الأربعاء، 10 ديسمبر 2008

تريسترام هانت: بريطانيا في حقبة ما بعد اميركا

رثاء اميركا


يراودك, وانت تتجول في مدينة لوس انجلوس الامريكية, شعور بأنك تسير في اجواء روما القرن الرابع قبل الميلاد, او البندقية في اواخر مجدها القروسطي الذهبي, او لندن بعيد الحرب العالمية الثانية. فلوس انجلوس مدينة عابقة بأجواء الامبراطورية, ومن الواضح جدا انها في حالة انهيار.

لا يتعلق الامر بالسخام الخانق وحده, ولا في الغيتوات التي يسودها العنف, ولا في جحافل المشردين, لكنه الاحساس بالنهاية, بأن عصر هذه المدينة قد فات. وبوسع المرء ان يتصور امواج المحيط الهاديء تغمر بعد مئة عام حجارة سانتا مونيكا, والرمل يسقى من خلال ناطحات السحاب واستديوهات السينما الضخمة وقد تحولت الى تذكار من تذكارات القرن العشرين.

جاء تقرير مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي الاسبوع الماضي ليؤكد المخاوف التي بدأت تدب بشأن اقتراب نهاية العصر الامريكي الذي اختتم بغزو العراق الذي شكل الفصل الختامي من الهيمنة الامبريالية. وكما تنبأ خبراء الأمن في البنتاغون, فإن الاقتصادات الصاعدة لما يسمى بدول بريك, وهي اختصار اسماء البرازيل وروسيا, والهند والصين, قد بدأت بتنشيط عضلاتها السياسية والعسكرية وها هو الدولار يهوي عن موقع الصدارة المالية, وفي وقت اخذت فيه بوليوود ونوليوود (صناعة الافلام في الهند ونيجيريا) بتحدي مكانة هوليود الثقافية والفنية وفي العقود القادمة لن تظل العولمة مرادفة لكلمة الامركة.

ولكن ماذا عن بريطانيا, التابع المخلص للامبراطورية الامريكية المستعد ابدا لتقديم مهر الدم لتلك العلاقة الخاصة? اذ لا شك ان انهيار مكانة امريكا سوف يضعنا امام اختبار صعب.

لقد استفدنا كثيرا من اللوذ بعباءة الهيمنة الامريكية طوال القرن العشرين. فقد ساعدت روابط الثقافة والدين واللغة والايديولوجيا في ان تضمن لبريطانيا انقاذا ماليا في فترة ما بعد الحرب, ورادعا نوويا, واستمرارا في القدرة على تسديد الكلمات لغرماء فوق اوزاننا على المسرح العالمي, وبفضل الولايات المتحدة كانت فترة نهاية الاستعمار اخف وطأة علينا من تجارب مماثلة عاشتها امبراطوريات اخرى مثل الامبراطورية العثمانية والامبراطورية السوييتية.

لكن الارتباط بالولايات المتحدة لم يخل من بعض وجوه الاذلال. فالانحدار من عهد العم هارولد ماكميلان, رئيس الوزراء البريطاني الناصح لجون كنيدي, الى عهد اللصيق توني بلير يصلح لأن يكون حالة دراسية في تغير علاقات النفوذ. لقد تواطأنا في عمليات نهب وسلب امبريالية كان ينبغي ان لا ننخرط فيها, لكننا حصلنا, بالمقابل, على حماية لظهورنا كما حدث في فوكلاند. وعلينا, في النهاية, ان لا ننسى ان الزعامة الامريكية العالمية كانت في العديد من الحالات الى جانب تقدم البشرية.

لكننا سنغرق مع السفينة الامريكية, وسيكون علينا ان نتحسب للكثير. فموقعنا في مجلس الامن لم يعد له من يضمنه سوى كفاءة وتميز القوات المسلحة البريطانية وهو موقع قد ينتقل الى الاتحاد الاوروبي. وينطبق الشيء نفسه على موقعنا في البنك الدولي وصندوق النقد العالمي وغيرهما من المؤسسات الدولية التي سيكون عليها ان تعكس حقائق الوضع الجديد متعدد الأقطاب لكن التحول الأهم هو ما سيحدث في الداخل.

فمن خلال تدريسي للطلاب في الجانب الشرقي من لندن استطيع ان المس قسطا من التفهم العالمي يفوق ما كان لدى ابناء جيلي. فالطلاب الذين ينحدر الكثير منهم من اسر مختلطة الاعراق والاجناس لم يعودوا ينظرون الى العالم من زاوية اطلسي. فهم, بحكم علاقات القربى التي تربطهم بجنوب آسيا, او امريكا اللاتينية, او الشرق الاقصى, باتوا منجذبين الى الصور الاعلامية لمومباي, وفنون وعمارة المدن العملاقة الجديدة في الصين, وثقافة الشارع في ريودي جانيرو, ورخاء الخليج العربي.

لا شك ان الجامعات الامريكية, وسواحل ميامي بيتش, وجبال الروكي ما تزال تحتفظ بسحرها النفاذ. لكن هؤلاء الشباب العشرينيين الذين ادركوا الوعي في سنوات حكم جورج بوش لا يملكون السبب الكافي لحملهم على النظر الى امريكا بصفتها امل الانسانية الافضل والاخير, وبالتالي, فإن نهاية هيمنتها لن تكون بالنسبة لهم مصدر غم او قلق.

والواقع انها لا ينبغي ان تكون كذلك, فبريطانيا في وضع يمكنها الاستفادة من تسويات ما - بعد - امريكا على النطاق العالمي. لأن تاريخنا هو تاريخ عولمي عرف في اواخر القرن الثامن عشر والفترة الواقعة ما بين 1870 و 1914 ازمنة تميزت بتدفق التجارة والتبادل الثقافي عبر العالم.

ونحن امة تجارية بصرها مشدود بالخارج وعلينا اليوم ان نعيد اكتشاف ذلك الماضي متعدد الوجوه. وهذا هو السبب الذي يجعل من المتوقع لمؤسساتنا ذات الامتدادات العالمية المؤثرة مثل هيئة الاذاعة البريطانية, والمجلس البريطاني, والكومنولث, ورابطة كرة القدم ان تلعب دوراً متزايد الاهمية في الحقبة القادمة التي ستشهد المزيد من المساواة الدولية والصراع على القوة الناعمة.

ان من سوء حظ الرئيس الامريكي المنتخب باراك اوباما ان يشهد تفكك الامبراطورية الامريكية على يديه. ولسوف يحتاج الى كل رصيده من العبقرية البلاغية ومرونته السياسية كي ينقل هذه الحقيقة الى الشعب الامريكي. لكننا, نحن ايضا سنحتاج الى ان تبدأ عملية اعادة تعريف موقعنا في العالم, ولعل الامر سيكون اسهل علينا لاننا قد مررنا بتجربة فقدان الامبراطورية من قبل
.
استاذ التاريخ في جامعة لندن

ICAWS

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .