الخميس، 4 ديسمبر 2008

حسن داوود: ما هتفت لغيرها

تحليق فوق مشاهد من الحرب السعيدة



سائق الدرّاجة الناريّة (الهارلي دايفدسون)، بل نقيب سائقي هذه الدرّاجات، قال إنّه لا يخاف الحرب، بل إنّه يحبّذ أن يعيش فيها إن كانت تجري من دون أن يقع فيها قتلى. ذلك يجعلها شبيهة بقيادة الهارلي حيث المتعة تغلب الخطر، أو تُنسيه، او لا تأخذه بالحسبان. حاتم حاتم، أو أبو حسن، أو أبو حسن هانوي، الشخصيّة المتذكّرة، أو المتخيّلة، في فيلم محمّد سويد، كان في بداية شبابه متعلّقا بالرغبتين (الحرب وركوب الدرّاجات) اللتين ستكونان متناقضتين إن لم تُحملا على المشابهة أعلاه. كما كان مولعاً بالسينما، لا أن يتردّد إلى صالاتها فقط، لكن ليكون من المشتغلين فيها. وهذه فاتته أيضا كما فاته امتلاك الهارلي دايفدسون من قبل.لم يكن متاحاً له إلاّ أن يدير وجهه إلاّ إلى ناحية الحرب. كان «الإنخراط» فيها سهلاً آنذاك في مطلع سنوات الستينات، وقد ذُكر هذا في الفيلم على لسان سعود المولى الذي قال إنّه وعدد من أصحابه ذهبوا من بيروت إلى الشام مشياً على الأقدام ليلتحقوا بمن سبقهم للإنضمام إلى حركة فتح. كان ذلك نوعاً من الهوى العام الذي شمل الجميع آنذاك. البعض واصل مطافه فيها حتى الصين، وحتى هانوي التي وجدت من يُكنّى بها: أبو حسن هانوي، الرجل الذي جعله محمّد سويد ركيزة ثانية لفيلمه، الركيزة الحاضرة والممثّلة لأبي حسن، بطل الفيلم، الغائب عنه بسبب موته.أو أنّهما، ومعهما آخرون، كانوا جميعا آباء حسن حاتم الباحث عن سيرة أبيه، على غرار ما كان له أجداد كثيرون، وهم آباء أبيه، بينهم أبو عمّار وأبو أيّاد وأبو موسى وأبو جهاد الذي يتوقّف الفيلم قليلاً عند إسمه. ذاك لأنّ أبو حسن، أو مثيله الحيّ في الفيلم، إختار أبا جهاد من دون «الأبوات» جميعا لأنّه، ربّما، كان الأقلّ ظهورا من بينهم، ولأنّه أتاح له أن يذهب إلى هانوي ليلتقي هناك هوشي منه، ذلك الذي كان إسمه، أسمه فقط، نشيداً قائماً بذاته يردّده متظاهرو بيروت. «هو هو هوشي منه..»، وفي أحيان كان يُضاف إليه إسم «تشاي تشاي غيفارا»، موقّعاً بحركة الأجسام وليس فقط بالأصوات المنشدة وحدها. محمّد سويد أعاد على مسامعنا ذلك النشيد، مصاحَباً هذه المرّة بحركات راقصة لهوشي منه نفسه حيث، ما لبثت هذه الحركات، أن تحوّلت إلى درس في القتال بالأيدي يُظهر القائد التاريخي بطلاً في رياضة الكاراتيه يغالب رجالاً كثيرين ويوقعهم على الأرض واحداً بعد واحد.كم كان آباء حسن حاتم سذّجاً في زمانهم. محمّد سويد لا يتوقّف عن تذكيرنا بذلك. في صورة أظهرها الفيلم، مباشرة بعد وصلة هوشي منه تلك، رأينا مقاتلين محليّين، فلسطينيين أو لبنانيين، متجمّعين معاً وبينهم واحد يقف مستعداً للمنازلة بثياب الكاراتيه التي يرتديها كاملة، بما في ذلك عصبة الرأس المتدلية منها أنشوطة قصيرة. بدا لنا ذلك، ونحن نشاهد الفيلم، شيئاً من فكاهات ذلك الزمن. أو الوجه الفكاهي منه والذي، منه أيضا، تلك اللقطة التي يظهر فيها أبو عمّار كأنّه يقلّد، تقليداً كاريكاتوريّاً، هيئة القائد وكلامه. لفكاهته، في أحيان يعمد سويد إلى إثبات اللقطة المأخوذة من الأرشيف من دون أيّ تدخّل منه، في أحيان يُدمج اللقطة بفاصل من أغنية، مأخوذ من الأرشيف أيضا، مثلما حين شاهدنا هوشي منه يرقص على إيقاع نشيده الخاص، أو مثل سماعنا لأغنية محمّد سلمان «لبّيك يا علم العروبة كلّنا يفدي الحمى»مصاحِبة لمسير قافلة شبيبة الهارلي دايفدسون، أو مثل انهماك الراقصة بطيّ جسمها إلى الخلف، لتلتقطها الكاميرا من الأعلى، على إيقاع «أمجاد يا عرب أمجاد».ليس بالسخرية وحدها أرانا محمّد سويد ذلك الزمن.هناك النوستالجيا أيضا التي تجعل كلّ ما ياتي به التذكّر أليفاً. الجنود الفيتناميّون، اولئك الذين خاضوا أكثر الحروب ضراوة، بدوا في الفيلم كما لو أنّهم أصيبوا بالإلفة ذاتها، إلفة التذكّر، فبدأوا يتعاقبون على الوقوف أمام الكاميرا، فرادى ثمّ أزواجاً، صاغرين بلا تنازع بينهم على الظهور، كأنّهم يُرَون في منام حالم بهم. لقد جرى تلطيف الماضي وتخفيفه. أولئك الذين «سطّروا أروع الملاحم القتاليّة» باتوا اليوم مسالمين مثل صبيان التدريب العسكري. إنّهم النسخة الأخيرة من عسكريّي الماضي، النسخة الجديدة التي أربكتنا فيما نحن نحاول أن نصل بين هؤلاء وآبائهم، أو بأجدادهم بحسب تسلسل الأجيال الذي أرساه الفيلم. أولئك السابقون أقاموا في الأدغال وفي القرى التي قصفتها الطائرات واحدة بعد واحدة، أما أبناؤهم فيبدون كأنهم أبناء حضانة هانوي الجديدة، هانوي المتّسعة المتمدّدة إلى خارجها وذلك لكي يبقى ماضيها الذي نعرفه في نطاقه القديم. الشاب اللبناني المشتغل بالإعلان في دبي تفصله أزمنة كثيرة عن أبيه، أقصد ذلك الإختلاف الهائل بين المشهدين المدينيّين. تلك الأبنية الشاهقة الإرتفاع، والمصنوعة من معدن وزجاج، نافية وطاردة، ليس لوجود والد ذلك الشاب فقط، بل هي طاردة لطَيفِه أيضا. كأنّ ما يفصل بين الأب وإبنه أجيال كثيرة لا جيل واحد. ما يؤلم في فيلم محمّد سويد هو تلك الهوّة الفاصلة بين من يُفترض فيهم أن يكونوا قريبين بعضهم من بعض. ما يؤلم أيضاً، وما يدفع إلى الأسى، هو أنّنا نحن، من يصوّرنا الفيلم على أنّنا جيل الآباء، ننظر إلى ذلك الرجل الذي جيء به ليمثّلنا فنجده لا يُعجبنا. ثمّ انّنا لا يُعجبنا أيضا أن نضع بيننا وبينه تلك المسافة التي نظنّها ستبرّئنا من الإنتساب إليه، كأن ننظر إليه كموضوع مثلا، أو كحالة تدلّ إلى بقاء شخص حيث هو، فيما العالم يتقدّم مبتعداً عنه. محمّد سويد يضعنا أمام مرآة نروح، فيما نحن نحدّق فيها، نجري حسابات ومساومات. نفكّر مثلا أنّنا أقلّ قِدَماً من ذلك الرجل الذي يقول عن ذكرى أيّامه: «ما هتفت لغيرها». أو توصلنا المساومة التي نجريها إلى أنّنا في المنطقة الوسطى بين الأب وإبنه، إذ أننا «نهتف»، بخلاف صاحبنا، إلى أشياء لم نكن نكترث لها في أيّامنا.جعلنا محمّد سويد نسهر متفرّجين على ما توقّفنا أن نكونه. بل وصرنا نضحك في أحيان، بل ونسخر، من أشياء كنّا نحتفل بها أيّام ما كنّا نفعلها. لكنّها كانت سهرة حنونة إذ أُجري فيها الماضي بحسب ما يحبّ سائق الهارلي دايفدسون، حرباً ناعمة، مفرّغة من كلّ العنف الذي لازمها. هذا ما يقترحه علينا إنقضاء الزمن على أيّ حال، أو هكذا تعمل ذاكرتنا فيه.
عن نوافذ

ليست هناك تعليقات:

كيف مات الشارع

انقضى الليل , اقتلع النهارعقرب الساعة الكبير وهبط من ساعة الحائط , أراد للوقت أن يبقى كسراتٍ صغيرة تدور و تدور دون أن ترتطم بعتبة. مشى في الشارع متجهاً نحو المقهى حيث كان الرجل وحيداً يحتسي ما تبقى من تفل بارد و ما ان تلاقت العيون حتى أغمد العقرب في صدره وجلس ينتظر ....لم يأتِ الليل .