الجمعة، 28 نوفمبر 2008

بلال خبيز: البياض

لقطة الحسد


يلتقط الان ساكولا صوراً لأشخاص وكائنات واشياء، ثم يكبرها ويعرضها في امكنة عامة، ولايلبث ان يلتقط صورة جديدة للصورة المعروضة في المكان الذي عرضت فيه.
من نافل القول ان ساكولا يعتني جيداً بالموقع الذي يريد عرض صوره فيه. عناية تتصل بالهندسة والألوان والنسب والتناظر. كما لو ان الصورة لا تصبح عملاً متكاملاً بالنسبة له إلا حين تنزع من سياقاتها الأليفة، وتوضع في سياقات مغايرة. مثلاً: ان تصور فيلاً افريقياً ثم تضعه على واجهة الكابيتول هيل، او ان تصور حمالاً افغانياً في سوق من اسواق كابول، ثم تعرض صورته على نافورة لوس فيليز في لوس انجلس. عمل يستحق التأمل ولا شك.
لكن المرء وهو يشاهد هذه الاعمال تحدوه رغبة في استكمالها: ماذا لو وضعنا صورة مبنى الكابيتول هيل حين تكون صورة الفيل متوضعة امامه، امام مبنى الكرملين، ثم عرضنا صورة مبنى الكرملين المعروضة امامه صورة الكالبيتول هيل وقت عرض صورة الفيل امامه، امام مسلة الشانزليزيه، ثم عرضنا صورة مسلة الشانزليزيه بكل ما فيها، من الفيل حتى مبنى الكرملين امام مبنى البوندستاغ، وهكذا إلى ان يختفي الفيل تماماً ولا يعود ممكناً للمرء ان يراه. هل يبقى ثمة معنى اصلاً لتصوير الفيل؟
التجربة مسلية بعض الشيء. لكنني وانا اشاهد اعمال ساكولا، كنت افكر في من قد يكون الفيل في هذه الحال؟ وهل يتوجب علينا لإخفائه ان ننقل العرض كل مرة إلى موقع جديد؟ ام انه اختفى فعلاً بعد التقاط صورته بثانيتين او ثلاث؟ الارجح انني فكرت في هذه المناسبة، وانا الذي انتمي إلى بلاد بعيدة كثيراً عن هذا الحس الفكه، بأنني انا نفسي هو الفيل في هذه الصورة. الفيل الذي يراد له دائماً ان يكون موديلاً لعمل فني. وما ان ينتهي المصور من التقاط صوره حتى يختفي ولا يعود احد ليهتم بمصيره. كما لو ان بعض الفن يدافع مستميتاً عن اللوحة التي تعرض في المتحف لكنه قليلاً ما يهتم لمصير موضوع الفن. على الحرب في افغانستان ان تتوقف قليلاً ليتسنى للمصورين تصوير الناس والجبال والكهوف قبل ان تأكلها نيران الطائرات والأحزمة الناسفة. وما ان يفرغ الفنانون من عملهم حتى تستعاد الحرب بكامل القها وجبروتها. فبعد ان تم التقاط الصور وصنع الافلام اصبح في الامكان مشاهدة افغانستان في المتاحف، لمن يرغب في الاستزادة. ولم يعد مهماً ان تبقى البلاد التي كانت، اي افغانستان، كما كانت. بل الارجح انها ستصبح مرة اخرى موضوعاً للتصوير، بعد استكمال دمارها.
هذه ملاحظة مرة ولا شك. والمرارة في هذا العالم معروفة المصدر. المرارة تمت للجغرافيا بصلات وثيقة. حتى المحظوظين من ابناء الشرق الاوسط اليوم. والحظ نسبي طبعاً، كما هي حال الإسرائيليين الذين تدافع عنهم سارة بالين، بافتراض ان دفاعها عنهم يجعل حظوظهم تدوم. حتى هؤلاء هم ابناء مرارات حريفة. كل هذه الجغرافيا الشاسعة ليست سوى استديو ضخم للتصوير الفني. ما ان تؤخذ الصور حتى يطلب إلينا مرة اخرى ان نتوضع لاجل التقاط صورة اخرى، انما هذه المرة بجروح جديدة ودماء اكثر حرارة وسيلاناًالصفحة الدولية في الصحف الاميركية، تماماً مثلما هي الصفحة الدولية في اي صحيفة بعيدة عن مسرح الاحداث، لا تذكر بيروت إلا حين يكون الدم فيها مراقاً. ولا تذكر بغداد إلا لإحصاء عدد القتلى. نادراً ما نسمع هنا عن انعقاد مجلس النواب العراقي، ونادراً ما تصلنا اخبار عن زيادة الاجور في لبنان. الخبر هو الموت، وعلينا ان نتذكر اننا يجب ان نموت ليتسنى لنا ان نصبح موضوعاً للصور.
لم احمل معي من بلادي تلك صوراً. لم اكن هناك افكر ان ثمة ما يستحق التصوير. وعلى العكس من ذلك، كنت اود ان احمل الكاميراً واصور كل ما تقع عليه عيناي هنا. لكنني لم افلح إلا بتصوير البياض. البياض الذي يعني شيئاً ولا يعني اي شيء. البياض الذي يستعد لاستقبال الفيل ومبنى الكابيتول هيل وسوق كابول على صفحته. وعلى صفحة هذا البياض اتخيل انني استطعت ان احول لوس انجلس إلى مادة للتصوير. تماماً مثل بيروت. لكن ما يمنعني من اقتراف هذه المعصية ان الصور، كل الصور، ما زالت تحب الدم.
هل من شيء يمكن لكاميراتنا ان تلتقطه في هذه المدينة؟ ربما، لقطة الحسد. لقطة الحسد التي تجعل الناس مرئيين وغير مصورين. لقطة الحسد التي تجعل من صورنا في تلك البلاد التي لم تتحملنا، مادة مناسبة للتمرن على الحزن. وإلا ما الذي يبقى من المشاعر الإنسانية إذا حذفنا تمرين الحزن منها؟
في غرفتي هنا، ثلاث كراس، واحدة للعزلة واثنان للصداقات. اجلس على كرسي العزلة ردحاً، ثم ادرك انني اعيش في بياض الأعمى. البياض الذي يجعل كل شيء غير مرئي، والبياض الذي يجعل العالم خفيفاً كضباب، ورطباً كمغطس.

مجلة نفس

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .