السبت، 20 ديسمبر 2008

بشارة شربل: دخول التاريخ انحرافاً

ثقافة الأحذية
يمكن للحذاء الطائر الذي أُلقي في وجه الرئيس بوش أن يعتبر جزءاً من «المقاومة» العراقية ضد الاحتلال الأميركي، أو تعبيراً عن «ثقافة المُمانعة» ضد الأجنبي، لا مانع في ذلك ما دامت الحرب تقوم أصلا بالاجتياح والتفجير والقتل والدم، لكن المشكلة تكمن في وسيلة التعبير المُفترض ان يلجأ إليها الصحافي وما تفترضه المهنة من استخدام للقلم أو الصورة وأساسهما الفكرة.
على أي حال لم تكن المهنة عبر تاريخها منزّهة عن الأغراض او صافية يدخلها فقط أصحاب الحرفة والرأي الحر، لكن القذارات فيها كانت محصورة قبل انفجار عصر الاتصالات وانتشار الفضائيات وتنطّح رجال الأعمال الى امتلاك وسائل تهدف الى غايات ضيقة ومصالح شخصية، وتنأى عن مفهوم العمل الاعلامي المؤسَّس على حق الاطلاع والمعرفة، فتجمع تحت رايتها كل من هبّ ودبّ من العاطلين او انصاف الأميّين او الموتورين.
«منتظر الزيدي» الذي ألقى حذاءه نحو رئيس أقوى دولة في العالم هو من عالم خارج الصحافة، ربما أتى من «حزب القائد» أو من عصبية الطائفة او من مدارس «الاجهزة المخابراتية»، أو من «النضال الأممي» ضد العولمة، لكنه قطعاً لا يمتّ بصلة الى «الرأي والرأي الآخر»، ولا علاقة له بثقافة الحياة والحوار، فضلاً عن انه ينقض الحكمة المأثورة «لكل مقام مقال»، ويتفق مع القول بأن «الإناء ينضح بما فيه».
ليس «منتظر» اول صحافي يقدم أهدافه السياسية وقناعاته الشخصية على موجبات عمله، ففي عالمنا العربي صحافيون كثر إن لم يستخدموا الحذاء فإنهم يستخدمون لغة «نعلية» موصوفة، ولعل أبرزهم الصحافيون الأبواق العاملون لدى الانظمة والاجهزة، والذين يشنون الحملات على أفراد او أطراف او دول لمجرد ان ولي نعمتهم غضب او أمر أو تمنّى، وهم في شططهم المهني لا يراعون قيماً ولا اخلاقاً ولا يحسبون الحساب لانقلاب المواقف واضطرارهم الى الكتابة في اتجاه معاكس، والحملة بين القاهرة وطهران احد الأمثلة الكثيرة.
الصحافيون ليسوا وحدهم في محنة المواءمة مع قواعد المهنة، المحامون ايضاً الذين يفرض عليهم قسمهم الشهادة للحق يذهب بعضهم بعيداً في الدفاع عن الدكتاتوريات وتبرير الارهاب والتكسب على الأبواب، فتراهم يتجمعون للدفاع عن مرتكب «شعبوي» او عن نظام مجرم او عن قوى سياسية وعسكرية تناقض مبدأ الدولة التي تسمح بقيام مؤسسات تحفظ الحقوق، فلا عجب لو رأينا «اتحاد المحامين العرب» يصدح بالدفاع عمن يقمعون الحريات، و«اتحاد الصحافيين العرب» لا يجرؤ على المطالبة باطلاق صاحب رأي من سجن عربي، و «مفكرون عرب» يفكرون كالمتظاهرين في شوارع بغداد لتمجيد فعلة الحذاء.
بالطبع لا يمكن حصر محنة المهنة في الصحافيين والمحامين، لكنها تبرز لديهم بشكل فجّ كونهم في واجهة المؤتمنين على الرأي العام وضمان حقوق الناس.
يدفعنا سلوك «منتظر الزيدي»، الى ان نطرح عليه سؤالا: هل كنت تجرأت على إلقاء حذائك في وجه دكتاتور او نظام قمعي؟» من يجرؤ من الصحافيين على رمي مسؤول في دول العالم الثالث بوردة؟
تذكر الزيدي من عهد صدام تلك النعال التي انهالت على التمثال. لم يتذكر بالتأكيد ان صحافيين استشهدوا في عهده دفاعا عن الحرية والديمقراطية، لكنه عرف حتما ان باستطاعة صحافي استغلال الديمقراطية لرمي رئيس بالحذاء.
هذا منتظر الزيدي يسم آخر زيارة لجورج بوش الى العراق، انه وداع ملفت ومثير لانقسام الصحافيين والسياسيين والمواطنين على امتداد العالم العربي، وربما على امتداد العالم، فثقافة الالغاء والاهانة وعدم المحاججة تخاطب الروح البدائية في الانسان، لكن هذا الوداع ليس أكثر من لقطة صحافية مثيرة تدخل التاريخ الاعلامي من باب الانحراف وتسجل هبوط بعض الصحافيين والمحامين والمفكرين لغةً وسلوكاً الى مرتبة...


الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .