميل لصالح الاميركيين في هذا المقام ميلاً ساحقاً. وربما يكون معبراً اكثر، ان نلاحظ ان صناعة التبغ الاميركية ما زالت تحتل المركز الاول في العالم لكنها في الولايات المتحدة نفسها صناعة مرذولة. فيما ان العامل الصيني الذي يصنع العاباً وادوات جنسية للمستهلك الاميركي ملتزماً بالمواصفات الأميركية المتعلقة بجودة الصناعة وحسن اشتغالها، لا يستهلك هذه الالعاب، لكنه بالتأكيد يستهلك التبغ الاميركي بطريقة ما. والذين يعيشون في اميركا يعرفون ان مطاعم الوجبات السريعة تكاد تكون مرذولة، وان امبراطورية ماكدونالد تمد صولجانها خارج الحدود الأميركية اكثر بكثير مما يمكن ملاحظته داخل الحدود.
- النقطة الاخيرة التي يتوجب الانتباه لها، هي تلك المتعلقة بصناعة الكفالات. اليوم لا يشتري المرء تلفزيوناً جيداً من شركة سوني، إذا كان ميسوراً، فيما يشتري ضيق اليد والحال، تلفزيوناً صينياً من شركة كامبوماتيك. الجهازان ربما يصنعان في المصنع نفسه في الصين، وبالأيدي الماهرة نفسها. لكن ما يختلف بين الجهازين هو قيمة الكفالة المباعة مع كل جهاز. نحن نشتري الكفالات ولا نشتري المنتوج. وان تضع شركة سوني كفالة على جهاز كامبوماتيك فذلك يعني ان الجهاز سيرتفع سعره بارتفاع قيمة الكفالة وحسن سمعتها. هل في وسعنا ان نتساءل طويلاً ونفتش كثيراً إذا ما اردنا ان نتعرف على هوية شركات التأمين الكبرى في العالم؟
على هذه الاسس غير الملموسة تماماً، يقوم الشطر الاكبر من الاقتصاد الاميركي البالغ الضخامة. وبناء على ملاحظة هذه الاسس، يمكن التقرير ان السجال الاميركي الذي يتكرر كل مرة، حول الازمات المتوقعة والاخطار التي يواجهها الاقتصاد الاميركي، لا يمت إلى حقيقة هذا الاقتصاد بصلات حاسمة. ففي المحصلة النهائية ما يقرر في اميركا ليس شركة كاتر بيلر بل مصرف ليمان براذرز. والحكومة الاميركية تجد نفسها اكثر من مضطرة لانقاذ سوق الاسهم المالية، ليس بسبب العدد الهائل من العاملين الذين يعملون في المصرف المنهار، كما كانت ستكون عليه الحال لو ان الانهيار اصاب شركة فورد مثلاً، بل بسبب حجم القيمة الفائضة الحديثة التي يملكها هذا النوع من النشاطات الاقتصادية، وهو حجم خيالي من دون شك. يبقى ان النقاش موجود وحار، والارجح انه يخفي وراء الشجرة غابة هائلة.
في السؤال عن ماهية الغابة يمكن التكهن بأن الغابة التي يخفيها النقاش الاقتصادي الحار في اميركا هي تلك المتعلقة بما يمكن تسميته الاستعمار الغفل والحسن النية.
الاستعمار الغفل والحسن النية
المصطلح في حد ذاته يفتقد إلى الدقة. لكن المصطلحات تولد من الحيرة دائماً. ودائماً تحتاج إلى تعديل لاحق. على اي حال، يجدر بنا اضاءة الاسم الغفل للمصطلح بتفنيد الحجج التي دعت إلى نبذ المصطلح القديم.
مثل هذا المصطلح يستمد وجاهته من واقع ان الاميركيين عموماً يعتقدون ان استيراد السلع الصينية بقدر ما يخدم الاقتصاد الصيني يضر بالاقتصاد الاميركي. وهذا امر تكرر مع اليابان من قبل، ومع اوروبا في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية بعد اعلان مشروع مارشال. وبسبب ضغط الرأي العام وصناعه في وقت واحد، غالباً ما تتجه اعلى سلطات السياسات النقدية في الولايات المتحدة، من وزير الخزانة إلى مجبس ادارة مصرف الاحتياط الفدرالي إلى المستشارين الاقتصاديين وحائزي جوائز نوبل، ومسؤولي البنك وصندوق النقد الدوليين، إلى مطالبة البلد المعني، الصين في الوقت الراهن، برفع قيمة عملتها. وذلك يؤدي حكماً إلى ارتفاع حاد في اسعار السلع المصدرة إلى الولايات المتحدة التي غالباً ما تلجأ إلى اضعاف قيمة عملتها، مثلما يشير ستيف اتش. هاتشكي. في هذه الحال تفقد السلع المستوردة من البلد النامي قدرتها على المنافسة، لزمن يسير. في الاثناء تنشط الصناعات الأميركية التي تصبح على حين غرة قادرة على المنافسة، ويرتفع منسوب التصدير من الولايات المتحدة إلى خارجها، فيما يهبط ميزان الاستيراد هبوطاً حاداً. لكن هذا الواقع لا يعمر طويلاً. إذ سرعان ما يجد المستوردون الاميركيون بلداناً اخرى اشد فقراً مما كانت عليه الصين قبل النهوض الاقتصادي ومستعدة لصناعة السلع التي يطلبها السوق الاميركي بأقل كلفة ممكنة. فتعود عقارب الساعة إلى الوراء، ويصبح التهديد هندياً او باكستانياً بعدما كان يابانياً واوروبياً ثم تحول صينياً وكورياً. الصين التي تجد نفسها امام هبوط حاد في حركة التصدير، تجد نفسها امام هزة اقتصادية لا قبل لها بتغيير مسارها. لكن سنوات النهوض الصيني تكون عادة كفيلة بتحقيق سمعة جيدة للمنتج الصيني، يمكّنه من المنافسة في اسواق العالم، مثله مثل المنتج الاوروبي او الياباني. والحال، يجدر بالصين ان لا تشكو فعلاً، فالتمرين الصناعي الذي اتاحته لها السوق الاميركية مكنها من النضوج الصناعي وجعلها مساوية في القيمة والجودة والابتكار للصانع الياباني والاوروبي. لكن الولايات المتحدة التي تبدأ عهداً جديداً من الاستيراد مع بلد مختلف هذه المرة او عدة بلدان دفعة واحدة سرعان ما تجد نفسها مرة اخرى امام المعضلة الأبدية. الصناعات الاميركية تعاني من عدم قدرتها على منافسة المنتوج الاجنبي العالي الجودة والبخس الثمن. فتعود النظريات الاقتصادية لنقطة البداية نفسها: يجدر بالهند او اندونيسيا ان ترفع قيمة عملتها حتى يتمكن الصانع الاميركي من المنافسة مرة اخرى.
هذه الدورة القاتلة لا يرى فيها الاميركيون اي غضاضة. بل هم يحسبون دائماً انهم يؤدون خدمة للبلد الذي يتاجرون معه. والحق ان الصيني لا يستطيع إلا ان يرى في التجارة مع الولايات المتحدة خدمة كبرى تؤديها إليه. لكن ما يجدر بنا مناقشته لا يقع في هذه الخانة. ليس ثمة بلد نام لا يتمنى ان تُفتح ابواب السوق الاميركية امام منتوجاته. لكن النقاش في المقلب الاميركي يجبرنا ان ننظر إلى الأمر من زاوية ثانية. هذه الزاوية تنطلق في ضلعها الاول من السؤال التالي: لماذا يريد المستهلك الاميركي سلعاً جيدة بأسعار بخسة. فيما لا يتمتع المستهلك الاوروبي بهذه النعمة؟ وفي شرح السؤال نعثر على ما يلي: المستهلك الاميركي يريد سلعاً على قدر عال من الجودة، لكنه يريدها بأسعار تقل كثيراً عن تلك التي تعرضها المصانع الاوروبية واليابانية. لذا يفرض على الصين اعتماد معايير جودة عالية، لكنه في الوقت نفسه يفرض عليها التصدير بأسعار لا يمكن منافستها. والحق ان الصين تستجيب لمعايير الجودة الاميركية التي يفرضها المستهلك الاميركي بوصفه مستهلكاً من الطراز المرتفع مثله مثل المستهلك الاوروبي، لأن السوق واسعة والقدرة على الاستهلاك عالية على نحو لا يمكن ان يجد الصانع الصيني مثيلاً له في الاسواق الاخرى. وحيث ان المستهلك الاميركي متطلب ومجادل في الوقت نفسه، فإن الصانع الصيني يتمرن على رفع جودة منتوجاته في هذه السوق المتطلبة والمجادلة. وبهذا تبدو الولايات المتحدة اكثر بلاد العالم قدرة على وضع الصناعة العالمية برمتها امام امتحاناتها الصعبة في الجدارة. لا يلبث الصانع الصيني بعد ان يكتسب ثقة المستهلك الاميركي ان يبدأ بغزو اسواق اوروبية واسيوية، وفي هذه اللحظة بالذات، يلجأ الاميركي إلى مطالبته برفع قيمة العملة، وتالياً رفع ثمن سلعه. فالعين الاميركية حساسة وبالغة الرهافة حين يتعلق الامر باسواق العالم، وليس بسوقها الداخلية. ذلك ان الاميركي يريد ان يبيع سيارات فورد وكرايزلر في روما وباريس، لكنه يريد ان يشتري هو نفسه سيارات صينية وكورية المنشأ بسبب تهافت اسعارها مقارنة باسعارالسيارات الاميركية. اكثر من ذلك، كثيراً ما تلجأ الشركات الصانعة الاسيوية، إلى انشاء مصانع في الولايات المتحدة تجنباً لمصاعب وتعقيدات السياسة الحمائية الاميركية. لكن الصانع الاميركي نفسه يلجأ إلى انشاء مصانع في المكسيك وشيلي وغواتيمالا... والغالب على السياسة الاميركية في مجال الاستيراد والتصدير ان يولي الصانع الاميركي جل عنايته للأسواق الخارجية، في اوروبا واسيا وبعض افريقيا، لكنه يفتح السوق الداخلية لشتى انواع البضائع الرخيصة الثمن والعالية الجودة. وما ان يكسب الصانع الخارجي ثقة المستهلك الاميركي حتى يبدأ بمنافسة الصانع الاميركي في الاسواق الدولية. عند هذه النقطة تثور حمية صانعي السياسات النقدية الاميركية ويباشرون الضغط على البلد المعني لمنعه من المنافسة. على هذا النحو يصير نمط الاستهلاك الاميركي سلاحاً اقتصادياً مربحاً، والارجح انه امضى الاسلحة الاقتصادية على الإطلاق.
هذا في العملية الاقتصادية الصافية. ماذا عن الجوانب الاخرى لهذه العملية؟
منذ مشروع مارشال، بل منذ الحرب العالمية الأولى ومبادئ الرئيس ويلسون، تنظر اميركا إلى نفسها بوصفها منقذة العالم. مسيحه المخلص. لم تشترك اميركا في الحرب العالمية الثانية، لأن اليابان هاجمتها في بيرل هاربور، ولأن هتلر اعلن الحرب عليها في لحظة من لحظات جنونه المطلقة، بل لأنها ارادت انقاذ اوروبا والعالم الحر. ولم تتقدم اميركا بمشروع مارشال لأنها تريد ان تحمي سوقها وقدرة مستهلكيه على الاستهلاك، بل لأنها اشفقت على اوروبا واليابان وارادت انتشال هذه الدول من الهوة السحيقة التي وقعت فيها. ولم تدخل إلى العراق لتحمي بعض مصالحها الحيوية في الشرق الاوسط، في السياسة والاقتصاد، بل لأنها تريد انقاذ الشعب العراقي من براثن الديكتاتور واشاعة الديموقراطية في هذا البلد. هذه كلها ادعاءات اميركية لا تجد من يستطيع دحضها. حتى لو نشر بعض الناشطين اليساريين ارقاماً ووثائق تفيد بعكس الادعاء الاميركي. ذلك ان مصدر قوة هذا الادعاء وقابليته للتصديق تتأتى اولاً وأساساً من الهوة الكبيرة بين اميركا وشركائها التجاريين. لننتبه جيداً: اوروبا هي الحليف الاميركي الاول، لكن المرء لن يجد في الولايات المتحدة جبناً فرنسياً او دانماركياً او انتشاراً واسعاً لمحلات لافاييت. اميركا لا تلبس من اوروبا ولا تأكل من المطبخ الفرنسي. اميركا تأكل من المكسيك وتلبس من الصين. شركاء اميركا التجاريين هم غير شركائها السياسيين. هم على الارجح الاكثر فقراً والاشد عوزاً بين دول العالم كله. لننظر إلى الهند: التفاوت لا يصدق. عدد الذين لا يعرفون ماهية التيار الكهربائي في الهند يفوق عدد المواطنين الاميركيين بضعف واحد على الاقل. اما الصين فحدث ولا حرج: مناطق ومفاوز شاسعة وواسعة ما زالت تعيش تحت حد الفقر المدقع. لكن المنظور والمرئي من الصين هو بالضبط مدنها الكبرى حيث تقع المصانع التي تصدر لاميركا ما تحتاجه من منتوجات. بقية الصين، معظمها في الواقع، يعيش في العتم الكامل والظلام التام. لكن الاميركيين هم اكثر شعوب الارض قاطبة مراقبة للنمو الصيني. ذلك انهم يعتقدون انهم سبب حدوثه. انها مرة اخرى احدى طبائع المستعمر، الذي يظن انه يستعمر الارض لخيرها وخير من فيها من بشر وحجر واشجار. مستعمر حسن النية، لكنه غفل عن كونه مستعمراً.
المسألة الثانية التي ينبغي ايلاءها بعض العناية في هذا المقام هي ما يتعلق بالنظام: هوس المستعمرين منذ ولادة الاستعمار. اميركا لا تطمح إلى تغيير النظام الصيني او الياباني، وليست ملاحظات الان غينسبرغ ونصائحه للهند وروسيا والصين والبرازيل إلا مجرد نصائح غير ملزمة، وان كانت تملك بعض السلطة المعنوية. لكن اميركا تعلم الصينيين النظام بطريقة اخرى. في الاماكن التي يتوجب على اميركا ان ترسل جيشها لتثبيت النظام غالباً ما تفعل ذلك. لكنها ايضاً تبيع نظامها الاستهلاكي بوصفه قيمة زائدة. الاميركيون انفسهم شاركوا في الحملة التي ما تزال مستمرة على امبراطورية ماكدونالد. لكنهم ثبتوا امبراطوريات اخرى في بلادهم وهي تستعد اليوم للانتقال إلى بلاد اخرى. الاعتراض على ماكدونالد طاول شكل الطاولات وطبيعة الخدمة، وسرعة الاستجابة. لكن احداً من مناهضي العولمة اليوم لا يعترض على مطاعم الوجبات السريعة المكسيكية او الصينية المنتشرة في طول الولايات المتحدة وعرضها. هذه المطاعم تعتمد النظام نفسه الذي تعتمده مطاعم برغر كينغ وماكدونالد، والارجح ان لا سبب يدعونا للظن ان اللحم المطبوخ على الطريقة المكسيكية او الصينية افضل من اللحم المطبوخ في مطابخ ماكدونالد واكثر ملاءمة للصحة العامة. الخلاصة: اميركا فرحة بمطاعمها المكسيكية والصينية، تلك التي لا تملك لها فروعاً في المكسيك والصين طبعاً، لأنها جزء من النظام، ولانها لا تحيد عن الالتزام به قيد انملة.
لطالما صدرت اميركا للعالم ما لا يخطر ببال. يوم كانت المفاوضات جارية على تنفيذ خطة مارشال، طالب الاميركيون الاوروبيين باستصدار قوانين تتعلق بعرض انتاج اميركا السينمائي في اوروبا. ساعدت اميركا اوروبا في اعادة النهوض بصناعة الفولاذ والصلب، لكنها طالبتها بتسهيل استهلاك السينما. اليوم ليس ثمة فولاذ في اوروبا، لكن هوليوود ما زالت متربعة على عرش الصالات الاوروبية.
بعد زمن، احتكرت اميركا، تقريباً من دون استثناءات، صناعة البرامج الالكترونية. من البريد الالكتروني إلى مايكروسوفت. بعد زمن يسير اصبحت هذه الصناعة الغامضة درة تاج الاقتصاد الاميركي.
اليوم ثمة نظام حياة وعيش تعمل اميركا على تصديره إلى العالم. بعد زمن يسير لن يستطيع المرء قيادة سيارة في باكستان او بنغلادش من دون ان يكون قد ابتاع نظاماً الكترونياً اميركياً يعمله كيف يربط حزام الامان.

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .