الأحد، 2 نوفمبر 2008

هنري كيسنجر: ماذا تعلمنا حرب فيتنام؟


دروس الكوارث




بالنسبة للولايات المتحدة؛ فإن حرب فيتنام، كانت كابوس النصف الثاني من القرن العشرين. فقد دخل الأميركيون الحرب المذكورة ممتلئين ثقة واطمئناناً، بعد عقد ونصف العقد من السياسة الخارجية الناجحة. وخرجوا من تلك الحرب منقسمين، كما لم ينقسموا منذ الحرب الاهلية الاميركية. ولذا فإن الكونغرس قطع المساعدات عن فيتنام بعد سنتين من انسحاب العسكر منها، كما ان آخر المغادرين الاميركيين للبلاد خرجوا من على سطح السفارة الاميركية بسايغون بواسطة طائرات الهليكوبتر. وما استطاعت رواية عن تلك الحرب ان تضارع العواطف والمشاعر الجياشة التي صاحبتها. أما القليلون ممن شاركوا في تلك الحرب وما يزالون أحياء فإنهم ما يزالون منقسمين بشأن المعنى والهدف. ثم ان القادة الاصغر سناً، ما أدركوا الدروس التي أراد الآباء اعطاءها، على النحو المرتقب. ولذا فإن كثيرين منهم إنما يسيرون في سياسات تشبه تلك التي غاص فيها اسلافهم.وما ملأت قراءة ماكجورج بوندي: "دروس في الكارثة" ذلك الفراغ. لكنها على أي حال تقص بدقة كيف تأمركت تلك الحرب في أعوام البداية (1961 ـ 1966)، عندما تولت الولايات المتحدة بالتدريج الدفاع عن فيتنام الجنوبية. لقد كان بوندي قوياً في تعبيره وفي حجته، وبدأ حياته أكاديمياً لامعاً حيث صار عميداً لمعهد العلوم السياسية بجامعة بوسطن وهو في سن الرابعة والثلاثين، وكنت وقتها أستاذاً بهارفرد المجاورة. في العام 1961 عين الرئيس كيندي ماكجورج بوندي وهو جمهوري، مستشاراً للأمن القومي. وعلى يد بوندي ظهر قوام ذلك المنصب في الحكومة الأميركية. كانت الجهات التي تقترح السياسات قد تكاثرت، وصارت مهمة بوندي التمييز بين الخيارات. لكن مذّاك، صار مستشار الامن القومي هو الذي يضع شتى الخيارات بين يدي الرئيس. وطوال خمس سنوات قام ماكجورج بوندي بمهام منصبه بكفاءة وفعالية. ويتضمن ذلك أزمة برلين، وأزمة الصواريخ الكوبية، واتفاقية حظر التجارب النووية. ثم ان قبضته ضعفت مع الضياع بشأن حرب فيتنام، التي صار هو الاداري المكلف بها عملياً. وجاء ديفيد هالبرستام ليستخدم ماكجورج بوندي وسلوكه ازاء الحرب "وهو الأكثر ذكاء وكفاءة" باعتباره ان الاذكياء من أمثاله هم الذين قادوا الولايات المتحدة الى الضياع. وصار كتاب هالبرستام هو النموذج لكل الدراسات المدنية لكل شيء. وما أجاب بوندي على أي نقد بشكل مباشر، واستقال من منصبه عام 1966، وما عاد بعدها لتولي أي منصب عام. لكنه في آخر حياته، وبمساعدة باحث من تلامذته، انصرف الى جمع الوقائع وتمييزها لكي يوضح لنفسه وللآخرين كيف اقتيدت أميركا من الأمل الى اليأس. بيد ان بوندي مات قبل ان يضع مسودات الكتاب. لكن من الوقائع والارشيفات المجموعة، ومن ملاحظات بوندي جمع الباحث المساعد غوردون غولدستاين كتاب: دروس من الكارثة. وهذا جهد خاص لغولدستاين، وما حظي بموافقة أسرة بوندي، لكنه يظل كتاباً ساحراً. لقد أدار بوندي بنجاح تلك السياسات التي أعادت بناء أوروبا القوية والمزدهرة. لكنه فشل في نقل تجارب الخبرة والنجاح الى جنوب شرق آسيا، مع اننا كسبنا في النهاية الحرب الباردة. وترجع الصعوبة الى ان منطقة جنوب شرق آسيا كانت تعرض مشكلة استراتيجية مختلفة. ففي أوروبا، ورغم اهوال الحرب الثانية، ووجود القوات السوفياتية على طول الحدود؛ فإن المؤسسات بقيت وتقوّت. وكانت المصاعب اقتصادية وعسكرية. وفي الاقتصاد تكفلت خطة مارشال، أما الخطر الآخر فقد تكفل به الناتو.وما كان شيء من ذلك موجوداً في فيتنام الجنوبية. فالخط بين الفيتناميين كان في الواقع أرضاً منزوعة السلاح وما اعترفت بها هانوي، وحاولت اختراقها بحرب العصابات مدمرة المؤسسات. وفي هذه الحرب وبدون جبهة، كان الاحتواء العسكري مختلفاً. في أوروبا كان التحدي في الحفاظ على وحدة الارض والدولة، اما في فيتنام فكانت المسألة شرعية السلطة. وقد كانت ادارة كيندي تعرف ذلك، لكنها ما توصلت الى طريقة ملائمة للتعبير عنه. وقد سلمت في الواقع بأن الدفاع او الاحتواء غير ممكن، واعتبرت انهيار حكومة فيتنام الجنوبية بمثابة القانون الطبيعي. بل انها أضافت لذلك رؤية فلسفية. فهي ما عادت تعتبر الجبهة هناك إحدى جبهات الحرب الباردة، بل اعتبرتها الجبهة الرئيسية. ومع ذلك فإن الحلف الاطلسي كان يعرف كيف يتعامل مع الحرب التقليدية، لكنه ما عرف كيف يتعامل مع حروب العصابات. ويقول غولدستاين في هذا الصدد انه كان على بوندي ان يدرك هذا التمييز، وان يحاول التصرف بحسبه. لكن على المرء أن يعرف ان الحكومات انما تدار بالعادة والعرف والمؤسسات وليس بتحدي الاعراف والمؤسسات. وقد مشى بوندي بهذه الطريقة، وأدى ذلك الى قرارات آنية تجريبية، حدّت كثيراً من قدرة الرئيس كنيدي على التصرف. ففي تشرين الثاني1961 يقول بوندي ـ بحسب غولدستاين ـ للرئيس كنيدي في مذكرة: سألتني قبل أيام على المسبح ماذا علينا أن نفعل، وأنا أجيبك بأنه علينا أن نرسل حوالي الفرقة الى داخل فيتنام. وهذه الفقرة مكتوبة دونما خطة، ودونما تحديد لهدف استراتيجي. ويشير غولدستاين بوضوح الى ان كنيدي كان ضد إرسال فرق عسكرية اميركية الى فيتنام. وكان ذلك تردداً من جانبه، وليس خياراً بين بدائل. وهكذا فقد كان الرئيس في الحقيقة ممزقاً بين اعتبار فيتنام خطراً على الأمن القومي، وبين الإحجام عن إرسال قوات مقاتلة كبيرة الى هناك باعتباره لا داعي له.وهذا الأمر كان يمكن تأجيله عام 1963، لكنه ما عاد ممكناً عام 1965 عندما صارت فيتنام الجنوبية على شفير السقوط. والواقع ان قرار جونسون بإرسال القوات كان قد جرى التمهيد له في الاسابيع الاخيرة من حياة كنيدي. ففي نهاية أسبوع ما كان فيها كنيدي ولا بوندي بواشنطن، أرسل مساعد وزير الخارجية الأميركية وأحد الموظفين تعليمات الى السفير الاميركي بسايغون بصنع انقلاب سقط بنتيجته الرئيس نغوين دييم وأخوه، وتوالت الهزات العسكرية. ووسط الفوضى قررت هانوي ارسال وحدات عسكرية نظامية الى الجنوب. وقتل كنيدي بعد ثلاثة أسابيع على ذلك. وصار قرار ارسال القوات من مسؤولية جونسون. ويتتبع غولدستاين التأثيرات في القرار من جانب دين راسك ومكنمارا وبوندي، والذين ناصروا جميعاً زيادة عدد القوات الاميركية بفيتنام الجنوبية. ويعتقد غولدستاين انه مع نظرية الدومينو التي اعتنقها كنيدي، فإنه كان مستعداً لتقبل صيرورة كل جنوب شرق آسيا شيوعياً، دون إقدام على ارسال فرق عسكرية اميركية الى هناك. لكننا لا ندري هل يبقى ذلك صحيحاً، لو ان مستشاريه أجمعوا على ذلك، كما أجمعوا على جونسون.وعندما تذهب اميركا للحرب يكون عليها ان تحدد ماذا يعني بالنسبة لها النصر، وماذا ينبغي فعله للحصول عليه. أو من وجه آخر كيف تريد ان تنهي تدخلاً عسكرياً، وما هي الديبلوماسية الواجبة. وفي فيتنام قامت اميركا بارسال القوات من اجل الصدقية وهي تقصد التفاوض، ودون ان تحدد ماذا تعني بالتفاوض وأهدافه. وهدف الصدقية هذه يعبّر عنه تعبيراً صارخاً قول يذكره غولدستاين عن بوندي: انه لمن الافضل لأميركا ان تخسر بعد ان تكون قد ارسلت مئة ألف جندي، من ان تؤثر عدم التصدي لهانوي والعائق الآخر المدمر هو رفض رؤية جنوب شرق آسيا باعتبارها مسرحاً استراتيجياً واحداً. فقد كان ايزنهاور على حق عندما اعتبر ان الدفاع عن لاوس ضروري للدفاع عن فيتنام. ويقاوم هذا الامر بالقول لكنيدي: ان لاوس ما كانت لنا بعد العام 1954، بينما كانت فيتنام وما تزال لنا. وهذا التمييز غير الصحيح، أوصلنا الى ان يكون عندنا نصف مليون جندي بفيتنام للصيرورة الى تجميد الموقف، في الوقت الذي كانت هناك قواعد للمقاتلين الشيوعيين في كمبوديا، وتأتي الامدادات عبر لاوس.اما بشأن المفاوضات، فإن بوندي كان يرى انه عندما تفشل هانوي في السيطرة على جنوب فيتنام فستنفتح أبواب للمفاوضات معها. وهذه استراتيجية للجمود وعدم الحسم وليس للنصر. وهذا الجمود يعني الانتصار لحرب العصابات وتكتيكاتها. فالانتصار هو الذي يقود الى المفاوضات، وليس العكس، وهذا ما تعلمناه في ادارتنا (ادارة نيكسون) بعد تجارب مؤلمة. وليس بالوسع بالطبع هنا استخلاص دروس شاملة من مراجعة كتاب لكن يحسن ان نذكر بعض النقاط الاضافية.ـ عندما يجري الاقتراح على الرئيس الذهاب الى الحرب، فينبغي ان يزوّد بالرؤية الاستراتيجية الشاملة للموقف الذي تأسس عليه الاقتراح.ـ ان هدف الحرب هو الانتصار. اما الجمود على الجبهات فهو آخر الخيارات وليس هدفاً استراتيجياً مرغوباً.ـ والنصر ينبغي ان يتحدد ضمن وقت معين، وليس في أفق مفتوح، رعاية للرأي العام الاميركي ومدى احتماله.ـ وينبغي ان توضع امام الرئيس خارطة للخطوات الديبلوماسية الممكنة.ـ والديبلوماسية والاستراتيجية تشكلان حلاً شاملاً، وليس أجزاء متعاقبة.ـ والسلطة وراء الديبلوماسية والاستراتيجية ينبغي ان تكون محددة.ـ وينبغي ان يمارس الذين في الادارة وفي المعارضة نقاشاتهم بحرص وحذر باعتبار بلادنا أمل العالم ومستقبله.هل كان على بوندي ان يرى ذلك كله مبكراً، نعم، لقد كان عليه ان يرى حدود استعمال القوة، كما ظهر من النقاشات قبل خمسة عشر عاماً بين ترومان ومكارثي. وقد استعمل الاداريون الاميركيون ذلك بنجاح في مطلع الستينات وفي موضوع فيتنام بالذات. ثم افتقرنا الى الرؤية والمتابعة.


هيرالد تريبيون

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .