الجمعة، 21 نوفمبر 2008

بلال خبيز: بريتون وودز أخر ام كومونة باريس جديدة؟

انها العولمة: حسناً ما هي العولمة؟
من فضائل الأزمة المالية التي تعصف بالعالم اليوم أنها أثبتت للجميع، علماءً وكتّاباً وصحافيين، أنها أزمة تعنيهم ويتوجب عليهم السعي للتحكم بتداعياتها قبل أن تنفجر فقاعاتها تحاشياً للانفجار، وتحاشياً لاتساع دوائرها بعد حدوث الانفجار. هذه الأزمة أثبتت للجميع أن البحث والتفكر في «علم» الاقتصاد ومساءلته، من حيث طبيعته العلمية أولاً، شأن لا يقل حيوية وضرورة عن التفكر في الأحوال السياسية ونظم الحكم. مع ذلك يجدر بنا القول إن ثمة اختلاطا لا سابق له في المفاهيم ينتشر في كل مكان من العالم، بل إن صحفاً اقتصادية مرموقة سارعت يوم انفجار الأزمة المالية مع انهيار مصرف ليمان براذرز ومسارعة حكومة الولايات المتحدة إلى إقرار خطة إنقاذ مالية عاجلة، إلى الإعلان أن أميركا عادت لتبني نظرية ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. وعلى غرار الفقاعة المالية التي بدأت في ليمان براذرز وايه آي جي، واتسعت دوائرها لتشمل العالم كله، شكلت هذه الملاحظة السطحية عن عودة الدولة إلى تملك وسائل الإنتاج، بوصفها عودة إلى اشتراكية كارل ماركس، فقاعة نظرية كان من شأنها أن أدارت رؤوس معظم صحافيي وكتاب العالم العربي، وشطراً واسعاً من كتاب وصحافيي العالم الغربي أيضاً. وذهبت بعض الإحصاءات الحديثة في دول غربية إلى ملاحظة أن كتاب «رأس المال» لكارل ماركس عاد إلى تصدر قائمة المبيعات، فبسبب هذه الأزمة بات كتاب كارل ماركس الأشهر مقروءاً، وهو الكتاب الذي لم يبع منه أكثر من مئة نسخة طوال خمسة وعشرين عاماً أعقبت نشره لأول مرة باللغة الفرنسية.
قد تكون قراءة ماركس مجدداً مفيدة. القراءة في الكتب الكبيرة مفيدة دائماً، لكن بعض القراءات الحاصلة اليوم تشبه في أحيان كثيرة قراءة نبؤات نوستراداموس: نبحث عما ذكر في كتاب نبؤات نوستراداموس من أوصاف تطابق ما يُظن أننا نعاينه ونعانيه، فإن وُجدت مثل هذه الأوصاف، نستعين بدرجة شبهها بالوقائع على فك ألغاز المستقبل. على هذا أُريد لكتاب كارل ماركس مرة أخرى، أن يُقرأ بوصفه كتاباً في النبؤات، ألم يقرر كارل ماركس أن الرأسمالية عدوة نفسها، وأنها صانعة أزماتها، وواحدة من هذه الأزمات سوف تودي بها؟ وهذا بالضبط ما جرى على امتداد عقود وعقود، ويبدو أن الأزمة الحالية هي الأزمة النهائية!
أن يُقرأ كتاب كارل ماركس، مرة أخرى، كما لو أنه كتاب تنبؤات، لهو أمر يعيدنا إلى الحلقة الأولى: الأجوبة كلها مركونة في الكتاب، ولا بأس من قراءته مجدداً، ولنأخذ منه الوصفة الشافية. لكن كارل ماركس لم يكن كاتب نبوءات، تماماً مثلما لم يكن الكسي دو توكفيل صاحب مؤلف «الديمقراطية في أميركا» كاتب نبوءات. لا شك أن ثمة ملاحظات ثاقبة مازلنا نستطيع أن نلاحظ آثارها في كلا الكتابين، سواء في ما خص وصف أحوال الطبقة العاملة البريطانية في كتاب رأس المال، أو في ما خص طبيعة الديمقراطية الأميركية ومصادرها التي تختلف اختلافاً بيّناً عن مصادر الديمقراطية الأوروبية. لكن كلا الكتابين لا يمكنهما الإجابة عن السؤال الملح اليوم.
أغلب الظن أن المتخصصين في الاقتصاد والمال هم أكثر المتمسكين بنظريات كتبية. التخصص في أصل بنيته يقوم على استحضار التاريخ، التجارب السابقة، الأوضاع المتشابهة، إلخ... والحق أن العودة إلى بريتون وودز، التي يكثر جوزيف استيغليتز حامل جائزة نوبل من تكرار معياريتها، بوصفها جاءت رداً على أزمة مماثلة من حيث عمقها واتساعها في الثلاثينيات، لا تختلف اختلافاً جذرياً عن جنوح أي كان إلى اعتماد حقبة أخرى معيارية، بلغت ذروتها في نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، حين احتدم النقاش، إثر أزمة نقدية هائلة في أوروبا حول طبيعة الأسعار وكيفية تحديدها، ومعايير الثروة، وضمانات النقد المسكوك. فالأزمة تذكر بالأزمة، والحال الراهنة تستعيد أحوالاً سابقة.
لكن استعادة الأجوبة عن تلك الأزمات وتطبيقها على ما يجري حالياً ليس أمراً ناجعا بالضرورة في كل الأزمان، ذلك أن ما ينقص تلك الأجوبة أنها لا تقرأ في أسباب فشل التوقع، خصوصاً لدى بعض ألمع الاقتصاديين في العالم، الذين أشرفوا على السياسات النقدية والمالية والاقتصادية في العالم كله. وربما يكون من المفيد التذكير بأن أزمة نهاية القرن السابع عشر ولّدت نظام الحياة البورجوازية الذي أقام فصلاً قاطعاً بين العام والخاص، أو ما تدعوه العرب الظاهر والباطن، وأدى ذلك في ما أدى إليه، إلى حروب دامية وإبادات عرقية وطبقية، وثورات عنيفة، على ما لاحظت حنة أرنت. فيما أقامت أزمة الثلاثينيات من القرن الماضي حدوداً فاصلة بين الأمم والشعوب، ومتنت حدود الدولة القومية التي دافعت عن أساطيلها التجارية ببناء السفن الحربية، وانتهت أيضاً إلى حرب لا سابق لقسوتها وعنفها.
اليوم ثمة تغيرات هائلة على هذه المستويات، لا يسعنا معها اعتماد الجواب المتسرع الذي يتقنه المثقفون العرب عموماً: إنه عصر العولمة. إذ ينبغي مرة أخرى أن نحدد خصائص هذه العولمة وجديدها المسلح حتى أسنانه والذي لا قبل لنا برد غائلته.

عن الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .