السبت، 1 نوفمبر 2008

تهاني سنديان: في مبتدأ علمنة الدولة وتصلب مسارها

حقوق الدول والوجدان الشخصي


قصة علمنة الدولة في أوروبا بدأت منذ القرن السادس عشر، حيث قبل ذلك، وبعيد انتشار المسيحية، وتمكنها من روما، وخلال عشرة قرون على الأقل، كانت الدولة عموماً دولة طائفية، ولم تكن الكاثوليكية هي دين الدولة فحسب، تستأثر كنيستها بحق الوجود لذاته فقط، ولكن الحاكم نفسه كانت سلطته منبثقة من سلطة الله، فكانت مهمته، بالإضافة إلى رعاية مصالح سلطته، تنشيط الدين وحمايته، فترمي أوامره إلى التقيد بأحكام الكنيسة وقوانينها، ويسهر على مكافحة كل خروج على تلك التعاليم الكنسية، وعلى القضاء على الهرطقات التي كانت تعتبر جريمة، ليس بحق الكنيسة فقط، بل أيضاً بحق الدولة.. ولكن ابتداء من الحركة الإصلاحية، ولاسيما، في النصف الثاني من القرن السادس عشر، أخذت الانقسامات الدينية تمزق النظام القديم، وراح الحكام من جهة ينعتقون من سيطرة الكنيسة على سياسة بلدانهم، ويعملون على الحد من مداخلاتها في الشؤون الزمنية، ويعلنون استقلاليتهم عنها، لا بل يدخلون التشريعات المدنية. ومن جهة أخرى ظهرت نظرية معاكسة للنظرية القديمة السائدة ألا وهي نظرية الفكر الحر التي تعكس استقلال العقل البشري عن مصدر الوحي وسيادة الله.

وبوجه هذا التهديد المزدوج، حاولت الكنيسة الوقوف بصلابة طوال قرنين إلى أن هبت ريح الثورات الغربية، ولاسيما الثورة الفرنسية التي كنست النظام القديم، وفتحت الباب وسيعاً أمام نظام جديد يعتمد العلمانية على الأسس التالية: 1 - لا طائفية الدولة، 2 - علمنة المؤسسات العامة، 3 - الفصل بين الدولة والكنائس.

كانت لا طائفية الدولة، من حيث التسلسل الزمني، أول مسألة طرحت إثر انتشار البروتستانتية الذي أدى إلى قيام كنائس تعارض الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وتطالب بحريتها قبلها.

فالتسامح الديني كان يبدو مرفوضاً، ليس عند الكاثوليك فقط، بل أيضاً عند الرؤساء الإصلاحيين الذين أخذوا عن الكاثوليك نظريتهم القائلة بأنه يتوجب على المسؤول أن يقتص من الهراطقة، وأن يبقي اتباعه على الخلاص والحقيقة الدينية.

إلا أنه عندما تكاثرت الكتل المنشقة، وتنظمت وقويت، وراحت تعلن حقها في الوجود، وفي حرية العبادة، كان يترتب على الدولة التي ترغب في تلافي التمزق أن تمارس بعض التسامح، وأن تحافظ على وحدة بلادها، وتحترم حرية الضمير، كان عليها أن توفر للأقليات وضعاً مقبولاً. ولعل قانون نانت (الفرنسي) الذي صدر سنة 1598 هو أكبر أنموذج لهذا النوع من التنازلات.

وابتداء من هذا التاريخ فقط راحت الدولة تعلن أن وحدة الأمة ترتكز على أساس غير أساسي وحدة الإيمان. وكان على الأمراء أن يتخلوا عن إدخال الانتماء الديني كعنصر أساسي في معاملتهم أتباعهم، وأن يتخلوا عن اعتبار الهرطوقي دينياً، عدواً للدولة، وراح الأفراد يحتفظون بحقهم في تحديد مبادئ عملهم السياسي بمعزل عن توجيهات الكنيسة، ويستوحون مصلحة الدولة سواء في توجيه الشؤون الداخلية أم تحديد علاقاتهم الخارجية، وبمعنى آخر أخذت الدولة. تتعلمن شيئاً فشيئاً، وتعي وضعها الجديد تدريجياً.

وإذا كان التحول قد سار بطيئاً في الدول الكاثوليكية، إلا أنه كان سريعاً في الدول البروتستانتية، إذ شهد القرن السابع عشر التسليم في انكلترا، والمناطق المتحدة، بالمبدأ القائل إن مصلحة الدولة تقتضي تسامحاً بلا حدود تقريباً تجاه النحل والطوائف، بما فيها الكنيسة الكاثوليكية التي كانت ترفض المعاملة بالمثل، وأن حقوق الدول تقف عند حدود الوجدان الشخصي، نظراً لكون الإنسان بطبيعته يملك قدرة الحرية على الاختيار في الحقول الفلسفية والدينية.

وعندما اندلعت الثورة الفرنسية، كان التسامح مقبولاً لدى الفرنسيين، على رغم بعض التردد الناجم عن التقاليد، ويعتبر إعلان حقوق الانسان والمواطن الذي تبناه ممثلو الشعب الفرنسي من دون جدال، وطرحوه على العالم أجمع، يعتبر مرحلة حاسمة في مضمار التسامح، إذ يعلن في مادته العاشرة بعد تأكيد قدسية مبدأي المساواة والحرية، «أنه لا يجوز أن يضايق أحد احدا بسبب آرائه حتى الدينية منها»، ثم يعلن في مادته الحادية عشرة «حرية التعبير والدعاية كأحد أغلى ممتلكات الإنسان».

وقد أثار مبدأ الحرية هذا، كما أثارت تطبيقاته، ردات فعل قوية من قبل البابا بيوس السادس، كانت أبرزها وثيقتان متعاقبتان، الأولى خطابه في مجمع كرادلة عقد في مارس(آذار) 1790. والثانية منشور وجّهة إلى أساقفة الجمعية التأسيسية في مارس 1791، أدان فيهما المبادئ التي قال إنها «ستبيد الدين الكاثوليكي ومعه الطاعة المفروضة للملوك».

إلا أنه، وعلى رغم إعلان الثورة الفرنسية، وما تبعها من تغييرات جذرية في المجتمع الفرنسي وتقليص دور الكنيسة وتنظيم دور العقل والطبيعة على حساب دور الوحي والإيمان، فإن العلاقة لم تنقطع كلياً بين الكنيسة والدولة المنبثقة عن الثورة، كما يبدو من عرض القنصل الأول بونابرت على الكرسي الرسولي تسوية خلافاتهما على أساس احترام الواقع الديني. وهكذا وقّع البابا بيوس السابع معه المعاهدة بتاريخ 16/7/1801 مسلماً بالأمر الواقع والقاضي بلا طائفية الدولة.

أما الخطوة الثانية على درب علمنة المجتمعات الأوروبية، فكانت قرارات الدول بجعل التشريع المدني مستقلاً عن قواعد الحق الكنسي، وبنزع المؤسسات العامة من أيدي الاكليروس.

وكانت الخطوة الثالثة والأخيرة على طريق العلمنة والفصل التام بين الدولة والكنيسة، وتم ذلك بإعلان علمانية الدولة في الدساتير، كما جرى في الدستور الأميركي، مع الإشارة إلى أن الولايات المتحدة لم تعان من سيطرة الكنيسة كما كان الأمر في أوروبا، وقد اتخذ الفصل أوضح أشكاله وأكملها عندما صدق البرلمان الفرنسي على قانون 1905. وقد وصف فرديناند بويسون هذا الحدث بما يلي: «إنه العاقبة الطبيعية، إنه تكليل تاريخنا بأجمعه، إنه آخر فصول العلمنة وأكثرها ضرورة وأبسطها وأعدلها، وحسب اعتقادي أنه أسهلها».

عن جريدة أوان

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .