الأربعاء، 26 نوفمبر 2008

بلال خبيز: الاستقلال المنبوذ

حين يكون التاريخ مخجلاً لأهله
اصبح عمر الاستقلال اللبناني 65 عاماً. اللبنانيون اليوم يتحدثون عن الاستقلال الثاني الذي انجز منذ ثلاث سنوات. واحتفل لبنان الرسمي بهذه المناسبة في ساحة الشهداء، تلك الساحة التي نصب فيها تمثال شهداء الاستقلال، والتي شهدت تظاهرات اللبنانيين جميعاً واعتصاماتهم طوال السنوات الثلاث الماضية. شهداء الاستقلال هم اولئك الشبان الذين علقهم الجنرال التركي جمال باشا على اعواد المشانق في السادس من ايار عام 1916، اي قبل ان ينال لبنان استقلاله بما ينوف على العقدين والنصف. لكن الاستقلال تم عن فرنسا المنتدبة وليس عن السلطنة العثمانية. مفارقة اخرى من المفارقات اللبنانية. يستشهد الشهداء من اجل الاستقلال قبل نيله بأكثر من عقدين، ثم ينال البلد استقلاله عن سلطة اخرى غير تلك التي علقت المشانق لشهدائه.
لبنان بلد المفارقات. والمفارقات لا تكون على هذا القدر من الغرابة إلا حين يكون تاريخ البلد مخجلاً لأهله. اللبنانيون لا يحبون تاريخهم، وغالباً ما يفضلون الوقوع في موقع ضحايا المؤامرات، ولا يستسيغون فكرة ان يكونوا هم المتآمرين. مع ذلك حديث التآمر في لبنان على كل شفة ولسان. بل ان المعارضة اللبنانية، والتسمية من مفارقات لبنان ايضاً، تقسم البلد قسمين، متساويين: الشرفاء والمناضلون، وعملاء اميركا والاستكبار. بالنسبة للمعارضة نصف لبنان متآمر على نصفه الآخر، والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة للموالاة. انه البلد الذي تحتاج كل يوم فيه ان تعلن في اي جهة انت. ليس ثمة رابطة مواطنة في لبنان تسمح للمرء ان ينصرف عن شؤون السياسة وشجونها. اللبنانيون منذورون للانحيازات، وعليهم كل يوم تغذية هذه الانحيازات بدم جديد، وغالباً ما يكون دماً حارقاً ومراً على حد سواء.
لهذه الأسباب لا يجمع اللبنانيون إلا على الموت. الموت هو القاسم المشترك بين اللبنانيين. وحين يعلو الصراخ على المنابر من كل الجهات، يكون المستهدف بهذا الصراخ غائباً عن السمع، ويكون العدو ميتاً. هكذا لم نجمع على شهداء الاستقلال، ونرفع لهم نصباً تكريمياً، لولا ان السلطنة العثمانية قد ماتت قبل تحقق الاستقلال، ولم يعد ثمة لتركيا الحديثة مطامع من اي نوع في لبنان. وحين نجمع على رفض توطين الفلسطينيين في لبنان، فلأن الثورة الفلسطينية لم تعد تقيم دولتها على اراضي لبنان ولم تعد لها مطامح من هذا القبيل. وحين نجمع على عداوة اسرائيل فلأن اسرائيل هي من قرر الخروج من المستنقع اللبناني، وليس لأن اللبنانيين قرروا طردها من متن السياسة اللبنانية وهوامشها. لكننا على العكس من هذه الإجماعات كلها، نختلف على كل ما عدا ذلك: بعض اللبنانيين، ولنقل نصفهم، يريد عودة الجيش السوري إلى لبنان، ويعلن ذلك جهراً ومواربة، وبعضهم الآخر يستميت في محاولة التخلص من آثار اليد السورية الثقيلة. بعض اللبنانيين يشكر المملكة العربية السعودية على ما قدمته من مساعدات للبنان، وهو والحق يقال كثير، لكن بعضهم الآخر يهدد وزرائها وسفرائها بالعقاب. بعض اللبنانيين يثمن عالياً الدور المصري في محاولة رأب الصدع بين اللبنانيين، وبعضهم الآخر، يشتبه بهذا الدور. وأخيراً بعضهم يعتبر ان لبنان حقق استقلاله الناجز في العام 2005، اي لحظة خروج الجيش السوري من لبنان، وبعضهم الآخر يعتبر ان هذا التاريخ هو تاريخ بداية الالتحاق بالمشروع الأميركي وتطلب هيمنة سعودية.
لكن لبنان لم يستقلّ بعد. اقله معنوياً. ما زال البلد محتلاً كما لم يكن من قبل. بل ان الاحتفال بعيد الاستقلال كان في السنوات الثلاث السابقة متعذراً، لأسباب امنية في المقام الأول وسياسية في المقام الثاني والأهم. اما امر تيسير الاحتفال بالاستقلال هذا العام، ولو بغياب وزراء حزب الله عن الاحتفال، فمرده إلى الهدنة اللبنانية الناجمة عن وقت ضائع اقليمياً ودولياً. ففي الوقت الذي كانت قطع الجيش اللبناني تؤدي عرضاً عسكرياً احتفالاً بالمناسبة، تسربت معلومات عن قيام حزب الله بمناورات عسكرية واسعة جنوب وشمال نهر الليطاني، وبادر ايهود باراك وزير دفاع اسرائيل إلى تهديد لبنان بالتدمير الشامل إذا ما حدثت اي مواجهة بين حزب الله وجيش اسرائيل. اما سوريا فما زالت تحشد قطعها العسكرية على الحدود الشرقية والشمالية انتظاراً للحظة مؤاتية.
الاطراف تجري مناوراتها وتدرس خطواتها المقبلة. وفي هذا الوقت المستقطع يستطيع لبنان ان يحتفل باستقلاله. وإلى ان يفرغ هؤلاء من اعداد خططهم يجدر باللبنانيين جميعاً ان يتفقدوا بعضهم بعضاً من دون اهمال النظر في ساعاتهم لئلا يسرقهم الوقت.

عن الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .