الأربعاء، 26 نوفمبر 2008

فادي العبدالله: حكاية تانغو

كيف تبعث رنيناً في هذه النوتة العالقة؟
على غرار فيلم فندرز الشهير Buena vista social club، فيلمان على الأقل، في زمن باريسي متقارب، يلقيان الضوء على الموسيقى التي تحولت إلى رمز لبلد آخر من أميركا اللاتينية، التانغو الأرجنتيني. يأتي "مقهى الاساتذة" (اخراج ميغال كوهان) و"حكاية تانغو: لو كنت ساحراً" (اخراج كارولين نيل)، على تفاوت المستوى السينمائي الكبير لصالح الثاني ايقاعاً وتوليفاً واخراجاً، ليتكاملا في رسم صورة عن حال التانغو اليوم، ومحاولات استعادة شيء من روحه، وفي ذلك عبر لمن شاء أن يعتبر ويرى بعين كتبت عليها هذه الحكاية إلى حال موسيقانا المشرقية.

ارث تحمله أنفاس قليلة

يروي "مقهى الأساتذة" التحضيرات لاقامة حفلة، قد تكون الأخيرة لعدد من المشاركين، وهم من اساطين تانغو الخمسينات وما قبلها، الذين يكادون يكونون منسيين اليوم، وذلك في مسرح ضخم اوبرالي الطابع، بما يشبه الوداع والتكريس معاً لهذا الفن ولهؤلاء الفنانين. أثناء هذه التحضيرات، تمرّ نماذج، يبترها المونتاج بخرقٍ، لأنماط التانغو نفسه وتعددها، فضلاً عن شخصيات العازفين والمغنين بأصوات خفت ألقها ربما إلا أن حماستها والعنفوان والشجن لا تزال تشحنها بقوة لافتة. أما "حكاية تانغو: لو كنت ساحراً" فمزيج ما بين الوثائقي والروائي، حيث يروي تشكيل فرقة تانغو من مجموعة من الاساتذة، شاهدنا غالبيتهم في الفيلم الأول، هدفها لا يقتصر على احياء أصوات الماضي ولا على تقديم الحفلات، بل غايتها الأولى تشكيل مدرسة لتوريث العازفين الجدد اساليب اسلافهم وتقنياتهم ومنحهم أسرار الفرق الكبيرة، التي اندثرت بعد حقبة الخمسينات على أبعد تقدير، والفروق الدقيقة التي كانت تميز نبرة كل واحدة منها عن الأخريات. إنها أوركسترا ـ مدرسة، يمتلك الشباب عبرها وبالاحتكاك والخبرة والعزف أسرار الفن الذي يكاد يضمحل. في هذه المدرسة، يلعب اميليو بلكارسيه دور المدير والشخصية الرئيسية، علماً أنه لم يكن مؤلفاً أو عازفاً متفوقاً على الآخرين في زمنه، إلا أنه كان، بحسب ما علمنا من الفيلم السابق ايضاً، المعدّ والموزع لدى العديد من الفرق. بحكم هذه الخبرة "من الداخل" في أسرار عمل الفرق المختلفة، يصبح بلكارسيه الدليل النموذجي للولوج إلى عوالم هي على عتبة الامحاء، لا يمنعها عنه إلا بضعة انفاس تتردد في بعض الصدور. ذلك أن حقبة فرق التانغو الكبيرة الذهبية (تروليو، بوغلييزي وغيرهما)، في فترة الازدهار الأرجنتيني، عقب الحرب العالمية الثانية، سرعان ما خبت في الخمسينات. ما بين ذلك وبين الاعتراف بموسيقى استور بيازولا بوصفها تنتمي إلى التانغو، على رغم تشربها الجاز والباروك والكلاسيك وصولاً إلى سترافنسكي وبارتوك، واعتبارها "تانغو نويفو" (التانغو الجديد) قادراً على انعاش الاهتمام بهذه الموسيقى الارجنتينية التي استطاعت لاحقاً استيعاب مؤثرات عدة وصولاً إلى الموسيقى الالكترونية، مر التانغو بصحراء النسيان، وتضاءل حضور كثير من أساطينه، على رغم اعتباره دوماً من أبرز مقومات الهوية الأرجنتينية، والقول إنه "هدية الأرجنتين إلى العالم". في هذه الأثناء، انتشرت معاهد الموسيقى، من طراز الكونسرفاتوار، وتراجع امكان التعلم والتمرس من خلال العمل في الفرق نفسها. صحيح إن التانغو التقليدي مكتوب ومدوّن إلا أن عزفه، ككل عزف حقيقي، لا يسعه الاقتصار على تنفيذ النوتة المكتوبة. في هذا الاطار، يعرض الفيلمان مشاهد أخاذة لحوارات الموسيقيين: كيف تبعث رنيناً في هذه النوتة العالقة، كيف يغنّي الكمان، أو كيف يصبح العزف على الباندونيون (آلة ألمانية الأصل، تشبه الأكورديون قليلاً، وتعتبر روح التانغو) عملية لا تتمايز عن التنفس. فصوت الباندونيون، كما الناي، إنما هو نفس أو هواء، ينبغي تدبيره واقتصاده. في جو هذا التانغو التقليدي المكتوب أيضاً، يقول عازف آخر إن المرء حين يعزف يغيب عن ادراك نفسه، إلا أنه حين يعيد الاستماع إلى عزفه يدرك قيمتها. لذا لم يكن البحث عن نبرات فرق العصر الذهبي المختلفة أمراً باليسير. فهو لا يقتصر على احياء التوزيعات القديمة، والعثور أحياناً على ما تمت كتابته والاحتفاظ به في انتظار عودة عصر الفرق. بل لا بد له من التغلغل في جانبين أساسيين، هما في الحقيقة لا ينفصلان: مهارة العازف الفرد واستفادته من تقنيات تم ابتكارها في السابق لانتاج أصوات وايقاعات معينة، وتشربه روح الموسيقى التي يعزف من خلال مشاركة أهلها حياتهم ونظرتهم ورؤيتهم إليها وإلى المدينة والحياة اللتين انتجتاها.

تانغو بوينس آيرس

انتشر التانغو في أرجاء العالم سريعاً، بعد ولادته من اختلاط المهاجرين القادمين إلى العاصمة الأرجنتينية، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. ويمكن الباحث أن يعثر على ارث ضخم من التانغو في ألمانيا وبولونيا وروسيا في حقبة ما بين الحربين، كما انه استوطن بشكل راسخ في مناطق اسكندينافيا وفنلندا. كما استعاره العرب أيضاً، مع عبد الوهاب وفريد الأطرش وحقبة الخمسينات، قبل أن يعود فينحسر أمام موجات من ايقاع أعلى واسرع. إلا أن هذا التانغو العالمي يظل يبرز منسوخاً وأوفر صقلاً بالمقارنة مع أصله الأرجنيتيني (والأوروغواياني). في حين يشير بيازولا إلى أن في التانغو احساساً انطوائياً موروثاً من الهجرة الأوروبية المتوسطية، بخلاف الحيوية البرازيلية الموروثة عن افريقيا، فإن بلكارسيه يعلمنا إن التانغو الأرجنتيني إنما اتى على صورة المدينة ورجالها في منطقة الريو بلاتا، قرب النهر، حيث كان على الرجل أن يكون فخوراً وخشناً معاً، لذا فإن صوت الفرق القديمة لم يكن يسعى إلى الصقل الفائض، بل كان يتيح المجال لـ"خربشة" أو "خشخشة" مقصودة تعزفها الآلات، كما لتنافرات، تم تطويرها لاحقاً بشكل كبير مع اتساع حجم الفرق ومن ثم مع شغل بيازولا. أما بورخيس فيرى أن انتاج التانغو مستحيل من دون أماسي بوينس آيرس ولياليها. التانغو اذاً حس بالمكان وزمنه، وليس مجرد اتباع لقواعد موسيقية في عينها. هذا أيضاً ما يدعو إليه بلكارسيه حيث يشير إلى مؤلف شاب قائلاً إنه لا يريد منعه من تأليف موسيقى تشبه زمنه وما يعيشه، إلا أنه، في سبيل ذلك، على المرء أن يستطيع أولاً تذوق تلك الموسيقى التقليدية، أي الشعور بما كانت تعبّر عنه وبالمدينة التي كانت تنتجها وتغيرت اليوم.
نحن والتانغو

ليس المقصد، في هذه العجالة، العودة إلى ارث الأطرش وعبد الوهاب وغيرهما في تناول الايقاعات الغربية واللاتينية، فذلك كان يسعه، لو تعاملنا مع الموسيقى بوجه أقل ايديولوجية وأكثر حرصاً، أن يكون تنويعاً لطيفاً على هامش سير الموسيقى المشرقية، لا أن يصير تمهيداً لنسيان ما كان بقي منها واللهاث وراء أطياف أحلام لا معنى لها. كما ليس المقصد أيضاً التعرض لعمل سمية بعلبكي الأخير حول "التانغو العربي" بالتفصيل، وإن كان في الإمكان إيراد إشارة عابرة، قد تكون كافية، إلى غياب أي مشروع لتطوير نبرة خاصة في صوت الفرقة العاملة معها، بدل الاكتفاء باستنساخ توزيعات معتادة ومتكررة، وصولاً إلى الابتذال السائد والشائع في منطقتنا في بعض الأغاني، وهو ما لا يستطيع صوت سمية بعلبكي، على جماله، انقاذه. كما أن اعادة توزيع أغنيات لم توضع ألحانها على ايقاع التانغو في الأصل، بحجة لاتينية ايقاعها، دلّت عبر الخلخلة الفادحة التي تحدثها على أن الايقاعات ليست مما يلصق من الخارج على الميلودي، بل هي من صلبها وفيه. بدل ذلك، لنقارن قليلاً. مع الخمسينات، اختفت، أو كادت، تقنيات اداء، عزفي وغنائي، في عينها، وحل بدلاً منها عازفون مؤدون ومغنون خاضغون لمنطق الأغنية الأميركية والغربية عموماً وسطوة ايقاعاتها، وما عاد الموسيقي يتعلم من خبرة العزف مع الفرق وتشرّب أسرار مهنته بل من خلال التعليم الممنهج في المعاهد. ثم فجأة، مع نهاية التسعينات من القرن الماضي، يعود شعور بالقلق من فقد هذه الخبرات والتقنيات، لأنه أيضاً شعور بالخوف من خسارة ما عبّرت عنه في حياة الشعب. هنا كان لا بد من اللجوء إلى عجائز شبه منسيين فضلاً عن أدوات المعلوماتية الحديثة، التي تنتجها العولمة نفسها، من أجل دراسة ما كان قد أنتج، وتبويبه وتفصيله، كي يتم البناء لاحقاً عليه والتعبير عن الزمن الحاضر، سعياً الى خلخلته مثلما تفعل الموسيقى دوماً. العودة اذاً إلى الأجداد، بالمعنى الحرفي، لأن جيلاً من الآباء كان اضاع البوصلة والاتجاه، لسبب ما (ايديولوجيا التقليد للتقدم الغربي الأميركي وسطوة السوق التجارية في مطلع العولمة الموسيقية السابقة للعولمات الآخرى).أليست هذه تقريباً حالنا مع الموسيقى المشرقية؟ لقد بدأت منذ بضعة أعوام منتديات موسيقية على الانترنت تستشعر الخوف من هذا الفقد، وتسعى، كل على طريقته وبحسب قدراته، إلى مثل هذه الدراسة والتجميع. إلا أن ما يظل ينقصنا، فضلاً عن طموح وتمويل من المجتمع نفسه، وجود موسيقيين يستشعرون هذا الفقد ويتجاوزون الثقافة السائدة التي تنصّب عدداً من الملحنين والمغنين أنصاباً وأعلاماً لا تمس. يمكن المرء أن يعود إلى الاستماع إلى البيروتي محيي الدين بعيون، أو إلى أساطين القاهرة القدامى، كيوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وسواهم، أو للتسجيلات النادرة للملا عثمان الموصلي وتلامذته، وكذلك لعازفي تلك الفترة كلاشوا والعقاد ومحمد القصبجي (الذي لم نعد نتخيله كأكثر من عاشق حزين) ليدرك كم أن الغناء والموسيقى لاحقاً تعرضا لعملية "تصفية" (بالمعنيين): لقد جرت عملية "تصفية" ايديولوجية لموسيقانا مما تم افتراض أنه مؤثرات عثمانية بحتة، كما تمت "تصفية" تراث كامل من تقنيات الأداء الارتجالي بحجة عدم تهذيبها وانضباطها تحت سيطرة الملحن، وحتى في أسلوب الغناء فقد أنجز انتصار عبد الوهاب وأم كلثوم (وإن كانت هذه الأخيرة حافظت أكثر على تقنيات أدائية متنوعة) على مجايليهم امر القضاء على اساليب في الغناء وانتاج الصوت وعلى خامات لا تدين للميكروفون بكل وجودها. بذلك تم انتاج صوت شبه موحد، في الفرق ولدى المغنين، ومسطح تقريباً، وتم وضع قوانين جديدة لتذوق جمال الخامة وتهذيبها وصفائها وعذوبتها. صمدت مثل هذه الأساليب لفترة أطول في العراق، إلا أننا نعلم ما قد حل به لاحقاً. اما في لبنان وحتى في سوريا فقد تراجعت بسرعة، وما انطواء نور الهدى في الفترة الفيروزية سوى دليل آخر على ذلك، وكذلك الأمر في مصر، حين حل عبد الوهاب وفريد الأطرش ومن ثم عبد الحليم وسواه محل المشايخ في الغناء كالشيخ محمود صبح وابرهيم الفران وغيرهما. في معنى ما، يشكل هؤلاء آباءنا، ولا يسعنا التملص من ارثهم ولو شئنا، إلا أننا، حين نسعى إلى الاتصال بما كان وراء ذلك لا نجد أمامنا إلا القليل. صحيح إن ارث التجويد القرآني سمح بإطالة أمد هذه التقنيات والاساليب الغنائية قليلاً، إلا أن التجويد اليوم، على جمال بعض الأصوات، يلوح شديد التأثر لدى الجيل الشاب بموسيقى الأربعينات الوهابية وما تلاها، حتى المرحوم الشيخ محمد عمران كان أيضاً، في مخيلته الموسيقية، وليداً لها. في هذا المجال، فإن مخيلة المقرئ الطرابلسي الشيخ صلاح الدين كبارة رحمه الله كانت فريدة ومميزة كتمكنه الصوتي والنغمي. نتلفت إلى اجداد لنا فلا نكاد نجد إلا فقداً وخسارات، ونتلفت إلى حواضر كانت فلا نجد إلا تأكلاً وضموراً. كيف نمس روح طرابلس وصيدا والقاهرة ودمشق والموصل وبغداد دون موسيقاها ودون تكريم ثرائها التعددي المنسجم في نسيج موسيقى عرفت كيف تضمهم في حضنها؟ كيف نعيد الاتصال بإرث لم يعد يسعنا من دونه سوى الاصطدام بحواجز السوق والتكرار والابتذال؟ ربما كان مجال العزف الآلي المنفرد افضل حالاً بقليل، إلا أن على موسيقيينا ومغنّينا العودة إلى اكتشاف كنوز الأساليب وانتاج النغم، التي لم يبق منها سوى أسطوانات قديمة متهالكة وتسجيلات اتلفت الاذاعات بإهمالها معظمها. ما يثير قلقاً مضاعفاً هو ان جهود من يقفون وراء المنتديات الموسيقية العربية، على رغم ضخامتها بالنسبة الى أفراد، لا تطاول الموسيقيين المحترفين بل تكاد تقتصر على جمع من الهواة المهتمين والذواقة، خلاف ما جرى للتانغو الأرجنتيني التقليدي الذي نبعت محاولات احيائه من حاجة الموسيقيين أنفسهم. من دون الشعور بمسيس هذه الحاجة كيف يسعنا أن نأمل، في الموسيقى، تجديداً لا يكون افقاراً، وفي المجتمع، تعبيراً لا يكون اجتراراً ولا غربة؟
ملحق النهار

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .