الأربعاء، 26 نوفمبر 2008

بلال خبيز: كساد الموقع الجغرافي وضمور الريع السوري

حرب ولا سلم
من محاسن الصدف التي يمكن للمرء ان يسجلها، ان الابواق اللبنانية التي تغزل على نول نجاح النظام السوري في فك عزلته منذ شهور، لم تخرج علينا اليوم بالقول ان زيارة ميليباند إلى دمشق علامة اضافية وضيئة على هذا النجاح. مثل هذا التحوط استر لما تبقى من مصداقية لدى بعض وسائل الإعلام اللبنانية التي تغذت على مثل هذه الأقاويل منذ شهور. مع ذلك، ليس في هذه الاقاويل والتحاليل ما يضير، فكل امرئ يسعه ان يحلل بحسب ما يتمنى، رغم ان الاعتذار واجب، اقله ممَن سمتهم بعض الصحافة اللبنانية على صدر صفحتها الاولى، "اعضاء شبكة كفرشوبا الإرهابية"، احقاقاً لحق هؤلاء، اهلاً ومواطنين، من دون ان نجنح إلى محاسبة صحافيين على بث اخبار لا تمت إلى الحقيقة بصلة وتضخيم احداث لا تتصل بواقع الحال من اي وجه. ولو كان من اتهمتهم بعض الصحافة اللبنانية بحيازة الزئبق الأحمر في مقام الجنرال ميشال عون الرفيع، لكان الجنرال اقام دنيا القضاء والرأي العام ولم يقعدها تحصيلاً لنقاء سمعته. لكن الناس مقامات!
مصداقية الصحف والسياسيين لم تعد قضية ذات شأن في لبنان، والامر تبعاً لذلك، لا يستحق من أي كان ان يصر عليه. ففي مثل هذا الإصرار ما يقبض الصدر ويخرب المزاج. تماماً كما تكون الحال عليه حين يكون التفاوض السوري مع اسرائيل نصراً سورياً مؤزراً ودليلاً ساطعاً على نجاح سوريا في فك عزلتها من الباب الإسرائيلي. في وقت لا ينفك النظام السوري يخضع لامتحانات في حسن السلوك، يسميها هو نفسه انتصارات دبلوماسية. مع ذلك، ليس ثمة في العزلة السورية ما يسر عدو ولا صديق. لكن الامر يتعدى السرور الحزن إلى ما هو ابعد منهما. ويتعلق تعلقاً مباشراً بالمعنى الذي تكشفت عنه مسألة التفاوض السوري مع اسرائيل على تحقيق سلام دائم يدعى إليه لبنان، بحسب مطلب الرئيس الأسد في احدى لحظات تفاؤله في تحقيق اختراق على المسار التفاوضي.
ولئن كان انعقاد المفاوضات غير المباشرة بين سوريا واسرائيل برعاية تركية احد ابرز انجازات النظام السوري الدبلوماسية في السنوات الثلاث الأخيرة، فإن اعتراض النظام نفسه على مندرجات مؤتمر حوار الأديان الذي انعقد في نيويورك، يبدو كما لو انه ينم عن رغبة سورية عميقة في تعطيل اي سلام. ليس لرغبة سورية في استمرار الصراع ضد اسرائيل حتى زوالها، على ما يصرح الرئيس الإيراني، بل لأن انفتاح اي كوة في جدار الصمم الإسرائيلي قد يجعل النظام السوري يخسر زبونه الوحيد: اسرائيل.
راهن النظام السوري على استعادة تفعيل ريع موقع سوريا الجغرافي بإقامة مفاوضات مع اسرائيل بافتراض انه يملك مفاتيح المشاكسة العربية كلها، من حزب الله في جنوب لبنان إلى حماس في قطاع غزة. وبافتراض ان زمن الممانعة العربية الفاعلة، وقدرة النظام العربي على تفعيل ممانعته واثبات انه رقم صعب في هذا العالم لم يعد راهناً. لكن ما تكشفت عنه وقائع الأسبايع الاخيرة من دور سعودي دولي بارز، ودور مصري مماثل، اثبت ان الممانعة العربية الفعلية لا تقع في دمشق بل في الرياض والقاهرة وربما ايضاً في عمان. لقد اثبت معسكر الاعتدال العربي انه بات رقماً صعباً وان اسرائيل قد تستسهل إدارة ظهرها لمطالبه ردحاً لكنها من دون شك باتت تستصعب إعلان الحرب عليه، إن لم يكن قد اصبح ذلك مستحيلاً عليها. فالدول العربية الكبرى، او ما يسمى بمعسكر الاعتدال العربي، اثبتت انها تملك مفتاحاً في الصراع لطالما كان غائباً عن الذهنية السورية. منذ ان اطلق الرئيس الراحل حافظ الأسد لا حرب من دون مصر ولا سلم من دون سوريا شعاراً، نامت الدبلوماسية السورية على وقعه الرنان من دون تغيير. باعتبار ان النظام السوري ما زال قادراً على المشاكسة، لو لم يكن قادراً على الحرب. لكن معادلة الحرب والسلم تحتاج إلى طرفين يحاربان ويسالمان، وهو ما غاب عن الذهنية الدبلوماسية السورية غياباً فاقعاً، حيث لم تفطن الإدارة السورية إلى ان ما حققته دول الاعتدال العربي من انجازات يعني في المقام الأول ان اسرائيل باتت شبه عاجزة عن اعلان الحرب على دوله، وان مصالح هذه الدول ومكانتها في العالم اصبحت راسخة بحيث باتت ممرات الحروب لإخضاعها شبه مقفلة ان لم تكن مقفلة تماماً. وحدها سوريا بين الدول العربية ما زالت من غير حصانات من هذا القبيل، وكانت مثل هذه الحصانة ممكنة التحقق لو انها انتظمت في الإطار العربي الأعم، والذي مثلته مبادرة الملك عبدالله للسلام التي اطلقها من قمة بيروت.
سوريا ليست محصنة ضد حرب اسرائيلية عليها، هذا امر يجب ان لا نستهين به، ذلك انها على مدى العقود الأخيرة لم تكف عن التصرف كما لو انها قرصان بري، يتوسل السلام ابتزازاً ويتوسل المكانة الإقليمية بقطع طريق الاستقرار على من تطاوله اذرعته المتعددة. وحين لا يكون ثمة ما يردع اسرائيل عن الحرب ضد سوريا او يران إلا موازين القوى العسكرية، وحساب الكلفة والأخطار فذلك يعني ان الحرب واقعة لا محالة، إلا إذا اثبت النظام انه جاد في الخضوع إلى امتحانات حسن السلوك. وان يكون النظام السوري اليوم مدعواً لتحسين سلوكه تحت وطأة التهديد بالحرب او العزلة الخانقة، فمعنى ذلك ان سياسة القرصنة والابتزاز باتت في يد الطرف الآخر، ولم تعد طوع بنانه. هكذا يُفهم اعلان رئيس الدولة العبرية شيمون بيريس من لندن: ان على سوريا ان تختار بين الحرب والسلام، بوصف اسرائيل من يبتز سوريا وليس العكس.
ذات يوم قال برلماني كويتي عريق، ان المقاومة الأنجع لا تكون بالسلاح بل بحسن استثمار العلاقات الدبلوماسية. واليوم في وسع المرء ان يكرر ان الاستراتيجيات الدفاعية لا تتلخص فقط بتكديس الصورايخ.

عن موقع المستقبل

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .