السبت، 13 ديسمبر 2008

دوغلاس ساوثغيت: السبل الناجعة لتفادي تكرار الأزمات الغذائية


كان متوقعاً وتنبأنا به وكان يمكن تفاديه

تراجعت أسعار المواد الغذائية في الشهور الأخيرة بعد أن وصلت إلى أعلى مستوياتها هذا العام. ومع ذاك، ما تزال الأمم المتحدة تحذر من أزمة غذاء يمكن أن تلقي بأكثر من مئة مليون فرد في براثن الفقر المدقع.
فهل يجب أن يبقى الغذاء غاليا علما أن عدد البشر في تزايد مستمر ونمو دخلهم الفردي يرفع من معدلات الاستهلاك الفردي؟ تؤكد منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة في آخر تقرير لها أن قرابة مليار فرد يعانون من نقص في التغذية. فهل يحتم عليهم قدرهم البقاء جائعين؟ كلا على الإطلاق.
خلال النصف الأخير من القرن العشرين، تنامى عرض المواد الغذائية على نحو أسرع من تنامي الطلب، فتراجعت الأسعار الحقيقية للحبوب بمعدل 75%. فهذا التراجع خفض التكاليف الغذائية علما أن النظام الغذائي البشري يتكون من أكثر من 60% من الحبوب. أما في الآونة الأخيرة، فقد بدأ النمو السكاني بالتباطؤ، غير أن الطلب على المواد الغذائية مازال يشهد ارتفاعا سريعا نتيجة ارتفاع المداخيل. وبحلول عام 2050، ربما يتزايد الطلب على المواد الغذائية إلى ما بين 60% و100%. فان لم نقم بزراعة وإنتاج المزيد من المواد الغذائية في الهكتار الواحد واستغلال المزيد من الأراضي، ستستمر الأسعار في الارتفاع.

إن الارتفاع الحالي للطلب على المواد الغذائية كان أمرا متوقعا. بل أنه، وكما قال جاك ديوف، المدير العام لمنظمة المواد الغذائية والزراعة التابعة للأمم المتحدة: "كان متوقعا، وقد تنبأنا به، وكان يمكن تفاديه... ولكن العالم فشل في ذلك." ولكن لا يجب إلقاء اللائمة على "العالم": فاللوم يقع على الحكومات المنفردة، ولا سيما في البلدان الأكثر فقرا، حيث أقامت الكثير من العوائق الضخمة بوجه حركة المواد الغذائية ، مما أبقى الأسعار مرتفعة. حيث أن نسبة المبادلات التجارية في ما بين الدول الإفريقية لا تتجاوز 15% فقط من حجم مبادلاتها الكلية . أما التعرفة الجمركية في البلدان الفقيرة فمعدلاتها أعلى مما هي عليه في البلدان المتطورة. ففي جنوب الصحراء الإفريقية، يبلغ معدل التعرفة على الواردات الزراعية 33%. كما أن التدابير التنظيمية المتفاقمة، والشريط الأحمر، والتأخيرات عند نقاط التفتيش الجمركي والفساد، تزيد الوضع سوءً.
وبما أن هذه العوائق ترفع أيضا تكاليف المدخلات (inputs) ، فان المنتجين المحليين يصبحون غير قادرين على الاستجابة لارتفاع الطلب على المواد الغذائية.

أوكرانيا هي خير مثال على بلد يمتلك إمكانات زراعية ضخمة ولكنها بقيت غير مستغلة. فإذا تحسنت جودة الزراعة وتم استعمال مدخلات أفضل، كالأسمدة، يمكن لأوكرانيا أن تضاعف محاصيلها الزراعية الحالية، و ستصبح قادرة على تصدير من 50 إلى 80 مليون طن إضافي من الحبوب في العام الواحد. وهذه الكمية تكفي، من حيث القيمة الغذائية للحبوب، لإطعام 50 مليون شخصا في الصين. أما في الهند، حيث معدل الاستهلاك اقل مما هو عليه في الصين، فهي تكفي لإطعام 100 مليون نسمة.
تعتبر الأراضي الأوكرانية أراض خصبة قابلا للزراعة حيث كان هذا البلد من بين رواد العالم في ميدان الزراعة في منتصف ثمانيات القرن التاسع عشر. وأصبحت أوكرانيا بعد ذلك الممول الغذائي للاتحاد السوفيتي. وعلى الرغم من الإرث الشيوعي، فأوكرانيا مازالت بلدا مصدّرا للمواد الزراعية. ولكن التدخلات الحكومية و فرض نضام الحصص على للصادرات أبقى معدلات الأسعار المحلية منخفضة بشكل مصطنع، مما بدد كافة محفزات وطموح المزارعين.
و الأرجنتين مثال مشابه لأوكرانيا من حيث إهدار و تبذير إمكانياته الزراعية. حيث أن زراعة 15 مليون هكتارا، بدلا من التسعة ملايين هكتار التي تزرع حاليا يمكن أن تنتج 30 مليون طنا إضافيا من الحبوب للتصدير كل عام. وبوسع هذا الرقم أن يغذي 30 مليون نسمة في الصين، أو 60 مليون في الهند، لسنة كاملة. ولكن، هنا أيضا، يتراجع الإنتاج بسبب الممارسات السياسية لإدارة الرئيسة كريستينا فيرناندز. هذه الأخيرة اتبعت نهج الحكومات السابقة مستخدمة كافة المناورات التكتيكية المتوفرة لأجل إبقاء المواد الغذائية رخيصة مهما كانت التكاليف. ففي آذار (مارس) الماضي، تمت زيادة ضرائب الصادرات على العديد من السلع الغذائية، فوصلت نسبة الضريبة على فول الصويا، وهو أهم منتوج موجه للتصدير، إلى 45%.
لقد تسببت عدة عقود من ممارسة مثل هذه السياسات في تقليص حجم الأراضي المزروعة منذ بداية ستينيات القرن العشرين. كما أن السياسات الاقتصادية الانعزالية الرامية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي أثبتت فشلها وخلقت مشاكل جمة لعديد من البلدان، لا سيما تلك التي لا تتوفر على إمكانات ضخمة كأوكرانيا أو الأرجنتين. كما أن نيجيريا، والسنغال، ومالاوي قد لهثت خلف سراب هذه السياسات، في حين أن العديد من بلدان جنوبي الصحراء الكبرى تفخر فعلا بكونها "مكتفية ذاتيا". فكانت النتيجة انخفاضا خطيرا للاستهلاك الغذائي الفردي.

في محاولاتها للإبقاء أسعار المواد الغذائية رخيصة تفشل الحكومات في إدراك أن الصادرات المقيدة والضرائب الزراعية تقلص من استثمار وإنتاج المزارعين. فالنتيجة هي ارتفاع شامل للأسعار.
لقد أدت ردود فعل الحكومات إزاء الأزمة الغذائية إلى نتائج عكسية: إذ قام أكثر من 30 بلدا بفرض قيود على الصادرات أو منعها كليا، مما ساهم في تفاقم ارتفاع أسعار المواد الغذائية . وخلاصة القول فإن تحرير التجارة وتحرير المزارعين من القيود المفروضة عليهم من قبل السياسيين يبقى السبيل الأنجع لتحقيق مصلحة المنتجين والمستهلكين في كل مكان.

دوغلاس ساوثغيت أستاذ الاقتصاديات الزراعية والبيئية والتنمية في جامعة ولاية أوهايو، ومؤلف التقرير المرتقب لشبكة السياسة الدولية حول التجهيزات الغذائية العالمية. كما أنه مشارك في تأليف الكتاب الموسوم اقتصاد الغذاء العالمي (بلاكويل 2007).


© معهد كيتو، مصباح الحرية، 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.
مشروع مصباح الحرية




ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .