السبت، 1 نوفمبر 2008

سامر القرنشاوي: قصة قصيرة

معركة "الفرح"!


كانت عقاربُ الساعة تُضيّقُ الخنِاقَ على منتصفِ الليل حينما أطبقَ أحدُهم على ذراعي. كنتُ واقفاً على حافةِ حلبةِ الرقص في فرح قاهري. أكرهُ هذه المناسبات، لكنني لم استطع التمُلصَ من الحضور. كانت القاعة ترتج على وقعِ أغنيةِ غبية: "قمرين دول و لا عينين"؛ المنطقُ يقولُ أن من عيناه في لونِ القمر هو بالضرورةِ كفيف، أيعقلُ أن يتسائلَ المحبُ إن كان المحبوبُ أعمىً أم لا؟ على أيةِ حال، و بغضِ النظرِ عن المنطق، كان العريسُ (ذو قرابتي) يتصببُ عرقاً هو وعروسُه بعد ساعاتِ من الرقص شاركهم فيها جمعُ لا بأسَ به من المتقافزين الذين كانوا أيضاً يتصببون عرقاً. لوهلة راودتني رغبةُ خبيثة في إلقاءِ بعض الفول السوداني و الموز إلى جمهورِ المتقافزين السعيد، في هذه اللحظةِ المشئومةِ بالذات أطبقَ أحدُهم على ذراعي.
سمعتُ من يحدثُني من خلفي: "إنتَ فلان قريبْ العريس؟" كان الصوتُ أُنثوياً حاداً، وحينما استَدرتُ لأبحثَ عن مصدرِه رأيتُ سيدةً مُسنة "شديدةَ التلون." كان واضحاً أنها قد تخطت السبعين مُنذُ زمن لكن كثافةَ الأصباغ و المساحيق التي غطت وجهها بينت رفضاً للاعترافِ بذلك أو بأنها اقربُ شبهاً بألوانها هذه بالببغاءِ منها ببني البشر. كانت محجبة، لكن محاولتها السافرة للموازنةِ بين التصابي والحشمة يصعبُ وصفها بالنجاح.
أجبتُها و أنا أسأل:"أيوه أنا فْلان قريب العريس، مين حضْرِتِك؟" عرفتَني بنفسِها ولامتني على نسيان اسمها وقد لاعبتني طفلاً فرددتُ ببرود موضحاً أن ذاكرتي مع الناس ضعيفةُ عموماً. رغبتُ في التخلصِ منها، فليس من سببِ يدعوني للحديثِ مع غريبِ متطفل، لكنها كانت أسمكَ جلداً و أبردَ دماً مما توقعت، بل إنها أخذتني على حينِ غُرة؛ "إسمع انا عندي ليك عروسة هايلة." لا اذكرُ أنني رأيتُ هذه السيدة قبل ذلك في حياتي، لم أبادِئُها بسلامٍ أو كلام وها هي ذي "تُسْوّقٌ" عندي فتاةً للزواج. قررتُ أن أُعذبَها، و لو قليلاً؛ "آسف ماسمعتش،" خاطبتُ مُحدْثّتي المُزعجة وانحنيت لأقتربَ منها، وهى الأقصرُ مني بكثير، فكررت جُملتَها مع إضافةٍ جديدة:"بقولك ليك عندي عروسة هايلة، عشان تفرح بابا و ماما بقى، مش حرام عليك تخليهم يستنوا كُل ده؟"
تخطيتُ الثلاثين ولم انوِ الزواجَ بعد، وهذه السيدةُ المتطفلة لم تكنْ على علمِ بذلك فحسب، بل كانت مهتمة بالأمر، وصيغةُ الاهتمامِ جائت تقليدية، بل ممضة ممجوجة تصاحبها اللامنطقيةُ المُعتادة. "الفرَّح" مرادفُ للعرس في العاميةِ المصرية، كأنما كل مصدر فرح آخر لا يستحقُ حتى ذِكره. حينما يتحدثُ مِصريُ غيرُ متزوج عن "تكوين نفسه" فأنه لا يعني سوى تهيئة "نفسه" للزواجِ مادياً؛ الاستعداد لإقامة "الفرح"وتكوين أسرة. لا "نفسَ" لك هُنا إلا ما يلّتحمُ بالآخرين أو ما هو في سبيلهِ للإلتحامِ بهم. أنت كفرد يسيرُ خطواته هو، لا خطى غيره، غيرُ مسموحٍ لك بالوجود. دورُك هو إعادةُ انتاج الحياة بغض النظر عن نوعيةِ هذه الحياة، بل بغضِ النظرِ عن كونها حياتُك أنت أم حياةُ غيرك، فمطلوبُ منك، وكما قالت صاحبتُنا اللزجة، أن تتزوجَ لتفُرح أهلك، استعدادُك أو رغبتُك أمران ثانويان. المنطقُ يقول أن زواجَك أمرُ أنت فيه الفاعل لكنك هنا مجرد مفعولٍ به! طبيعيُ إذاً أن كثيراً ممن اعرف و ممن هم في مثل سني إما يعيشون حيواتِ زوجية تعسة أو تم طلاقُهم بالفعل.
كنت أهيئُ في ذهني رداً حاداً لكن، وقبل أن تنقضي الثواني التي احتاجها ذلك، عاجلني الكائنُ الملون شبه المُحجب: "أنا عارفة انك مش مستعجل علي الجواز، بس دي بقى حتخليك تغير رأيك، تعالى معايا دلوقتي قابلها." "أقابل مين"؟" سألتُها باستنكار وقد قطبتُ حاجِبيَ ووضعتُ في وجهي كلَ ما استطعتُ من ازدراء. لم ترد، وبشكلٍ يكادُ يكونُ قد خرْجَ من فيلمٍ هزلي، أحكمت قبضَتها على ذراعي وبدأت بجري باتجاهِ الناحيةِ الأُخرى من حلبةِ الرقص. فكرتُ أن أسحبَ ذراعي بعنف ولكنني قدرتُ أن ذلك قد يؤذي تلك المسنة المزعجة. لم يكن هناك بدُ من التظاهرِ بالاستسلام.
دُرنا إلى الناحيةِ الأُخرى من "حلبةِ الرقص" (بدت في نظري ساعتها ساحة وغى لا مجرد حلبة وديعة!) حيثُ وقفت فتاةُ ممتلئة أميلُ إلى القِصر. أقولُ ممتلئة لأن ملابسها أبدت ذلك ولم تخفيه؛ كانت تتمايلُ مع الراقصين لكن بعضَ ما فيها كان يتمايلُ ... أكثر. وبينما كنتُ أُجرُّ إلى غايِتنا "قرأت" علي العجوز المُلونة قائمةً بأوصافِ الفتاة: جمالها، أخلاقها الرفيعة، أدبها الجم، حيائها الشديد ... الخ، السرعةُ التي كانت تتحدثُ بها أظهرت خبرةً بالأمر و دربة عليه، لا شك أنها كررت هذه القائمة عشرات المرات، المهمة كانت روتينية.
بقيت قبضةُ صاحبتي المزعجة محكمة على ذراعي، وحينما اقتربنا من الهدف، وبحركةٍ أخطبوطيةٍ مُذهلة، التفت حول الفتاة بذراعها الأُخرى جاذبةً إياها نحونا. "أهلاً يا حبيبتي" خاطبت العجوزُ الفتاة، "أهلاً يا طنط" ردت الفتاة وقبلتها، وهنا عاجلت السيدةُ-الببغاء هدفَها وعاجلتني فخاطبت الفتاة:"ده بقى ابن عم العريس، إيه رأيك بقى في ابن عم العريس؟" تُرى أكانت الفتاةُ الممتلئة تعلمُ أن العجوزَ الملونة "ستسحبُ" إليها عريساً محتملاً؟ أم أن الأمرَ كان وليدَ اللحظة؟ على أن ما دهمني لم يكن رغبة في الفهم قدر ما كان إحساساً بالمهانة؛ أيساقُ الناسُ إلى زواجهم هكذا؟ و من ذا الذي يفعل ذلك بي و بغيري؟
قبل أن تفتحَ الفتاةُ فمها، وكان الإحراجُ ربما قد ألجَمها، مددتُ يدي مصافحاً وعرفتُها بنفسي ثم بادرت كلاهما مخاطباً الفتاة: "المدام ..." (ثم قطعت كلامي متظاهراً) "معلهش آسف نسيت الاسم؟" فعرفتني العجوزُ بنفسِها مرةً ثالثة من وراءِ ابتسامةٍ صفراء مغتاظة، "المدام (فلانة) بتدورّلك على عريس، أكيد بتحبك زي بنتها، ربنا يوفقكوا." أبلست المتطفلةُ الملونة وسقط فوها مفتوحاً، أما الفتاة، التي قضى حظُها العاثر أن تصيبَها شظايا الموقف، فقد بقيت صامتة هي الأخرى. ساعتها فقط فكت العجوزُ الملُونة قبضتَها عن ذراعي. كانت عقاربُ الساعة قد فكت الخناقَ عن الثانية عشرة. أستأذنتُ منهما وأنا أتحرك، لم انتظرْ رداً، حثثتُ الخطا نحو باب القاعة وخرجت.

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
غير معرف يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
غير معرف يقول...

روعة يا سامر لقد استطعت الهروب بعبقرية من هذا الموقف.
أنا أعرف مضايقات عائلتنا في موضوع الزواج لمن لم يرتبطوا بعد لقد بدأ هذا معي أيضا على الرغم من إنني لم أحظَ بعمل بعد.
كان الله في عوننا من هذه العائلة و أبعدها عننا.
ملحوظة: صراحة لقد سعدت كثيرا من أسلوبك اللغوي إذ إنني قد وجدت لغتك العربية قوية و ممتعة و أتمنى أن أقرأ لك مرات و مرات.
ملحوظة لقد ضحكنا كثيرا عند قرائتنا لقصتك الطريفة فأنت تتمتع بأسلوب رائع و خفة دم معروفة.

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .