الأربعاء، 10 ديسمبر 2008

يوسف بزي: لئلا تصيبنا العدوى

ضعفنا الذي لن نتخلى عنه
في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وبسبب خلافات داخلية، اشتعلت حرب شرسة داخل الحزب السوري القومي الاجتماعي. حرب بين «الرفقاء» موغلة في الدم والقتل. وتبادل جناحا الحزب المنقسم على نفسه عمليات التصفية الجسدية، التي استهدفت عدداً كبيراً من القياديين، المدنيين والعسكريين.واتصفت هذه الاغتيالات وعمليات الخطف المتبادلة بمواصفات حروب المافيا، الحقيقية منها والسينمائية. ومن وقائعها المشهورة ان يدخل القاتل الى دكان الحلاقة ويحيي الضحية الجالس على كرسي الحلاقة بالتحية المعهودة بينهما: «تحيا سوريا رفيق»، ثم يلاصقه واضعاً فوهة المسدس في خاصرة الرفيق مطلقاً الرصاصات القاتلة ببرودة أعصاب مذهلة. وفي واقعة أخرى ذهب القاتل الى الشاطئ راصداً «الرفيق» المستهدف مع زوجته وأطفاله، ثم اقترب منه، هو المتمدد على رمل الشاطئ، ثم واقفاً فوقه مطلقاً النار في الرأس والجسم.وأسوأ تلك «العمليات»، ما حدث في مكاتب مجلة «صباح الخير» التابعة للحزب القومي، حين دخلت مجموعة مسلحة من القوميين وقبضوا على رفيقهم القيادي توفيق الصفدي، المعطوب الساقين بسبب التعذيب في أقبية الكتائب العام 1976. أوسعوا توفيق الصفدي ضرباً عنيفاً متواصلاً وجرّوه على سلالم الطوابق الثلاثة من المكتب الى الشارع، ثم وضعوه في صندوق السيارة الخلفي. وفي أقبية الحزب في رأس بيروت ظلوا يمارسون التعذيب على جسده حتى فارق الحياة.في تلك الفترة لم يكن هذا النوع من العنف الدموي ـ الأخوي حكراً على الحزب السوري القومي الاجتماعي. ففي تلك السنوات تحديداً انفجر عنف مماثل في صفوف «القوات اللبنانية» وعلى نطاق واسع، كذلك حرب «أمل» والمنشقين عنها الذين سيصيرون حزب الله، وأيضاً في داخل حركة «فتح» بين «جماعة عرفات» وجماعة «أبو موسى» إلخ. وكل هذا بالتزامن مع حروب أخرى بين الحلفاء وما يسمى بـ «الصف الواحد»، عدا الحروب بين الاعداء التقليديين الذين لا عدّ لهم ولا حصر.وتأريخ الحرب الصعب قد لا يستطيع الالمام بكل حوادثها ولا يستطيع حصرها وتصنيفها لكثرة انفلاتها خارج كل معقولية. لكن العبرة منها كانت بحسب ما ظننا وآمنّا طوال سنوات ما بعد الحرب بأن الاحزاب والناس سوية لن يعودوا الى العنف وسيلة في السياسة. طالما ان استخدامه على ما علمنا وذقنا سرعان ما سينقلب عنفاً فالتاً من أي سياسة ويحول المجتمع الى جماعات مسلحة وميليشيات تتقاتل الى ما لا نهاية، وتطيح بالدولة وبأركان الحياة السوية.وهذه العبرة التي افترضناها عميمة شكلت ركيزة للغة الثقافية في لبنان. فنبذ العنف من القول والفعل والتفكير والعمل بات معياراً أخلاقياً، ومسطرة قياس للصواب والخطأ. وتبنى الخطاب الثقافي (والاعلامي) قيم التسامح وقبول الاختلاف والسلوك الديموقراطي والانحياز الى المدني والسلمي، أو على الاقل بات العنف اللفظي والجسدي لا يجد من يبرره علناً، أكان «ثورياً» أو «رجعياً»، «طائفياً» أو «علمانياً»... ومن تبدو عليه شبهة التبرير، أو شبهة التحريض كان يتلقى النبذ والادانة والاتهام المشين. أما في السياسة فكان دأب المشتغلين فيها تبرئة انفسهم من أي سلوك ميليشيوي أو نبرة عنفية، إما عن قناعة أو مسايرة لرأي عام متشكل حديثاً.وتجلى اللاعنف ثقافة وسياسة في الحركة السلمية المدنية المنطلقة منذ العام 2000 اعتراضاً على نظام الوصاية السورية ذي الطابع الاستخباراتي العنيف والمتسلط والفاسد. وبلغت ذروة الحركة السلمية في تظاهرات ربيع 2005، التاريخية بامتياز.وتبدى لنا ان «النضج المدني» والسلمي والديموقراطي بات كاملاً، ما يمنع التقهقر نحو العنف والفوضى، وان الاختلاف سيكون محكوماً بقواعد وأصول وأعراف الديموقراطية، بوصفها نظاماً وسلوكاً. وكان ذلك ظناً في غير محله، ففيما يشبه الصدمة، انبرى مثقفون وإعلاميون وكتبة في جرائد ومحطات تلفزة ومواقع انترنت، لتبرير الاغتيالات أو للاستخفاف بها، أو لتمويه دوافعها أو لتبرئة المتهمين بها. ثم في مرحلة لاحقة لجأوا الى التحريض على العنف، ومهدوا لأي اعتداء محتمل بالتخوين وبالعمالة وبالفساد وبكيل تهم أخلاقية شنيعة بحق كل من يخالفهم. ومنذ العام 2006 انتظمت صحف ومطبوعات ومحطات تلفزة ومواقع أنترنت في مناخ واحد يحرض ويعبئ على الشغب وحرق الدواليب وقطع الطرق ويدعو الى العمل المسلح والانقلاب على الدولة بالقوة.وفي الوقت نفسه استمر هذا الاعلام في التهجم على الشخصيات السياسية والدينية والثقافية بلغة «قاتلة» كان مثالها «زلة لسان» مذيعة على الهواء مباشرة علقت على حادث إغتيال: متى يأتي دور (الوزير) فتفت. عدا عن رصاص الابتهاج وتوزيع الحلوى عقب كل اغتيال.لن نسرد هنا التاريخ المرير لصراع الحركة المدنية السلمية (ثورة 14 آذار) مع تحالف 8 آذار، المليء بالعنف من جانب واحد إعلاماً ورصاصاً، قولاً وفعلاً. لكن السجل الحافل هذا توجته غزوة بيروت ايام 7 و8 و9 أيار 2008. فواكب الهجوم الميليشيوي على بيروت، هجوم مواز له عنفاً وحقداً في الاعلام المكتوب والمرئي والمسموع. ولم يتردد، «مثقفون» في الانخراط «رأياً» و«فكراً» في هذه الغزوة التي كانت من علاماتها البارزة حرق جريدة المستقبل وحرق اذاعة حزب الرامغافار وحرق مبنى ارشيف تلفزيون المستقبل، والسيطرة على تلفزيون اخبارية المستقبل ومنعه من البث، وتهديد الصحف والاذاعات والتلفزيونات الأخرى وملاحقة كتاب ومثقفين وصحافيين الى بيوتهم واجبارهم على اللجوء الى احياء بيروت الشرقية (ومنهم من هاجر من لبنان).وتميز اعلام 8 آذار بغياب روح التضامن المهني مع ما أصاب زملاءهم (نستثني افراداً قلائل اتسموا بالنبل والجرأة) وتولى الدفاع عن «الزعران» (بالمعنى الحرفي للكلمة) ثم ما بعد غزوة بيروت، وبروح «انتصارية» حيث لم يعد هناك حاجة للتمويه والمسايرة، اندفع هذا الاعلام، خصوصاً في تلفزيون المنار وجريدة الأخبار وموقع «فيلكا اسرائيل» ، بحملة ضد سينمائيين وفنانين وكتاب وصحافيين وناشطين في المجتمع المدني وشخصيات سياسية. حملة تشويه سمعة واتهامات بالعمالة وشتائم بذيئة، وبتحريض متواصل ضدهم يوازي الاغتيال المعنوي الذي يبعد شعره واحدة عن الاغتيال الجسدي.هذا كله ما جعل حادثة ضرب الصحافي عمر حرقوص، مناسبة لينفجر الغيظ والحنق لا على المعتدين انفسهم فحسب، ولا على حزبهم الموصوف تاريخياً بالعنيف فقط، بل على مسلسل كامل متصل الحلقات منذ سنوات يكاد يطيح بالسلم الأهلي تماما ويذهب بلبنان الى حرب اهلية جديدة، مسلسل من العنف ما عاد قادراً لمجتمع المدني على احتماله. ورد الفعل السياسي والاعلامي على حادثة الزميل حرقوص قد يبدو للبعض اكبر بكثير من الحادثة نفسها، ذلك لانه رد فعل على «مشروع» كامل بات على قاب قوسين من ان يتسيد على الحياة اليومية في بيروت. وهو مشروع ميليشيوي يهدد اللبنانيين علناً بأنه سيكرر فعلة 7 ايار متى شاء وأراد.ما بين ضرب الزميل عمر حرقوص وشتم وتخوين العشرات من زملائه ومن الكتاب والمثقفين، يبدو الارهاب بالعضلات وبالكلمات هو السياسة الوحيدة والثقافة الوحيدة التي يجيدها هذا الخصم، فالذي وجه اللكمات إلى وجه حرقوص كان يصرخ مستعملاً بالحرف كلمات كاتب بذيء في احدى جرائد 8 آذار.انها معركة اعلام يحاول قتل اعلام. اعلام يصوب الرصاص ويعين الأهداف. اعلام يسخر من دمعتنا على اغتيال سمير قصير وجبران تويني، ويسخر من وجع مي شدياق، ويسخر من خوفنا على وجه عمر حرقوص.. ويسخر من ضعفنا، الذي نراه جميلاً.ضعفنا هذا لن نتخلى عنه، كي لا نشبههم.
عن نوافذ

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .