السبت، 13 ديسمبر 2008

بلال خبيز: انتربولوجيا الاقتصاد الأميركي

بلد المهاجرين والفاتحين والمغامرين
او استعادة توكفيل
يكاد يجمع المحللون في الولايات المتحدة الأميركية على رهاب وحيد. رهاب ان تنزل الولايات المتحدة عن مرتبتها الاولى في العالم، لتصبح ثانية او ثالثة. المرتبة الثانية بالنسبة للأميركيين، شعباً ومؤسسات وصناع رأي عام، تعادل الدخول في حقبة عالمثالثية، لا يطيق الأميركيون تخيلها. وتأسيساً على هذا الرهاب المنتشر كنيران الخريف، لا يتوانى بعض القادة في العالم عن تغذية السعي والرجاء في نزول الولايات المتحدة عن مرتبتها هذه، من دون ان يكون للساعي والراجي مصلحة مباشرة في ذلك. فالروسي الذي يوالي رئيسه ووزراء حكومته في رغبتهم بنزول الولايات المتحدة عن هذه المرتبة، لا يحسب، ولا قادته يحسبون، ان نزولها هذا قد يعقبه صعود روسي نحو الحلول محلها. كما لو ان الروسي، مسؤولاً ومواطناً، ينطلق في رغبته هذه، التي يشفعها المسؤولون الكبار بتصريحات معلنة، هي اقرب إلى التمني منها إلى الوقائع، من تفضيل للريادة اليابانية او الصينية على الريادة الأميركية. ذلك ان ما يجمع عليه الجميع في هذا السياق هو احلال الصين او اليابان، او الاتحاد الاوروبي، إذا نجح في تمتين وحدته وحمايتها، محل الولايات المتحدة الأميركية. ومن نافل القول ان احداً، في روسيا او خارجها، لا يعتقد في خلافة روسيا للولايات المتحدة دولة اولى وقاطرة عالمية تجر العالم خلفها. لكن اللافت في هذا الأمر يتعلق بالموقفين الصيني والياباني نفسيهما، ففي حين لا يخفي الاوروبيون والروس رغبة معلنة ومضمرة في نزول الدولار عن عرشه بوصفه عملة اولى تُقيّم ثروات العالم على اساس قيمتها وقوتها، لا يأنف المسؤولون اليابانيون والصينيون من دعم الدولار سراً وعلناً ومن الإصرار على بقاء الأمور على ما كانت عليه، والرضا الضمني بتحمل الخسائر الناجمة عن اتباع مثل هذا الخيار. والحق ان الموقفين الصيني والياباني يمتان إلى وقائع الاحوال بصلات عميقة، فالتطور والتقدم والنمو في هذين البلدين تم في مجمله تحت مظلة هذا النظام الدولي الهش، الغامض الملامح والسهل الاضطراب، اي النظام الذي يشكو منه رئيس الحكومة الروسية وحاكمها الفعلي فلاديمير بوتين، باعتبار ريادة الولايات المتحدة وقيادتها للقاطرة العالمية امر غير مرغوب فيه، وان حلول سائق آخر محل السائق الأميركي شأن يجدر بالروس السعي إليه بين دول العالم الأخرى المتقدمة والقادرة على اداء مثل هذه المهمة نظرياً على الأقل.

محنة البقاء على القمة

التمني الروسي ليس فريداً في بابه، بل ان الكثير من دول العالم الثالث تجاهر بهذه الرغبة، خصوصاً تلك التي تناصبها الولايات المتحدة الاميركية ضرباً من الخصومة او العداء، من ايران إلى فنزويلا مروراً بسوريا وكوبا. لكن هذا التمني ما كان ليكون امراً يستحق المناقشة لولا انه يتغذى من الرهاب الأميركي نفسه. والحق ان المحللين الاميركيين أسالوا حبراً كثيراً منذ ازمة السبعينات الاقتصادية، والتي حملت مفاعيلها رونالد ريغان إلى البيت الأبيض، وهم يحذرون من النمو الاقتصادي الصيني الذي سيكون عاجلاً ام آجلاً سبباً لفقدان الولايات المتحدة ريادتها وتبديد عناصر قوتها. قبل هذا التاريخ، كان الخوف الأميركي يتغذى من تقدم اليابان والمانيا، حيث كانت الاولى تضغط على الاقتصاد الاميركي من تحت، فيما تضغط الثانية من فوق، على ما كتب ليستر ثارو في كتابه الذائع الصيت: "المتناطحون". فكانت المانيا، الاوروبية تاريخاً وانتماءً، تمنع الولايات المتحدة من تحقق اوروبيتها، بوصف الاوروبية انتماءً ارستقراطياً ثقافياً يتحول ارثاً لا يستطيع اي كان ان يسترده منها، فيما كانت اليابان تسعى السعي الأميركي نفسه الذي اتسمت به اقتصادات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حين ورثت الولايات المتحدة من بريطانيا العظمى السيطرة على الأساطيل التجارية في البحار، وما لبثت ان دعّمت اساطيلها التجارية بأساطيل حربية ما زالت حتى اليوم تتسيد على بحار العالم من دون منازع.

الورثة الصينيون

واقع الحال ان الخشية من النمو الصيني لها ما يبررها تاريخياً في الولايات المتحدة الاميركية لهذا السبب بالضبط، وكان الكسي دو توكفيل الفيلسوف والسياسي الفرنسي، الذي زار اميركا في رحلة امتدت بين شهر نيسان – ابريل 1831 وشهر آذار – مارس 1832، وكتب على اثرها مؤلفه الشهير: "عن الديموقراطية في اميركا"، قد لاحظ امران يجدر بنا تسجيلهما في هذا السياق: الأمر الاول انه لاحظ شيخوخة اوروبا وعجزها عن التحرر من ارثها الاريستوقراطي – الاستبدادي المغرق في تجذره، مما حدا به إلى الإعلان ان اوروبا محكومة بالتنازل عن سيادتها على العالم لصالح منافسين اثنين: روسيا والولايات المتحدة الأميركية. والمدقق في ملاحظة توكفيل هذه، يمكن ان يفيها حقها من الصحة والدقة حين يتذكر ان القارة الاوروبية قُسمت بعد الحرب العالمية الثانية مناصفة بين ما كان يصطلح على تسميته الجبارين: الاتحاد السوفياتي وفي القلب منه روسيا، والولايات المتحدة الاميركية، واستمرت هذه القسمة فاعلة وناجزة طوال عقود إلى ان انهارت الأمبراطورية السوفياتية في غرة تسعينات القرن الماضي. والحق ان توكفيل كان يرى رأيه هذا، استناداً إلى ملاحظاته المدونة عن اميركا، بوصفها بلداً متسعاً تعمّه الخيرات، التي في وسعها بسهولة شديدة ان تتحول ثروات، لا قبل لأوروبا بتحقيق موازيات لها على اي نحو من الانحاء، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على روسيا بلاداً شاسعة وخيرات لا تنضب، في وسعها إذا ما احسن استغلالها ان تتحول ثروات هائلة، وهذا امر يجدر بنا مناقشة اسباب فشله روسياً ونجاحه اميركياً على نحو واف ومدقق.
بعد الفشل الروسي في مقارعة اميركا وانهيار الامبراطورية الاشتراكية، كان ثمة بلد آخر يشهد نمواً لافتاً ويختزن في حدود سيادته القانونية والحقوقية خيرات وامكانات لا تنضب، والأهم من هذا كله تراثاً وتاريخاً موغلين في القدم. هذا البلد هو الصين، وليس اليابان او المانيا بطبيعة الحال. والرهاب الأميركي من التقدم الصيني حار وحاد بالدرجة نفسها التي كان عليها الرهاب الشيوعي، لكن المواجهات وسبلها تختلف اختلافاً بيناً، مثلما ان طبيعة المنافسة وشروطها تختلف ايضاً.
بالعودة إلى توكفيل، يجدر بنا تسجيل ملاحظة اخرى لامعة: لاحظ توكفيل ان الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر كانت في طريقها إلى السيطرة على البحار، لكنه اردف: ليست صناعة السفن الأميركية صناعة متقدمة، فالسفن الاوروبية امتن صناعة واكثر اماناً واطول عمراً واسرع ابحاراً، لكن ما يميز الاساطيل التجارية الأميركية ويجعلها اقرب إلى السيطرة على طرق المواصلات البحرية العالمية، هو طبيعة البحار الأميركي، ففي وقت يأنف القبطان الانكليزي او الفرنسي من الإبحار في الأنواء والطقس العاصف، لا يتورع القبطان الاميركي عن مواجهة العواصف والإبحار بشحنته بصرف النظر عن المخاطر وشدتها، كما ان البحار الاوروبي يرفض معايشة الشظف الذي يتقبل البحار الأميركي معاينته ومعايشته من دون شكوى، فضلاً عن هذا كله، فإن اجور النقل على السفن الاميركية اقل من مثيلتها على السفن الاوروبية بما لا يمنح السفن الاوروبية حظاً في المنافسة.
اكثر من حرب باردة واحدة

ملاحظتا توكفيل هاتان قد تفسران إلى حد بعيد معنى التشابه الكبير بين الرهاب الأميركي من روسيا الشيوعية في العقود التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، وذلك الرهاب الآخر الذي بدأ ينمو ويتجذر في مواجهة الصين الناهضة. والحق ان المدقق في طبيعة التنافس بين روسيا والولايات المتحدة لا بد وان يلاحظ ان الدولتين الهائلتي الحجم والموارد، كانتا تتعايشان مع الشغف الذي يضربهما معاً بالحلول محل اوروبا، التي حكمت العالم ثقافياً واقتصادياً لقرون خلت، فالتنافس كان يملك ملمحاً امبراطورياً لا يخفى على احد: تصنيع اسلحة عالية الجودة، وغزو للفضاء بوصفه مجال التقدم العلمي الأبرز، فضلاً عن تنافس في مجالات العلوم الطبية والاكتشافات العلمية على نحو لا مثيل له، هذا إضافة إلى هوس في الانتاج بلغ ذروته المقلقة في كلا البلدين في السبعينات من القرن الماضي، إلى حد ان الانتاج نفسه لم يعد مهماً بمقدار ما كانت الرغبة به هي المهمة على ما لاحظ جان بودريارد في احد كتبه الأولى: LE MIROIR DE LA PRODUCTION. والحال، يمكن القول ان التنافس الأميركي الروسي في حقبة الحرب الباردة كان تنافساً امبراطورياً بحق، يسوغ ما ذهب إليه توني نغري الإيطالي ومايكل هاردت الاميركي في كتابهما المشترك الموسوم تحت عنوان : الامبراطورية. في حين ان التنافس الصيني الأميركي تم وما زال يتم، على مستوى مختلف تماماً. ذلك ان الولايات المتحدة تواجه حيال الصين المصير نفسه الذي واجه اوروبا امام المنافسة الاميركية. فالصين على غرار ما كانته الولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر، تصنع سلعاً اقل جودة من السلع الأميركية، لكنها تفي بالأغراض التي صنعت لأجلها، وميزتها في مواجهة الولايات المتحدة ان عمالها اكثر شجاعة في مواجهة شظف العيش من العمال الاميركيين، وان سلعها ارخص من تلك التي يمكن للولايات المتحدة ان تصنعها في مصانعها. وهو الامر نفسه الذي واجه اوروبا في البحار على ما لاحظ توكفيل.
وعلى غرار ما دافعت الولايات المتحدة الاميركية الناهضة والفتية في بدايات القرن العشرين ومنتصفه، في غمار الحربين العالميتين الكبريين، عن اوروبا المتثاقلة والغارقة في ازمات الكراهية التي تعصف بها، ثمة في التوجه الصيني نحو دعم الولايات المتحدة في الأزمة الراهنة في مواجهة التبشيرات المتسرعة بأفول الامبراطورية الاميركية، ما يشبه الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لأوروبا يوم كانت تنافسها في التجارة والصناعة والثقافة على حد سواء. انما، وهذا كله، لا يجدر بالمرء ان يسهو عن واقعة اخرى تحول دون وراثة صينية للولايات المتحدة في المدى المنظور، على نحو ما ورثت اميركا اوروبا. وتلك الواقعة هي الحربين الكبريين. إذ خرجت اوروبا من تينك الحربين مثقلة بهمومها ومدمرة على كافة الصعد، فضلاً عن ازمة اقتصادية ومالية كانت تعصف بها ادت على ما يذكر الجميع، إلى انهيارات لا يمكن وصفها في قيمة عملاتها، من فرنسا المنتصرة في تلك الحرب التي ورث فيها الفرنك الجديد الفرنك القديم بعدما انهارت قيمته، إلى المانيا المهزومة، فضلاً عن ايطاليا واليابان. وفي وسع قائل ان يقول ان في حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب ما يشبه الحربين الكبيرتين، لكن الفوارق الهائلة بين الحربين، لجهة القدرات المتكافئة في تينك الحربين بين المتحاربين، لا يمكن مقارنتها بما يجري من حروب اليوم. بل ان اوروبا في ثلاثينات القرن الماضي ارتضت بالتمدد الامبراطوري الألماني في انحاء اوروبا، لأسباب تتعلق اولا بعجزها عن مواجهة القوة الألمانية العسكرية الهائلة، ولأسباب اعمق، على ما يشير سيباستيان هافنر، تتعلق بتسليمها مجتمعة من روسيا إلى بريطانيا ففرنسا، بمقتضيات التفوق الالماني الهائل على كافة المستويات، مما جعلها اعجز من ان تبدي اعتراضاً على اجتياحات جيوش هتلر لأجزاء حيوية من القارة، من بولونيا حتى السويد. والحال، لم تكن المانيا دولة متعدية ومشاكسة وحسب، في ظل قيادة هتلر، بل كانت تملك من المقومات، ثروة وتصنيعاً وقوة مسلحة وتقدماً علمياً وتكنولوجياً ما يؤهلها لحكم العالم. الأمر الذي لا ينطبق، على اي صورة من الصور، على مقارعي اميركا اليوم، والمتنطحين لقيادة العالم، إذ يكفي عقد مقارنة بسيطة بين الحالين لنتبين الجنون المطبق الذي يغلف الدعوات الإيرانية والفنزويلية، فضلاً عن دعوات تنظيم القاعدة ومن كان على شاكلته تفكيراً وتحليلاً.
كان العالم يستطيع في ثلاثينات القرن الماضي ان يحافظ على تقدمه العلمي والتقني تحت قيادة ألمانية، فالمرء كان يستطيع شراء سيارة مرسيدس إذا ما انهارت صناعة السيارات البريطانية، وكان يستطيع شراء ثلاجة من شركة آ، أيه، جيه، الالمانية بدلاً من ثلاجات زوباس الفرنسية. وإذا ما شاء متابعة دراساته العليا، يستطيع ان يلتحق بالجامعات الالمانية العريقة عوضاً عن التحاقه بالسوربون او اوكسفورد. وخلاصة القول ان المانيا، يوم تسلم ادولف هتلر السلطة فيها، كانت دولة اولى بكل معنى الكلمة، من الاقتصاد إلى الثقافة والصناعة والعلوم. اليوم يمكن للمرء ان يتخيل معنى نتائج الحرب الدائرة في العالم بين اميركا وخصومها. طبعاً، ليس ثمة من عاقل يمكنه ان يقتنع ان منطقة القبائل الباكستانية التي يُظن ان اسامة بن لادن وقادة تنظيم القاعدة يتحصنون فيها قد ترفدنا بصناعات واختراعات وادوية مضادة للالتهابات بدلاً مما تنتجه المصانع الأميركية، لكن الامر يتعدى حدود سلطان ومعرفة اسامة بن لادن ونائبه ومجلس قيادته ومجاهديه، إلى ايران وفنزويلا وكوبا: إذ حتى لو تغرغر المرء بالثروة النفطية الإيرانية الكبيرة، فإن الخام الإيراني الثقيل يحتاج إلى مصانع التكرير الأميركية ليتحول زيتاً وبنزيناً ووقوداً. فما الذي يمكن ان تعدنا به ايران لو قيض لها الانتصار؟
الحرب الدائرة اليوم في العالم بين اميركا وخصومها تجعل من وصف نغري وهاردت، في كتابهما السالف ذكره، لأميركا بوصفها بوليس عالمي دقيقة. بل ان آلان ليبياتز الفرنسي اليساري، والكاتب في ليبراسيون، يشاركهما الرأي واصفاً الولايات المتحدة بالكوندوتييري الروماني، الذي يضبط التذمرات ويسهر على تطبيق السياسات عبر التهديد بالقوة العارية. والحال، ليس ثمة في الحرب الدائرة اليوم بين اميركا وخصومها ما يمكن تحميل ملامحه على وجه شبه بالحرب العالمية الثانية او الأولى، جل ما في الأمر ان الجيش الاميركي في غير مكان من العالم يضطلع بدور البوليس الذي يواجه عصابات منظمة وراسخة، ويريد اخضاعها تحت حد القانون، لكن العصابات مهما بلغ شأوها وتعاظمت قوتها وافصحت عن بيانها السياسي والايديولوجي، لا تهز النظام، ولو ربحت معركة او اكثر ضد البوليس. لسنا امام قوة جبارة تواجه اميركا مثلما كانت الحال في حقبة الحرب الباردة، ولسنا ايضاً امام دولة يكاد العالم يسلس لها قياده كحال المانيا في حقبة الكراهية التي عصفت بأوروبا في العشرينات والثلاثينات. انها ليست حقبة افول الامبراطورية الاميركية بكل تأكيد. إذا كان ثمة افول متوقع، فلن يكون اسامة بن لادن سببه، ولا حتى احمدي نجاد.
لا شك ان ثمة حيثيات وازنة تدفع بالكثير من المحللين في العالم إلى اعتبار التنافس الصيني الأميركي يأكل من حصة اميركا لحساب الصين. كل تقدم صيني في معنى من المعاني يقتطع حصة من الجبنة الاميركية، ويدفع اميركا إلى تخلف ما. هذا امر لا جدال فيه. وهو امر يتغذى من مزاج اميركي راسخ منذ القدم، استناداً إلى ملاحظة توكفيل النيرة. لكن الكاتب نفسه لا يلبث ان يلاحظ امراً أثبت موقعاً في المزاج الأميركي العام. إذ يورد ملاحظة اخرى تختص بالشعب الأميركي قد تكون ابلغ ما يمكن سوقه تفسيراً لما يجري في اميركا الراهنة.
يلاحظ توكفيل ان الاميركيين الاوائل استوطنوا الشواطئ الأميركية، لكنهم سرعان ما اخذوا يتوغلون في الداخل ويتركون الشواطئ للوافدين الجدد. ويلاحظ ان نواب الولايات المنتخبين إلى مجلسي النواب الفدراليين، يعود كثير منهم في اصوله إلى الولايات الساحلية، اناس هاجروا من محاذاة الشواطئ لأسباب متعددة: ضيق السبل او حب المغامرة، واستعمروا مناطق اخرى في الداخل، وانشأوا ولايات جديدة. هؤلاء، استكمالاً لسيرتهم الاولى في الهجرة من اوروبا الضيقة إلى الولايات المتحدة الشاسعة والملأى بالفرص، كانوا يتركون وراءهم عماراً واجتماعاً ويمضون إلى مجاهل اميركا لإنشاء عمار واجتماع جديدين. وفي هذا السعي، ما جعل اميركا برمتها بلاد مهاجرين، وهي الحال التي ما زالت عليها حتى اليوم. هذا امر لا تشترك فيه اميركا مع اي بلد في العالم، ما خلا اسرائيل، لكن حال اسرائيل مختلفة موضوعياً ولا يمكن سحب كل ما يترتب على هذه الخاصية من نتائج على اسرائيل على اي وجه من الوجوه. اميركا بلد مهاجرين، وهي في ذلك تختلف اختلافاً جذرياً عن اوروبا برمتها وطبعاً ليس ثمة وجه للمقارنة بين احوال اميركا واحوال الصين او الهند او روسيا. والأمر صينياً بخلاف ذلك تماماً، إذ ليس ثمة بقعة في بلاد الله الواسعة لا يهاجر الصينيون إليها، وتكاد لا تخلو مدينة كبيرة في العالم من "صين صغيرة"، من لندن إلى نيويورك فلوس انجلس فبرلين.

أمّة المهاجرين

وان تكون اميركا بلد مهاجرين مسألة لها وجهان: واحد سلبي وآخر ايجابي. قد يكون اكثر ما هو سلبي من وجوهها ما لاحظه توكفيل، تكراراً، من ضعف السلطة الفدرالية امام سلطات الولايات المحلية، والحال فإن السلطة الفدرالية التي هي حاجة ومصلحة وضرورة لشعوب الولايات لا تلبث ان تستمد قوتها وضرورتها من علاقتها بالعالم الخارجي. اكانت هذه العلاقة حروباً ام علاقات تجارية. وتأسيساً على هذا الأمر الفريد بين الأمم تجد اميركا نفسها دائماً مدفوعة للتدخل خارج حدودها. وهو الأمر الذي جعل اكثر رؤساء اميركا شهرة واهمية، ابراهام لنكولن، يسعى جاهداً في حل هذه المعضلة عبر جعل الولايات المتحدة بلداً قارياً يمتد صولجانه على شواطئ المحيطين: الاطلسي والهادي. لكن قارية اميركا لم تجعلها تنشغل بنفسها عن العالم، ذلك ان من خصائص السلطة الفدرالية التي تتنازع على الحكم مع السلطات المحلية انها تقوى وتتعاظم من قدرتها على مواجهة الخطر الخارجي: اكان الخطر اقتصادياً ام ثقافياً ام امنياً وعسكرياً. وهو الأمر الذي لا يجد له نعوم تشومسكي تفسيراً مقنعاً، وهو يلح في الدعوة إلى ترك اميركا العالم وشأنه يتدبر اموره كيفما شاء. والحق ان هذه سلطة تفقد جدواها ما ان تخف حدة التحديات التي تواجهها من الخارج، هذا من دون الانزلاق إلى المنطق الذي حمل مايكل هاردت على الظن بأن جيش الولايات المتحدة لن يكف عن اشعال حريق ما ان يخبو حريق، فبعد افغانستان ثمة العراق، وبعد العراق ثمة ايران، وبعد ايران ثمة مكان ما. ذلك ان التحديات التي تجبه السلطة الفدرالية في الولايات المتحدة الأميركية ليست عسكرية دائماً. بل ان الولايات التي تنازعها السلطات العامة، سرعان ما تجد في كلفة الحروب الخارجية ما يعيق السلطة الفدرالية عن الاستمرار في حروبها ولو كلفها ذلك احياناً انسحاباً غير مشرف مثلما حدث في فييتنام. لكن الحاح الولايات الأميركية شبه المستقلة على السلطة الفدرالية لإتمام مهماتها وتجنيب اميركا كل خطر خارجي، يجعل امر المنافسة الاقتصادية مع الصين او الهند مثلاً بمثابة حرب من نوع آخر، ويجعل امر الدفاع عن بقاء مصرف سيتي غروب عاملاً وناشطاً ومتسيداً على قمة الهرم المالي العالمي امراً يجدر بذل التضحيات لأجله، تماماً مثلما يجدر بالشعب الأميركي بذل التضحيات للدفاع عن حدوده ضد اي معتد من خارج الحدود. وعلى هذا ليس مستغرباً ان يحتل امر الصعوبات المالية التي تواجهها شركات السيارات الاميركية هذا الحيز الكبير من النقاش في اميركا، فالدفاع عن بقاء هذه الشركات قيد المنافسة العالمية يشبه في معنى من المعاني الدفاع عن حدود اميركا في وجه اي اعتداء مسلح. والحق، ان خلاصة المطالب التي يسوقها المشرعون الأميركيون في مواجهة ما تطالب به الشركات الثلاث الدولة الأميركية لإنقاذها من الإفلاس المحتوم، يكاد لا يخفي الرغبة الأميركية العامة بأن تبقى شركات السيارات متربعة على قمة هذه الصناعة في العالم، تماماً مثلما يجدر بالجيش الأميركي في مواجهة اي تهديد ان يبقى محافظاً على قدرته الفائقة على الردع دفاعاً وهجوماً وتفوقاً على الخصم تفوقاً ساحقاً.
الأرجح ان هذا السعي نحو التفوق متعلق تعلقاً مباشراً بالوجه الثاني الإيجابي من واقعة ان الولايات المتحدة الأميركية هي في الأصل والمسار بلد مهاجرين. فالمهاجرون إلى اميركا تركوا العالم وراءهم. والعالم المتروك لا يبدو قابلاً للعودة إليه، سواء كان المكان المتروك مدينة يورك الانكليزية التي تسمت نيويورك الاميركية باسمها، او كانت شانغهاي او القاهرة او نيودلهي. لذلك يجهد الأميركيون منذ البداية في صناعة وابتكار الفتوحات، وهو ما لاحظه تزفيتان تودوروف في كتابه "فتح أميركا". لكن الشغف بالفتوحات لا يعني دائماً الفتوحات العسكرية الأمبراطورية او الاستيطان والاستعمار اللذين وصفهما تودوروف، بل ثمة فتوحات واستعمارات من طراز آخر، قد تكون اميركا موطن ولادته الفعلية، وهو بالضبط ما صنع الالتباس النظري الذي نشأ عن مساواة اميركا بالعولمة، وجعل العولمة رديفاً لأميركا واميركا رديفاً لها.
الأميركيون بحسب الوصف الذي سبق ذكره لدى توكفيل وتودورف على حد سواء، قلقون على مستقبلهم. بل تكاد اميركا تكون اكثر الدول قلقاً على مستقبلها. والشعب الأميركي تالياً هو شعب يريد ان يثبت كل يوم احقيته في السيادة على هذه القارة، ذلك ان الإرث الاوروبي المؤسس للثقافة الأميركية لا يفتأ يلكز الجسد الاميركي ويدفعه إلى التحفز مراراً وتكراراً. هكذا لم تلبث المنافسة اليابانية مع اميركا في المجال الاقتصادي ان جعلت قطاعات واسعة من الصناعات الأميركية مهجورة وغير ذات جدوى، وتفاقمت احوال هذه القطاعات مع صعود المارد الصيني واستوائه عملاقاً اقتصادياً على امتداد العالم كله. واليوم ثمة استحقاقات مرة على الأميركيين تجاوزها، قد تكون ابرزها على الإطلاق ما يتعلق بصناعة السيارات.

التراث والسمعة عزيزا المنال

غني عن القول ان حجم صناعة السيارات الاميركية الضخم هو ما يجعل استاذ الاقتصاد في هارفرد، مارتن فلدشتاين، (واشنطن بوست، 18 تشرين الثاني نوفمبر 2008، ص 27أ) واثقاً من ان السياسيين في البيت الأبيض يخشون اشد الخشية من انهيار هذه الصناعة. ويلاحظ ان الشركات الثلاث تستطيع ان تصنع سيارات ممتازة، لكنها لا تستطيع ان تنافس السيارات اليابانية، كتويوتا وهوندا اللتان تملكان مصانع في الولايات المتحدة نفسها، لجهة السعر. لكن استاذ هارفرد لا يسأل نفسه السؤال البديهي الآخر: لماذا لا تسطيع السيارات الأميركية الممتازة ان تنافس بي ام دبليو التي تملك هي الأخرى مصانع في الولايات المتحدة الأميركية؟ بل لماذا لم تعد شركات السيارات الاميركية تطمح إلى مثل هذه المنافسة؟ ذلك ان آخر ما تخشاه شركة دايملر او بي ام دبليو او قطاع السيارات الفخمة في شركة فولزفاغن الألمانية هو المنافسة اليابانية. إذ تتربع هذه الشركات على عرش السيارات الفخمة من دون منازع على الإطلاق. فيما وجدت سيارات لكزس وانفينيتي ضالتها وخصمها في السيارات الفخمة الاميركية فنافستها في السوق واكلت من حصتها العالمية. ثمة اجابة واضحة عن هذا التساؤل تكمن في استقراء المعاني الكامنة في الرغبة الحادة باستمرار الفتوحات الأميركية وتغذية هذا الشغف على الدوام بدماء جديدة كل حين، ذلك ان هذه التغذية لا تتم بنجاح من دون سحب الدم مما يمكن ان نسميه تراثاً وسمعة. ليس ثمة تراث في الصناعة الأميركية يغوي الأميركيين للمحافظة عليه. بالأحرى ثمة استشعار لهذا النقص الفادح يتمظهر كل حين على مستوى صناعة السيارات بإعادة انتاج نسخ مجددة من السيارات التي لاقت رواجاً في الخمسينات والستينات، من فورد موستانغ إلى دودج تشارجر وكورفيت، في مسعى لا يخفي الرغبة بجعل هذه الصناعة ذات تراث وتاريخ، لا تستطيع السيارات الكورية او اليابانية ان تدعيه. لكن استعادة المجد الستيني، نسبة إلى ستينات القرن الماضي، لا تستطيع ان تجاري في صناعة السمعة والتراث الصناعي ما تملكه مرسيدس بنز واودي ورولز رويس وفيراري.
لا يتردد فلدشتاين في دعوة الشركات الثلاث إلى اعلان الإفلاس وإقلاع السلطات الفدرالية عن وضع اموال دافعي الضرائب الأميركيين في ثقب شركات السيارات الأسود إذا لم تثبت هذه الصناعة احقيتها في الوجود وقدرتها على المنافسة والربح. لكن احداً لا ينكر خطورة اللجوء إلى مثل هذا الإجراء، بسبب من ضخامة هذه الصناعة وارتباط ما يقرب من تسعة اعشار الوظائف الأميركية بهذه الصناعة. لولا هذه العملقة التي ما زالت هذه الصناعة عليها، لما تردد احد في تجاهل صرخة الصانعين. وترك هذه الصناعة تواجه مصيرها المحتوم تماماً مثلما واجهت صناعات اخرى مصيراً اسوأ، من صناعة الالكترونيات وصولاً إلى صناعة النسيج. اليوم لم يعد ثمة ادوات الكترونية تباع في اميركا من صنع محلي، ويصعب ان تجد ثوباً لم تتم خياطته ونسج خيوطه في الهند او الصين.

الهجرة نحو الزمن

هذه القسوة في التعامل مع مصائر الصناعات الأميركية ناجمة على الأرجح من تراث الأميركيين كمهاجرين ومكتشفين وفاتحين، ومن شجاعتهم في اكتشاف المجهول وارتياد الأراضي البكر والبور، منذ ان تأسست اميركا. ولهذه الأسباب ليس ثمة من شك في ان المسعى الأميركي العام يأنف من المنافسة ويحبذ المغامرة والاكتشاف. هكذا لم يلبث الاقتصاد الأميركي بعد ازمة السبعينات والثمانينات التي طاولت ما يصطلح على تسميته بالاقتصاد الحقيقي، ان فتح حقولاً بكراً في الاقتصاد، امتدت من ثورة الاتصالات الالكترونية التي ما زالت معقودة اللواء بغالبها الأعم للأميركيين وصولاً إلى صناعة الكفالات والتأمينات مروراً بصناعة الصورة المزدهرة، وانتهاء بأسواق الأسهم التي انفجرت فقاعتها في منتصف ايلول – سبتمبر من العام 2008.
ومن نافل القول ان الأزمة الحالية اثّرت كثيراً على اسعار النفط وحدت كثيراً من الاستهلاك الأساسي في اميركا والعالم كله، لكنها لم تؤثر على اسعار البرامج التي تشغل الحواسيب في العالم كله، وهي على ما نعلم من صنع اميركي على وجه العموم، ولم تجعل من صناعة الصورة بضاعة كاسدة. فما زالت الصور والمعلومات التي تصدر عن اميركا تباع وتشرى في انحاء العالم كله، ولم تضع الأزمة الحالية السينما الصينية في موقع قادر على منافسة السينما الأميركية، ناهيك عن ان احتكار اميركا للشطر الأوسع من صناعة الإعلام التي تغذت من فصول هذه الأزمة على نحو لا سابق له.
على مثل هذه الصناعات المبتكرة، من برامج الحواسيب إلى محركات البحث على شبكة الانترنت، مروراً بصناعة السينما وتأويل الصور وقراءة المؤشرات، الاقتصادية والثقافية والأمنية، التصقت اميركا الدولة بأميركا العولمة، وغالباً ما جرى الخلط بينهما على نحو لا دقة فيه. فوسمت اميركا بالعولمة ووسمت العولمة بها. لكن اميركا مثلما نعلم بلد له حدود مثل كل بلاد العالم، وغالباً ما تتعارض النشاطات المعولمة مع مصالح بعض الفئات الاجتماعية فيه، لكن ذلك لم يلفت انتباه المحللين الذي نسبوا اميركا إلى العولمة وجعلوا من كيانين مختلفين ومتعارضين كياناً واحداً لا شقوق فيه. ومن دون الخوض في إعادة تعريف العولمة، سلطات ومصالح واتجاهات، ليس ثمة مجال للتعرف مرة اخرى إلى ما يسميه بول كروغمان، حائز جائزة نوبل في الاقتصاد، ملامح الأزمة القادمة وهو يدعو إلى الاستعداد لمواجهتها منذ الآن.
عن الجريدة

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .