الأحد، 2 نوفمبر 2008

سامر القرنشاوي: مدرسة مصرية

هروباً وانصياعاً و"لا-أفراداً"
أسمعُ بدايةَ اليوم الدراسي كل يومٍ من مدرسةٍ مجاورة؛ "طابورُ الصباح" بفقراته المعروفة: تلاوةٌ للقرآن الكريم، أناشيد، قراءةٌ للأخبار ثم موسيقى شبهُ عسكريةٍ رتيبة يصعدُ على وقعها الطلبةُ للفصول. كنت أصلُ قبيل بدء الطابور الذي يُخادعك بمظهره المنظم. العلمُ ذو الطائر الجارح منتصبٌ وسط الفناء، مقدمةُ "طوايبرالفصول" منضبطة، فالمدرسون هنا ومعهم "خرزاناتهم" الطويلة اللاذعة، أما مؤخرة الصفوف ففي هرجٍ حتى تطولُها "الخرزانة". الفوضى كانت تسودُ حتى في اللحظاتِ التي يُفترضُ قُدسيتها، فهي لا تتوقفُ لا عند غناءِ النشيد الوطني ولا حتى عند قراءة القرآن. قطعاً لم ينقصنا الإيمانُ أو الوطنية، لكننا لم نفقه من علاقتنا بالمدرسة إلا الخنوع اللامنطقي أو التمرد الأخرق، فانقسمت صفوفُنا بين "اللامعنيين."
على عكس مدارس أبناء النخبة المصرية آنذاك (في الثمانينات)، وإلى الآن، المملوكةُ لمؤسساتٍ خاصة، والتي تعتمدُ اللغاتِ الأجنبية أساساً للتدريس، كانت مدرستي (الإعدادية و الثانوية، أي الصفوف من السابع حتى الثاني عشر) حكوميةً وعربيةَ اللغة. كانت المدرسةُ أيضاً "نموذجية"، أي من أفضل المدارس الحكومية ومن ثم مثلاً يحُتذى، فاجتذبت، إضافةً إلى أبناء موظفين حكوميين وأساتذة جامعات وضباط جيش وشرطة، عدداً من أبناء الوزراء. لكن لا نخبوية طلبتها ولا "نموذجيَتها" حررتا مدرستنا من قواعد حكمتها مثلما حكمت غيرها.
الفناءُ كان مرصوفاً بالأسفلت الذي تتخلله حجارةُ هنا وهناك، وكأنما قُصد منه إسالةُ دمائُنا. المباني كانت تماثلُ تلك التي تراها في أي مدرسةٍ حكومية في مصر، قبيحةُ يفترض فيها الملائمةُ وقلةُ التكلفة. مقاعدُ الفصول موجعةٌ من خشبٍ وحديد والأرضيات بلاطُ رمادي أجرب يبدوا قذراً دوماً، نظيفاً كان أم لا. كلُ ذلك القُبح أحاطه سورٌ شديدُ الإرتفاع، لا لتحديدِ أرض المدرسة، بل لمنعنا من الهرب.
لكن لا الأسوار العالية ولا العقاب البدني ولا حصر الطلبة الحضور كل حصة أوقف الهاربين. كان البعضُ يتصيدُ الفرصَ التي تتيحها الدقائقُ التي تفصلُ الحصصَ ليقفزَ مباشرةً من نوافذ فصلنا في الطابق الأول (فوق الأرضي) إلى كليةٍ جامعيةٍ مجاورة، بل أحياناً كان هذا يحدث بينما المدرسُ منشغلٌ بالكتابةِ على السبورة؛ يدخلُ المسكينُ إلى الفصل وفيه ثلاثين و يتركه و فيه خمسة عشر. ناهيك عن الذين كانوا ينسّلون من فصولٍ أخرى إلى فصلِنا "ذي موقع الهروب المتميز."
بغض النظر عن عشق المراهق للتمرد؛ الحضورُ للمدرسةِ بدا أحياناً عبثاً مطلقاً. مرتباتُ المدرسين منخفضة؛ الدروسُ الخصوصية هي مصدرُ دخلهم الأساس. بالنسبة لنا، خاصةً في نهايتي المرحلتين الإعدادية والثانوية، كنا، وتحت ضغط عائلاتنا، مهوسون بالحصول على درجاتٍ مرتفعة للبقاء بمدرستنا "المتميزة" (ربما خوفاً من مدارس أسوأ؟) ثم لدخولِ كلياتٍ مرموقةٍ بالجامعة (يحددها الأهلُ طبعاً، لا نحن). وبما أن المدرسةَ لم تكن مكان عمل المدرسين الحقيقي كانت مدرستُنا الفعلية هي بيوتُنا حيث الدروس الخصوصية. كنا نذهبُ تخوفاً من أن يؤدي غيابنُا المتكررُ إلى فصلنا من المدرسة، مما قد يعقد دخولنا لجان الامتحانات. كنا نؤدي مسرحيةً سخيفة.
ومثلما غاب الاقتناعُ عن ذهابنا للمدرسة غاب عن كتبنا. سواءٌ في المدرسةِ أو "الدرس الخصوصي" ساد "لا-منطق" مقرراتنا الدراسية: ما يقوله الكتابُ المقررُ صوابٌ مقدس. إذا رأيت تناقضات المنهج فهذا خطأكُ أنت. مثلاً لا حصراً، طبقاً لكتبنا، الوطنية المصرية الحديثة نشأت كردِ فعلٍ على حملةَِ نابليون (1798-1801)، وإنشاءُ محمد علي (حكم 1805-1845) للجيش المصري الحديث عزز هذه الوطنية. لكن الكتابَ نفسه عاد ليقول أن أحد أسباب فشل الثورة العرابية (1881-1882) كان إعلان السلطان العثماني (التركي) عرابي (المصري) متمرداً عليه، مما أضعف الأخير، وحينما سألتُ أحد المدرسين أنى لذلك أن يحدث بعد عقودٍ من "الوطنية المصرية" أجابني ببلاغة: "يا ابني احفظها كده وخلاص." التاريخُ التالي لانقلاب يوليو 52 كانت تناقضاته أكبر؛ مثلاً: الجملةُ التي عللوا بها فشل الوحدة المصرية مع سوريا (1961) كانت "تحالف قوى الاستعمار مع الرجعية،" (وهذه لم أكلف نفسي عناء السؤال عن معناها)، لم يأتوا لا على ذكر حرب اليمن ولا الثغرة في حرب 1973.
وما حكم التاريخ حكم غيره. تغني كتابُ الفلسفة بعبقريةِ الامام الغزالي في سياقِ المقارنة مع ديكارت الفرنسي. احتجيت بأن اعتماد الفقيه العظيم التصوفَ طريقاً للحقيقة قد يميتُ العقل، على عكس ديكارت ومن تبعه. بدا وكأنني قد كلتُ للمدرسِ صفعةً برأيي، وربما لأن الحديثَ (وليس النقاش) جرى في المدرسة الحقيقية، أي في درس خصوصي، لم يرد لي المسكينُ الصفعةَ بصفعة، فقط قال بحدة "ما تتفلسفش بزيادة، إحفظها زي ما هي." التفلسفُ في الفلسفة ليس مقبولاً والمنطقُ في التاريخ لا مكان له.
إذا كانت الفاشيةُ خليطاً من تمجيد الذات الجماعية (الأمة) على أساسٍ من التاريخ الإنتقائي أو المُزور، ومن العداءِ للفردية (و من ثم للتفكيرِ الحر) والدعوةُ لقيمِ الانضباط شبه العسكري، فإن منطقَ الفاشية هو ما حكم تعليمنا، تحقق ذلك كله أم لم يتحقق. مدارسُنا الأشبه بالسجون، بناءً ومناهج، ركزت على ملكةِ الحفظ وقتلت الرغبةَ في البحثِ والتحليل، ومن ثم حجمت التفكير الفردي. ومع تغييبِ الفردية، حقاً وفكراً، لا مجال لاختلافِ أو حوار. المدرسةُ هنا أداةٌ لإعادة إنتاج مجتمعنا ودولتنا السلطويين حيث التعدديةُ والإختلافُ قيمٌ منبوذة. على أنها (أي المدرسة) فشلت في تأصيلِ الانضباط حتى داخل أسوارها، ناهيك عن خارجها (حصصُ التربيةِ العسكرية التي كانت جزءاً من دراستنا لم تنل إلا أقل الاهتمام).أي أننا من شرِ الفاشيةِ المطلق لم ننل إلا الأسوء: عقولٌ خنوعة، حوارُ غائب، وفوضويةُ حاضرة.
على أبويته الباقية، لا يُعرّفُ المجتمعُ المصري النظامَ على أنه قيمةُ ذات وزن (لاحظ مثلاً كيف يتصرف المصريون في الشارع). في المقابل، قدمت المدرسةُ نظاماً بلا منطقٍ واضح، ومن ثم بلا إقناع، وطالما حقُ التفكير الحر مسلوبٌ منك أسرةً وتعليماً ومجتمعاً فإما أن تفرَ بلا وجهة أو أن تستسلم للتراتبية السائدة، وفي كلا الحالتين أنت بلا منطقٌ يخصك يمكنك من تقديم بديلٍ لما هو قائم. مدرستُنا كانت (وأظنها ما زالت) منهمكةً في إنتاج "لا-أفراد" أعجزُ من أن يساءلوا أو يناقشوا (ناهيك عن أن يثوروا)، أضيقُ أفقاً من أن يقدرّوا التعددية، وأتعسُ من أن يستسلموا لما يرونه مفروضاً دون أن يكون مقبولاً، حلقةٌ مفرغة ٌ تدورُ بين الفوضى والخنوع.

باحث مصري

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .