الأربعاء، 26 نوفمبر 2008

علي زراقط: بلاد الآمال الواسعة والواقع الضيق


الدولة التي تبحث عن شعبها والشعب الذي يبحث عن دولته
فلننظر ملياً إلى الصور العالقة في أذهاننا، عندما نستعيد كلمة لبنان. قد يخطر للكثيرين صورة البحر القريب من الجبل، ويرى بعضهم الآخر الشروال والمازة والعرق البلدي، وآخرون يرون رجال الله في الميدان، أو الفتيات المغناجات وهنّ يتمايلن بأردافهن، أو الكنيسة قرب الجامع، أو فيروز، إلى ما هنالك من صور، هي التي تعرّف نظرتنا إلى أنفسنا، وهي التي تصنع من كلمة لبنان ذاكرة جمعية على أساسها قد تتكون الهوية. يتلخص انتماؤنا ورؤيتنا إلى البلاد عبر مجموعة من الإشارات البصرية قد تشكل مجتمعةً هويتنا العامة. إلا أن ما قد يصيب البلاد هو اجتماع عدد من الناس حول الانتماء الحصري إلى إحدى هذه الصور، ورغبتهم في الدفاع عن هذه الصورة حتى الموت. وهذه ظاهرة عامة في الانتماء الحصري إلى جزئيات الصورة المكوّنة للهوية. اختلف مع الكثيرين ممن يقولون بعدم وجود هوية لهذه البلاد، حيث أنني أجزم بأن هناك هوية منجزة لهذا الوطن، تتكون صورتها عبر مجموعة من العلاقات المتشابكة بين رموز وإشارات سوسيولوجية. إلا أن عدم القدرة على استيعاب الصورة مجتمعة، وفهم هذه العلاقات وماهيتها، لا يلغي وجود هذه الصورة. أعود إلى مفهوم كنت قد بيّنته في مقال سابق في "الملحق"، ألا وهو مفهوم كولاج الصور المشكِّلة للوعي الجمعي لهذه البلاد. إذا وضعنا هذه الصورة تحت التشريح رأينا أن هذه البلاد هي مزيج من جغرافيا سياسية متميزة عن المحيط، وهذا ما يعطيها استقلالية ووحدة موضوعية غير قابلتين للمناقشة. ومن ناحية أخرى يضفي عليها مجموعة من التناقضات السوسيو-ديموغرافية المرتبطة مباشرة بعامل الخوف بين المجموعات المكونة للسكان، وهذا ما يضعها على خط القلق وإعادة إنتاج الازمات بشكل مستمر.

الاستعارة السياسية

تلفتنا في هذا المكان عبارة "زوم آوت" التي استخدمت في محط الإشارة إلى الصورة التي رسمتها حركة 8 آذار ومن ثم حركة 14 آذار من بعدها. وهي عبارة مطلقة، أي أنها شعار مطلق غير مرتبط موضوعياً بالحاجة إلى استخدامه في تلك اللحظة، إلا أن قيمته الفعلية تأتي من المكان الذي أطلق منه، أي من المنصة التي وقف عليها الأمين العام لـ"حزب الله" ليخاطب جمهوره، ومن ثم وقف عليها زعماء 14 آذار ليخاطبوا جمهورهم. هذه العبارة تكتسب صيغة الرمز (أي الإشارة التي تحتاج إلى تأويل كي تصبح ذات معنى)، وهي تستعيد معناها من خلال الوعي المسبق لماهيتها لدى الجماهير المجتمعة في 8 و14 آذار. كما أن هذه العبارة بما أنها مطلقة في محتواها الرمزي المباشر (زوم آوت)، وبما هي عبارة قياسية، أي بما أنها تنطلق فعلياً من المكان الذي تم تثبيت الكاميرا فيه كي تقوم بـ"الزوم آوت"، فهي تحتمل تناقضاً واضحاً ينحاز إلى إشهار صفة المطلق على ما هو محدود. نأتي في هذا المكان على ذكر هذه الرمزية، في محاولة لتبيان الواقع السياسي الإجتماعي اللبناني، الذي ينحاز لكي يكون واسعاً ومطلقاً (كونياً عبر ارتباطه المباشر بالصراعات العالمية) فيما هو في طبيعته محدود وضيق. فلو أردنا أن ندخل في باب صراع الأحجام وطلبنا أن تقوم الكاميرا بـ"زوم آوت" أكبر لنرى حجم لبنان من العالم، لرأينا أن الشعارات التي تريد تغيير العالم نحو الممانعة وإسقاط النظام العالمي، أو التي تريد نشر الديموقراطية في بلدان العالم الثالث انطلاقاً من هذا البلد الضيق، ما هي إلا آمال فضفاضة لا يسع الشعب اللبناني أن يرتديها، وإن ارتداها تعثّر في مشيته. وهذا بالفعل ما يحدث في لبنان. من ناحية أخرى، ومن باب الاستمرار في ملاحظة ظاهرتي 8 و14 آذار، نعرّج على هاتين الحركتين من باب الانتماء اليهما. إن الانتماء إلى تسميات من مثال 14 آذار أو 8 آذار، إذا أردنا وصفه ثقافياً، هو انتماء دوغمائي إلى إشارة ذات محتوى تأويلي (أي غير دوغمائي). بمعنى آخر، إن الانتماء إلى إحدى هاتين الإشارتين على مستوى الفرد أو الجماعة، هو انتماء إلى تفصيل من تفاصيل محتوى الإشارة، أي أنه انتماء إلى تأويل من التأويلات المتعددة التي قد تحملها إشارة 14 أو 8 آذار. وقد يكون هذا التأويل صحيحاً أو غير صحيح، إلا أنه لا يمكن أن يكون انتماءً إلى كامل معنى الإشارتين. إذ أن الإشارتين لا تحتملان معنى محدداً ولا هما قادرتان على صنع معادلة ربط بين مجموعة من المعاني. هما إشارتان مفتوحتان على التأويل، حيث أن لكل فرد القدرة على ربط إشارة 8 أو 14 آذار بالمعنى الذي يريده تبعاً لرغباته السوسيو-سياسية. تتحول الحركتان السياسيتان اللبنانيتان الأبرز إلى نوع من الترويج لسلعة غير موجودة، أو غير معدّة مسبقاً، هي سلعة رمزية وقياسية يرتبط بها كل فرد من طريق ارتباط مجازي، ويربط بها رغباته بشكل مجازي. إن العلاقة بين الحركات السياسية اللبنانية والفرد اللبناني، هي علاقة ذات جانب واحد من الالتزام. بمعنى أن الفرد مرتبط بالحركة السياسية على قدر آمال لا تعده هذه الحركة بها، إنما هو من يقدّر أنها تعده بها. لذا فإن كلمتي 8 و 14 آذار تتحولان إلى نوع من الاستعارة السياسية، فتتحول السياسة اللبنانية إلى حالة شعرية بالكامل تستطيع أن تفبرك أبطالها وأشرارها، وهذا ما يجعلها قادرة على جذب جمهور واسع من المتابعين (والمشجعين كما في كرة القدم) للفرق اللبنانية، من خارج لبنان أيضاً. تدخل اللعبة السياسية اللبنانية هنا في حالة من الفوق واقعية (hyperreality)، حيث أن محتويات حركة 14 آذار (مثالاً) بنيت على غضب مجموعة كبيرة من اللبنانيين ورفضهم للوجود السوري في لبنان. على أن انتفاء المحتوى لم ينف الإشارة. أي أن انتفاء الوجود السوري في لبنان، لم ينف رمزية كلمة 14 آذار والانتماء إليها على قواعد وتأويلات جديدة ومتعددة. كذلك هي الحال بالنسبة إلى حركة 8 آذار. اللافت في الأمر أننا لو نظرنا إلى المشهد البصري، أي الى الصورتين اللتين صنعتهما الحركتان، لوجدنا القليل القليل من التعارض، أو التناقض في المشهدين.
نعود إلى صورة لبنان الصانعة لهويته. فلنقل إن هوية لبنان الحالية هي هوية مجازية، عبارة استعارية قابلة للتأويل. هذه الاستعارة قادرة على فتح أبواب كبيرة لآمال واسعة، إلا أن الواقع الذي يؤدي إلى حصر الانتماء الجماعي المجتزأ (أي نسبةً إلى إحدى الجماعات اللبنانية المتعددة)، بجزئية واحدة من الصورة المتعددة، يجعل هذا البلد بلداً للواقع الضيق. "بلاد الآمال الواسعة والواقع الضيق": هذه هي المفارقة الرئيسية (التناقض الرئيسي) التي تنتج منها صورة الهوية الضبابية، وإعادة صناعة الأزمات. هذه هي المفارقة التي تصعّب على اللبنانيين إعادة فهم علاقتهم بصورتهم، أي بواقعهم. وهي التي لا تمكّن اللبنانيين من إعادة إنتاج التسويات والعلاقات بين أجزاء الصورة المتعددة.
العلاقة مع الواقع

تحتاج مؤسسة الهوية اللبنانية إلى إعادة إنتاج علاقتها مع الواقع، وذلك من خلال التخلي عن الإشارات ذات التأويل المتعدد إلى الإشارات ذات الدلالات الواضحة. إن قدرة هذه البلاد على إيهام أبنائها بصناعة المستحيل، وجعلهم يسعون خلف هذا المستحيل هي المسبب الأساسي لليأس من البلاد وقدراتها. إلا أن إعادة بناء الآمال والأحلام على قدر الواقع، أي على قدر الواقع اللبناني على التحمل، هي السبيل الوحيد لإعادة إنتاج الانتماء والوعي اللبنانيين على درجة من ضمان الاستمرارية عبر ضمان نجاح هذه الآمال أو إمكان نجاحها. إن العلاقة مع الواقع هي من حيث تعريفها علاقة مع الحاضر بصفتيه الزمنية والمكانية. أي أنها إعادة تصالح مع المكان (الجغرافيا السوسيو-ديموغرافية) ومع الزمن الحاضر الذي نعيش فيه. من عناصر الخطاب السياسي والشعبي والثقافي اللبناني أنه مبني إما على الماضي وإما على المستقبل، أي على الحنين أو الوعد، بشكل منفصل عن الحاضر والمكان. يحن اللبنانيون إلى الماضي الذي كان أفضل من الآن، وإلى المكان الذي كان لهم، غير معترفين بالمكان الذي هم يعيشون فيه الآن، وغير متصالحين مع الزمن الذي يعيشون فيه الآن. وهم يعدون أنفسهم بأن المستقبل سيكون أهم وأفضل من الحاضر. فلسفة الحياة هذه هي فلسفة مستمرة، حيث أن حاضر اللبنانيين هو سيىء في نظرهم، وحيث أن ماضيهم لطالما كان أفضل، ويعدون أنفسهم بأن المستقبل سوف يكون أفضل. إلا أن الأزمة الحقيقية هي أن الحاضر هو مستقبل البارحة، وأنه ماضي الغد. لذا فإن هذه الفلسفة هي فلسفة الانتظار الدائم لأشياء لن تحصل، وفلسفة الحنين الدائم إلى أشياء لم تحصل. هي فلسفة عدم الرضا، أو بحسب العبارة "النفس تحليلية" عدم التصالح مع الحاضر والمكان الذي يشغلونه.

التصالح مع الحاضر

إن التصالح مع الحاضر يشترط القدرة على وعي الحاضر، وعلى وعي مكاننا، وعلى تحديد مساحتنا الحيوية. إن التصالح مع الحاضر، يشترط فهم المكان والزمان الحاضرين والقدرة على رؤيتهما معاً، ورؤية أنفسنا وأدوارنا من خلالهما. أي بمعنى آخر رؤية الصورة مجتمعةً، لا بجزئيتها. إن عدم وعينا لقيمة الحاضر أضاع علينا كلبنانيين في الأعوام القليلة الفائتة فرصاً تاريخية لإنجاز التمرحل التاريخي من حالة "بلاد إعادة إنتاج نزاعات الأقليات" (التي نحن فيها الآن) إلى حالة "بلاد ضمان حماية الأقليات" وهي الحالة التي كنا على مشارفها من سنتين لكننا ابتعدنا عنها. إن محاولة وعي الصورة مجتمعة ليست بالعمل السهل، بل هي حاجة تتطلب الكثير من العمل الجدي النظري والبحثي في كل المجالات لتحديد مواقعنا من حركة العالم التي تمر مفاهيمه فوقنا بشكل أفقي. تماماً كما الغيوم، فإن أمطرت لا ننال من مطرها إلا القليل. علينا أن نعي الحاضر لنستطيع تحديد موقعنا من الحداثة ودورنا فيها، ولتحديد موقعنا ودورنا في هذا العالم، لكي نصنع حاجة العالم إلينا وإلى استقرارنا. هذه هي الأمور الوحيدة التي تستطيع أن تضمن حماية هذه البلاد وحريتها واستقلالها.
دورنا في العالم

قد يستسهل البعض الإجابة عن دور لبنان في العالم فيقول إنه الوطن الرسالة، حيث تجتمع الديانات بسلام. إلا أننا نعود لنقول إن هذا الدور - "لبنان الرسالة"، ما هو إلا إعادة إنتاج لصيغة الرمز الذي لا معنى واضحاً له، بل هو رمز خاضع للتأويل. ذاك أن دور البلاد لا يكون برمزيتها بل بحاجة العالم اليها. فماذا الذي يجعل دول العالم تقبل باستقرار بلاد تؤمّن لها "ساحة" صراع إختبارية، إن لم ترتبط أجزاء من مصالح هذا النظام العالمي بشكل من الأشكال باستقرار هذه البلاد؟ لا يمكن أن يكون لدولة هدف رسالي، فهدف الدولة هو ازدهارها، ورفاهية مواطنيها وحماية مصالحهم. لذا فإننا نستطيع أن نجزم بأن دور لبنان لا يمكن أن يكتفي بكونه رسالة، بل عليه أن يكون فاعلاً ومؤثراً في حاضر بلاد هذا العالم وشعوبه. لذا يمكننا القول إن دورنا بالنسبة إلى العالم، هو إنتاجنا، اي هو ما نستطيع أن نقدمه الى هذا العالم. أما وقد برهنّا في مقال سابق أن المنتج الحقيقي الوحيد لهذا البلد (في الوقت الراهن) هو الصراعات السياسية، فإن الواقع الراهن يضعنا في دور مختبر الصراعات السياسية.
قد يفترض البعض أن لبنان هو بلد فقير وليس له مقوّمات اقتصادية قوية وأنه بلد هش ولا إمكان لتكوين دور إنتاجي مختلف، الى ما هنالك من كلام مطاط ونقّ سياسي أحمق. إلا أن الواقع يقول إننا لم ندرس إمكانات بلادنا جيداً، لذلك نحن لا نثق بإمكاناتها. الواقع ليس ملائماً للآمال العظمى والمغامرة في تغيير العالم، إلا أنه أوسع بكثير من الضيق الذي نراه عليه الآن. أحد أكبر أخطاء الواقع اللبناني الضيق أنه لا يستطيع أن يرى لبنان بصورته الواسعة. عملياً هذا يعني اننا لا نملك إحصاءات جدية عن الواقع اللبناني وعن تركيبه الديموغرافي والاجتماعي. لا نملك إحصاءات دقيقة عن قدرة السوق اللبنانية على الانتاج والتسويق، ولا نملك معلومات دقيقة عن قدرة اللبنانيين على التأثير في الخارج، ولا عن أعداد اللبنانيين، والمتحدرين من أصل لبناني في الخارج وعن مدى ارتباطهم بلبنان. هذا جزء من الواقع اللبناني الواسع، إلا أننا لا نرى إلا حدود الطوائف، والرموز المجازية التي تصنع لكل فرد منا أحلاماً غير قابلة للتحقق ببساطة لأنها غير مبنية على الواقع والحاضر. إن هذه الأحلام غير القابلة للتحقق، تجعل من الشعب اللبناني شعباً غير قادر على الانتاج، لأنه ببساطة لا يعي ما هي قدرته على الانتاج. لأنه لا يمتلك المعلومات الكافية التي تجعله يثق بقدرته على الانتاج. فعلى سبيل المقارنة، المرأة التي لا تمتلك مرآة، لا تستطيع أن تقارن جمالها بجمال النساء اللواتي حولها. تأمل أن تكون أجمل الجميلات، قد تكون كذلك، وقد لا تكون.

إهدار الزمن

قد يكون الزمن هو العامل الأهم في ثقافة المجتمعات الحديثة. لا مكان هنا للإستفاضة في الحديث عن دور الزمن وقيمته في إنتاج المجتمعات الحديثة، إلا أننا يمكننا أن نجزم بأنه العامل الأهم في هذه المجتمعات. هو الذي يحدد القيمة الإقتصادية، والثقافية، والإجتماعية لإنتاجات هذه الأمم. فلو تأخر الأخوان لوميير الفرنسيان سنة واحدة في إخراج إختراعهما السينمائي إلى العالم لكان سبقهما إليه توماس أديسون الأميركي الذي كان توصل إلى الاختراع إلا أنه لم يطلقه، ولاستتبعت ذلك تغييرات جذرية على ماهية هذا الفن الناشئ وقدراته. نعود إلى بلادنا لنرى أننا لا نولي الزمن أي أهمية، فلو استمر حفر الأسفلت سنة أو سنتين فلا يشكل ذلك أي فارق، ولو استمر بناء الجسر عشر سنين فهذا أمر طبيعي، ولو تأخر المرء عن موعده ساعات فهذا غير مستغرب، وإلى ما هنالك من أمثلة بسيطة. وكذلك على الصعيد السياسي، فلو استمر الفراغ السياسي سنوات لما كان اهتز جفن أيٍّ من السياسيين، ولما شعر اللبنانيون بالرغبة في تسريع العملية السياسية. إن هذا الإهدار في الزمن يجعلنا يوماً بعد يوم أكثر ابتعاداً عن فرصنا في اللحاق بمكاننا الذي ننشده بين الامم.
على أبواب عيد الاستقلال الخامس والستين، نرى أننا أهدرنا إثنين وثلاثين عاماً في النزاع على هوية لبنان العربية (من 1943 إلى 1975)، وخمسة عشر عاماً في الإقتتال العبثي، الذي بدأ لأسباب محددة واستمر لأسباب مغايرة، وانتهى لأسباب ثالثة. وأهدرنا خمسة عشر عاماً في تأجيل بناء الدولة، وثلاث سنوات في مماحكات إثبات القوة والعنجهية الفارغة. لقد أهدرنا خمسة وستين عاماً من عمر وطننا ولم ننجز بعد هويته، ولم ننجز بعد إقتراح هويته، ولم ننجز بعد مسح أراضيه، ولم ننجز بعد التعرف الى ثرواته، حتى أننا لم ننجز بعد إحصاء سكانه. ثم يأتي أحدهم (متسرع) ليقول إن هذا البلد لا يمتلك المقومات ليكون له اقتصاد حقيقي، ومجتمع حقيقي. إلا أن السؤال الحقيقي هو الآتي: هل جرّبنا أن نتعرف إلى هذا البلد كاملاً قبل أن نطلق عليه أحكاماً؟ لا، لم نجرّب. لطالما كانت أحكامنا جاهزة، ومعدّة سلفاً، وغير مبنية على أي أرقام أو معطيات علمية. لطالما كانت مقاربتنا للسياسة في هذا البلد مقاربة هوائية، رمزية، لذلك كانت مقاربةً لتضييع الوقت. نحن نحكم على أنفسنا بأننا جنوبيون أو بعلبكيون، أو كسروانيون، أو عكاريون، لمجرد أن أجداداً لنا ولدوا في هذه البلاد، إلا أننا متى ذهبنا إلى باريس فإن الواحد منا يقول عندما يعود: "عنا بباريس". لقد أصبح لبنانياً باريسياً لمجرد الزيارة. أذكر هذا، أولاً من باب التندر، وثانياً من باب حسن التخلص إلى موضوع الإهدار في المقدرات والثروات.

إهدار الطاقات والثروات

إذا نظرنا إلى لبنان من أقصاه إلى أقصاه، لرأينا أن هذا البلد ممتلئ بالعمارات والعقارات. ننظر أكثر متفحصين فنجد أن أكثر من خمسين في المئة من هذه العقارات غير مستخدمة. هي أبنية فارغة، أو أراضٍ بور، إلا أن أصحابها لا يزالون يصرون على أن يمتلكوها وأن يبنوا إلى جانبها. يندر أن نجد عائلة لبنانية لا تمتلك منزلين على الأقل، واحدا في المدينة، وآخر في القرية. وننظر إلى حالة هذه العائلات فنرى أنها متوسطة المستوى. فلنختصر ونخلص إلى الأسئلة الآتية: أليس هذا إهداراً لثروات البلاد العقارية؟! ألا يمكن استغلال هذه العقارات واستثمارها؟ ألا يمكن زراعة هذه الأرض واستثمار مزروعاتها. من الصعب أن يكون لدى أي كان إجابةً عن هذه الاسئلة لأننا لا نمتلك أي معلومات حقيقية عن جدوى الاستثمار في هذه العقارات. مثال آخر على الإهدار: ألا يمكننا أن نعتبر إهمال قدرة المغتربين اللبنانيين على التأثير، إهداراً لثروة وطنية؟ هل هناك بحث جدي عن قدرة تثمير قدرات هؤلاء في الإقتصاد، والمجتمع، والسياسة، والرياضة والفنون اللبنانية؟ هل من خطة لإحصاء أعدادهم الدقيقة؟

أن نكون شعباً منتجاً

تشيع في الثقافة الشعبية اللبنانية عبارة "وين الدولة؟!"، إلا أني أتساءل هنا عن مفهومنا للدولة. لا أقف موقف المدافع عن السياسات الحكومية المتعاقبة، إلا أنني أرى في الدولة نظاماً وقانوناً ينظم العلاقات ومصالح الشعب الذي يتبنى هذا النظام. أنا أسأل بالإضافة إلى السؤال الشعبي الأول: "وين الشعب؟".إنها كوميديا الشعب الذي يبحث عن دولته، وكوميديا الدولة التي تبحث عن شعبها، وهما يدوران في دائرة مفرغة. الشعب هو الذي يصنع دولته، فعندما يكون الشعب منتجاً وله مصالح جدية في وجود دولة حامية لمصالحه، تتولد الحاجة إلى بناء دولة جدية ومنتجة تحافظ على مصالح شعبها بقدرات شعبها. التحدي الحقيقي في هذا المكان، أن نتحول من شعبٍ متفرج إلى شعب منتج، منتج لحضارة ولإقتصاد ولثقافة خاصة متأسسة على وعي فعلي لصورة هذا الشعب. لسنا البلد الوحيد الذي عاش في أتون الحرب، والأمثلة على الشعوب التي نجحت في الخروج منها قوية ومنتجة كثيرة، وهي لا تبدأ بالمانيا، ولا تنتهي بالبوسنة. لسنا الشعب الوحيد الذي فيه تعدد طائفي وعرقي وديني، والأمثلة على نجاح الامم المتعددة في صناعة دورها في العالم حاضرة أمامنا في ماليزيا. لسنا البلد الوحيد الذي لم ينجز هويته بعد، إلا أن الشعوب تنجز هويتها عبر التعرف اليها من خلال إنجازاتها وتراكم فهمها لواقعها مع الزمن، والمثال على ذلك في هونغ كونغ وغيرها... الأزمة الحقيقية، ولكي نكون أكثر إيجابية، فلنقل إن التحدي الحقيقي أمامنا هو في قدرتنا على فهم ماهيتنا، وعلى رؤية صورتنا غير المجتزأة، من خلال إنتاجنا لأنواع جديدة من العلاقات بين الصور المتعددة تبدأ بالاجتماع، تمر بالإقتصاد ولا تنتهي في الانتاج الثقافي. التحدي الفعلي على أبواب السنة الخامسة والستين لولادة وطننا هو أن نتحول إلى شعب منتج، منتج لثقافته الخاصة، ولتنظيم مجتمعه الخاص ولبنية اقتصادية كلها مبنية على أسس واقعية عبر الدراسة والتخطيط. نعم إن أحلامنا وآمالنا الواسعة والمتهورة (الحالية) لدى الكثيرين هي غير قابلة للتحقق، إلا أن الواقع أوسع بكثير مما كنا نعتقد

ملحق النهار

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .