الاثنين، 15 ديسمبر 2008

بلال خبيز: اندراج مرن في ماكينة سلطات غائبة

ليست الفردية إلا يوتوبيا الحداثات
يجدر بي ان اوافق الصديق ياسين الحاج صالح على تبرمه من السياسة. فأنا ايضاً اعيش في بلد تكاد سياساته تعصى على الفهم. بل هي تسير ضد المنطق نفسه. وحيث ان المثقف، او المشتغل في الثقافة، يستند إلى المنطق في قياس صحة افكاره وصلاحيتها، فإن الحديث في السياسة المحلية يصبح والحال هذه ضرباً من الاستشراق المقلوب. لكنني وقبل ان اجازف بالموافقة على مثل هذا التبرم، والالتفات نحو تعميق الابداع الثقافي بوصفه الصانع السحري للأفراد في مجتمعاتنا "العربية". ارى من لزوم ما يلزم، ان اشير إلى صعوبة تحديد الحقل الثقافي الذي يجب على المثقفين العمل فيه بحسب ياسين الحاج صالح، وإن كان صالح بشير يجتهد في تحديده على نحو ما، فإن هذا التحديد بالضبط يحتاج إلى مناقشة مستفيضة.
بطبيعة الحال، احسب اننا نناقش جميعاً من موقع واحد. هو موقع المنتظم تحت سلطات الحداثات وقوانينها. واحسب ان المثقف في بلاد كبلادنا لا ملجأ له غير الانتظام تحت حد هذه السلطات، وهذا حديث آخر. لكن الانتظام تحت سلطان الحداثات والتزام قوانينها لا يجعلان من المثقف حكماً، صاحب اختصاص، بوصف الحداثات حضت على الدوام على التخصيص والاختصاص، وتقسيم العمل والأفكار والسياسات والحقول والأوقات. ذلك ان الاختصاص في مجتمعاتنا، كما يتراءى لي هو اندراج مرن في ماكينة سلطات غائبة. وحيث ان غياب السلطات هذه، وهي حكماً اشد سطوة من سلطان السياسيين في بلادنا، لا يتيح للمثقف المختص ان ينتج ويدرج انتاجه في دورة انتاج كبرى. تتحول الثقافة في بلادنا إلى ماكينة خجولة لصناعة الأفراد.
لكن هذا النجاح النظري في صناعة الأفراد لا يفرض علينا ان نقيم الدنيا ولا نقعدها في مديح هذا الدور الرائع والجليل. إذ نحتاج قبل ان نعلي صوت المديح، او نشخص الداء، على ما ذهبت ابحاث بعض الليبراليين العرب، بوصفه يتعين حكماً بإنتاج الفرديات الهزيل في مجتمعاتنا، ان نتفكر في تعريف الفردية مجدداً، حتى لا تختلط علينا الامور. ذلك ان الفردية كما اتاحتها الدول الحديثة الديموقراطية غير متعينة حكماً في اشخاص معينين. اي ان الفرد ما ان يعي نفسه فرداً حتى يصبح منضوياً في جماعة لها طقوسها واشاراتها ولغاتها وانضباطاتها الحاسمة. فالمجتمعات الديموقراطية الحديثة، تتيح للفرد ان يولد في ظل سلطان الدولة الجامعة، لكنه ما ان يعي انه فرد حقاً حتى يصبح داعية لفردية الأفراد. ذلك ان الفرد يكون فرداً قبل ان يشارك في تظاهرة مطلبية او سياسية. لكنه ما ان ينخرط في هذه السياقات الاجتماعية حتى يصبح عضواً في مجموعة ضغط. والحق ان الديموقراطيات الحديثة تتيح للمرء ان يكون فرداً إذا أراد ذلك. أي إذا قرر، حاذياً حذو سالنجر، ان لا يسفر عن وجهه لأي كان. او على الأقل ان لا يسفر عن بواطنه واسراره للسلطات المراقبة. فالفرد يخسر كل امتيازاته ما ان يصبح مشتبهاً به، على المستوى القانوني، او ما ان تنزع الدولة عنه حقوقه وتفرض عليه الانخراط في سلك من اسلاك الامن او الجيوش. في هذه الحال لا يعود المرء فرداً متمتعاً بحق على الدولة في ان تحمي حياته وترعى سلامته، بل يتحول إلى شهيد حي يفترض به ان يموت من اجل ان يسلم الأفراد. اما في حال الإشتباه القانوني فإن الفرد سرعان ما يتحول إلى كائن مكشوف ومن دون حماية من اي نوع، ويصبح وجهه معمماً فلا يعود قادراً على تحجيب وجهه على نحو ما فعل سالنجر. بهذا المعنى يجدر بنا ان نتذكر ما ذهب إليه لفيناس حين اعتبر اشهار الوجه، لا القناع، دعوة للقتل.
خلاصة القول ان تحقق الفردية في المجتمعات الديموقراطية الحديثة امر ممكن نظرياً، لكن التزام حدها الأقصى عيشاً وسعياً تقف دونه حوائل كثيرة. ابرزها ان المرء يحتاج أن يزاول عملاً وهذا يفرض عليه نوعاً من الاعتراف البوليسي كل يوم: لماذا تأخر 5 دقائق عن موعد عمله؟ وهل هو حقاً يعاني من الزكام ام انه يدعي ذلك للتهرب من مسؤولياته؟ وثانيها ان المرء في هذه المجتمعات يحتاج ايضاً ان يدخل في نطاق اجتماعي سرعان ما يؤسس له ملفاً اجتماعياً: هذا الرجل نشيط في العمل وميسور الحال، لكنه سكير. وذاك يفضل السمينات على النحيفات. والآخر متكتم على علاقاته الخاصة، إلى حد ان احداً لم ير غرفة نومه. وليس خافياً ان هذه التصنيفات والتعريفات بالغة الأهمية بالنسبة للبوليس ويعتبرها القضاء قرائن حاسمة. مما يعني ان إدخال المرء في مثل هذه التصنيفات الإجتماعية ينزع عنه كل فردية ويدرجه ضمن نطاق اجتماعي او فئة اجتماعية معينة. فكيف إذا كان منتمياً إلى جمعية ناشطة او حزباً سياسياً او ديانة مستهجنة؟ والحال فإن الفردية تتحقق في وقت المرء اللاإجتماعي. اي في ليله، حين ينام القانون ويتقلص السعي إلى حده الأدنى. لكن هذه الحوائل الكثيرة لا تعيق اعتبار الفردية امراً ممكن التحقق نظرياً في هذه المجتمعات.
والحال، ليست الفردية إلا يوتوبيا الحداثات. وهي كمثل كل اليوتوبيات هشة وقابلة للكسر كل لحظة. ذلك ان زلزالاً او فيضاناً يدمر كل عراها دفعة واحدة، ناهيك بالحروب والصراعات السياسية. ومسكة القول في هذا المجال، ان مجتمعاتنا التي نعيش فيها لا تتيح للفردية ان تتمتع بحق التحقق النظري. ومن نافل القول انها ترفض تحققها واقعاً، حتى لو حاز المرء كافة الشروط التي تتيح له تحقيقها. وحيث اننا جميعاً اعضاء في جماعات، وفي هذا المجال لا يختلف المؤمن بالإسلام او اليهودية عن الناشط في حقول البيئة مثلاً، من حيث ابتعاده كل البعد عن كل ما هو فردي، والهوس المرضي بالحشود الذي يتمثل بإلحاح هذا وذاك على اقناع العالم كله بصحة مذهبه في الصلاة والصيام، او في الامتناع عن اكل اقدام الدببة المهددة بالإنقراض او ركوب عربات الهامر المضرة بالمحيط، يصبح حلم الفردية في مجتمعاتنا اشبه بدعوة إلى التهريج بافتراض ان السبيل الوحيد لتحققها هو التفرد الظاهر، واعلاء شأن القناع وتمكينه من الوجه على نحو لا عودة عنه.
إذاً، ما السبيل الذي تتيحه لنا مجتمعاتنا لنحقق مثل هذه الفردية، وليس الفرادة قطعاً؟ ايكون انشغالاً بفصل السياسة عن الثقافة، تمهيداً لانفصال مرغوب عن هموم السلطات وحشودها؟ وكيف يتسنى لنا ذلك حقاً؟
احسب ان مثل هذا المطلب عسير جداً على التحقق بالنسبة لمثقف ينتمي إلى هذه المجتمعات. فأن يشتغل المرء في الثقافة والإبداع لهو امر مرغوب لكنه غير محدد. اي انه يجافي فكرة الاختصاص التي يتحدث عنها صالح بشير، ولا يتصل بها بأي خيط. وان اكون مختصاً في مجتمع لا مختبرات فيه، من اي نوع، سواء تلك المتعلقة بالعلوم الإنسانية او العلوم العلمية او التكنولوجية، يعني انني انشد نشيدي الخاص من دون اي مستمع على الإطلاق. وفي هذه الحال يتحول المعجبون إلى مشفقين ومتسامحين. إذ كيف يكون المنتج المثقف منتجاً إذا استثنى من ابحاثه وانتاجه ما يتصل بالسياسة ومترتباتها في هذه المجتمعات. لم يدع ياسين إلى هذا الفصل الحاد طبعاً. لكنني لمحت في دعوته وفي تعقيب صالح عليه، انه لا يريد ان يلغي الاهتمام بشؤون السياسة وشجونها، لكنه على الأرجح يريد ان يجعل مرجعه خارج نطاق سلطانها. وهذا لعمري اقتراح وجيه، لكنه ايضاً يحتاج إلى بعض تدقيق قد يكون مجاله اوسع في مرة مقبلة
.
نشر في موقع الاوان، والاستعادة هنا تبدو مستحسنة، ذلك ان المناقشات الدائرة اليوم حول حقوق الانسان والفردية والتغيير الديموقراطي لا تتجاوز الخطوط العامة التي حكمت كتابة هذا المقال

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .