الأربعاء، 10 ديسمبر 2008

ياسين الحاج صالح: ضد ادراج حقوق الانسان في اجندة السياسات الدولية

افساد متبادل
قد يبدو أن إدراج مسائل حقوق الإنسان في العلاقات بين الدول يمثل تقدما أخلاقيا مهما وخطوة نحو أنسنة النظام الدولي. سنناقش هنا ضد هذه الفكرة، وندعو إلى فصل قضايا حقوق الإنسان عن السياسة والعلاقات الدولية. ليس فقط لأن من المحتمل أن يجري التلاعب بمبادئ حقوق الإنسان وتوسلها في الصراعات بين الدول والكتل الدولية التي تدور حول المصالح والموارد وتتحكم بها موازين القوى، ولكن كذلك لأن من شأن ذلك التوظيف أن يمس باستقلال السياسة وعقلانيتها، فيحد من فرص التوافق السياسي بين اللاعبين الدوليين. المسألة لا ترتد إلى احتمال تسييس حقوق الإنسان والتلاعب بها، بل تتخطاه إلى تخريب السياسة بإضفاء طابع حقوقي وأخلاقي عليها.كانت إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر (1977-1980) أول إدارة أميركية تدرج حقوق الإنسان في صراعها مع المعسكر الشرقي أيام الحرب الباردة. ومنذ ذلك الحين استقرت الفكرة بندا في الأجندة الأميركية للعلاقات الدولية. وعند نهاية الحرب الباردة بنصر غربي مؤزر انضم لها الأوربيون. ومنذ ثمانينات القرن العشرين صارت الفكرة حاضرة في كل مكان كأحد معايير النقد السياسي. العالم العربي ليس استثناء من هذا الوضع. لكن جيلا كاملا انقضى على دخول فكرة حقوق الإنسان التداول السياسي والقانوني الدولي دون أن يظهر ما يفيد ارتفاعا في السوية الأخلاقية للعلاقات بين الدول، ولا بالخصوص في اتساق هذه السياسات. لقد بدا دوما أن الدول التي يجري التركيز على انتهاكها لحقوق مواطنيها هي الدول التي تعاني علاقاتها مع المراكز الغربية من التدهور لسبب ما. والشكوى من تبعية معايير القوى الغربية في الحكم على سياسات الدول لمصالحها الأنانية مسوغة تماما رغم صدورها في الغالب عن نظم استبدادية تتعدى بالفعل على حقوق مواطنيها. ولطالما ارتبط إدراج الكتلة الغربية لمبدأ حقوق الإنسان في سياستها حيال هذا البلد أو ذاك بالتحالفات والخصومات والمصالح السياسية وليس بوضع حقوق الإنسان في البلد المعني، دون أن يكون ثمة استثناء واحد مقنع لهذه القاعدة. ولطالما استطاع من يشاء أن يفضح بسهولة تامة، وإن بنفاق، ازدواجية معايير الغرب حيال إسرائيل وبلدان عربية. بل تفاوت التركيز حول الدول العربية ذاتها وفقا لاعتبارات سياسية تتصل بقربها وبعدها من القوى المقررة في المركز الغربي ذاته. قد يبدو هذا كله عقلانيا رغم ذلك من وجهة نظر القوى الغربية المعنية التي تعتبر أن مبادئ حقوق الإنسان تنبع من هويتها وثقافتها بالذات. لكن 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وما بعده أظهر أن الحقوق السياسية والمدنية لمواطني الغرب، الولايات المتحدة بخاصة، ليست بمنأى عن الافتئات والتلاعب على مذبح الأمن القومي، بما يذكر ببلدان عربية وعالم ثالثية كثيرة. ونضرب صفحا في هذا المقام عن مسألة ما إذا كان يمكن لأية سياسات قومية أن تكون عقلانية في عالم مختلط وما بعد قومي. درس 11 أيلول 2001 ذاته أقرب إلى إجابة بالنفي عن هذه المسألة.
ما نريد ترتيبه على ما سبق هو أن القوى المعنية استخدمت بند حقوق الإنسان استخداما أداتيا توجهه مصالحها القومية الضيقة، وهي كانت مستعدة للتخلي عنه دونما وساوس كبيرة حتى داخل بلدانها، إذا اقتضت المصالح تلك. لكن هذا كله نصف الحكاية فحسب. النصف الآخر ولعله الأهم يتمثل في أن إقحام قضايا فوق سياسية في السياسة يفسدها ويجعلها أدنى قدرة على تعهد التسويات والحلول الوسط، وأقدر بالمقابل على صنع الصراعات «الوجودية» وحروب الإلغاء وشتى التنويعات الجهادية. لا يقل الأثر المفسد لصبغ السياسة بصبغة حقوقية عن إلحاق السياسة بالأخلاق أو بالدين أو بالحضارة أو الإيديولوجية. فمثل ذلك لا ينال فقط من عقلانية السياسة مفهومةً كتوافق على قواعد لعب مشتركة بين فرقاء مختلفين، وإنما هو كذلك يضعف إمكانية تطوير مفهوم عالمي أو لغة عالمية للسياسة. فالأديان والحضارات والعقائد والإيديولوجيات تختلف نوعيا، وتاليا يقود ربط السياسي بها إلى تعسير التفاوض والتوافق العالمي، وإلى الاعتباط الذي تكرس في أفضل صورة في السنوات الأخيرة في مبدأ «الضربات الاستباقية» الذي أقرته استراتيجية الأمن القومى الأميركية عام 2002. ومثل ذلك يصح على فكرة حقوق الإنسان التي يشير مجرد توسلها في السياسة الدولية إلى اعتبارها رصيدا ذاتيا، أوثق ارتباطا بهوية وثقافة الدول المتوسلة لها منها بمطمح عالمي يمكن التيقن بصورة مستقلة من سداده واتساقه. فكيف إن أخذنا بالاعتبار أن توسل حقوق الإنسان في السياسة اقترن مع الانتصار الغربي في الحرب الباردة ومع ارتفاع أصوات تؤكد أن الحرية والإنسانية قيم غربية خالصة؟ هنتنغتون، أبو «صراع الحضارات»، هو من يقول إن الحرية عنصر في الهوية الأميركية قبل أن تكون بندا في السياسة الأميركية. فهل ينبغي أن يثير تفكيرنا صعود فكرة حقوق الإنسان في المجال الدولي مع موجة الصعود الغربي الأخيرة التي دامت جيلا، ولعلها في سبيل الانتهاء اليوم بفعل مقاومات وأزمات متنوعة؟ ليس كثيرا. فلطالما صعدت أفكار وقيم القوى الصاعدة، إن دوليا أو في كل مجتمع على حدة. لكن ما يمكن استخلاصه من ذلك أن صعود فكرة حقوق الإنسان ليس تعبيرا عن ضرب من العالمية السياسية أو أنسنة السياسة، بقدر ما هو مؤشر على صعود كتلة دولية خاصة، تضع نصب عينها استملاك السياسة والعالمية معا تحت راية فكرة الإنسان المجردة. وفي اقتران صعود الأفكار بصعود القوى الحاملة لها ما من شأنه حل المفارقة المتمثلة في الاستحواذ الثقافي الغربي على مبدأ حقوق الإنسان والتطلع إلى تعميمها عالميا في الوقت نفسه. وفيه أيضا ما يفسر قصر حقوق الإنسان على الجيل الأول (المدني) منها، أي عمليا العودة إلى القرن الثامن عشر الليبرالي من وراء ظهر القرن التاسع عشر الديموقراطي والقرن العشرين الاشتراكي، حسب تحقيب ت.هـ.مارشال.
والخلاصة العملية لهذا المقال تدعو إلى الفصل بين قضية حقوق الإنسان والعلاقات بين الدول، لمصلحة السياسة وحقوق الإنسان معا. فكلما كانت السياسة مستقلة كانت أكثر قابلية للإصلاح وأنسب لبناء تفاهمات عالمية عريضة. وكلما كانت حقوق الإنسان مستقلة، فكريا وسياسيا ومؤسسيا، عن أجندات الدول كانت أقرب إلى تشكيل مرجعية أخلاقية عالمية أو رعاية تكون ضمير عالمي مستقل.

عن الحياة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .