السبت، 13 ديسمبر 2008

حازم صاغية: عن المنتهكين والمبررين

الممنوع من المقاومة يقاوم بالقلم والممنوع من القلم يقاوم بالمقاومة

في واحدة من زوايا شارع الحمرا، لا يزال يرفرف صليب معقوف محشور بين كوم من نفايات مبعثرة. وهو مشهد مستغرب في أحد أكثر شوارع الشرق الأوسط كوزموبوليتيّة، وبعد أكثر من ستة عقود على انهيار النازيّة في العالم. لكنّ أحوال الالتباس والغموض والانتقالات المتعثّرة تفعل هذا، فتتجاور الهياكل العظميّة والأجسام الحيّة، وتعيش على مقربة من الأفكار التي يراودها البناء والحياة أفكارٌ طموحها إرجاعنا هياكل عظميّة.ولحسن الحظّ فإن تكوين لبنان وتركيبه يمنعان من مثل هذا الاحتمال، فلا نشمّ رائحة لحم حيّ احترف النازيّون الأصليّون شيّه. لكنّ «اليهوديّ» عمر حرقوص، على ما سمّاه المعتدون عليه، غطّاه الدم. وهذا أكثر من كافٍ. قبل يوم واحد فقط على العمليّة المقاوِمة ضدّ عمر حرقوص، هتف طلاّب في إحدى أهمّ جامعات بيروت بأنّ «7 أيّار راجعة». كان ذلك في لحظة انتخابيّة تُستعرَض فيها البرامج والحجج، أو هكذا يُفتَرض. و7 أيّار اليومُ الذي تقدّم فيه فرسان الصليب المعقوف من أحياء آمنة وبيوت آمنة في ذاك الشارع الكوزموبوليتيّ، بينما كان حلفاء لهم، مقاومون وأنصاف مقاومين أو أرباع، يتقدّمون باتّجاه أحياء آمنة أخرى وبيوت آمنة أخرى.وبعد يوم واحد فقط على العمليّة المقاوِمة ضدّ عمر حرقوص، ظهرت «مقالات صحافيّة» تستنكر ما نزل بـ»الزميل»، لكنّها تؤكّد إصرارها على المضيّ في تشهير وتخوين تسمّيهما سجالاً. والمقاتلون والقاتلون والمنتهكون يغطّيهم دائماً قصف «سجاليّ» كثيف من فيلكا وأصدقاء فيلكا، أصحاب «وقفات العزّ»!هكذا تضرب عبادة القوّة أطنابها فيما أدب الكراهيّة يساند كراهيّة كلّ أدب، والعكس بالعكس. أما المسافات فتبدو، مرّة أخرى، معدومة بين الانتهاك الجسديّ وبين كلمات التشهير والبذاءة. ألم يكن أوّل ما فعله مؤسّسو الصليب المعقوف بضحاياهم أنّهم نزعوا الإنسيّة عنهم قبل سوقهم إلى أفران الغاز؟لكنْ تعالوا للحظةٍ نفتعل أنّنا صدّقنا وصف التشهير بالسجال، وصدّقنا أيضاً حسن نيّة المساجلين الباحثين، لوجه الله، عن الحقيقة. ألا يكون جديراً بهم، والحال هذه، تمييز أنفسهم عمّن يضربون عمر حرقوص ويقتلون سمير قصير؟ أوليس مطلوباً تسمية الأشياء بأسمائها والتخلّي عن هذه الإدانات المائعة الغائمة التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟!ذاك أن «الصدفة» تكرّرت، للمرّة الألف، قاضيةً بأن يأتي الرصاص واللكمات والتشهير وحرق المؤسّسات وزرع العبوات من موقع سياسيّ معيّن، على تعدّد أطرافه، وأن يأتي على موقع سياسيّ آخر، على تعدّد أطرافه هو أيضاً. وهذا ما لم يحصل ما يعاكسه أو ينافيه بتاتاً، بحيث يصعب أن نصدّق، مهما كان حجم البراءة التي نستعير، أن العارفين بحركة التاريخ ووجهة التقدّم «ينتظرون نتائج التحقيق»، ولا ينتظرونه إلاّ هنا فحسب.والحال أن «مثقّفي» الهراوة وكاتم الصوت والعبوة هؤلاء، مستندين إلى القوّة الغازية المحضة، يعيّنون أنفسهم بطاركة للحياة الثقافيّة، فيقولون لنا ما الذي يجوز وما الذي لا يجوز، لأنّهم... «الضحيّة في مواجهة الجلاّد». فعلاً جعلوا الكلمات تقرف من نفسها. مع هذا فإنّهم مَن لا يظهر لهم إسم حين يظهر كتاب في السوق أو فكرة في التداول، فيما أسماؤهم تروح تلمع في مناسبات التشهير المسمّاة سجالاً، فنراهم، والحال هذه، محكومين بتقسيم عمل باهر يجعلهم الجبهة الخلفيّة للقتلة والمرتكبين: واحد يضرب وآخر يكتب! الممنوع من المقاومة يقاوم بالقلم والممنوع من القلم يقاوم بالمقاومة.غير أن عبادة القوّة تلك ليست بلا سند من أفكار. فـ»القوّة» إحدى الزوايا الأربع في النسخة اللبنانيّة السوريّة من الصليب المعقوف، المسمّاة زوبعة. و»القوّة» هي وحدها ما يسوّغ سَوق أكثريّة شعب إلى مقاومة تطالبه، من غير أن تستشيره، برزقه وحياته. والقوّة، انقلاباتٍ وثوراتٍ، هي سبيل الأنظمة التي اختارها المقاومون نموذجاً لهم كيما تصير أنظمة. لكنّها أيضاً ما يزوّد شعبويّي الثقافة ذاك التجرّؤ على «ضعفاء» يُدخلون الفرنسيّة في كلامهم أو يقولون «مكاومة» لأن القاف لا تسعفهم، أو يحبّون المقهى والمطعم والكاباريه أكثر مما تستهويهم قبضات مشدودة تلكم الفضاء مصبوغ أصحابها بلون أسود هو واجهة لأرواح سوداء. وهي، كمثل أيّة قوّة، عمياء، تزيدها العزلة عن متن الحياة الثقافيّة وعن سيولتها عمى واحتقاناً. وإلاّ فما هي «ثقافة المقاومة» التي لا نعثر في الثقافة على أثر ينمّ عنها أو يشي بها؟ أفي الرواية هي؟ أم الشعر؟ أم الموسيقى؟ أم الفنّ التشكيليّ؟ أم السينما؟ أم المسرح؟أغلب الظنّ أن زمننا المتضارب ما يفسّر هذا السلوك القاتل بشقّيه: بعنفه المباشر وبتشهيره وتخوينه المصاحبين. بيد أن العنف والتخوين لا يبنيان، في النهاية، شيئاً، ولا يحولان دون الدمار الذاتيّ. وكان مؤسّس الصليب المعقوف الأصليّ قد احتمى، في لحظة الحقيقة، بنفق شهير لم يحمه!
نوافذ

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .